الأحد، 26 أبريل 2015

أسلوب السرد في الرواية العربية

أساليب السّرد والبناءفي الرواية العربيّة الجديدة
دراسة أسلوبية‏
الحديث عن السرد في الرواية، يعني الحديث في الوقت نفسه عن الراوي وعن وجهات النظر أو ما يسمى (بالرؤى) في الحكاية، تلك الظاهرة الفنية التي أعارها النقد في القرن العشرين أهمية لم تكن لها من قبل، بسبب صلتها الشديدة بمستويات العبارة، وبالطريقة التي يعرض فيها الكاتب أحداثه.‏
ويذهب معظم النقاد، الذين تناولوا هذا الموضوع، إلى أن القيمة الأساس للعمل الروائي تكمن في (الرؤى). فقد اعتبر برسي لوبوك "مجمل السؤال المعقد عن الأسلوب في صنعة الرواية محكوم بالسؤال عن وجهة النظر، السؤال عن علاقة القصة بها".‏
وأكد فرانك كرمود هذا المعنى بقوله: "فإذا تابعت الحديث عن السرد القصصي بشكل حسن فهذا يعني أنك ستحسن الحديث عن الرواية"(2) أما تزفتان تودوروف فيضع الرؤى في المرتبة الأولى من الأهمية في العمل الأدبي، إذ يقول: "ففي الأدب لا نواجه أحداثاً أو أموراً في شكلها الخام. وإنما نواجه أحداثاً معروضة بطريقة ما وتتحدد جميع مظاهر أي شيء بالرؤية التي تقدم لنا عنه".(3)‏
ويعتبر كتاب "الزمن والرواية" لجن بويون، أحد الاسهامات النقدية البنيوية المهمة في دراسة هذا المظهر من العمل الأدبي، بعد دراسات لوبوك وبوث. وقد صنف بويون (الرؤى) إلى ثلاثة أنواع، هي:(4)‏
1- الرؤية من الخلف: وتتميز بأن الشخصية فيها، لا تخفي شيئاً عن الراوي، فهو يعرفها معرفة تامة ويخترق جمجمتها ويتنبأ بأفكارها.‏
2- الرؤية مع: وتسمى أيضاً بالرؤية (المجاورة) وتتميز بأن معرفة الراوي فيها تساوي معرفة الشخصية عن نفسها.‏
3- الرؤية من الخارج، وتقتصر معرفة الراوي فيها على وصف أفعال الشخصية، ولكنه يجهل أفكارها ولا يحاول أن يتنبأ بها.‏
ويطلق على الراوي في الرؤية من الخلف مصطلح "كلي العلم" أو "كلي الوجود". إلا أن الناقد "فريدمان" يرفض هذه التسمية، بسبب محدودية معرفة أو وجود هذا الراوي ويصطلح عليه بـ "الراوية المتنوع" ويحدد خصائصه بأنه "لا يقيم في كل مكان في وقت واحد: بل يكون مرة هنا ومرة هناك، ينظر الآن في هذا العقل أو ذاك، ويتحرك صوب فرص مواتية أخرى فهو مقيد بالزمان ومقيد بالمكان، ويضيف الناقد واصفاً هذا النوع من الرواة، بأنه (لا يكون في الأغلب شديد التعمق، ولكن لا بد له من أن يكون متنوع المهارات، خفيفاً في نقلاته المجازية لأن تحوله المسرحي جزئي، وهو يستدعى مثلما يستدعى لاعب الدمى الماهر النشيط، ويتلاعب بعدد من الشخصيات على التوالي، وغالباً ما تكون عديدة في وقت واحد، كما أنه يحتفظ لنفسه بدور على المسرح مع البقية".(5)‏
ويشير الناقد نفسه، إلى أن هذا الراوي، لا يمكن أن يوجد في رواية الصعاليك أو الرواية الانطباعية أو رواية الشخصية المكثفة. بل يوجد في الروايات التأريخية، روايات المشاهد الشاملة، والرواية الواقعية أو الطبيعية.‏
وعلى حين يطلق مصطلح "المشارك" على الراوي في الرؤية المجاورة، فإن الناقد يضيف نوعاً (ثالثاً) يسميه (بالشخص الثالث الذاتي) ويحدد خصائص هذا الراوي بأن يصفه بأنه بعيد عن أن يكون كلي العلم.. فهو يرى ويحس بعيني وحواس شخصية واحدة يحبس نفسه على منظور منفرد، باتساق كثير أو قليل، بالمقارنة مع الرواية المتعدد نجد أن صوت الشخص الثالث الذاتي يلعب دوراً أكثر تحديداً لكنه أكثر نفاذاً، إنه لا يمسرح نفسه ولكنه من جهة أخرى يضبط عمليات التحول إلى الداخل في شخصية أو أكثر من الشخصيات المركزية ثم يضيف الناقد قائلاً: - وإذن فالشخص الثالث الذاتي يمثل من الناحية البنيوية نوعاً من الواسطة بين الراوية (المتنوع) والذي -ببقائه محدود المعرفة في العمق- يحول المنظور واللهجة والمسافة حسبما يقتضي هدفه، وبين وحدة الصوت الشديدة الكامنة في رواية البطل الواحد.(6)‏
أما تودوروف فيقسم الرؤى إلى قسمين كبيرين هما:(7) الرؤية من الداخل والرؤية من الخارج ثم يعمد إلى تقسيمات أخرى داخل كل نوع ليحصل على ضروب عديدة من الرؤى داخل الرؤية الواحدة.‏
وتقسيم تودوروف للرؤى إلى نوعين، قريب من تقسيم الناقد الشكلي الروسي توماشفسكي الذي يرى أن هناك نوعين من القصة هما، القصة الذاتية، والقصة الموضوعية "في الأولى نتابع السرد من خلال عيني الراوي، أما في الثانية فالراوية يعرف كل شيء ويحيط بكل شيء"(8) على أنه ينبغي ملاحظة ما في مصطلحي الناقدين من تناقض، فالقصة أو الرؤية الذاتية لدى توماشفسكي تتضمن الرؤية من الخارج عند تودوروف، على حين يسمى تودوروف بالرؤية من الداخل ما أسماه الأول بالقصة أو الرواية الموضوعية، فالمعروف مثلاً أن الراوي في الأسلوب الذي يطلق عليه بالواقعية الموضوعية، في الرواية الأمريكية، يكون بمثابة عدسة الكاميرا التي تلتقط أفعال الشخصية بشكل محايد، وبهذا تكون رؤيته للأحداث رؤية خارجية لدى تودوروف على حين يطلق توماشفسكي عليها مصطلح " الرؤية الذاتية" لأننا نرى الأحداث من خلال عيني الراوي. وقد تكون الرؤية خارجية، حتى وإن استخدام الراوي ضمير المتكلم، في مثل هذه الروايات كما هو الأمر مثلاً في قصة القاص العربي المصري صنع اللَّه ابراهيم (تلك الرائحة) وروايته (نجمة أغسطس).‏
لقد شهدت الرواية العربية خلال العقدين الأخيرين تحولات واضحة في أساليب السرد، كانت مظهراً من مظاهر تحول أكبر في بنية الرواية العربية، إلا أن الأساليب الروائية الناجمة عن هذا التحول لم تنل ما تستحقه من الدراسة النقدية، وما كتب من هذه الدراسات اقتصر - وتحت تأثير النظرية البنيوية في النقد- على الجوانب الشكلية، إذ لم تحفل هذه الدراسات القليلة بأية محاولة لدراسة الدلالة الاجتماعية الكامنة وراء هذه التحولات في الأساليب الروائية.(9).‏
ونحن إذ نحاول هنا دراسة بعض مظاهر التحول والتطور في أساليب الرواية العربية -وبخاصة أشكال السرد ووظائفه- فإننا ننطلق من النظرة الاجتماعية للأدب التي ترى أن أصول أية بنية أدبية، ومؤلفها الأول في أبرز مظاهرها الجمالية، هو "المركب التاريخي والاجتماعي والنفسي والذهني، الذي يمثل الكاتب أحد شهوده، فالكاتب لا يؤسس شكلاً بل يكشفه".(10).‏
لقد انحسرت الرواية التاريخية، أو رواية المشهد الشامل، ذات الوصف الملحمي للحياة، والتي يطلق عليها أدوين موير "رواية الشخصية" لتفسح الطريق أمام قالب روائي جديد في الأدب العربي، هو قالب القصة القصيرة الطويلة، مواكبة بذلك الرواية العالمية، إذ من الواضح أن كتاب الرواية اليوم يميلون إلى كتابة روايات قصيرة "لكنهم ما إن يكتبوها حتى يجدوا مهمتهم قد قصرت عن الاكتمال، ومن ثم يكتبونها من زاوية أو رؤية مختلفتين، وأحياناً يكتبونها مرة بعد مرة، والنتيجة هي الرواية الحديثة المتباينة الوجوه".(11) إلا أن هذا التطور في الرواية العربية لم ينشأ بفعل هذه المؤثرات العالمية فحسب، بل جاء تلبية لحاجة أفرزها التطور في المجتمعات العربية التي أنجبت فن الرواية.‏
وما يقال عن الرواية الحديثة متباينة الوجوه، حقيقة تنطبق إلى حد كبير على الرواية العربية، إذ يمكن -على سبيل المثال- اعتبار روايات نجيب محفوظ القصيرة في مرحلته الفلسفية التي بدأت بـ "أولاد حارتنا" كاللص والكلاب والسمان والخريف، والطريق والشحاذ، يمكن اعتبارها رواية واحدة متباينة الوجوه، ويمكن اعتبار أبطالها بطلاً واحداً، نوقشت مشكلاته من زوايا عديدة وانفردت كل رواية بمناقشة المشكلة من زاوية معينة.‏
وفضلاً عن تباين الوجوه في الرواية العربية الجديدة، فإن دراسة هذه الأعمال الروائية تظهر أن الرواية الجديدة. هي في الغالب رواية درامية تقترب في الكثير من خصائصها الفنية من التراجيديا الشعرية، والفرق الأساسي بين الرواية الدرامية الجديدة والرواية الاجتماعية القديمة -كثلاثية محفوظ مثلاً- إن الفعل، لا الحادثة هو أساس هذه الرواية، وفي الفعل، كما يقول هيغل "كل شيء يقود إلى الملامح الداخلية للشخصية" أما في حالة الحادثة فيضيف هيغل: "فحتى الجانب الخارجي يكتسب شرعيته التي لا يمكن منازعته عليها.. إن مهمة الأدب القصصي تتركز في أن تؤدي.. إلى أن تمنح الظروف الخارجية، وظواهر الطبيعة، وغير ذلك من المصادفات، نفس تلك الحقوق التي يطالب بها المجال الداخلي".(12)‏
ولعل خير ما توصف به الرواية الدرامية الجديدة، قول كوزينوف في محاولته تحديد خصائص الأدب الدرامي "وفي الأدب الدرامي يجري التشبث بالسعي الأساسي والمركزي الخاص بالشخصية البشرية. وهذا ما يجعله قريباً فعلاً من التصوير الكرافيكي الذي يقدم المحيط العام والمظهر الأساسي للهيئة البشرية والذي يكتفي فقط بالإشارة إلى الخلفية والظرف المحيط".(13) إن الحياة الداخلية، والمأساة الشخصية لكل من عيسى الدباغ وسعيد مهران، وصابر الرحيمي، وعمر الحمزاوي، هي الأساس ومركز الصورة في روايات نجيب محفوظ في المرحلة التي أشرنا إليها -أما الظرف الاجتماعي الصانع للحياة الباطنة وللمآسي الشخصية فهو خلفية واطار الصورة فحسب، ولهذا السبب تصبح لغة السرد وكلام الشخوص في هذه الروايات لغة وكلاماً حافلين بالصور الشعرية، بل إن أعمال نجيب محفوظ في هذه المرحلة، تكاد تصبح على حد تعبير الناقد محمود أمين العالم "قصائد درامية، بل يكاد يكون بعض فصول روايات الشحاذ مثلاً، قصيدة من قصائد الشعر المعاصر، بناء ومعنى وتجربة وإيقاعاً داخلياً وإن خلت من الوزن والبحر والتفعيلة والقافية".(14)‏
ومن الطبيعي في الرواية التي يكون مركزها الفرد، أن يشحب المكان والزمان الفيزياوي، ويختفي الوصف - الذي من شأنه أن يوقف حركة الزمن في السرد - إلى حد كبير، على حين يبرز الزمن الداخلي أو السيكولوجي للشخصية، يقول الناقد غالي شكري عن اللص والكلاب: تبدأ اللص والكلاب "في لحظة نموذجية هي لحظة خروج سعيد مهران من السجن، وهي لحظة منحوتة من الزمان الداخلي للشخصية"(15) ذلك أن قيم الرواية الدرامية، كما يقول أدوين موير، هي قيم فردية، أما قيم الرواية الاجتماعية، أو رواية المشهد الشامل فهي اجتماعية، وفي الأولى نرى أفراداً يتحركون من بداية إلى نهاية، أما في الثانية فنرى شخصيات تعيش في مجتمع وكلا هذين النموذجين من الرواية لا يتعارضان ولا يتمم أحدهما الآخر، بل هما طريقان متميزان في رؤية الحياة: الفرد في الزمان والمجتمع في المكان.(16) ويكفي أن نقرأ المشهد الأول من "بين القصرين" ثم نقرأ نفس المشهد في "اللص والكلاب" لنقف على الفروق الفنية بين الرواية الاجتماعية والرواية الدرامية. ففي الأولى لا يصف الكاتب لحظة استيقاظ (أمينة) فحسب، بل يعمد إلى لقطة بانورامية للمكان، فالغرفة والجدران والأعمدة والفرش والسقف، والملامح الفيزيائية للشخصية، ثم الشرفة، وشارعي النحاسين وبين القصرين اللذين تقع عند لقائهما الدار، والمقاهي والحوانيت وعربات اليد ومصابيحها ومآذن قلاوون وبرقوق وهي تلوح كأطياف من المردة ساهرة تحت ضوء النجوم.(17) وكل ذلك يجد لنفسه مكاناً في الوصف الدقيق لمفردات المكان ومكوناته، أما في اللص والكلاب فالعبارات الأولى في المشهد تحدد الحالة السيكولوجية للبطل وترسم أهم السمات الفنية في أسلوب الرواية: "مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن في الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفي انتظاره وجد بذلته الزرقاء وحذاءه المطاط وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً.."(18) وسوف نلتقي بمفردات الوحدة، والعزلة والنفي وهي تتردد كنغمة طوال صفحات الرواية.‏
وما دمنا بصدد الحديث عن أدب نجيب محفوظ الروائي، فجدير بالذكر أن أهم الخصائص التعبيرية في المرحلة الفنية التي تحدثنا عنها، تضاؤل السرد واعتماد الحوار والحوار الباطني كوسيلتين أساسيتين في التعبير. وصحيح أن الثلاثية حافلة هي أيضاً بالحوار الباطني، إلا أن الأمر هنا اختلف كلياً، إذ أصبح الحوار والحوار الباطني هما أساس الأسلوب الجديد.‏
أما السرد والرؤية القصصية فقد تغيرا لينسجما مع الموضوعات والمضامين الجديدة ومع الشكل الروائي الجديد الذي ينصب الاهتمام فيه على الفرد، لا المجتمع، كما هو الأمر في مرحلة الثلاثية. لقد اختفى الراوي "كلي العلم" الذي يمسك بالأحداث من الخلف، ويتنبأ بأفكار الشخصية، بل ويتدخل أحياناً مفسراً وشارحاً ومعللاً للأحداث وكان من الطبيعي أن تختفي الرؤية (من الخلف) في الرواية الدرامية الجديدة، ذلك أن من شأن هذه الرواية أن تسود فيها وجهة نظر القارئ "فليس ثمة النفاذ إلى ما وراء الشخوص والكشف عن أفكارهم"(19) كما يقول بيرسي لوبوك.‏
وإذا حاولنا تحديد نوع الراوي والرؤية القصصية في هذه المرحلة وجدنا أن الرؤية أصبحت رؤية "مجاورة" على حين أصبح الراوي ما يصطلح عليه فريد مان "بالشخص الثالث الذاتي" الذي يحبس نفسه على منظور واحد ويرى ويحس بعين وحواس شخصية واحدة ويضبط عمليات التحول من الخارج إلى الداخل في الشخصية المركزية.‏
نقرا في اللص والكلاب على سبيل المثال "ودار على الميدان في سرعة طبيعية والضجة تلاحق حواسه، ولكنها استقرت في أعصابه حتى بعد انقطاعها عن حواسه، ولفه ذهول شامل فساق السيارة بلا وعي/ القاتل هناك، رؤوف علوان، الخائن الرفيع الممتاز الخ.."(20).‏
إن الذي يتلفظ بالعبارة هنا هو الراوي والشخصية معاً، ومن الواضح أن الراوي يعرف الشخصية من الداخل ويتطابق معها، على حين يتم الانتقال إلى داخل الشخصية، وعن طريق الحوار الباطني المباشر (القاتل هناك الخ..) بدون تدخل من الراوي إذ لا يقوم بتنظيم الحوار وقيادة القارئ، بل يتوقف عن الرواية ليترك الشخصية تتحدث من الداخل وهذا هو الفرق الوحيد بين راوي نجيب محفوظ والشخص الثالث الذاتي الذي يقوم هو بضبط عملية التحول، كما يصفه "فريدمان".‏
ومن الجدير بالذكر أن الحوار الباطني في (اللص والكلاب) هو من نمط (المباشر) ولم يخرج المؤلف عنه إلى استخدام "غير المباشر" واستخدام ضمير الغائب والمخاطب إلا نادراً، على حين استخدم المؤلف النمطين من الحوار الباطني في (الشحاذ)، مما خلق أسلوباً علمياً ساعد كثيراً في كشف وتصوير العالم الباطني لشخصية عمر الحمزاوي، وهو أسلوب يختلط فيه صوت الراوي بصوت الشخصية إلى حد يصبح معه فصل أحد الصوتين عن الآخر، من الصعوبة بمكان، نقرأ في (الشحاذ):‏
" في ضوء الشمس تبدت أنيقة وقوراً.. ونظرتها الخضراء الجادة لم تفقد كل سحرها، ولكنها غريبة، غرابة مستحدثة لم ترها عينك من قبل. امرأة رجل آخر رجل الأمس الذي لم يعرف التعب أو الفتور، ولكن ما علاقتها بهذا الرجل المريض بغير مرض"(21) إن استخدام ضمير الغائب في الحوار الباطني يتيح للشخصية أن ترى نفسها وهي تتحرك تماماً كما في الأحلام حيث نكون مشاهدي الأحداث المشدودين إليها وصانعيها في نفس الوقت.‏
إذا كنا قد خصصنا نجيب محفوظ بالجزء الأكبر من حديثنا حتى الآن، فذلك لما يمثله هذا الكاتب للرواية العربية ولأساليبها من أهمية كبيرة، وليس من أغراض هذا البحث أن يتحرى مسألة الراوي والرؤية القصصية في النماذج التي سنعرض لها في دراستنا، تحرياً دقيقاً. إذ أن العمل الروائي الواحد قد يحفل- بما يمكن خلقه من رؤى متنوعة ومولدة ناجمة عن اقتران نمطين أو أكثر من الرؤى- بأكثر من رؤية، بحيث يحتاج معه العمل الروائي الواحد إلى دراسة موسعة. إن هدف هذا البحث دراسة أهم الأساليب الروائية الجديدة القائمة أساساً على تنوع الرؤى دراسة عامة محاولاً استنباط دلالة هذه الأساليب وعلاقتها بالبنية الاجتماعية التي أنجبتها.‏
وبما أن هذا هو هدفنا فإننا سنكتفي -عند دراسة النماذج الروائية- بتقسيم توماشفسكي للرؤية إلى موضوعية وذاتية يدفعنا إلى ذلك، من جهة أخرى، أن الرؤى الثلاث التي أشرنا إليها قد اختزلت إلى حد كبير، فالراوي "كلي العلم" قد اختفى ولم يعد مستساغاً اليوم تدخل الراوي في الأحداث أو ما يسميه تودوروف بـ "الكلام التقويمي" في الرواية، كما أن الرؤية الثالثة التي اصطلح عليها "الرؤية من الخارج" اقتصر وجودها على عدد قليل من الروايات في الأدب العربي.‏
لقد نشأت "الرؤية من الخارج" في القصة العربية، تحت تأثير كتاب الرواية الأمريكية، وبخاصة همنغواي الذي ترجمت معظم أعماله إلى العربية، إن هذا الأسلوب الذي يكون الراوي فيه بمثابة (كاميرا) تلتقط حركات الشخصية، وآلة التسجيل تسجل كلماتها والذي يطلق عليه (عين الكاميرا) تارة (والواقعية الموضوعية) تارة أخرى، أو (جبل الجليد الغائم) تارة ثالثة، والذي اشتهر به كتاب الرواية الأمريكيون-كدائيل هامت، وجون دوس باسوس، وهمنغواي- شاع في الأدب العربي لدى كتاب القصة القصيرة، كمحمد خضير ومحمد زفزاف، وإبراهيم أصلان أكثر من شيوعه في الرواية، وباستثناء قصة صنع الله إبراهيم المعروفة "تلك الرائحة"(22) وروايته "نجمة أغسطس" فإن معظم الآثار الأدبية التي كتبت بهذا الأسلوب، تقع في دائرة القصة القصيرة لا الرواية، علماً أن القصتين تقترن فيهما الرؤية من الخارج مع الرؤية من الداخل لتكون أسلوباً متميزاً يقوم على سرد الأحداث في أكثر من مستوى زمني واحد.‏
وبهذا تكون الرؤية (المجاورة) أو المصاحبة، هي الرؤية القصصية السائدة اليوم في أساليب السرد، في الرواية العربية الجديدة، وهي رؤية أكثر رقياً من الرؤية من (الخلف) أو الرؤية (المجاورة) كما اصطلح البعض عليها.‏
لقد عبرت الرؤية الدرامية عن نفسها في الرواية العربية الجديدة، بطرق أو أساليب عديدة، أبرزها شيوع الرؤية الداخلية الذاتية واستخدام ضمير المتكلم في سرد الأحداث، في كثير من الروايات العربية، وثانيهما استخدام الرؤية الذاتية إلى جانب الموضوعية لتحقيق الرواية ذات الأصول المتعددة، ولخلق ظاهرة جديدة في الرواية العربية وأساليبها، هي ظاهرة "تكافؤ السرد" إذ يعمد معظم كتاب الرواية اليوم إلى رؤية الأحداث من منظورات وزوايا مختلفة، بل ومتناقضة أحياناً من شأنها أن تخلق تشويشاً معيناً يتطلب من القارئ أن يقحم نفسه في العملية الإبداعية، وهي بهذا أي الرواية تقترب من المسرح الملحمي، كما تقترب مما يسميه الناقد البنيوي بارت "بالنص المقابل للكتابة" وإن لم تحققه بصورة كاملة.‏
وبما أن هذه الدراسة القصيرة لا تهدف إلى استقصاء أنواع الرؤى في نماذج روائية عديدة، بشكل دقيق تحتاج معه إلى دراسة مطولة، رأينا أن نشير إلى شيوع استخدام ضمير المتكلم في سرد الأحداث وفق رؤية ذاتية- والذي لا يمكن أن يعتبر عودة إلى الرومانسية بقدر ماهو تعبير عن رؤية درامية للحياة، مجرد إشارة، وأن تخصص هذه الدراسة لأحداث الأساليب الروائية الجديدة في الأدب العربي والذي يقوم على استخدام أكثر من رؤية في سرد الأحداث خالقاً بذلك أسلوباً جديداً في الرواية العربية.‏
ويتم تحقيق "التكافؤ السردي" في الرواية العربية الجديدة بطريقتين، الأولى أن تشترك معظم شخصيات الرواية، وبخاصة الرئيسة منها في سرد الأحداث. كل من وجهة نظرها الخاصة ومن زاوية معينة، كما هو الأمر في (ميرامار) لنجيب محفوظ (والأشجار واغتيال مرزوق) لعبد الرحمن منيف، أو أن تقترت الرؤية الموضوعية للأحداث، عن طريق الشخص الثالث، أو الشخص الثالث الذاتي بالرؤية الذاتية عن طريق سماح الكاتب لبعض شخصيات الرواية، وبخاصة تلك التي تتسم بالذاتية، أو تمتلك حياة داخلية خصبة بأن تروي الأحداث من وجهة نظرها الذاتية، لتضاف إلى رؤية الراوي الموضوعي، كرواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، (والبحث عن وليد مسعود) لجبرا ابراهيم جبرا و"الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي. وفي الحالتين نحصل على رؤى ذاتية وموضوعية متعددة للأحداث، إذ أن من شأن الرؤية الذاتية لكل شخصية، أن تصبح بالنسبة للشخصيات الأخرى، رؤية موضوعية.‏
ولعل الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ هو من أوائل من ابتكر هذا الأسلوب الجديد في روايته (ميرمار) حيث يلتقي في بنسيون سيدة إغريقية الوفدي السابق (عامر وجدي) والإقطاعي الذي وضعت أمواله تحت الحراسة "طلبة مرزوق" والشاب الذي ينحدر من أسرة ارستقراطية ويحاول أن يوظف بضعة الأفدنة من الأرض التي بقيت له بعد الثورة، في مشروع جديدة (حسني علام) والثوري المرتد والخائن لرفاقه (منصور باهي)، عضو الاتحاد الاشتراكي (سرحان البحيري) الذي استطاع بانتهازيته أن يتسلق المراتب الحزبية والوظيفية، يلتقي كل هؤلاء ويفترقون في صراعهم مع وحول (زهرة) الفلاحة خادم البنسيون، وعلى حين يتفرد عامر وجدي الوفدي القديم برواية الفصل الأول والأخير من الرواية ويستبعد طلبة مرزوق، الإقطاعي الذي يرى أن الثورة أخذت أمواله فئة اجتماعية معينة وأخذت حرية الجميع وأن أمريكا هي البديل للنظام، من رواية الأحداث، يروي كل من حسني علام وسرحان البحيري ومنصور باهي فصلاً من فصول الرواية. مما يتيح لنا أن نرى الأحداث من منظورات وزوايا رؤية متعددة.‏
ولعل بناء الرواية على هذا الشكل يسهم في إبراز المضمون الذي أراد أن يقوله الكاتب، إذ أن استبعاد مرزوق من الرواية يعود إلى انتمائه إلى مجتمع ماقبل الثورة الذي سقط سياسياً واقتصادياً وايديولوجياً على حين جاء استبعاد زهرة من رواية الأحداث لكونها رمزاً وليس حقيقة،(23)، ولعل الكاتب كنى بها عن مصر الفلاحة، كما أن انفراد عامر وجدي برواية الفصل الأول والأخير ينبئ بتعاطف الكاتب مع الوفد أكثر من تعاطفه مع أي تيار سياسي آخر.‏
وفي الوقت الذي نرى فيه الأحداث من وجهة نظر ذاتية في كل فصل، إذ نراها من خلال عيني الراوي تصبح وجهة النظر وزاوية الرؤية الذاتية هي بمثابة رواية موضوعية بالنسبة للشخصيات الأخرى في الرواية، وبهذا يتاح للقارئ أن يرى الأحداث رؤية موضوعية عن طريق رؤيته لها بطرق متعددة ومن جوانبها المختلفة.‏
إلا أن محاولة محفوظ هذه لم تفلح في أن تحقق النجاح إذ جاءت وكأنها أربع قصص مستقلة يجمعها مكان واحد وتتشابك في بعض أحداثها، مما دفع بعض النقاد إلى القول بأن شكل الرواية كان مجرد شكل خارجي فحسب، يحاول أن يصوغ أفكارها الجوهرية التي تتمثل أساساً في التوازي والتصادم... بين الواقع الخارجي، والوجدان الداخلي للنفس البشرية.(24).‏
وجدير بنا ونحن نتحدث عن مثل هذا الأسلوب، أن نذكر محاولة غائب طعمة فرمان في روايته "خمسة أصوات" التي جاءت شبيهة بميرامار بعض الشيء واختلفت عنها في أشياء كثيرة. فالرواي في خمسة أصوات هو "المتنوع" والرؤية موضوعية إلا أن المؤلف سمى فصول روايته بأسماء أبطالها، وأفرد لكل شخصية أكثر من فصل مما جعل الرواية تحقق الالتحام في فصولها، على حين تخفق في أن تقدم أو تضيف جديداً إلى الرواية العربية. والعلة في ذلك في رأينا أن أحداث خمسة أصوات تقع قبل التغير لابعده كما في ميرامار، وأن شخصياتها جميعاً تنتمي إلى شريحة اجتماعية واحدة، وتتجانس سياسياً وأيديولوجياً، ولا تختلف إلا في بعض الأمور الخاصة والذاتية، وفي مجتمع تتحقق فيه الوحدة لا الانقسام، وهو على وشك تحقيق التغيير، تصبح الرؤية الموضوعية لا الرؤية الذاتية، هي الرؤية المناسبة للأحداث.‏
على أن الرواية التي حققت إضافة كبيرة في (أسلوبها السردي)، وتركت أثرها الكبير في الرواية العربية، هي رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" وهي رواية درامية تسلك طريق الرواية الذاتية، إذ أن الراوي هوأحد شخصياتها بل هو الشخصية الثانية في الرتبة الروائية بعد شخصية (مصطفى سعيد)، بطلها.‏
ولعل أحد أسباب جمال السرد في هذه الرواية، وما يحققه من تشويق، ناجم عن أن الراوي لا يروي الأحداث دفعة واحدة من البداية إلى النهاية، بل يعمد إلى تقطيع هذه الأحداث إلى نتف تظهر من خلال المنلوج والتداعي. فنحن في الفصل الأول منها نتعرف على الراوي وعلى مصطفى سعيد وعلى بعض الشخصيات الرئيسة الأخرى، وفي الفصل الثاني يروي (مصطفى سعيد) مأساته للراوي، ولا يظهر مصطفى سعيد، بعد ذلك إلا من خلال وعي الراوي وهو يتابع سرد أحداث القصة. إن المؤلف لا يضيء نقطة من الأحداث، حتى يتركها إلى غيرها: "فنصبح مع المؤلف كأننا نسير في سرداب مظلم يضيء مصباحه اليدوي في أي مكان شاء فنرى قطعة من الأحداث، ثم يعاودنا الظلام والضياع بالنسبة لهذه القطعة، لأنه يحلو له أن يضيء غيرها، فإذا أضفنا أنه بدأ بنا من آخر السرداب، ثم بدأ بداية أخرى من وسطه، ثم عاد إلى البداية، ثم إلى الوسط، أدركنا مدى التشويق الكامن في طريقة السرد".(25).‏
وينشأ التكافؤ السردي، وما يترتب عليه من (تشويش) عن طريق إسهام معظم شخصيات الراوية في الحديث عن مصطفى سعيد أحاديث متضاربة يصبح معها مصطفى سعيد أكذوبة وحقيقة، واقعاً وأسطورة في آن واحد، فالرواي لا يعرف مصطفى سعيد من خلال روايته هو لأحداث مأساته، ولا من خلال جده ومن خلال الفلاح محجوب، بل يقابل بعد موت مصطفى شخصيات عديدة، تروي عنه كل من زاويتها الخاصة.‏
فالراوي يقابل موظفاً متقاعداً وهو في القطار في طريقه إلى الخرطوم، ويصف الموظف سعيداً بأنه ابن الانكليز المدلل، وأنه لا أصل له(26) ثم يقابل الراوي رجلاً إنكليزياً يزعم بأنه لا يدري شيئاً عن صحة ماقيل عن الدور الذي لعبه مصطفى سعيد في مؤامرات السياسة الإنكليزية في السودان، ويضيف قائلاً: "إن مصطفى سعيد لم يكن اقتصادياً يركن إليه.. كان ينتمي إلى مدرسة الاقتصاديين الغابانيين الذين يختفون وراء ستار التعميم"ويضيف قائلاً: "(27) يظهر أنه كان زير نساء يخلق لنفسه أسطورة من نوع ما، الرجل الأسود الوسيم المدلل في الأوساط البوهيمية، كما كان يبدو واجهة يعرضها أفراد الطبقة الارستقراطية الذين كانوا في العشرينات وأوائل الثلاثينات يتظاهرون بالتحرر....‏
وكان أيضاً من الأثيرين عند اليسار الإنكليزي"..‏
ويصفه شاب يحاضر في الجامعة، (28) كان زميلاً للراوي في إنكلترا والتقى مرات عديدة به، يصف سعيداً بأنه مليونير يعيش كاللوردات في الريف الإنكليزي، وأنه لعب دوراً خطيراً في مؤامرات الإنكليز في السودان في أواخر الثلاثينات. على حين يصفه وزير من تلاميذه بأنه "كان رئيساً لجمعية الكفاح لتحرير أفريقيا.... ياله من رجل كانت له صلاة واسعة، يا إلهي ذلك الرجل كانت النساء تتساقط عليه كالذباب".(29) وحين يرد الراوي على زميله الشاب ليصحح معلوماته عن مصطفى سعيد، يسأل الشاب الراوي بذعر "هل أنت ابنه؟" وهو يسأل هذا السؤال رغم معرفته الأكيدة بالراوي بأنه ليس ابناً لمصطفى سعيد، فيعلق الراوي على ذلك بقوله: "والمكان، تبدو له الأشياء هو الآخر، غير حقيقية، يبدو له كل شيء محتملاً".(29).‏
وليست الشخصيات وحدها هي التي تروي عن مصطفى سعيد، بل تسهم في رواية الأحداث والرسائل كرسائل مسز روبنسن إلى الراوي، والوثائق التي وجدت في مكتبه وبضمنها جوازه ومذكراته التي بدأ بكتابتها، ومؤلفاته العديدة،ـ كل ذلك يسهم في أن يكشف شخصية ثرية وفنية كشخصية مصطفى سعيد، شخصية في غناها وثرائها وفي تعدد أبعادها تبدو وكأنها حلم وليس حقيقة، بحيث أن الراوي نفسه تخطر له أحياناً فكرة مزعجة مفادها:"أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقاً وإنه فعلاً أكذوبة أو طيف، أو حلم، أو كابوس ألم بأهل القرية... ذات ليلة داكنة خانقة، ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه"(30).‏
وليس السرد وحده هو الذي يسهم في "تشويش" صورة مصطفى سعيد بل ويتضافر ترتيب الأحداث في الرواية، معه، ليخلق هذه الصورة المشوشة والمتناقضة كما تبدو للوهلة الأولى، ذلك أن أحداث الرواية في بعض أجزائها لا تنجم عن قانون السببية أو العلة والمعلول، أي أنها ليست سبباً ونتيجة بشكل مباشر كما هو الأمر في (الحبكة) ولكن عن سببية سيكولوجية وعن خاصية في الطباع، فنحن لا نجد تفسيراً واضحاً لغياب عاطفتي البنوة والأمومة بين سعيد وأمه، ولا نعرف دافعاً لذلك الاندفاع نحو المأساة لدى سعيد:"وما أكثر ما سألت نفسي ما الذي يربطني بها، لماذا لا أتركها وأنجو بنفسي؟ ولكنني كنتُ أعلم أن لا حيلة لي، وأن لا مفر من وقوع المأساة.(31)‏
إن الوظيفة التي يؤديها مثل هذا الأسلوب في السرد، كامنة في كلمات الراوي بصدد زميله: "إذ تبدو له الأشياء في لحظة غير حقيقية ويبدو وكل شيء محتملاً" إن الحقيقة في مثل هذه الرواية ذاتية متعددة ومتباينة الوجوه، بتعدد وتباين طرق النظر إليها.‏
وأخلاقية هذه الرواية مضادة للأخلاقية الإطلاقية، وفكرها مضاد للأفكار المطلقة، وليس عجيباً أن يقدم مصطفى لقصة حياته التي أراد أن يكتبها، فلم يكتب غير الإهداء بقوله: (32) "إلى الذين يرون بعين واحدة، ويتكلمون بلسان واحد، ويرون الأشياء أما سوداء أو بيضاء، إما شرقية أو غربية...."، وكأنه أحس بأن في قصته المأساوية مايفند هذه الرؤية القاصرة عن فهم الحقيقة.‏
وفي رواية "الأشجار واغتيال مرزوق"، لعبد الرحمن منيف، يروي عبد السلام منصور، الأستاذ الجامعي الذي فصل من عمله لأسباب سياسية، قصة فصله، وتشرده بحثاً عن عمل، ومماطلة السلطات في منحه جواز سفر لثلاث سنوات وفي القطار يلتقي بشخصية شعبية بدائية تشبه إلى حد بعيد شخصية (زوربا) في رواية الكاتب اليوناني كازنتزاكي، ويروي عبد السلام منصور قصته من الداخل بطريقة ذاتية، مستخدماً ضمير المتكلم ويقتصر دوره ومنذ الفصل الخامس من القسم الأول على توجيه الأسئلة لـ(الياس) والتعليق على روايته للأحداث مما جعل هذا القسم شبيهاً بالريبورتاج الصحفي. وفي الوقت الذي يستعين فيه القاص على كشف وتصوير شخصية منصور باستخدام التداعي والمونولوج المباشر وغير المباشر، فإن رواية الياس تتم عن طريق السرد بضمير المتكلم،دون استخدام التداعي أو المونولوج، وبطريقة هي أحياناً "أقرب إلى التقرير العفوي البسيط بكل مافيه من ملامح الأداء الشعبي".(33).‏
ويقدم الكاتب للقسم الثاني من الأحداث بفصل تكون رواية الأحداث فيه موضوعية عن طريق الشخص الثالث، إلا أنه يعود إلى إكمال رواية الأحداث بنفس الأسلوب السابق لنرى إلى جانب حياته جوانب من حياة الياس نخلة، التي سبق أن رواها بنفسه مما يتيح لنا رؤية قصة الياس نخلة رؤية موضوعية ومن خلال منصور وبهذا تقترب الرواية من بناء "موسم الهجرة إلى الشمال"، حيث تتضافر الرؤيتان الذاتية والموضوعية في عرض الأحداث، رغم الفوارق الفنية الكبيرة، إذ ظلت "الأشجار" تبدو وكأنها قصتان لا قصة واحدة(34) تتشابك أحداثهما في نقاط محددة فحسب شأنها شأن "ميرامار" لنجيب لنجيب محفوظ.‏
وينجح الكاتب في تلافي هذا الصدع في روايته "شرق المتوسط، التي تقوم على نفس البناء السردي، حيث يشترك في رواية أحداثها، بطلها السياسي المرتد "رجب اسماعيل، وأخته "أنيسة" حيث يروي كل منهما ثلاثة فصول من الأحداث بالتعاقب. ويكشف القاص عن رغبته في كتابة رواية تشكل إضافة فنية وتحقق قيمة جمالية جديدة، إذ يكتب (رجب) إلى أخته أنيسة قائلاً: "أريد أن نكتب معاً رواية... لو كتب عادل بعض الأشياء وتركناها على بساطتها وصدقها.. ولو كتب حامد، ولو كتبت أنت، ثم أكتب أنا بعد ذلك... فإن ما نكتبه معاً سيكون شيئاً جديداً وجميلاً"، ثم يضيف مبيناً ميزة هذه الطريقة"... وطبيعي أيضاً أن ننظر من زوايا مختلفة، هذه الزوايا المختلفة ضرورية لكي نرى الشيء من جميع جوانبه".(35).‏
بين "موسم الهجرة إلى الشمال" والبحث عن وليد مسعود لجبرا إبراهيم جبرا أكثر من سبب وأكثر من وشيجة، وقد تركت الأولى بصمات واضحة على الثانية(36) في محاولة للكاتب خلق شخصية روائية شبيهة "بمصطفى سعيد" وتقوم رواية جبرا على فكرتين أساسيتين أولهما تقع في الخلط بين فكرة النمط وفكرة النموذج. إذ تقول إحدى شخصيات الرواية مبررة ما في شخصية (وليد) من خروج على المألوف يقترب بها من الأسطورة:(ليس هناك نموذجي ولاسيما عندما يكون شخصاً غير عادي كوليد"(37). وثانيهما، أن أصالة الإنسان تكمن في دخيلة ذهنه في خلايا دماغه، وأن النظرة السوسيولوجية تطمس القدرة على رؤية ما في الفرد من أصالة وتميز:"إن النظرة السوسيولوجية، تفسد الخيال من أساسه يدربونك عشر سنوات على رؤية الإنسان كظاهرة مجتمعية وإذا أنت في النهاية تفقد القدرة على رؤيته كإنسان متميز كإنسان مستوحد".(38)‏
وتقوم رؤية جبرا على (استخدام الرؤية الموضوعية والذاتية معاً في سرد الأحداث والكاتب يموضع أحداثه عن طريق الراوي الأول في الرواية الدكتور جواد حسني الأستاذ الجامعي الذي يقوم بكتابة بحث عن وليدمسعود يدفعه للبحث مع الشخصيات الأخرى عن هوية وليد ومصيره كماتتموضع الأحداث عن طريق إسهام معظم شخصيات الرواية التي لها علاقة بوليد في رواية الأحداث على حين نحصل على رؤية ذاتية لوليد من خلال رواية وليد لبعض فصول الرواية رواية ذاتية داخلية يستخدم فيها التداعي-وبخاصة في حديثه الذي تركه في شريط على آلة التسجيل في السيارة قبل اختفائه- بحيث تتاح للقارئ رؤية وليد رؤية ذاتية وموضوعية ومن منظورات مختلفة. وتأتي النهاية المفتوحة للرواية إذ يخضع مصير وليد لاحتمالات عديدة منسجمة مع هذا البناء للسرد.‏
ويطلق الكاتب على هذا الأسلوب الفني في بناء الرواية مصطلح "المرايا" إذ يتساءل د.جواد حسني عن شخصيات الرواية وهي تروي الأحداث قائلاً: "عمن هم في الحقيقة يتحدثون؟ عن رجل شغل في وقت ما عواطفهم وأذهانهم أم عن أنفسهم، عن أوهامهم وإحباطاتهم وإشكالات حياتهم؟ هل هم المرآة وهو الوجه الذي يطل من أعماقها، أم أنه هو المرآة ووجوههم تتصاعد من أعماقها كما ربما هم أنفسهم لا يعرفونها" وهكذا يتاح لشخصيات الرواية أن تكشف نفسها للقارئ، وهي تتحدث عن وليد على حين نرى وليداً من خلال وعيها.‏
ولابد من الإشارة -وقد أشرنا إلى تأثير موسم الهجرة إلى الشمال على رواية البحث عن وليد مسعود- إلى الفروق الفنية بين العملين، إذ ينتصر في الأولى الفن والصدق الفني على الأيديولوجية في تصوير الواقع، على حين تنتصر الأيديولوجية على الفن في رواية جبرا، فنرجسية الكاتب وانحيازه الأيديولوجي، وتعاطفه الشديد مع بعض الشخصيات وحرمانه لبعض شخصياته الأخرى من هذا التعاطف ومحاولة لتصويرها بأسلوب تهكمي ساخر واعتماده في كشف وتصوير شخصياته على الحوار والمناقشات الطويلة بين شخصياته، جعل من القاص قاص السماع لا الرؤية، وجعل من الرواية بناءً فنياً جميلاً، لكن بلا مضمون يرتقي إلى مستوى هذا البناء. لقد حرم الكاتب شخصياته "من أن تقول أي شيء يفضح خفاياها ومؤكد أن المؤلف لو لم ينقذ أحاديثهم تلك بسرده الطلي الرشيق، بتفجير بعض المواقف الدرامية... بتمرسه على نحت الصورة الروائية والأداء الروائي البارع، لما بقي لنا سوى أن "نتفرج" عليهم غير متعاطفين ماداموا لا يظهرون لنا بكامل تجربتهم التاريخية".(39).‏
وتختلف "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي التي تصور أربعة أجيال(40) من أسرة بغدادية عن كل الأعمال التي ناقشناها، في أنها تطمح إلى أن تكون رواية كلاسيكية، رغم أن أحداثها لا تبتعد كثيراً عن الدار، بحيث تكون مشهداً شاملاً للمجتمع العراقي في المرحلة التي تقع فيها الأحداث، ورغم استخدام الكاتب للكلام) لا (اللغة) في حوارها.‏
وفضلاً عما تحفل به الرواية من نزعة تسجيلية وطبيعية، فإن معظم شخصيات الرواية هي شخصيات سلبية مهزومة، تواجه الواقع بسلوك مريض، كما هو الأمر مع شخصيتي (كريم) الذي تشل إرادة الحياة والعمل فيه رؤيته لصديقه (فؤاد) وهو يموت تحت عجلات مركبة، وحسني الذي يتخلى عن زوجته وابنتيه ويفصل من عمله فيبحث عن عمل في بلد غير بلده، ثم يعود إلى بلده، ليسقط في مستنقع العدمية ويغرق في السكر والإدمان عليه. وفي نفس الوقت تقتصر حيوات النسوة العجائز في الطابق الأعلى من الدار على النوم، والطعام، وإصدار نداءات الجوع بشكل دائم، بحيث تذكرنا حياتهن الوضيعة هذه بتلك الحيوات الوضيعة في (جحيم) دانتي، ورغم أن شخصية (مدحت) هي الشخصية التي تأسر القارئ، لأنها الشخصية الأكثر إيجابية، إلا أن منطق الشخصية وفلسفتها البراغماتية، تحد إلى حد كبير من إيجابيتها وفاعليتها. ولا تتأتى سلبية كريم و(حسين) وسلوكهما المرضي، نتيجة لعوامل قاهرة، تدفع القارئ إلى التعاطف معهما، بل تغرق الشخصيتان في سلوكهما المرضي هذا بفعل صدمة نفسية ناجمة عن (المصادفة). وهي في الحالتين (مصادفة) لا تنبع من الضرورة، مما جعل الشخصيتين تبدوان زائدتين وسلوكهما غير مبرر وأحاديثهما الكثيرة وإن ارتدت رداءً فلسفياً- باعثة على الضجر.‏
والكاتب هو أيضاً يستخدم الرؤيتين الموضوعية والذاتية معاً في كشف وتصوير شخصياته، فالراوي في معظم فصول الرواية هو (المنوع) باستثناء الفصول الخاصة (بكريم) التي تقدمها فيها الأحداث من وجهة نظره وتروى بضمير المتكلم، على حين يتضافر الأسلوبان في تقديم وتصوير شخصية(منيرة) التي تبدأ في الفصل التاسع من الرواية، رواية الأحداث رواية ذاتية وبضمير المتكلم، حتى إذا دنا سرد الأحداث من حادث السفاح لجأ الكاتب- وبلغة سينمية- إلى موضعة الأحداث، وتحول ضمير الحاضر إلى الغائب (والأنا) القائل إلى (هو) الرائي ليتحول القارئ بدوره من (السماع) إلى الرؤية البصرية للأحداث.‏
إن المعنى الكامن وراء موضعة الأحداث، هو عجز الشخصية، بفعل التابو الاجتماعي، والتحريمات الأخلاقية الاجتماعية، ولاسيما بين الطبقات الوسطى(41) عن الحديث عن أمر كهذا، ومن جهة أخرى، تجعل هذه الموضعة القارئ يرى الأحداث بشكل أفضل. وتذكرنا هذه الالتفاتة الفنية من قبل الكاتب بنجيب محفوظ في الثلاثية، واستخدامه لأدواته التعبيرية بشكل يتناسب وينسجم مع الخصائص الاجتماعية والسيكولوجية للشخصية إذ لم يستخدم الكاتب المونولوج في كشف شخصية أمينة من الداخل وتصوير عالمها الباطني إلا بعد وفاة زوجها أحمد عبد الجواد.‏
إن الرواية كناية عن عمل فكري في المرتبة الأولى، وهي في المرتبة الثانية، صياغة جمالية لهذا العمل الفكري، ومعطيات الواقع هي التي تقترح نوعية هذا العمل وصياغته الجمالية. والرواية الدرامية هي رؤية في الحياة، وهي رؤية (للفرد في الزمان) كما يقرر ادوين موير، وقيم هذه الرواية، قيم فردية، على عكس الرواية الاجتماعية التي تقوم على قيم اجتماعية، على رؤية (الفرد في مجتمع) فما الذي يجعل الرؤية الدرامية للحياة تتقدم وتصبح في مركز الصورة على حين تتراجع الرؤية الاجتماعية إلى خلفية هذه الصورة؟‏
إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في مضامين الروايات التي تحدثنا عنها والروايات جميعاً تتناول عملية التغيير الاجتماعي، والمشكلات الناجمة عنه. وقد يقول قائل إن بعض روايات نجيب محفوظ في المرحلة الفلسفية التي تحدثنا عنها كالطريق والشحاذ، تطرح وتعالج مشكلات ميتافيزيقية، وهذا صحيح، إلا أن المشكلات الكونية والميتافيزيقية في هذه الروايات "تتلبس مضمونها العيني بوصفها مشكلة اجتماعية في الجوهر والأساس، مشكلة انتماء إلى العالم والتزام به ومشاركة في صياغته"(42). بل إن التساؤلات الكونية والميتافيزيقية فيها نابعة عن التغيير الاجتماعي نفسه.‏
وعلى حين تقف بعض هذه الروايات عند حدود الواقعية النقدية(كاللص والكلاب) و(الطريق) فإن البعض الآخر يتجاوزها إلى واقعية أكثر إشراقاً بما فيها من إيمان بالمستقبل، وبالعلم والثورة والتغيير الاجتماعي، وبما تلهمه من اتجاه ثوري.‏
إن أكثر روايات هذه المرحلة التصاقاً بما هو اجتماعي، وبعملية التغير الاجتماعي، هي اللص والكلاب وميرامار، وكلاهما تنتهي بالجريمة وتعنينا رواية اللص والكلاب أكثر من غيرها لكونها بنية دالة بالنسبة للتغير الاجتماعي، أكثر من غيرها أيضاً، ولقد بين بعض الباحثين باستخدام جدول الناقد البنيوي كريماس أنها بنية سقوط اقتصادي وأيديولوجي(43)، إذ يتخلى الجميع تدريجياً عن (مهران) باستثناء نور وطرزان. ونحن نتفق مع الرأي القائل بأن الرمز في (اللص وا لكلاب) هو "مزيد من الواقع"، هو تكثيف الواقع وتركيزه". إن هجرة (رؤوف علوان) الطبقية وتخليه عن تلميذه (سعيد مهران) وعن أفكاره الثورية عن العدالة الاجتماعية هي هجرة موازية وشبيهة بهجرة الطبقة الاجتماعية التي قادت التغيير، ولذلك كان سعيد مهران وهو يكافح من أجل العدالة الاجتماعية، وضد القوى الصانعة لمأساته ضمير الملايين: "الناس معي عدا اللصوص الحقيقيين.. أنا روحك التي ضحيت بها ولكن ينقصني التنظيم على حد تعبيرك.. وأن أفهم اليوم كثيراً مما أغلق عليّ فهمه من كلماته القديمة ومأساتي الحقيقية أنني رغم تأييد الملايين أجدني ملقى في وحدة مظلمة بلا نصير".(45)‏
وفي الشحاذ نجد المفارقة واضحة بين مرض عمر الحمزاوي المحامي الثري الذي حقق كل مايحلم به من ثروة وملكية وبين النظام الاجتماعي، إذ يدور هذا الحوار بين عمر وطبيبه.‏
"-وها أنت تبحث عن الحب المفقود، خبرني أما زلت تذكر أيام السياسة والإضراب والمدينة الفاضلة؟..‏
- طبعاً. وقد ولت جميعاً ولم يبق إلا سوء السمعة.‏
- ومع ذلك فقد تحقق حلم كبير- أعني الدولة الاشتراكية".‏
ثم يصف الطبيب مرض عمر المرتد عن ماضيه السياسي والأيديولوجي قائلاً:-‏
"أجل إنه مرض برجوازي.. ليس بك من مرض".(46).‏
وفي (موسم الهجرة إلى الشمال) يشير محجوب الفلاح إلى خلو القرية من الخدمات التعليمية والصحية، رغم كل الشعارات العريضة التي ترفعها الفئة الحاكمة حول ذلك ويقول محجوب للراوي واصفاً التغيير بقوله: "الدنيا لم تتغير بالقدر الذي تظنه... الدينا تتغير حين يصير أمثالي وزراء في الحكومة"،(47) ويتلو ذلك حديث للراوي عن مؤتمر انعقد حول التعليم، يكشف فيه التناقض الفاضح بين الفكر والممارسة، النظرية والتطبيق، الشعارات والسلوك العملي للفئة الحاكمة، لنقف على شتى أنواع الفساد في صفوف هذه الفئة التي تتحدث باسم العمال والفلاحين.‏
أما (الأشجار واغتيال مرزوق) فتؤكد مثل هذا المعنى على لسان منصور عبد السلام الأستاذ الجامعي، الذي سرح من عمله لأسباب سياسية"، أما الذين توهم أنه علق مشانقهم فمازالوا في أماكنهم.. هل نزل منصور عبد السلام تحت الأرض؟ هل تعب فوقها مثل الخلد الأعمى؟ لا يستطيع أن يتذكر، ولكنه متأكد أن ثورة لم تقع رغم الضجة الكبيرة التي يراها في كل شيء حوله". ولا تتعرض هذه الروايات لعملية التغيير ومصيرها، وتخلي الفئات الاجتماعية التي قادتها عن تحقيق العدالة الاجتماعية، بل وتصف أساليب القمع والإرهاب الذي تمارسه هذه السلطات في تحقيق أهدافها الخاصة من التغيير، إن ثمة علاقة واضحة بين انتقال قرية(الطيبة) العربية من اقتصاد الاكتفاء الذاتي إلى اقتصاد السوق، وبين اغتراب عبد السلام والياس نخلة من جهة، وانتهاء الأول إلى الجنون، وبين اغتيال مرزوق الذي أسهم في الثورة وفي انتقال السلطة إلى الفئة الجديدة من جهة أخرى.‏
وإذا كان منصور عبد السلام الذي انتهى إلى عدمية شبيهة بعدمية بتشورين بطل ليرمنتوف في رواية (بطل من هذا الزمان)،(48)، إذا كان قد انتهى إلى أن يطلق الرصاص على نفسه في المرآة، فإن بطل (شرق المتوسط) يمرض ثم يفقد بصره على يد جلاديه ويموت بعد أيام من رميه فاقداً لبصره على عتبة داره، بل يبلغ الأمر بهؤلاء الجلادين بأن يقدموا على سجن (حامد) زوج أخته أنيسة، الذي تكفله بعد خروجه من السجن، ويجعلوا منه رهينة لكي يعود (رجب) إلى الوطن بعد أن رفض أن يكون عيناً لهم على أبناء وطنه في الخارج.‏
وتناقش رواية جبرا "البحث عن وليد مسعود" مشكلة التغيير في المجتمعات الزراعية، حيث يقف التخلف والغيبية عائقين أمام هذا التغيير الذي يتطلب حالة قصوى من العقلانية إذ يتساءل (وليد) عن الهدف من التكنولوجيا قائلاً:"ماهو الهدف النهائي لذلك كله؟ هل هو تهيئة الرفاه المادي للجميع؟.. أو لن يكون ذلك ذريعة لتمرير أهداف خاصة لفئات تعطي الخبز للفم بيد، وتسلط المقرعة على العقل باليد الأخرى، كما حصل في فترات كثيرة من التاريخ".(49).‏
ويصف وليد العنف والعسف والقمع الذي وجده على الأرض العربية بعد هجرته من فلسطين، بأنه لا يقل ضراوة عما وجده عند اعتقاله من قبل السلطات الصهيونية في الأرض المحتلة. وبصدد حرية الفكر وغيابها، وتحريم كل النشاطات الفكرية بحجة أنها سلفية أو أنها لا تنتمي إلى الأرض تقول إحدى شخصيات الرواية: "لنشرب نخب المحرقة الكبرى القادمة، يوم يصبح اللامثقفون الوطنيين الوحيدين".(50)‏
أما رواية (الرجع البعيد) فهي لا تطرح موضوع مصادرة حرية الإنسان وحقوقه بشكل مباشر بل تقول ماقالته الروايات الأخرى عن طريق بنائها وأحداثها ومصائر هذه الأحداث وإن كنا نجد في استرجاع) كريم لحادث التحقيق معه في موت صديقه فؤاد إشارات واضحة إلى موضوع العنف "كان ضابط البوليس.. يقف كالطاووس بعينين ملتهبتين ويتخذ شكل أحد ضباط الجستابو مرة وهيئة رجل من رجال محاكم التفتيش الإسبان مرة أخرى". (51) وينبغي فهم محاولة مدحت للخروج من الحصار، في مستواها الرمزي لا الواقعي، ذلك أن هذه المحاولة اقترنت بتخطيه وتجاوزه لكل القيم الاجتماعية الموروثة ولكل "قذارات أجداده وتفاهاتهم وعقدهم وجنون حبهم للشرف والقتل"،(52). ولكن مدحت الذي يقرر الخروج من غرفة (حسين) والعودة إلى زوجته (منيرة) يسقط ويموت برصاص الجنود المحاصرين للحي وبفعل قوانين كونية واجتماعية عاتية لا ترحم، شأنه شأن معظم أبطال التكرلي الذين يناضلون بقوة ضد هذه القوانين لكنهم لا يلبثون أن يسقطوا ضحايا لها. وليس عجيباً أن يعمد الكاتب إلى اختتام روايته بهذا الجزء من الفصل (12-الزخم والبقاء) رغم أنه ليس الأخير من حيث التسلسل الزمني لأحداث الرواية، ذلك أن كفاح مدحت البطولي للخروج من الحصار نحو الحياة، ومايكمن فيه من دلالة رمزية، وموته الذي يتعانق فيه مصيره الكوني بمصيره الاجتماعي- على نحو يندر له مثيل في الرواية العربية- هو مايمنح للرواية قيمتها الفكرية والفنية.‏
لقد أجبنا على السؤال الذي طرحناه حول انتصار الرؤية الفردية الدرامية للحياة على الرؤية الاجتماعية، إجابة غير مباشرة بأن عرضنا لمضامين هذه الروايات التي تتناول جميعها مشكلات التغيير الاجتماعي وما نجم عنه من مشكلات وتناقضات جديدة، ولكي نجيب على سؤالنا إجابة تامة لابد من المقارنة بين هذه المرحلة التأريخية التي دفعت بهذه الرؤية إلى المقدمة وبين مراحل سابقة من التاريخ شهدت انتصار الرؤية الملحمية للحياة تارة، والرؤية الدرامية والغنائية تارة أخرى.‏
إن المراحل الأولى لظهور فن الرواية الحديث، شبيهة إلى حد كبير بتلك المرحلة التي نشأ فيها فن الملحمة لدى الشعوب البدائية، والتي تسمى بمرحلة الديمقراطية العسكرية، ففي كلتا الحالتين تكسر المجموعات والسلالات البشرية أطواق الحياة الضيقة، لتخرج إلى حياة أوسع، تتيح للشاعرi ذلك الوصف الملحمي التفصيلي للحياة، كما تتيح للفرد بروز (أناه) بعد أن كان منصهراً في الجماعة البشرية، وكلتا المرحلتين في التاريخ القديم والحديث شهدتا اندماج هذه (الأنا) بالكلية الجوهرية للأمة وحالاتها وطرق تفكيرها، (53) ولقد كانت هذه الحالة (الملحمية) من انسجام الفرد مع الأمة وانسجام الإحساس مع الإرادة، التربة الخصبة التي نشأ فيها فن الملحمة قديماً، كما كانت مثل هذه الحالة- التي ولدت مع خروج التاجر الجوال إلى الحياة الأوسع بعد أن حطمت قواقع الحياة الضيقة- التربة الملائمة التي ولد فيها فن الرواية الحديث ولم يكن ظهور الدول المركزية في الحالة الأولى يؤدي إلى موت واختفاء العناصر المثيولوجية في الملحمة، بل كان يؤدي إلى موت الملحمة نفسها مفسحاً الطريق للأدب الدرامي من جهة، والغنائي من جهة أخرى. أما في التاريخ الحديث فإن قيام مثل هذه الدول، أدى إلى موت الرواية (الملحمية) الكلاسيكية، ومافيها من رؤية اجتماعية مفسحاً الطريق أمام الأدب الدرامي والرؤية الدرامية للحياة من جهة، وللأدب أو الشعر الغنائي من جهة أخرى. ولقد استمرت المرحلة الأولى حتى بداية العقد الثاني من القرن العشرين ثم تلتها مرحلة أنجبت بنية روائية يضمحل فيها البطل ويتلاشى لتحل المؤسسات أو العائلة محله واستمرت حتى نهاية الحرب الثانية، لتحل محلها بنية روائية يتلاشى فيها الإنسان وتحل الأشياء محله كما هو الأمر في الرواية الجديدة.‏
وفي المجتمع العربي، وفي أجزائه الأكثر تطوراً والتي أنجبت فن الرواية كانت مرحلة مابعد الحرب الثانية، وما نشأ فيها من تحلل لقوى اجتماعية قديمة ونشوء قوى اجتماعية جديدة تصدرت قيادة المجتمع والتغيير الاجتماعي كانت المرحلة التي أنجبت الرواية ذات الرؤية الاجتماعية والمشهد الشامل، إلا أن التغيير الذي وقع بعد الخمسينات أدى إلى قيام دول شديدة المركزية في هذه المجتمعات تركت مؤسساتها الشاملة والكاملة آثاراً سلبية خطيرة على الفرد، مما أصبح ينوء به من ثقل باهظ تضعه هذه المؤسسات على كاهله. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار البنية الزراعية المتخلفة لهذه المجتمعات أدركنا حجم الهيمنة الكبيرة لهذه المؤسسات وما تؤدي إليه هذه الهيمنة من مصادرة للكائن البشري ولحقوقه وخاصة في تلك المجتمعات التي نهضت فيها الدعوة إلى العدالة الاجتماعية، وقامت بنيتها الاقتصادية على أساس غير رأسمالي لتنتهي إلى ظهور طبقات مستغلة جديدة بعد أن أزاحت الطبقات المستغلة القديمة. إن هذه العوامل وما أدت إليه من إحساس عال بالفردية ومن اغتراب وتحطيم لوحدة الإنسان والمجموعة البشرية. أدى إلى تراجع الرؤية الاجتماعية في الرواية وازدهار الرؤية الدرامية. وقد عبرت هذه الرؤية الدرامية، وهذا الإحساس بالفرد عبرا عن نفسيهما في أساليب السرد وبناء الرواية كما رأينا. إن الرواية الجديدة لا تناضل ضد اغتراب الإنسان عن طريق مضامينها فحسب بل هي تناضل ضد كل العناصر الصانعة لاغتراب الإنسان عن طريق بنائها وأساليب السرد فيها أيضاً بما تمنحه هذه الأساليب وهذا البناء، من اهتمام عال بالفرد وبرؤيته الخاصة، وللحقائق من دلالات بعيدة عن الإطلاق.‏
الهوامش‏
1 - برسي لوبوك صنعة الرواية، ترجمة: عبد الستار جواد، دار الرشيد، بغداد، ص 225.‏
2 - فرانك كرمود الرواية والسرد، ترجمة: محيي الدين صبحي- مجلة الآداب الأجنبية العدد 3 السنة الرابعة، ص 172.‏
3 -تزفنان تودوروف: الإنشائية الهيكلية، ترجمة: مصطفى التواني، الثقافة الأجنبية، العدد 3، 1982، ص 12.‏
4 - نفسه، وانظر: د.صلاح فضل: نظرية البنائية في النقد الأدبي، مكتبة الأنجلو المصرية 1978، ص 337-338، وانظر حسين الواد، البنية القصصية في رسالة الغفران، الدار العربية للكتاب 1977، ص 67.‏
5 - 6- الان واران فريدمان: الرواية الحديثة المتباينة الوجوه شكلاً ووظيفة، ترجمة محيي الدين صبحي، الآداب الأجنبية، العدد 2 تشرين أول 1977، ص 17.‏
7- تزفان تودوروف: نفسه.‏
8- د. موريس أبو ناصر: الألسنية والنقد الأدبي في النظرية والممارسة، دار النهار- بيروت هامش ص 129.‏
9- نفسه، انظر على سبيل المثال، الفصل الخاص (بالشحاذ)، لنجيب محفوظ.‏
10- انظر: ميشيل زيرافا: الرواية والمجتمع: ترجمة جمال شحيد، مجلة الآداب الأجنبية، العدد الرابع، نيسان 1975، ص 180، وانظر أيضاً محمد رشيد ثابت: البنية القصصية ومدلولها في حديث عيسى بن هشام، الدار العربية للكتاب 1975، ص 301.‏
11- الان وارن فريدمان: نفسه، ص4.‏
12- عدد من الباحثين السوفييت المختصين بنظرية الأدب العالمي، ترجمة: د.جميل نصيف التكريتي، دار الرشيد، 1980، ص 88.‏
13- نفسه، ص 90.‏
14- محمود أمين العالم: تأملات في عالم نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة، 1970، ص 96.‏
15- غالي شكري: المنتمي دراسة في أدب نجيب محفوظ- القاهرة 1944، ص 258.‏
16- ادوين موير: بناء الرواية ترجمة إبراهيم الصيرفي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ص 92.‏
17- الرواية- دار العلم- بيروت، ص 5.‏
18- الرواية - ط- دار مصر- ص7.‏
19- لوبوك: نفسه، ص 214.‏
20- الرواية، ص 78.‏
21- الرواية: دار مصر للطباعة، ص 40.‏
22- نشرت في مجلة شعر اللبنانية العدد 30 صيف 1968.‏
23- محمود أمين العالم نفسه ص 132.‏
24- نفسه، ص 133.‏
25- محيي الدين صبحي: (موسم الهجرة إلى الشمال بين عطيل وميرسو) في كتاب (الطيب صالح عبقري الرواية العربية) أعداد أحمد سعيد محمدية، دار العودة، بيروت، ص 74.‏
26-27-28-29- الرواية دار العودة، ص 55-57-59-112.‏
30- الرواية، ص60.‏
31- الرواية، ص 50.‏
32- الرواية، ص164.‏
33- صدقي اسماعيل، مقدمة الأشجار واغتيال مرزوق- دار العودة- 1973، ص 9.‏
34- انظر شجاع مسلم العاني، عبد الرحمن منيف روائياً- مجلة الأقلام 7 نيسان، 1980، ص 100.‏
35- عبد الرحمن منيف، شرق المتوسط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 113.‏
36- انظر عبد الجبار عباس، البحث عن وليد مسعود الأقلام 52 شباط 1979، ص 79.‏
37- الرواية، دار الآداب، بيروت 1978، ص 348.‏
38- الرواية، ص82.‏
39- انظر عبد الجبار عباس، نفسه.‏
40- أشار بعض الباحثين إلى أنها تصور ثلاثة أجيال مهملاً جيل الأطفال (سها وسناء)، حيث يقدم الكاتب الأحداث من وجهة نظر الأخيرة في الفصل السادس، انظر مقال د.محسن جاسم الموسوي. الفكر العربي المعاصر، العددان 18-19، شباط. آذار، 1982، ص 232، وقد ورد اسم الناقد خطأ (محمد) بدلاً من محسن.‏
41- انظر: د. محسن جاسم الموسوي، نفسه، ص 232.‏
42-انظر: جورج طرابيشي، الله في رحلة نجيب محفوظ، ط2، دار الطليعة، بيروت، ص 52-64.‏
43- د. سامي سويدان، اللص والكلاب، لنجيب محفوظ، دراسة سينمائية، مجلة الفكر العربي المعاصر العددن 18-19، شباط، آذار 1982، ص 220.‏
44- غالي شكري، المنتمي، دراسة في أدب نجيب محفوظ، القاهرة، 1964. ص 258.‏
45- الرواية، ص 139.‏
46-الرواية، ص 9-12.‏
47-الرواية، ص 103.‏
48-انظر: شجاع مسلم العاني، نفسه، ص 101.‏
49- انظر: الرواية، ص 44.‏
50-الرواية، ص355.وللاستزادة راجع الصفحات 248، 354.‏
51-الرواية، دار ابن رشد، بيروت، 1980، ص26.‏
52-الرواية، ص303.‏
53-الرواية، عدد من الباحثين السوفييت، نفسه، ص140
































































































































العامل والمعمول والموقع والعلامة

من خلال التمثيلِ على الاسمِ المعربٍِ في الجملةِ السابقة ِ ، نُلاحظُ أنَّ  للإعرابِ* أركاناً هي :


أ) العاملُ : وهو ما يُسَبّبُ لحوقَ علامةٍ معينةٍ بآخِرِ الكلمةِ .
ب) المعمولُ : وهو الكلمةُ التي تأثرتْ بسببٍِ خارجيٍ ، فظهرتْ عليها علامةُ ما .
ج) المَوْقِعُ : وهو ما يُحَدّدُ وظيفةَ الكلمةِ ومدلولها مثل : كونِها فاعلاً أو مفعولاً به ، أو ظرفاً أو مجرورةً أو غيرِها .
د) العلامةً : وهي الإشارةُ التي تَدُلّ على مواقعِ الكلمةِ المختلفةِ في أبوابِ النّحْوِ .

إنَّ اللهَ عظيمٌ.

تحضير درس المجاز

أهداف الدرس:
1- أن يحدد الطالب المجاز العقلي.
2- أن يدرك علاقات المجاز العقلي.
3- أن يكتسب مهارة استخدام المجاز العقلي.



155



المجازُ العقليّ1:
المجازُ العَقليُّ أسلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ الُّلغَةِ العَرَبِيَّةِ, يُعَبِّرُ عَنْ سَعَةِ هَذِهِ الُّلغَةِ, وقُدرتِهَا عَلَى تَجَاوزِ حدودِ الحقيقةِ إِلَى الخَيَالِ. وقَدْ قَالَ فِيهِ عبدُ القاهِرِ الجرجانيّ2: "هَذَا الضَّربُ مِنَ المَجَازِ عَلَى حدَّتِهِ, كَنْزٌ مِنْ كنُوزِ البَلاغَةِ, ومادةُ الشَّاعر المفلقِ, والكاتبِ البَليغِ فِي الإبداعِ والإحسَانِ والاتِّساعِ فِي طَريقِ البَيَانِ"3.

والمَجَازُ العقليُّ غير اللغويّ، لأن الأخير يُستعمل فيه اللفظ في غير ما وُضع له ويراد غير ما وُضع له، بينما يُستعمل اللفظ في المجاز العقليّ فيما وُضع له.
فلو قلنا "بنى وزير التعليم العالي جامعةٌ" استعملنا فعل بنى في معناه، وكذلك كلمة الوزير، وأردنا منها دلالتهما الموضوعة، ولكننا سلكنا مسلك مجاز آخر هو الموسوم بالمجاز العقلي والذي يكون فيه المجاز في إسناد وبناء

157



الجامعة إلى الوزير، أي أنّنا ادّعينا في العقل أنّه الوزير, لأنّه الآمر بالبناء مسبِّبهُ هو الباني مع أنه ليس الباني حقيقة. وهذا يختلف عما لو استعملنا لفظ السبب في المُسَبّب وأردنا منه المُسَبِّب كما في المجاز اللغوي المرسل، حيث لا يعود الوزير مستعملاً في الموضوع له.

والعقل هو القرينة على هذا المجاز العقلي وهذا الادعاء والتنزيل، وهذا المجاز في الإسناد, لأن الوزير يستحيل في العادة أن يبنيَ جامعةً وحده، بل هو لا يشارك في بنائها في العادة إلا رمزياً بوضع حجر الأساس، بل رجاله من مهندسين وعُمال هم الذين قاموا بهذا العمل، وإسناد البناء إليه مجاز عقليّ وإسناد للفعل إلى غير صاحبه. ولِهَذَا النَّوعِ مِنَ المَجَازِ علاقاتٌ مختلفةٌ باختلافِ الإسنادِ سنوضِّحُهَا مِنْ خِلَالِ الأمثِلَةِ الآتيةِ:
1- علاقة السببية: يقولُ اللهُ سبحانَهُ حِكَايَةً عَنْ فِرعَونَ:
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ4.
فِي هَذِهِ الآيةِ نجدُ يُشبه في تحليله المثل السابق, فالفعلُ "ابنِ" أسنِدَ إلَى غيرِ فاعِلِهِ الحقيقيّ, فإنَّ هَامَانَ - وهُوَ الوزيرُ والمستشارُ - لَا يَقومُ بِفعلِ البِنَاءِ بنفسِهِ, وإنَّمَا مَنْ يَقُومُ بالفعلِ هُمُ العمَّالُ والبنَّاؤونَ, وهُوَ مَنْ يُعطِي الأَمرَ, ولكنْ لمَّا كانَ هَذَا الوزيرُ سَبَباً فِي بِنَاءِ الصَّرحِ, أُسنِدَ الفعلُ إليهِ, فعلاقَةُ هَامَانَ بالبِنَاءِ علاقَةٌ سَبَبِيَّةٌ, ولأنَّ الفِعلَ - هنَا - أُسنِدَ إِلَى سَبَبِهِ, وَهَذَا الإِسنَادُ غيرُ حقيقيّ, لأنَّ الإسنَادَ الحقيقيّ هُوَ إسنَادُ الفِعْلِ إلَى فَاعِلِهِ الحقيقيّ, فالإسنادُ هَذَا مَجَازِيٌّ, ويُسَمَّى بـ "المجاز العقلي".

158



2- علاقة الفاعلية: يقولُ الشَّاعِرُ5:
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
فِي هَذَا البيتِ إسنادُ الإبداءِ إلَى الأيَّامِ, ونَحنُ نَعلمُ أنَّه لَا يُمكنُ للأيَّامِ أنْ تُبدِيَ وتُظهِرَ, وإنَّمَا هِيَ زمانٌ لِحُصولِ الإبْدَاءِ, وقَد أرادَ الشَّاعرُ حقيقةً أنْ يقولَ لمُخَاطَبِهِ: إنَّ حَوادِثَ الأيَّامِ ستُبدِي لَكَ, فإسنادُهُ الإبْدَاءَ إلَى الأيَّامِ, مجازٌ عقليٌّ, وبِمَا أنَّ الأيَّامَ جزءٌ مِنَ الزَّمَانِ, ومَحَلٌّ لِوقُوعِ الإبداءِ, تكونُ العلاقَةُ علاقَةً "زمانيّة".

ومثلُ هَذَا لَو قُلنَا: "نهارُ الزَّاهِدِ صائمٌ وليلُهُ قائِمٌ", فإنَّ الصَّومَ أُسنِدَ إلَى النَّهارِ, والنّهارُ لَا يصومُ, وإنَّمَا هُوَ زمانٌ للصِّيامِ, وأُسنِدَ القِيَامُ إلَى الَّليلِ, والَّليلُ لَا يَقُومُ, وإنما يقامُ فِيهِ, ونُلاحِظُ فِي هَذَا المثالِ أنَّه لَا يُوجَدُ فعلٌ يُسنَدُ إليهِ وإنَّمَا اسمُ فاعلٍ, وهَذَا جائزٌ, لأنَّ اسمَ الفاعِلِ شبيهُ الفِعلِ فِي قُوّتِهِ وَكَذَلِكَ اسمُ المفعولِ والمَصْدَرِ.

3- علاقة المكانية
: يقولُ الحَيصَ بِيص6:
مَلكْنا فكان العَفْوُ منَّا سَجيَّةً          فلمَّا مَلَكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ7
لَقَدْ أُسْنِدَ سَيَلانُ الدمِ إلَى أبطحَ, أيْ إلَى غَيرِ فَاعِلِهِ لأنَّ الأبطَحَ مكانُ سَيَلانِ الدَّمِ وهُوَ لَا يَسِيلُ، وإنَّمَا يَسِيلُ مَا فيهِ وهُوَ الدَّمُ, ولمَّا كانَ الإسنادُ إلَى مَكانِ جَرَيانِ الدَّمِ صَارَ الإسنادُ مجَازِيَّا عَلاقَتَه "المكانيةُ".

159



4- علاقة المصدرية: يقولُ أبُو فِراسٍ الحَمْدَانِيُّ:
سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم وَفي اللَيلَةِ الظَّلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ
فقد أسندَ الجِدَّ إلى الجِدِّ، أي الاجتهادِ، وهو ليسَ بفاعلِ له، بل فاعلُه الجادُّ - فأصله جدَّ الجادُّ جدًّا، أي اجتهدَ اجتهاداً، فحذفَ الفاعلَ الأصليَّ وهو الجادُّ، وأسندَ الفعلَ إلى الجِدِّ وهو مصدرُ الفاعلِ الحقيقيّ, ولِهَذَا كانت علاقة الإسنادَ المجازيَّ هُنَا هي "المصدريةٌ".

5- علاقة الفاعلية:
يقولُ اللهُ - تَعَالَى-:
﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا8.
الحِجَابُ فِي أَصلِهِ سَاتِرٌ, وليسَ مَستُوراً, وهنا نقولُ: أُسنِدَ الوَصْفُ المبنيُّ للمَفعولِ إلَى الفَاعِلِ, وكان حقّه أن يُسْنَدَ الى المفعول: لأن اسم المعفول يطلب نائب فاعل أي: مفعولاً، لا فاعلاً، فإذا أُسند إلى الفاعل كانَ هَذَا مَجَازاً عَقليَّاً عَلاقَتُهُ "الفاعليَّةُ". ومثلُ الآيةِ المبارَكَةِ قولُهُ - تَعَالَى-:
﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا9.

6- علاقة المفعولية:
يقول الله -تعالى-:
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا10.
الحرمُ لَا يكونُ آمِنَاً, لأنَّ الإحسَاسَ بالأمنِ مِنْ صفاتِ الأحياءِ, وإنَّمَا هُوَ مأمونٌ فيه, فاسمُ الفَاعِلِ - هنَا - أسنِدَ إلَى المفعولِ, وهَذَا مَجَازٌ عَقليٌّ عَلَاقَتُهُ "المفعوليَّةُ"11.

160



القواعد الرئيسة
1- المجاز العقلي هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي.
2- الإسناد المجازي يكون إلى سبب الفعل أو زمانه أو مكانه أو مصدره أو بإسناد المبني للفاعل إلى المفعول أو المبني للمفعول إلى الفاعل.
تمارين
وضّح المجاز العقلي فيما يأتي وبين علاقته وقرينته:
- قال تعالى:
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا12

كان المنزلُ عامراً            وكانَت حجرُهُ مضيئةً
عظمتْ عظمَتُهُ                وصَالتْ صولتُه

لقد لمتِنَا يا أمَّ غيلانَ فِي السُّرَى         ونمتِ وما لَيْلُ المَطّيِّ بنائِمِ
ضربَ الدهرُ بينهم                       وفرَّق شملَهم
والهمُّ يَختَرِمُ الجسيمَ نحافةً               ويُشيبُ ناصيةَ الصبيِّ ويُهرِمُ
فبتُّ كأنِّي ساوَرَتنِي ضئيلةٌ               مِنَ الرُّقشِ فِي أنيابِها السُّمُّ ناقعُ

- وقال تعالى:
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ13.

اعطِ مثالاً في كلٍّ من هذه الموارد:

- مجاز عقلي علاقته السببية.
- مجاز عقلي علاقته المفعولية.
- مجاز عقلي علاقته المكانية.
- مجاز عقلي علاقته الزمانية.
- وقال أيضاً:
﴿لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ14.
للمطالعة
بلاغةُ المجازِ المرسلِ والمجازِ العقليِّ15
فوائد بلاغية للمجازين المرسل والعقلي:
إنَّ للمجازِ المرسل، على أنواعه، وكذلك العقليِّ، على أقسامه، فوائدَ كثيرةً منها:
1- الإيجاز، فإنَّ قوله: بنَى الأميرُ المدينةَ أوجزُ من ذكر البَنّائينَ والمهندسينَ ونحوهِما، ونحوه غيره.
2- سعةُ اللفظِ وطرق التعبير، فإنه لو لم يجزْ إلا جرَى ماءُ النهرِ كان لكلِّ معنَى تركيبٌ واحدٌ، وهكذا بقيّةُ التراكيب.
3- إيرادُ المعنى في صورةٍ دقيقةٍ قريبة إلى الذهنِ، إلى غير ذلك من الفوائدَ البلاغيةِ.
4- المبالغة الموجودة، ففي إسناد بناء الجامعة إلى الوزير، مبالغة لطيفة.
5- جمالية الدقة في اختيار العلاقة.

إذا تأمّلت أنواع المجاز المرسل والعقلي رأيت أنّها في الغالب تؤدّي المعنَى المقصود بإيجاز، فإذا قلت: "هزمَ القائدُ الجيشَ" أو "قرّرَ المجلس كذا" كان ذلك أوجزَ من أنْ تقول: "هزمَ جنودُ القائد الجيش"، أو "قرّر أهل المجلس كذا"، ولا شكَّ أنَّ الإيجاز ضربٌ من ضروب البلاغة. وهناك مظهر آخر للبلاغة في هذين المجازين هو المهارة في تخيّر العلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازيِّ، بحيث يكون المجاز مصوّراً للمعنى المقصود خير تصوير كما في إطلاق العين على الجاسوس، والأذن على سريع التأثّر بالوشاية. والخفِّ والحافر على الجمال والخيل في المجاز المرسل، وكما في إسناد الشيء إلى سببه أو مكانه أو زمانه في المجاز العقلي،فإنّ البلاغة توجبُ أنْ يختار السبب القوي والمكان والزمان المختصّين.

وإذا دقّقتَ النظر رأيت أنَّ أغلب ضروب المجاز المرسل والعقلي لا تخلو من مبالغة بديعة ذات أثر في جعل المجاز رائعاً خلّاباً، فإطلاقُ الكلِّ على الجزء مبالغة ومثله إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، كما إذا قلت: "فلان فم" تريد أنّه شره يلتقم كلَّ شيء. أو "فلانٌ أنفٌ" عندما تريد أن تصفه بعظم الأنف فتبالغ فتجعله كلّه أنفاً. وممّا يؤثر عن بعض الأدباء في وصف رجل أنافيٍّ16 قوله: "لست أدري أهو في أنفه أمْ أنفهُ فيه".
هوامش
1- ويسمّيه بعض البلاغيين بالمجاز الحُكْمي او الاسناد المجازي.
2- عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، أبو بكر. 471 هـ - 1078 م واضع أصول البلاغة، كان من أئمة اللغة، من أهل جرجان (بين طبرستان وخراسان) له شعر رقيق. من كتبه (أسرار البلاغة- ط)، و(دلائل الإعجاز- ط)، و(الجمل- خ) في النحو، و(التتمة- خ) نحو، و(المغني) في شرح الإيضاح، ثلاثون جزءاً، اختصره في شرح آخر سماه (المقتصد- خ) الجزء الثاني منه، و(إعجاز القرآن- ط)، و(العمدة) في تصريف الأفعال، و(العوامل المائة- ط).
3- دلائل الاعجاز ص 228
4- سورة غافر، الآية: 36.
5- طُرَفَةٌ بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو، البكري الوائلي. 86 - 60 ق. هـ/ 539 - 564 م شاعرٌ جاهليٌ من الطبقة الأولى، كان هجاءً غير فاحش القول، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره، ولد في بادية البحرين وتنقّل في بقاع نجد. اتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين وعُمان يأمره فيه بقتله، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر شابّاً.
6- سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي أبو الفوارس. 492 - 574 هـ / 1098 - 1178 م شاعر مشهور من أهل بغداد كان يلقب بأبي الفوارس نشأ فقيهاً وغلب عليه الأدب والشعر وكان يلبس زي أمراء البادية ويتقلد سيفاً ولا ينطق بغير العربية الفصحى.
وتوفي ببغداد عن 82عاماً. له (ديوان شعر -ط) الجزء الأول منه ببغداد ورسائل أورد ابن أبي أصيبعة نتفاً منه.

7- الابطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى.
8- سورة الإسراء، الآية: 45.
9- سورة مريم، الآية:61.
10- سورة القصص، الآية: 57.
11- الفعلُ المبنيُّ للفاعلِ واسمِ الفاعلِ إذَا أُسندا إلى المفعولِ فالعلاقةُ "المفعوليةُ"، والفعلُ المبنيُّ للمجهولِ واسمُ المفعولِ إذ أُسندا إلى الفاعلِ فالعلاقةُ الفاعليةُ، واسمُ المفعولِ المستعمَلُ في موضعِ اسمِ الفاعلِ مجازٌ، علاقتُه "المفعوليةُ"، واسمُ الفاعل المستعمل في موضع اسمِ المفعول ِمجازٌ، علاقتُه "الفاعليةُ".
12- سورة القصص، الآية: 57.
13- سورة القصص، الآية: 4.
14- سورة هود، الآية: 43.
15- علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، ص 103 - 104.
16- رَجُلٌ أُنافِيٌّ بِالضَّمِّ أَي: عَظِيمُ الأنْفِ.