الجمعة، 21 يوليو 2023

الإمتاع والمؤانسة

لُغَتُكَ الْعَرَبِيَّةُ فَخْرٌ لَكَ؛ لأَنَّهَا لُغَةُ الْجَنَّةِ، وَالْقُرْآنِ، وَمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

 

الإمتاع والمؤانسة

أبو حيان التوحيدي

 

 

الكتاب من عيون الأدب العربي، ويضم مسامرات سبع وثلاثين ليلة قضاها التوحيدي في منادمة الوزير أبي عبد الله العارض وهو ثلاثة أجزاء،

ويضم الكتاب أضواء كاشفة لحياة الأمراء في النصف الثاني من القرن الرابع، وما كان يدور في مجالسهم من حديث وجدال وخصومة وشراب. ومن نوادره: وصف مناظرة السيرافي ومتى بن يونس في المفاضلة بين المنطق اليوناني والنحو العربي، وسؤال الوزير عن رسائل أخوان الصفا وحقيقة مؤلفيها، وإحصاء عدد القيان العاملات في ملاهي الكرخ سنة 360هـ. وطريقة الكتاب أن الوزير يقترح الخوض في موضوع، وأبو حيان يجيبه عما اقترح، حتى إذا أراد الوزير الإخلاد إلى النوم سأل أبا حيان ملحة الوداع، وربما اقترح أن تكون ملحة الوداع شعراً بدوياً، يشم من رائحة الشيح والقيصوم.

 

الجزء الأول

 

 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال أبو حيان التوحيدي: نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه وعلى آله الطاهرين.
أما بعد، فإني أقول منبهاً لنفسي، ولمن كان من أبناء جنسي: من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه، ولم يملك صديقه كله فيما يمثله له، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه إليه ويطلعه عليه؛ ولم ير أن عقل العالم الرشيد، فوق عقل المتعلم البليد؛ وأن رأى المجرب البصير، مقدمٌ على رأي الغمر الغرير فقد خسر حظه في العاجل، ولعله أيضاً يخسر حظه في الآجل؛ فإن مصالح الدنيا معقودةٌ بمراشد الآخرة، وكليات الحس في هذا العالم، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم؛ وظاهر ما يرى بالعيان مفضٍ إلى باطن ما يصدق عنه الخبر؛ وبالجملة، الداران متفقتان في الخير المغتبط به، والشر المندوم عليه؛ وإنما يختلفان بالعمل المتقدم في إحداهما، والجزاء المتأخر في الأخرى؛ وأنا أعوذ بالله الملك الحق الجبار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظي، وأعمى عن رشدي، وألقي بيدي إلى التهلكة، وأتجانف إلى ما يسوءني أولاً ولا يسرني آخراً؛ هذا وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة، وفي حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيامه، في حالي سفره ومقامه؛ وفقره وغنائه، وشدته ورخائه، وسارئه وضرائه، وخيفته ورجائه؛ فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه؛ فإلى الله أفزع من كل ريثٍ وعجل وعليه أتوكل في كل سؤل وأمل، وإياه أستعين في كل قول وعمل.
قد فهمت أيها الشيخ - حفظ الله روحك، ووكل السلامة بك، وأفرغ الكرامة عليك، وعصب كل خير بحالك، وحشد كل نعمةٍ في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة - من أبناء الرجاء والأمل - بعنايتك، ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم، ولا ثنى طرفك عن الرقة لهم، ولا زهدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم، ولا رغب بك عن قبول حقهم لبعض باطلهم، ولا ثقل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم، وإنالة مستحقهم وغير مستحقهم أكثر مما في نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم، من بشرٍ تبديه، وجاهٍ تبذله، ووعدٍ تقدمه، وضمانٍ تؤكده، وهشاشةٍ تمزجها ببشاشة، وتبسمٍ تخلطه بفكاهة فإن هذه كلها زكاة المروءة، ورباط النعمة، وشهادةٌ بالمحتد الزكي والعرق الطيب والمنشأ المحمود، والعادة المرضية؛ وهي مؤذنةٌ بأن المنحة راهنة، والموهبة قاطنة، والشكر مكسوب، والأجر مذخور، ورضوان الله واقع؛ وأسأل الله بعد هذا كله ألا يسهم وجهي عندك، ولا يزل قدمي في خدمتك ولا يزيغني إلى ما يقطع مادة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيتك وجميل معتقدك، بمنه ولطفه.
فهمت جميع ما قلته لي بالأمس فهماً بليغاً، ووعيته وعياً تاماً؛ وبان لي الرشد في جملته وتفصيله، والصلاح في طرفيه ووسطه، والغنيمة في ظاهره وباطنه، والشفقة من أوله إلى آخره. وأنا أعيده ههنا بالقلم، وأرسمه بالخط وأقيده باللفظ، حتى يكون اعترافي به أرسى واثبت، وشهادتي على نفسي أقوى وأوكد، ونكولي عنه أبعد وأصعب، وحكمك به لي وعلي أمضى وأنفذ.
قلت لي - أدام الله تعالى توفيقك في كل قولٍ وفعل، وفي كل رأيٍ ونظر -: إنك تعلم يا أبا حيان أنك انكفأت من الري إلى بغداد في آخر سنة سبعين بعد فوت مأمولك من ذي الكفايتين - نضر الله وجهه - عابساً على ابن عباد مغيظاً منه، مقروح الكبد، لما نالك به من الحرمان المر، والصد القبيح، واللقاء الكريه، والجفاء الفاحش، والقدع المؤلم والمعاملة السيئة، والتغافل عن الثواب على الخدمة، وحبس الأجرة على النسخ والوراقة، والتهجم المتوالي عند كل لحظةٍ ولفظة.

وذكرت في الجملة شقاءً اتصل بك في سفرك ذلك، وعناءً نال منك في عرض أحوالك؛ ولعمري إن السفر فعول لهذا كله ولأكثر منه؛ فأرعيتك بصري، وأعرتك سمعي، وساهمتك في جميع ما وقرته في أذني بالجزع والتوجع والاستفظاع والتفجع؛ وضمنت لك تلافي ذلك كله بحاق الشفقة وخالص الضمير، ووعدتك صلاح الحال عن ثبات النية، وصحة العقيدة، وقلت: أنا أرعى حقك القديم حين التقينا بأرجان، وأنا على باب ابن شاهويه الفقيه، وعهدك الحديث حين اجتمعنا بمدينة السلام سنة ثمان وخمسين؛ وأوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض - أدام الله تأييده - وأخطب لك قبولاً منه، وتخفيف الإذن عليك، وامتلاء الطرف بك، ونيل الحظوة بخدمتك وملازمتك؛ وفعلت ذلك كله حتى استكتبك كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ، لعنايتك به، وتوفرك على تصحيحه، ثم حضنت لك هذه الحال إلى يومنا هذا؛ وهو الوزير العظيم الذي افتقرت الدولة إلى نظره وأمره ونهيه، وإلى أن يكون هو المبرم والناقض، والرافع والواضع، والكافي والوافي، والمقرب لخدمها ونصحائها، والمزحزح لحسدتها وأعدائها؛ والراعي لرعيتها ودهمائها، والناهض بأثقالها وأعبائها، أعانه الله على ما تولاه، وكفاه المهم في دنياه وأخراه، بمنه وقدرته.
نعم ورتبت ذلك كله، ولم أقطع عنك عادتي معك في الاسترسال والانبساط، والبر والمواساة، والمساعدة والمواتاة، والتعصب والمحاماة.
أفكان من حقي عليك في هذه الأسباب التي ذكرتها، وفي أخواتها التي تركتها كراهة الإطالة بها أنك تخلو بالوزير - أدام الله أيامه - ليالي متتابعةً ومختلفة، فتحدثه بما تحب وتريد، وتلقي إليه ما تشاء وتختار، وتكتب إليه الرقعة بعد الرقعة؛ ولعلك في عرض ذلك تعدو طورك بالتشدق وتجوز حدك بالاستحقار، وتتطاول إلى ما لبس لك، وتغلط في نفسك، وتنسى زلة العالم، وسقطة المتحري، وخجلة الواثق؛ هذا وأنت غرٌ لا هيئة لك في لقاء الكبراء، ومحاورة الوزراء؛ وهذه حالٌ تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك، وإلى مرانٍ سوى مرانك، ولبسةٍ لا تشبه لبستك؛ وقل من قرب من وزيرٍ خدم فأجاد، وتكلم فأفاد، وبسط فزاد؛ وإلا سكر، وقل من سكر إلا عثر وقل من عثر فانتعش، وما زهد في هذه الحال كثيرٌ من الحكماء الأولين والعباد الربانيين؛ إلا لغلظها وصعوبتها، ومكروه عاقبتها، وشدة الصبر على فوارضها ورواتبها، وتفسخ المتن بين حوادثها ونوائبها.
والعجب أنك مع هذه الخلة تظن أنها مطويةٌ عني وخافية دوني، وأنك قد بلغت الغاية وادع القلب، وملكت المكانة ثاني العنان؛ وقد انقطعت حاجتك عني وعمن هو دوني، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي؛ وجهلت أن من قدر على وصولك، يقدر على فصولك، وأن من صعد بك حين أراد، ينزل بك إذا شاء، وأن من يحسن فلا يشكر، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر.
وبعد، فما أطيل، ولعل لهب الموجدة يزداد، ولسان الغيظ يغلو، وطباع الإنسان تحتد، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف؛ ولست أنت أول من بر فعق، ولا أنا أول من جفى فنق. وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك، وفاتحة يأسي منك؛ قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقي، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزمٍ حي؛ إلا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه، وتصرفتما في هزله وجده، وخيره وشره، وطيبه وخبيثه، وباديه ومكتومه؛ حتى كأني كنت شاهداً معكما ورقيباً عليكما، أو متوسطاً بينكما، ومتى لم تفعل هذا، فانتظر عقبى استيحاشي منك، وتوقع قلة غفولي عنك، وكأني بك وقد أصبحت حران حيران يا أبا حيان، تأكل أصبعك أسفاً، وتزدرد ريقك هفاً، على ما فاتك من الحوطة لنفسك، والنظر في يومك لغدك، والأخذ بالوثيقة في أمرك، أتظنن بغرارتك وغمارتك، وذهابك في فسولتك التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء؛ أنك تقدر على مثل هذه الحال، وأنام منك على حسن الظن بك، والثقة بصدرك ووردك، وأطمئن إلى حكك وجردك وأتعامى عن حرك وبردك؛ هيهات؛ رقدت فحلمت، فخيراً رأيت وخيراً يكون على هذا الحد كان مقطع كلامك في موجدتك، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك؛ وفي دون ذلك تنبيه للنائم، وإيقاظٌ للساهي، وتقويمٌ لمن يقبل التقويم؛ وقد قال الأول:

ألا إنما يكفي الفتى عند زيغه

 

من الأود البادي ثقاف المقوم

فقلت لك: أنا سامع مطيع، وخادم شكور، لا أشتري سخطك بكل صفراء وبيضاء في الدينا؛ ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير؛ ومثلي يهفو ويجمح، ومثلك يعفو ويصفح؛ وأنت مولىً وأنا عبد، وأنت آمرٌ وأنا مؤتمر، وأنت ممتثلٌ وأنا ممتثل، وأنت مصطنع وأنا صنيعةٌ، وأنت منشىءٌ وأنا منشأ، وأنت أول وأنا آخر، وأنت مأمول وأنا آملٌ، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر، والجناية العذراء، والبادرة النادرة؛ فقد أعنتني على ما كان مني، ودللت على ملكك لي؛ وأنك كنت مترصداً لهذه الهفوة ومعتقداً في مقابلتها هذه الجفوة؛ وكرمك يأبى عليك هذا، ومثولي بين يديك خدمةً لك يحظره عليك.
هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك، إلا أن أغوص فيه على البديهة في هذه الساعة يشق ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض، فإن أذنت جمعته كله في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل، والحلو والمر، والطري والعاسي، والمحبوب والمكروه؛ فكان من جوابك لي: افعل. ونعم ما قلت وهو أحب إلي وأقرب إلى إرادتي، وأحضر لما أريغ منه، وأدخل في الحجة عليك ولك؛ وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك، وأزهر للسراج الذي طفىء عني وعنك، وأجذب لعنان الحجة إن كانت لك، وأنطق عن العذر إن اتضح بقولك؛ وإذا عزمت فتوكل على الله؛ وليكن الحديث على تباعد أطرافه، واختلاف فنونه مشروحاً، والإسناد عالياً متصلاً، والمتن تاماً بيناً، واللفظ خفيفاً لطيفاً، والتصريح غالباً متصدراً، والتعريض قليلاً يسيراً وتوخ الحق في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيضاحه وإثباته؛ واتق الحذف المخل بالمعنى، وإلحاق المتصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلله، وتقليله عما لا يستغنى عنه؛ واعمد إلى الحسن فزد في حسنه، وإلى القبيح فانقص من قبحه؛ واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره، وإفادتي من أوله إلى آخره؛ فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى، ويكون في ذلك حسن الذكرى؛ ولا تومىء إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع، وأعذب في النفس، وأعلق بالأدب؛ ولا تفصح عما تكون الكناية عنه أستر للعيب، وأنفى للريب؛ فإن الكلام صلفٌ تياه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان؛ وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرنٌ كأرن المهر وإباءٌ كإباء الحرون، وزهوٌ كزهو الملك، وخفقٌ كخفق البرق؛ وهو يتسهل مرةً ويتعسر مراراً، ويذل طوراً ويعز أطواراً؛ ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول خفي الخداع؛ وطريقه على الوهم، والوهم شديد السيلان ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان؛ وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي، والتأليف الصناعي، والاستعمال الاصطلاحي، ومستملاه من الحجا، ودريه بالتمييز؛ ونسجه بالرقة، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتسع التأويل، ويجول الذهن، وتتمطى الدعوى، ويفزع إلى البرهان، ويبرأ من الشبهة، ويعثر بما أشبه الحجة وليس بحجة؛ فاحذر هذا النعت وروادفه، واتق هذا الحكم وقوائفه؛ ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ؛ وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم، ولست منهم، فلا تتشبه بهم، ولا تجر على مثالهم، ولا تنسج على منوالهم، ولا تدخل في غمارهم، ولا تكثر ببياضك سوادهم، ولا تقابل بفكاهتك براعتهم، ولا تجذب بيدك رشاءهم، ولا تحاول بباعك مطاولتهم واعرف قدرك تسلم، والزم حدك تأمن، فليس الكودن من العتيق في شيء، ولا الفقير من الغني على شيء، أما سمعت قول الناس: ليس الشامي للعراقي بصاحب، ولا الكردي من الدندي بساخر، فإن طال فلا تبل، وإن تشعب فلا تكترث، فإن الإشباع في الرواية أشفى للغليل، والشرح للحال أبلغ إلى الغاية، وأظفر بالمراد، وأجرى على العادة.

فكتبت: "بسم الله الرحمن الرحيم"، أقول أيها الشيخ - عطف الله قلبك علي، وألهمك الإحسان إلي - في جواب جميع ما قلته واجداً علي وعاتباً، وقابضاً، وباسطاً، ومرشداً، وناصحاً؛ ما يعرف الحق فيه، ويستبين الصواب منه، غير خائنٍ لك، ولا جانحٍ إلى مخالفتك، ولا مريغٍ للباطل معك، ولا جاحدٍ لأياديك القديمة، والحديثة، ولا منكرٍ لنعمتك الكافية الشافية، ولا غاظٍ على فواضلك المجتمعة والمتفرقة، ولا تاركٍ لشيء هو علي من أجل شيء هو لي، ولا معرض عن شيء هو لي بسبب شيء هو علي؛ بل أجهز دقة وجله إليك حتى تراه بسده وغباره، وأجلوه عليك حتى تلحظه بردائه وإزاره. كأني لم أسمع قول الأول:

والكفر مخبثةٌ لنفس المنعـم

 

والشكر مبعثةٌ لنفس المفضل

أأنا أدعك واجداً علي، وأرقد وأنت ماقتٌ لي، وأجد حس نعمة أنت وهبتها إلي، وألذ عيشاً أنت أذقتني حلاوته. أأنسى أياديك وهي طوق رقبتي، وتجاه عيني، وحشو نفسي، وراحة حلمي، وزاد حياتي، ومادة روحي هيهات، هذا بعيد من القياس، وغير معهود بين أحرار الناس؛ الذين لهم اهتمام بصون أعراضهم، وحرصٌ على إكرام أنفسهم؛ قد عبقوا بفوائح الفتوة، وعلقوا بحبائل المروءة، وشدوا من الحكمة أشرف الأبواب؛ واعتزوا من الأدب إلى أعز حرم؛ وحازوا شرفاً بعد شرف، وانحازوا عن نطف بعد نطف ونظروا إلى الدنيا بعين بصيرة، وعزفوا أنفسهم عن زهراتها بتجربة صادقة.
فأول ما أبدؤك به أنني طننت ظناً لا كيقين أن شيئاً مما كنت فيه مع الوزير - أدام الله أيامه، وقصم أعداءه - ليس مما يهمك، ولا هو مما يقرع سمعك سماعك له؛ وحسبت أيضاً أنني إن بدأت بشيء منه رذلتني عليه وتنقصتني به، وزريت علي فيه؛ وأنك ربما قلت: لم بدأت بما أسئلك عنه ولم أرخص لك فيه، هلا كظمت على جرتك، وطويت ما بين جنبيك وما علي مما يدور بين الصاحب وخادمه والرؤوساء، والناظرين في أمور الدهماء والمتصفحين لأحوال العامة والخاصة، ولهم أسرار وعيوبٌ لا يقف عليها أقرب الناس إليهم، وأعز الناس عليهم، وأنت أيضاً فلم تسألني عنه، فكان في تقديري أنك قد عرفت وصولي في وقت دون وقت، وأنك قد حملت أمري على الخدمة التي ليس للعلم بها فائدة، ولا في الإعراض عنها فائتة.
وإذ جرى الأمر على غير ما كان في حسابي وتلبس بظني، فإني أهدي ذلك كله بغثاثته وسمانته، وحلاوته ومرارته، ورقته وخثارته في هذا المكان؛ ثم أنت أبصر بعد ذلك في كتمانه وإفشائه، وحفظه وإضاعته وستره وإشاعته؛ ووالله ما أرى هذا أمراً صعباً إذا وصل إلى مرادك ولا كلفةً شاقةً إذا أكسبني مرضاتك؛ وإن كان ذلك يمر بأشياء كثيرةٍ ومختلفةٍ، متعصية غريبةٍ، منها ما يشيط به الدم المحقون، وينزع من أجله الروح العزيز، ويستصغر معه الصلب، ولا يقنع فيه بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر؛ وإن كان فيها أيضاً غير ذلك مما يضحك السن، ويفكه النفس، ويدعو إلى الرشاد، ويدل على النصح، ويؤكد الحرمة، ويعقد الذمام، وينشر الحكمة، ويشرف الهمة، ويلقح العقل، ويزيد في الفهم والأدب ويفتح باب اليمن والبركة، وينفق بضاعة أهل العلم في السوق الكاسدة، ويوقظ العيون الناعسة، ويبل الشن المتغضف، ويندى الطين المترشف؛ ويكون سبباً قوياً على حسن الحال وطلب العيش، فإن هذا العاجلة محبوبة، والرفاهية مطلوبة، والمكانة عند الوزراء بكل حولٍ وقوةٍ مخطوبة، والدناي حلوةٌ خضرة وعذبةٌ نضرة، ومن شف أمله شق عمله؛ ومن اشتد إلحاحه، توالى غدوه ورواحه، ومن أسره رجاؤه، طال عناؤه، وعظم بلاؤه؛ ومن التهب طمعه وحرصه، ظهر عجزه ونقصه.
وفي الجملة:

من لم يكن لله متهـمـاً

 

لم يمس محتاجاً إلى أحد

ولابد من فتى يعين على الدهر، ويغني عن كرام الناس فضلاً عن لئامهم، ويذلل قعود الصبر، ويجم راحلة الأمل، ويحلي مر اليأس؛ والعزلة محمودةٌ إلا أنها محتاجة إلى الكفاية، والقناعة مزة فكهةٌ ولكنها فقيرةٌ إلى البلغة وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجة إن لم تكن لها أداةٌ تجدها وفاشيةٌ تمدها، وترك خدمة السلطان غير الممكن ولا يستطاع إلا بدينٍ متين، ورغبةٍ في الآخرة شديدة، وفطامٍ عن دار الدنيا صعب، ولسانٍ بالحلو والحامض يلغ.

قال ابن السماك: لولا ثلاثٌ لم يقع حيف، ولم يسل سيف، لقمةٌ أسوغ من لقمة، ووجه أصبح من وجه، وسلك أنعم من سلك، وليس كل أحد له هذه القوة، ولا فيه هذه المنة والإنسان بشر، وبنيته متهافتة وطينته منتثرة، وله عادةٌ طالبة، وحاجةٌ هاتكة، ونفسٌ جموح، وعينٌ طموح؛ وعقلٌ طفيف، ورأي ضعيف، يهفو لأول ريح، ويستخيل لأول بارق؛ هذا إذا تخلص من قرناء السوء، وسلم من سوارق العقل، وكان له سلطان على نفسه، وقهرٌ لشهواته، وقمعٌ لهوائجه وقبولٌ من ناصحه، وتهيؤٌ في سعيه، وتبوءٌ في معان حظه، وائتمامٌ بسعادته، واستبصارٌ في طلب ما عند ربه، واستنصافٌ من هواه المضل لعقله المرشد، هذا قليلٌ وصعب ولو قلت: معدومٌ أو محال في هذا الزمن العسير والدهر الفاسد، لما خفت عائقاً يعوقني، ولا حسوداً يرد قولي. قال ابن السماك: الله المستعان على ألسنٍ تصف وقلوبٍ تعترف، وأعمالٍ تختلف. وقال معاوية لأبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث - ورآه لا يلي له عملاً، ولم يقبل منه نائلاً -: يا ابن أخي، هي الدنيا، فإما أن ترضع معنا؛ وإما أن ترتدع عنا. وربما قال بعض المتكلفين قد قال بعض السلف: ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا من ترك الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه. وهذا كلام مقبول الظاهر موقوف الباطن. وربما قال آخر من المتقدمين: "اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً". وهذا أيضاً كلامٌ منمق، لا يرجع إلى معنىً محقق؛ أين هو من قول المسيح - عليه السلام - حين قال: الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب متى بعد أحدكم من أحدهما قرب من الآخر؛ ومتى قرب من أحدهما بعد من الآخر. وأين هو من قول الآخر: الدنيا والآخرة ضرتان، متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، ومتى أسخطت إحداهما أرضيت الأخرى.
وهذا لأن الإنسان صغير الحجم، ضعيف الحول، لا يستطيع أن يجمع بين شهواته وأخذ حظوظ بدنه وإدراك إرادته، وبين السعي في طلب المنزلة عند ربه بأداء فرائضه، والقيام بوظائفه، والثبات على حدود أمره ونهيه، فإن صفق وجهه وقال: نعمل تارة لهذه الدار وتارة لتلك الدار: فهذا المذبذب الذي لا هو من هذه ولا من هذه؛ ومن تخنث وتليث لم يكن رجلاً ولا امرأة، ولا يكون أباً ولا أماً؛ وهذا كما نرى.
ونرجح فنقول: ونعوذ بالله من الفقر خاصة إذا لم يكن لصاحبه عياذٌ من التقوى، ولا عمادٌ من الصبر، ولا دعامةٌ من الأنفة، ولا اصطبارٌ على المرارة.
وقد بلينا بهذا الدهر الخالي من الديانين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم، الخاوي من الكرام الذين كانوا يتسعون في أحوالهم، ويوسعون على غيرهم من سعتهم، وكانوا يهتمون بذخائر الشكر المعجل في الدنيا، يحرصون على ودائع الأجر المؤجل في الأخرى؛ ويتلذذون بالثناء، ويهتزون للدعاء؛ وتملكهم الأريحية عند مسئلة المحتاج، وتعتريهم الهزة معها والابتهاج؛ وذلك لعشقهم الثناء الباقي؛ والصنيع الواقي؛ ويرون الغنيمة في الغرامة، والربح في البذل، والحظ في الإيثار، والزيادة في النقص؛ أعني بالزيادة. الخلف المنتظر من الله؛ وبالنقص: العطاء؛ ورأيت الناس يعيبون ابن العميد حين قال: أنا أعجب من جهل الشاعر الذي قال:

أنت للمال إذا أمسكته

 

فإذا أنفقته فالمال لك

قال: ولو كان هذا صحيحاً كان لا ينبغي أن يكتسب المال، لأنه ليس في ترك كسبه أكثر من إخراجه بالإنفاق. هذا لقولهم بحكمته وعقله وتحصيله وصواب الجاهل لا يستحسن كما يستقبح خطأ العاقل؛ نعم، وكانوا إذا ولوا عدلوا، وإذا ملكوا أفضلوا، وإذا أعطوا أجزلوا، وإذا سئلوا أجابوا وإذا جادوا أطابوا، وإذا عالوا صبروا، وإذا نالوا شكروا؛ وإذا أنفقوا واسوا، وإذا امتحنوا تأسوا؛ وكانوا يرجعون إلى نقائب ميمونة، وإلى ضرائب مأمونة؛ وإلى ديانات قوية، وأماناتٍ ثخينة؛ وكان لهم مع الله أسرار طاهرة، وعلانيةٌ مقبولة؛ ومع عباد الله معاملةٌ جميلة، ورحمةٌ واسعة ومعدلةٌ فاشية؛ وكانت تجارتهم في العلم والحكمة، وعادتهم جارية على الضيافة والتكرمة؛ وكانت شيمتهم الصفح والمغفرة وربحهم من هذه الأحوال النجاة والكرامة في الأولى والعاقبة؛ وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير، وتناهوا عن الشر؛ وتنافسوا في اتخاذ الصنائع، وادخار البضائع أعني صنائع الشكر، وبضائع الأجر فذهب هذا كله، وتاه أهله؛ وأصبح الدين وقد أخلق لبوسه، وأوحش مأنوسه، واقتلع مغروسه؛ وصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وعاد كل شيء إلى كدره وخاثره، وفاسده وضائره؛ وحصل الأمر على أن يقال: فلانٌ خفيف الروح، وفلان حسن الوجه، وفلان ظريف الجملة، حلو الشمائل، ظاهر الكيس، قوي الدست في الشطرنج، حسن اللعب في النرد، جيدٌ في الاستخراج، مدبر للأموال، بذولٌ للجهد، معروفٌ بالاستقصاء لا يغضى عن دانق، ولا يتغافل عن قيراط؛ إلى غير ذلك مما يأنف العالم من تكثيره، والكاتب من تسطيره.
وهذه كلها كنايات عن الظلم والتجديف، والخساسة والجهل وقلة الدين وحب الفساد، وليس فيها شيءٌ مما قدمنا وصفه عن القوم الذين اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرحمة والاصطناع والعدل والمعروف.
وأرجع عن هذه الشكلية الطويلة اللاذعة والبلية العامة الشاملة؛ إلى عين ما رسمت لي ذكره، وكلفتني إعادته؛ عائذاً بالله في صرف الأذى عني وسوق الخير إلي؛ ولائذاً بكرمك الذي رشتن به إلى الساعة، وكفيتني به مؤونة الخدمة لغيرك من هذه الجماعة؛ والأعمال بخواتيمها، والصدور بأعجازها؛ وأنت أولى الناس بالصفح والتجاوز عني إذا عرفت براءتي في كل ما يتعلق بي من ذمامك؛ ويجب علي من الحق في مودتك، والاعتصام بحبلك والانتجاع من عشبك، والارتغاء من لبنك.

الليلة الأولى

وصلت أيها الشيخ - أطال الله حياتك - أول ليلة إلى مجلس الوزير - أعز الله نصره، وشد بالعصمة والتوفيق أزره - فأمرني بالجلوس، وبسط لي وجهه الذي ما اعتراه منذ خلق العبوس؛ ولطف كلامه الذي ما تبدل منذ كان لا في الهزل ولا في الجد، ولا في الغضب ولا في الرضا.
ثم قال بلسانه الذليق، ولفظه الأنيق: قد سألت عنك مراتٍ شيخنا أبا الوفاء، فذكر أنك مراعٍ لأمر البيمارستان من جهته، وأنا أربأ بك عن ذلك، ولعلي أعرضك لشيء أنبه من هذا وأجدى، ولذلك فقد تاقت نفسي إلى حضورك للمحادثة والتأنيس، ولأتعرف منك أشياء كثيرةً مختلفة تردد في نفسي على مر الزمان، لا أحصيها لك في هذا الوقت، لكني أنثرها في المجلس بعد المجلس على قدر ما يسنح ويعرض، فأجبني عن ذلك كله باسترسال وسكون بال؛ بملء فيك، وجم خاطرك، وحاضر علمك؛ ودع عنك تفنن البغداديين مع عفو لفظك، وزائد رأيك، وربح ذهنك؛ ولا تجبن جبن الضعفاء، ولا تتأطر تأطر الأغبياء؛ واجزم إذا قلت، وبالغ إذا وصفت؛ واصدق إذا أسندت، وافصل إذا حكمت، إلا إذا عرض لك ما يوجب توقفاً أو تهادياً؛ وما أحسن ما قال الأول:

لا تقدح الظنة في حكمـه

 

شيمته عـدلٌ وإنـصـاف

يمضي إذا لم تلقه شـبـهةٌ

 

وفي اعتراض الشك وقاف

وقد قال الأول:

أبالي البلاء وإني امرؤٌ

 

إذا ما تبينت لم أرتب

وكن على بصيرة أني سأستدل مما أسمعه منك في جوابك عما أسألك عنه على صدقك وخلافه، وعلى تحريفك وقرافه.
فقلت قبل: كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري على ما يراد مني فإني إن منعته نكلت، وإن نكلت قل إفصاحي عما أطالب به وخفت الكساد، وقد طمعت بالنفاق وانقلبت بالخيبة، وقد عقدت خنصري على المسألة. فقال - حرس الله روحه -: قل - عافاك الله - ما بدا لك، فأنت مجاب إليه ما دمت ضامناً لبلوغ إرادتنا منك، وإصابة غرضنا بك.

قلت: يؤذن لي في كاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض، وأركب جدد القول من غير تقية ولا تحاش ولا محاوبة ولا انحياش.
قال: لك ذلك، وأنت المأذون فيه، وكذلك غيرك، وما في كاف المخاطبة وتاء المواجهة? إن الله تعالى - على علو شأنه، وبسطه ملكه، وقدرته على جميع خلقه - يواجه بالتاء والكاف، ولو كان في الكناية بالهاء رفعةٌ وجلالةٌ وقدر ورتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحق بذلك ومقدماً فيه، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله - عليهم السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان - رحمة الله عليهم - وهكذا الخلفاء، فقد كان يقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أعزك الله، ويا عمر أصلحك الله؛ وما عاب هذا أحد، وما أنف منه حسيب ولا نسيب، ولا أباه كبيرٌ ولا شريف؛ وإني لأعجب من قومٍ يرغبون عن هذا وشبهه، ويحسبون أن في ذالك ضعةً أو نقيصةً أو حطاً أو زرايةً، وأظن أن ذلك لعجزهم وفسولتهم، وانخزالهم وقلتهم وضؤولتهم، وما يجدونه من الغضاضة في أنفسهم، وأن هذا التكلف والتجبر يمحوان عنهم ذلك النقص، وذلك النقص ينتفي بهذا الضلف؛ هيهات، لا تكون الرياسة حتى تصفو من شوائب الخيلاء ومن مقابح الزهو والكبرياء.
فقلت: أيها الوزير، قد خالطت العلماء، وخدمت الكبراء وتصفحت أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، فما سمعت هذا المعنى من أحدل على هذه السياقة الحسنة والحجة الشافية والبلاغ المبين؛ وقد قال بعض السلف الصالح: "ما تعاظم أحد على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه". والتصاغر دواء النفس، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين؛ ولذلك قال ابن السماك للرشيد - وقد عجب من رقته وحسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته -: "يا أمير المؤمنين، لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك، وإني أظن أن دمعتك هذه قد أطفأت أوديةً من النار وجعلتها برداً وسلاماً".
قال: هذا باب مفترقٌ فيه، ورجعنا إلى الحديث فإنه شهي، سيما إذا كان من خطرات العقل قد خدم بالصواب في نغمةٍ ناغمة، وحروف متقاومة؛ ولفظٍ عذب، ومأخذٍ سهل؛ ومعرفة بالوصل والقطع، ووفاء بالنثر والسجع؛ وتباعدٍ من التكلف الجافي، وتقاربٍ في التلطف الخافي، قاتلالله ذا الرمة حيث يقول:

لها بشرٌ مثل الحرير ومنـطـقٌ

 

رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نزر

وكنت أنشد أيام الصبا هذا بالذال، وكان ذلك من سوء تلقين المعلم؛ وبالعراق رد علي وقيل: هو بالزاي؛ وقد أجاد القطامي أيضاً وتغزل في قوله:

فهن ينبذن من قول يصـبـن بـه

 

مواقع الماء من ذي الغلة الصادي

قلت: ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له: أتمل الحديث? قال: إنما يمل العتيق، والحديث معشوق الحس بمعونة العقل، ولهذا يولع به الصبيان والنساء، فقال: وأي معونة لهؤلاء من العقل ولا عقل لهم? قلت: ههنا عقلٌ بالقوة وعقلٌ بالفعل، ولهم أحدهما وهو العقل بالقوة، وههنا عقلٌ متوسط بين القوة والفعل مزمع، فإذا برز فهو بالفعل، ثم إذا استمر العقل بلغ الأفق؛ ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل، وخلط بالمحال ووصل بما يعجب ويضحك ولا يؤول إلى تحصيل وتحقيق، مثل هزار أفسان وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات؛ والحسن شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث، لأنه قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة. ولهذا قال بعض السلف: "حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور"، كأنه أراد اصقلوها واجلو الصدأ عنها، وأعيدوها قابلةً لودائع الخير، فإنها إذا دثرت - أي صدئت، أي تغطت؛ ومنه الدثار فوق الشعار - لم ينتفع بها؛ والتعجب كله منوطٌ بالحادث؛ وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم: إما بالزمان، وإما بالدهر؛ ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر التي بعد العهد بمبادئها، وسيمتد العهد جداً إلى نهاياتها؛ وأما ما قدم بالدهر، فكالعقل والنفس والطبيعة؛ فأما الفلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة، ومناطقه الخفية، فقد أخذت من الدهر صورةً إلهية، وأحدثت فيما سلف منها صورةً زمانية.

فقال: بقي أن يتصل به نعت العتيق والخلق، فكان من الجواب أن العتيق يقال على وجهين: فأحدهما يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة، وهذا موجودٌ في قول العرب: البيت العتيق؛ والآخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول. فأما قولهم: عبد عتيق، فهو داخل في المعنى الأول، لأنه أكرم بالعتق، وارتفع عن العبودية، فهو كريم. وكذلك وجه عتيق لأنه أعتقته الطبيعة من الدمامة والقبح. وكذلك فرس عتيق.
وأما قولهم: هذا شيء خلق، فهو مضمن معنيين: أحدهما يشار به إلى أن مادته بالية؛ والآخر أن نهاية زمانه قريبة. وكان ابن عباد قال لكاتبه مرة - أعني ابن حسولة - في شيء جرى... نعم، العالم عتيق ولكن ليس بقديم أي لو كان قديماً لكان لا أول له، ولما كان عتيقاً كان له أعول، ومن أجل هذا الاعتقاد وصفوا الله تعالى بأنه قديم، واستحسنوا هذا الإطلاق. وقد سألت العلماء البصراء عن هذا الإطلاق، فقالوا: ما وجدنا هذا في كتاب الله - عز وجل - ولا كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا في حديث الصحابة والتابعين. وسألت أبا سعيد السيرافي الإمام: هل تعرف العرب أن معنى القديم ما لا أول له? فقال: هذا ما صح عندنا عنهم ولا سبق إلى وهمنا هذا منهم، إلا أنهم يقولون: هذا شيء قديم وبنيان قديم ويسرحون وهمهم في زمانٍ مجهول المبدأ.
فقل: قد مر في كلامك شيء يجب البحث عنه، ما الفرق بين الحادث والمحدث والحديث؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يلحظ نفسه والمحدث ما يلحظ مع تعلقٍ بالذي كان عنه محدثاً. والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلقٍ بالزمان ومن كان منه.
وههنا شيء آخر، وهو الحدثان والحدثان؛ فأما الأول فكأنه لما هو مضارعٌ للحادث، وأما الحدثان فكأنه اسم للزمان فقط، لأنه يقال: كان كذا وكذا في حدثان ما ولي الأمير، أي في أول زمانه، وعلى هذا يدور أمر الحدث والأحداث والحادثات والحوادث. وفلان حدث ملوكٍ كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد. قال: ما الفرق بين حدث وحدث? قلت: لا فرق بينهما إلا من جهة أن حدث تابع لقدم، لأنه يقال: أخذه ما قدم وما حدث؛ فإذا قيل لإنسان: حدث يا هذا. فكأنه قيل له: صل شيئاً بالزمان يكون به في الحال، لا تقدم له من قبل.
ثم رجعت فقلت. ولفوائد الحديث ما صنف أبو زيد رسالة لطيفة الحجم في المنظر، شريفة الفوائد في المخبر، تجمع أصناف ما يقتبس من العلم والحكمة والتجربة في الأخبار والأحاديث، وقد أحصاها واستقصاها وأفاد بها، وهي حاضرة. فقال احملها واكتبها، ولا تمل إلى البخل بها على عادة أصحابنا الغثاث. قلت: السمع والطاعة.
ثم رويت أن عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه: قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفر.
وأحسن من هذا ما قال عمر بن عبد العزيز قال: والله إني لأستري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين. فقيل: يا أمير المؤمنين، أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك وتنزهك? فقال: أين يذهب بكم? والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير، إن في المحادثة تلقيحاً للعقول، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب.
قال: صدق هذا الإمام في هذا الوصف، إن فيه هذا كله.
قلت: وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول: سمعت ابن السراج يقول: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه، فأنشدنا قوله:

ولقد سئمت مآربـي

 

فكأن أطيبها خبـيث

إلا الحـديث فـإنـه

 

مثل اسمه أبداً حديث

وقال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفاره، وتبطنا الحسناء، ولبسنا اللين، وأكلنا الطيب حتى أجمناه، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع، ويطرب إليه القلب. وهذا أيضاً حقٌ وصواب، لأن النفس تمل، كما أن البدن يكل؛ وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح وكما لابد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر، كذلك لابد للنفس من أن تطلب الروح عند تكاثف الملل الداعي إلى الحرج فإن البدن كثيف النفس، ولهذا يرى بالعين، كما أن النفس لطيفة البدن، ولهذا لا توجد إلا بالعقل؛ والنفس صفاء البدن، والبدن كدر النفس. فقال: أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل؛ هات ملحه الوداع حتى نفترق عنها، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث.
قلت: حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية، قال: رأيت جحظة قد دعا بناءً ليبني له حائطاً فحضر، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة، فتماكسا وذلك أن الرجل طلب عشرين درهماً؛ فقال جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهماً? قال: أنت لا تدري، إني قد بنيت لك حائطاً يبقى مائة سنة؛ فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط؛ فقال جحظة: هذا عملك الحسن? قال: فأردت أن يبقى ألف سنة? قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك. فضحك - أضحك الله سنه -.

الليلة الثانية

ثم حضرت ليلة أخرى، فقال: أول ما أسألك عنه حديث أبي سليمان المنطقي كيف كان كلامه فينا، وكيف كان رضاه عنا ورجاؤه بنا، فقد بلغني أنك جاره ومعاشره، ولصيقه وملازمه وقافي خطوه وأثره، وحافظ غاية خبره.
فقلت: والله أيها الوزير، ما أعرف اليوم ببغداد - وهي الرقعة الفسيحة الجامعة، والعرصة العريضة الغاصة - إنساناً أشكر لك، وأحسن ثناءً عليك، وأذهب في طريق العبودية معك، منه؛ ولقد سكر الآذان وملأ البقاع بالدعاء الصالح، رفعه الله إليه، والثناء الطيب أشاعه الله؛ وقد عمل رسالةً في وصفك ذكر فيها ما آتاك الله وفضلك به من شرف أعراقك، وكرم أخلاقك وعلو همتك، وصدق حدسك وصواب رأيك، وبركة نظرك، وظهور غنائك، وخصب فنائك، ومحبة أوليائك، وكمد أعدائك، وصباحة وجهك، وفصاحة لسانك، ونبل حسبك، وطهارة غيبك، ويمن نقيبتك، ومحمود شيمتك، ودقيق ما أودع الله فيك، وجليل ما نشر الله عنك، وغريب ما يرى منك، وبديع ما ينتظر لك من المراتب العلية، والخيرات الواسعة والدولة الوادعة، وهي تصل إلى مجلسكم في غد أو بعده - إن شاء الله - وكان هذا منه قياماً بالواجب، فإنك نعشت روحه وكان خفت، وبصرته وكان عشي؛ وأنبت جناحه وكان قد حص، بالرسم الذي وصل إليه لأنه كن قنط منه وهو قنوطٌ، وسمعته مراراً: من يذكرني وقد مضى الملك - رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي، ويجري على عادته معي? ومن يسأل عني، ويهتم بحالي? هيهات، فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه إن الزمان بمثله لبخيل كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال، وملقتى القفال، ومحقق الأقوال والأفعال، ومجرى لجم الأحوال على غاية الكمال؛ كان والله فوق المتمنى، وأعلى من أن يلحق به نظير، أو يوجد له مماثل؛ لذته لمحٌ في تهذيب الأمور، وهواه وقفٌ على صلاح من في إصلاحه صلاح ونفي من في نفيه تطهير؛ ولولا أن عمر الفتى الأريحي قصير، لكنا لا نبتلى بفقده، ولا نتحرق على فوت ما كان لنا بحياته؛ الدنيا ظلوم، والإنسان فيها مظلوم.
فلما وصل إليه ذلك الرسم - وهو مائة دينار - وحاجته ماسة إلى رغيف، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكنه، وعن وجه غدائه وعشائه عاش.
ومما زاد في حديث الرسم أنه وصل إليه مع العذر الجميل، والوعد العريض الطويل؛ ولو رأيته وهو يترفل ويتحنك لعجبت. فقال: سررتني لسروره بما كان مني، وإن عشت كففت الزمان عن ضيمه، وفللت عنه حد نابه، ولولا الضمانة مانعةٌ عن نفسه، وتمنع معها بنفسه؛ لغشي هذا المجلس فيكم فاستأنس وآنس، ولكنه على حال لا محتمل له عليها، ولا صبر عليه معها؛ أتحفظ ما قال البديهي فيه? قلت: نعم، قال: أنشدنيه، فرويت:

أبو سليمان عالمٌ فطـن

 

ما هو في علم بمنتقص

لكن تطيرت عـنـد رؤيتـه

 

من عورٍ موحش ومن برص

وبابنة مـثـل مـا بـوالـده

 

وهذه قصة من القـصـص

فقال: قاتله الله، فلقد أوجع وبالغ، ولم يحفظ ذمام العلم، ولم يقض حق الفتوة. حدثني عن درجته في العلم والحكمة، وعرفني محله فيهما من محل أصحابنا ابن زرعة وابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه ونظيف ويحيى بن عدي وعيسى بن علي. فقلت: وصف هؤلاء أمر متعذر، وبابٌ من الكلفة شاق؛ وليس مثلي من جسر عليه، وبلغ الصواب منه؛ وإنما يصفهم من نال درجة كل واحد منهم، وأشرف بعد ذلك عليهم؛ فعرف حاصلهم وغائبهم، وموجودهم ومفقودهم. فقال: هذا تحايلٌ لا أرضاه لك، ولا أسلمه في يدك، ولا أحتمله منك؛ ولم أطلب إليك أن تعرفهم بما هو معلوم الله منهم، وموهبة لهم، ومسوقه إليهم، ومخلوعه عليهم، على الحد الذي لا مزيد فيه ولا نقص؛ إنما أردت ان تذكر من كل واحد ما لاح منه لعينيك، وتجلى لبصيرتك، وصار له به صورةٌ في نفسك؛ فأكثر وصف الواصفين للأشياء على هذا يجري، وإلى هذا القدر ينتهي.
فقلت: إذا قنع مني بهذا، فإني أخدم بما عندي، وأبلغ فيه أقصى جهدي. أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقهم نظراً، وأقعرهم غوصاً، وأصفاهم فكراً، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر؛ مع تقطع في العبارة، ولكنةٍ ناشئة من العجمة وقلة نظرٍ في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخلٍ بما عنده من هذا الكنز.
وأما ابن زرعة فهو حسن الترجمة، صحيح النقل، كثير الرجوع إلى الكتب، محمود النقل إلى العربية، جيد الوفاء بكل ما جل من الفلسفة؛ ليس له في دقيقها منفذ، ولا له من لغزها مأخذ، ولولا توزع فكره في التجارة، ومحبته في الربح، وحرصه على الجمع؛ وشدته في المنع؛ لكانت قريحته تستجيب له، وغائمته تدر عليه؛ ولكنه مبدد مندد، وحب الدنيا يعمي ويصم.
وأما ابن الخمار ففصيح، سبط الكلام، مديد النفس، طويل العنان، مرضي النقل، كثير التدقيق، لكنه يخلط الدرة بالبعرة ويفسد السمين بالغث، ويرقع الجديد بالرث؛ ويشين جميع ذلك بالزهو والصلف، ويزيد في الرقم والسوم، فما يجديه من الفضل يرتجعه بالنقص؛ وما يعطيه باللطف يسترده بالعنف؛ وما يصفيه بالصواب، يكدره بالإعجاب. ومع هذا يصرع في كل شهر مرة أو مرتين.
وأما ابن السمح، فلا ينزل بفنائهم، ولا يسقى من إنائهم؛ لأنه دونهم في الحفظ والنقل والنظر والجدل، وهو بالمتبع أشبه، وإلى طريقة الدعي أقرب، والذي يحطه عن مراتبهم شيئان: أحدهما بلاده فهمه، والآخر حرصه على كسبه؛ فهو مستفرغ مح البال مأسور العقل، يأخذ الدانق والقيراط والحبة والطسوج والفلس بالصرف والوزن والتطفيف؛ والقلب متى لم ينق من دنس الدنيا لم يعبق بفوائح الحكمة، ولم يتفوح بردع الفلسفة، ولم يقبل شعاع الأخلاق الطاهرة المفضية إلى سعادة الآخرة.
وأما القومسي أبو بكر، فهو رجل حسن البلاغة، حلو الكناية، كثير الفقر العجيبة، جماعةٌ للكتب الغريبة؛ محمود العناية في التصحيح والإصلاح والقراءة، كثير التردد في الدراسة؛ إلا أنه غير نصيح في الحكمة؛ لأن قريحته ترابية، وفكرته سحابية؛ فهو كالمقلد بين المحققين، والتابع للمتقدمين؛ مع حبٍ للدنيا شديد، وحسد لأهل الفضل عتيد.
وأما مسكويه، ففقير بين أغنياء، وعيي بين أبنياء، لأنه شاذ، وأنا أعطيته في هذه الأيام صفو الشرح لإبساغوجي وقاطيغورياس، من تصنيف صديقنا بالري. قال: ومن هو? قلت: أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري، وصححه معي؛ وهو الآن لائذ بابن الخمار، وربما شاهد أبا سليمان وليس له فراغ، ولكنه محسن في هذا الوقت للحسرة التي لحقته فيما فاته من قبل.

فقال: يا عجباً لرجل صحب ابن العميد أبا الفضل ورأى من كان عنده وهذا حظه! قلت: قد كان هذا، ولكنه كان مشغولاً بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيميائي الرازي، مملوك الهمة في طلبه والحرص على إصابته مفتوناً بكتب أبي زكرياء، وجابر بن حيان؛ ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه؛ هذا مع تقطيع الوقت في حاجاته الضرورية والشهوية؛ والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة والفرص بروق تأتلق، والأوطار في غرضها تجتمع وتفترق، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق؛ ولقد قطن العامري الري خمس سنين جمعة ودرس وأملى وصنف وروى فما أخذ مسكويه عنه كلمة واحدة، ولا وعى مسألة، حتى كأنه بينه وبينه سد؛ ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم، ومضغ بفمه حنظل الندامة في نفسه، وسمع بأذنه قوارع الملامة من أصدقائه حين لم ينفع ذلك كله. وبعد فهو ذكي حسن الشعر نقي اللفظ، وإن بقي فعساه يتوسط هذا الحديث، وما أرى ذلك مع كلفة بالكيمياء، وإنفاق زمانه وكد بدنه وقلبه في خدمة السلطان، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط والكسرة والخرقة؛ نعوذ بالله من مدح الجود باللسان، وإيثار الشح بالفعل، وتمجيد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل؛ وهذا هو الشقاء المصبوب على هامة من بلي به، والبلاء المعصوب بناصية من غلب عليه.
وأما عيسى بن علي، فله الذرع الواسع والصدر الرحيب في العبارة، حجة في النقل والترجمة، والتصرف في فنون اللغات، وضروب المعاني والعبارات؛ وقد تصفح ما لم يتصفح كثير من هذه الجماعة، وقلب بخزائن الكبراء والسادات، وأعين بالعمر الطويل والفراغ المديد؛ ولكنه مع هذا الفضل الكثير بخيل بكلمة واحدة، ونصيحٌ على ورقة فارغة، لسودائه الغالبة عليه، ومزاجه المتشيط بها.
وأما نظيف، فإنه متوسط، لا يسفل عن أقلهم حظاً ولا يعلو على أكثرهم نصيباً؛ ويده في الطب أطول، ولسانه في المجالس أجول؛ ومعه رفق وحذق في الجدل.
وأما يحيى بن عدي، فإنه كان شيخاً لين العريكة فروقة، مشوه الترجمة، رديء العبارة، لكنه كان متأتياً في تخريج المختلفة وقد برع في مجلسه أكثر هذه الجماعة، ولم يكن يلوذ بالإلهيات، كان ينبهر فيها ويضل في بساطها، ويستعجم عليه ما جل، فضلاً عما دق منها؛ وكان مبارك المجلس.
فقال: ما قصرت في وصف هذه الطائفة، وتقريب البغية التي كانت داخلة في نفسي منهم.
حدثني عن مذاهبهم في النفس وما يقولون فيها؛ وإلى أين ينتهون من يقينهم بشأنها، وكيف ثقتهم ببقائها بعد فناء أبدانها? فقلت: علمت أني لا أجد ما أريد من حديث النفس عند أصحابنا الباقين، أعني أبا الوفاء علي بن يحيى السامري والمعري والقوهي والصوفي وغلام زحل والصاغاني، وكذلك غيرهم أعني ابن عبدان وابن يعقوب وابن لالا وابن بكش وابن قوسين والحراني، لأن هؤلاء ليسوا يحرثون هذه الأرض، ولا يرقمون هذا البز ولا يجهزون هذا المتاع ولا يتعاملون به؛ هذا ينظر في المرض والصحة والداء والدواء، وهذا يعتبر الشمس والقمر، وليس فيهم من يذكر كلمة في النفس والعقل والإله، حتى كأنه محظور عليهم، أو قبيح عندهم.
وقلت: إن هؤلاء القوم - أعني الطائفة الأولى - متفقون في الاعتراف بأنها جوهر باقٍ خالد؛ فأما اليقين فما الحكم به لهم، لأنهم لو كانوا على ذلك - أعني واجدين لليقين ذائقين لحلاوته - لما كدحوا للدنيا التي تزول عنهم ويزولون عنها مضطرين؛ فلو أنهم كانوا على ثلج من النفس، ويقظة من العقل، واستبصار من القلب، وسكون من البرهان، لما تعجلوا هذه اللذات المنقوصة، والأوطار الفاضحة، والشهوات الخسيسة، مع التبعات الكثيرة والأوزار الثقيلة؛ ولا عجب فإنه إذا كانت الركاكة العائقة تمنع الإنسان من العدو والسفر، ومن سرعة الخطو، لأن الحركة قد بطلت بالركاكة الداخلة عليه في أعضائه وآلائه، فأي عجب من أن تكون النفس التي استعبدتها الشهوات الغالبة، والعقيدة الرديئة، والأفعال القبيحة معوقةً ممنوعةً من الصعود إلى معانق الفلك ومخارق النجوم وعالم الروح ومقعد الصدق ومقام الأمن ومحل الكرامة ومراد الخلد وبلد الأبد ومعان السرمد.
قال: هذا كلام تام؛ وسأسألك بعد هذا عن النفس وما تحفظ عنهم فيها لكن تعم لي ما كنا فيه، كيف علم أبي سليمان بالنجوم وأحكامها? قلت: لا يتجاوز التقويم. ثم قال: فما تقول في الأحكام? قلت: أنشدت منذ أيام:  

علم النجوم على العقول وبال

 

وطلاب حق لا ينال محال

وقلت أيضاً: علم الأحكام لا يجوز في الحكمة أن يكون مدركاً مكشوفاً مخاطباً به معروفاً؛ ولا يجوز أن يكون مقنوطاً منه مطرحاً مجهولاً؛ بل الحكمة توجب أن يتوسط هذا الفن بين الإصابة والخطأ حتى لا يستغنى عن اللياذ بالله أبداً، ولا يقع اليأس من قبله أبداً؛ وعلى هذا سخر الله الإنسان وقيضه وخيره بين الأمر وفوضه؛ ومنع من الثقة والطمأنينة إلا في معرفته وتوحيده وتقديسه وتمجيده، والرجوع إليه؛ انظر إلى حديث الطب فإن عنده الصناعة توسطت الصواب والخطأ، لتكون الحكمة سارية فيها، واللطف معههوداً بها؛ لأن الطب كما يبرأ به العليل، قد يهلك معه العليل؛ فليس بسبب أن بعض المدبرين بالطب لا ينبغي أن ينظر في الطب؛ وليس بسبب أن بعض المرضى برأ بالطب وجب أن يعول عليه؛ انظر إلى هذا التوسط في هذه الحال ليكون التدبير الإلهي والأمر الربوبي نافذين في هذه الخلائق بوساطة ما بينه وبينها؛ ولتكون المصلحة بالغة غايتها؛ وهذه سياسة دار الفناء، الجامعة لسكانها على البأساء والنعماء؛ وهكذا، فانظر إلى حديث البحر وركوب البأس المتيقن فيه، وجوب الطول والعرض وإصابة الربح، وطلب العلم، كيف توسط بين السلامة والعطب، والنجاة والهلكة، فلو استمرت السلامة حتى لا يوجد من يغرق ويهلك، لكان في ذلك مفسدة عامة؛ ولو استمرت الهلكة حتى لا يوجد من يسلم وينجو، لكان في ذلك مفسدة عامة؛ فالحكمة إذاً ما توسط هذا الأمر حتى يشكر الله من ينجو، ويسلم نفسه لله من يهلك. قلت: وبعد هذا فهذا العلم عويص غامض عميق، وقد فقد العلماء به، الملهون فيه؛ ومعول أهله على الحدس والظن، وعلى بعض التجارب القديمة التي تكذب مرة وتصدق مرة؛ وبالصدق يعبر الإنسان، وبالكذب يعرى من فوائده؛ فالنقص قد دخله، والخلل قد شمله؛ وليس يجب أن يوهب له زمانٌ عزيز، فوراءه ما هو أهم منه وأجدر، وأرشد وأهدى.
قال: هذا حسن، حدثني بالذي أفدت اليوم. قلت: قال أبو سليمان: العلم صورة المعلوم في نفس العالم، وأنفس العلماء عالمةٌ بالفعل، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة. والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل. والتعلم هو بروز ما هو بالقوة إلى الفعل. والنفس الفلكية عالمةٌ بالفعل، والنفس الجزئية علامة بالقوة؛ وكل نفس جزئية تكون أكثر معلوماً وأحكم مصنوعاً فهي أقرب إلى النفس الفلكية تشبهاً بها، وتصيراً لها.
قال: هذا في الحسن نهاية، وقد اكتهل الليل، وهذا يحتاج إلى بدء زمان، وتفريغ قلب، وإصغاء جديد. هات خاتمة المجلس. قلت له: قرأنا يوم الجمعة على أبي عبيد الله المرزباني لعبد الله بن مصعب.

إذا استتعت منك بلحظ طرفـي

 

حيي نصفي ومات عليك نصفي

تلذذ مقلتي ويذوب جـسـمـي

 

وعيشي منك مقرون بحتـفـي

فلو أبصرتـنـي والـلـيل داج

 

وخدي قد توسط بطن كـفـي

ودمعي يستهل من الـمـآقـي

 

إذاً لرأيت ما بي فوق وصفـي

وانصرفت.

الليلة الثالثة

قال لي ليلة أخرى: حدثني أبو الوفاء عنك حديث الخراساني، فأريد أن أسمعه منك. قال: كنت قائماً علشية على زنبرية الجسر في الجانب الشرقي والحاج يدخلون، وجمالهم قد سدت عرض الجسر - أنتظر جوازها وخفة الطريق منها، فرأيت شيخاً من أهل خراسان ذكر لي أنه من أهل سنجان واقفاً خلف الجمال يسوقها، ويحفظ الرحال التي عليها، حتى نظر إلى الجانب الغربي فرأى الجذع عليه ابن بقية - وكان وزيراً صلبه الملك لذنوب كانت له - فقال: لا إله إلا الله، ما أعجب أمور الدنيا وما أقل المفكر في عبرها وغيرها، عضد الدولة تحت الأرض وعدوه فوق الأرض!.
قال: هكذا حدثني أبو الوفاء، ولذلك استأذنت في دفنه، وكان كلام الشيخ سبباً في ذلك.

قال: بلغني أن أبا سليمان يزور في أيام الجمعة رسل سجستان لما ويظل عندهم طاعماً ناعماً، ويأنس بأنك معه، فمن يحضر ذلك المكان? فقلت: جماعة؛ وآخر من كان في هذا الأسبوع الماضي ابن جبلة الكاتب، وابن برمويه، وابن الناظر أبو منصور وأخوه، وأبو سليمان وبندار المغني وغزال الراقص، وعلم وراء الستارة. فقال: ما الذي حفظت من حديث عنهم، ومأثور أن يلقى إلينا منهم? فقلت: سمعت أشياء، ولست أحب أن أسم نفسي بنقل الحديث وإعادة الأحوال فأكون غامزاً وساعياً ومفسداً. قال: معاذ الله من هذا، إنما تدل على رشد وخير، وتضل عن غي وسوء، وهذا يلزم كل من آثر الصلاح الخاص والعام لنفسه وللناس، واعتقد الشفقة، وحث على قبول النصيحة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قد سمع مثل هذا وسأل عنه، وكذلك الخلفاء من بعده، وكل أحد محتاج إلى معرفة الأحوال إذا رجع إلى مرتبة عاليةٍ أو محطوطة. فقلت وجدت ابن برمويه يذكر أشياء هي متعلقة بجانبك، ويرى أنها لو لم تكن لكان مجلسك أشرف، ودولتك أعز، وأيامك أدوم، ووليك أحمد، وعدوك أكمد. قال: ما هذا الاسترسال كله إلى ابن شاهويه? وما هذا الكلف ببهرام? وما هذا التعصب لابن مكيخا? وما هذا السكون إلى ابن طاهر? وما هذا التعويل على ابن عبدان? وما من هؤلاء أحد إلا يريش عدوه ويبريه ويضل صاحبه ويغويه. أما ابن شاهويه فشيخ إزراء وصاحب مخرقة وكذبٍ ظاهر، كثير الإيهام، شديد التمويه، لا يرجع إلى ودٍ صادق، ولا إلى عقد صحيح وعهدٍ محفوظ؛ وإنما كان الماضي يقربه لغرض كان له فيه من جهة هؤلاء المخربين القرامطة، وكان أيضاً مذموم الهيئة، فكان لا ينبس إلا بما يقويه ويحرس حاله، واليوم هو رخي اللبب، جاذب لكل سبب؛ وليس هناك كفاية ولا صيانة ولا ديانة ولا مروءة؛ وبعد، فهو مشئوم نكد، ثقيل الروح، شديد البهت قوله الإفساد وعادته تأجيل المهنأ والشماتة بالعاثر والتشفي من المنكوب.
وأما بهرام فرجل مجوسي معجب ذميم، لا يعرف الوفاء ولا يرجع إلى حفاظ، غرضه أن يتبجح في الدنيا بجاهه، ولا يبالي أين صار بعاقبته؛ وهو يحض مع ذلك عليه في كل ما هو مديره ومدبره.
وأما ابن مكيخا، فرجل نصراني أرعن خسيس، ما جاء يوماً بخير قط لا في رأي ولا في عمل، ولا في توسط؛ وأصحابنا يلقبونه بقفا وهو منهمك بين اللذائذ همه أن يتحسى دن الشراب في نفس أو نفسين، ثم يسقط كالجذع اليابس لا لسان ولا إنسان.
وأما ابن طاهر فرجل يدعي للناس أنه لولا مكانته وكفايته وحسبه ورأيه ومشورته لكانت هذه الوزارة سراباً، وهذه المملكة خراباً؛ هذا مع الشر الذي في طبعه وعادته؛ فإن جرى خيرٌ انتحله، وزعم أنه من نتائج رأيه؛ وإن وقع شرٌ عصبه برأس صاحبه، وادعى أنه استبد به؛ ومع هذا فهو يعيب هذه المراءاة.
وما أدري كيف استكفى هذه الجماعة حوله? وكيف يظاهر هو بها ويسكن إليها? وما فيهم إلا من وكده الرجس والإفساد والأخذ بالمصانعة وإغراء الأولياء بما يعود بالوبال على البريء والسقيم وعلى الزكي والظنين؛ هؤلاء سباع ضارية، وكلاب عاوية؛ وعقارب لساعة، وأفاعٍ نهاشة، وقى الله هذا الإنسان الحر المبارك الكريم الرحيم، فإنه شريف النفس طاهر الطوية، لين العريكة، كثير الديانة، وهذه أخلاق لا تصلح اليوم مع الناس، قال الشاعر:

ومن لا يذد عن حوضه الناس أو يكن

 

له جانب يشـتـد إن لان جـانـب

يطأ حوضه المستوردون وتغـشـه

 

شوائب لا تبقى عليها الـنـقـائب

وما ضاع قولهم: لا تكن حلواً فتؤكل، ولا مراً فتعاف. ليس الحذر يقي فكيف التهور، أههنا لحىً تسحب كل يوم، وطوارق تتوقع كل ليلة! والتوكل والاستسلام يلقيان بأهل الدين في طلب الآخرة؛ فأما أصحاب الدنيا وأرباب المراتب، فيجب أن يدعوا الهوينا جانباً، ويشمروا للنفع والضر؛ والخير والشر ويكون ضرهم أكثر، وشرهم أغلب؛ ورهبوت خير من رحموت.
ولهذا قال الأعرابي:

أنا الغلام الأعسر

 

الخير في والشر

والشر في أكثر

 

 

وهذا معنى بديع، ولم يرد أن البداءة بالشر خير من الخير، وإنما اراد أني أتقي بالشر، وإذا أقبل الشر قلت له: مرحباً، وأدفع الشر ولو بالشر، والحديد بالحديد يفلح. وقد قال الآخر:

وفي الشر نجاة حي

 

ن لا ينجيك إحسان

وقال ابن دارة:  

إذا كنت يوماً طالب القوم فاطرح

 

مقالتهم واذهب بهم كل مذهـب

وقارب بذي حلم وباعد بجـاهـل

 

جلوب عليك الشر من كل مجلب

فإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعسوا

 

ليستمسكوا مما يريدون فاحـدب

وإن حلبوا خلقين فاحلـب ثـلاثة

 

وإن ركبوا يوماً لك الشر فاركب

وقال الحجاج بن يوسف أبو محمد - وهو من رجالات العرب وقد قهر العجم بالدهاء والزكانة - لو أخذت من الناس مائة ألف، كان أرضى عني من أن أفرق فيهم مائة ألف. كان الناس بالأمس مزمومين مخطومين، يقوم كل واحد بنفسه على نفسه، ويتهم غده لما جناه في أمسه؛ لأن الملك السعيد ساسهم، وقوم زيغهم، وقلم أظافرهم؛ وشغلهم بالحاجة عن البطر والأشر، وبالكفاية عن القلق والضجر؛ وتقدم إليهم بترك الخوض فيما لا مرجوع له بخير؛ وكانوا لا يشكرون الله على نعمته عليهم به، وإحسانه إليهم بمكانه، فسلبوه فتنفس خناقهم، واتسع نطاقهم، فامتطى كل واحد هواه، ويوشك أن يقع في مهواه.
قال: وههنا أشياء أخرى غير هذه، ولكن من يسمع ويقبل? ومع هذا فالأمور صائرةٌ إلى مصايرها، كما أنها صادرة عن مصادرها.
فقال له ابن جبلة: ما عندي إلا أن الوزير - أبقاه الله - عارفٌ بهم ومستبطن لأمرهم؛ مع العشرة القديمة، والملابسة المتصلة، والخبرة الواقعة؛ ولكن لابد لمن كان في محله ورقعته من جماعةٍ يقربهم، ويرجع إليهم ويسمع منهم، وينظر بأعينهم، ويصغي بآذانهم، ويتناول بأيديهم. فقال له مجاوباً: إن كان عارفاً بهم، ومستبطناً لأمرهم، وخبيراً بشأنهم؛ فلم سلطهم وبسطهم، وحدد أنيابهم، وقوى أسنانهم، وفتح أشداقهم، وطول أعناقهم، وقطع أرباقهم؛ وأبطرهم فأسكرهم، حتى صاروا يجهلون أقدارهم، وينسون ما كانوا فيه من القلة والذلة? هلا رتب كل واحد منهم فيما تظهر به كفايته ولا يرفعه إلى ما يظن معه الظن الفاسد، ولم يضحك في وجوههم، ويغضي على جنايتهم? أما بلغه أن ابن يوسف قال: تشبثه بابن شاهويه لأنه قد أعده للهرب إلى القرامطة إن دهمه أمر? وأنسه ببهرام إنما هو لاستمداد الفساد منه وتقديمه لابن الحجاج للسخف، ولهجه بابن هرون للهزء واللعب.
قال له ابن جبلة: من أراد أن يحسن القبيح عند رضاه، ويقبح الحسن عند سخطه فعل، ولا يخلو أحد تهب ريحه، ويعلو شأنه، وينفذ أمره ونهيه من حاسد وقارف، ومدخل ومرجف، على هذه الأمور بنيت الدار، وعليها جرت الأقدار، إن كنت تنكر هذا الرهط، فاعرف له الرهط الآخر؛ فإنك تعرف بذلك حسن اختياره وجميل انتقائه ومحمود رأيه.
قال: من هم?. قال: أبو الوفاء المهندس، وابن زرعة المتفلسف، وابن عبيد الكاتب، ومسكويه، والأهوازي والعسجدي فأين هؤلاء الغامطة? قومٌ همهم أن يأكلوا رغيفاً ويشربوا قدحاً، لا هم ممن يقتبس من علمهم ولا هم يتكلفون له نصحاً، وهيبته تعوقهم عن ذكر شيء في الدولة من تلقائهم إلا أن يكون شيء يتعلق بهم على معنى خاص؛ فهو ينود هكذا وهكذا حتى يبلغ منهم ما قدر عليه.
فلما سمع الوزير هذا كله قال: سألقي إليك في جواب هذه المسألة ما تخدمني به إن لاقيتهم في مجلس آخر على وجه يخفي أنك له ملقن محمل كأنك ساهٍ عنه غير حافل به؛ وقد تقطع الليل، ويحتاج في هذا الحديث إلى استئناف زمان، بعد استيفاء حمام؛ ثم أنشدت قول الشاعر:

إني لأصفح عن قومي وألبسهم

 

على الضغائن حتى تبرأ المثر

ثم قال: ما المئر? قلت: هي الضغائن التي ذكرها في حشو البيت، واحدها مئرةٌ، كأنه أراد وألبسهم على الضغائن حتى تبرأ الضغائن فرجع من لفظ إلى لفظ ضرورة القافية لما كان معناهما واحداً؛ قال: لمن هذا البيت? قلت: لا أحفظ اسم شاعره، ولكن أحفظ معه أبياتاً. قال: هاتها؛ فأنشدت أول ذلك:

يا أيها الرجل الـمـزجـى أذيتـه

 

هل أنت عن قولك العوراء مزدجر

إني إذا عد مـبـطـاءٌ إلـى أمـد

 

لا يستطيع حضاري المقرف البطر

لاقى قناتي مصـراراً عـشـوزنةً

 

لا قادح قد تبـغـاهـا ولا خـور

إني لأصفح عن قومي وألبسـهـم

 

على الضغائن حتى تبرأ الـمـئر

قال: اكتبها. قلت: أفعل، وانصرفت، فما أعاد علي بعد ذلك شيئاً مما كان.

الليلة الرابعة

قال لي بعد ذلك في ليلة أخرى: كيف رضاك عن أبي الوفاء? قلت: أرضى رضاً بأتم شكر وأحمد ثناء؛ أخذ بيدي، ونظر في معاشي، ونشطني وبشرني، ورعى عهدي، ثم ختم هذا كله بالنعمة الكبرى، وقلدني بها القلادة الحسنى، وشملني بهذه الخدمة، وأذاقني حلاوة هذه المزية، وأوجهني عند نظرائي.
قال: هات شيئاً من الغزل. فأنشدته:

كلانا سواء في الهوى غير أنها

 

تجلد أحياناً وما بي تـجـلـد

تخاف وعيد الكاشحين وإنـمـا

 

جنوني عليها حين أنهي وأبعد

ثم قال: غالب ظني أن نصراً غلام خواشاذه ما هرب من فنائي إلا برأيك وتجسيرك؛ فإن ذلك عبد، ولا جرأة له على مثل هذا الندود والشذوذ، فقد قال لي القائل: إنك من خلصانه.
فقلت: والله الذي لا إله إلا هو ما كان بيني وبينه ما يقتضي هذا الأنس وهذا الاسترسال، إنما كنا نلتقي على زنبرية باب الجسر بالعشايا وعند البيمارستان وعلى باب أبي الوفاء؛ وإنما ركنت إليه لمرقعته وتاسومته عند ما كنت رأيته عند صاحبه بالري سنة تسع وستين وهو متوجه إلى قابوس وجرجان، في المذلة الدائمة والحال المربوطة؛ ولو نبس لي بحرف من هذا، أو كنت أشعر بأقل شيء منه، لكنت أقول لأبي الوفاء قضاءً لحقه، ووفاءً بما له في عنقي من مننه وخوفاً من هذا الظن بي، وقصوراً عن اللائمة لي.
قال: أفما تعرف أحداً تسأله عنه ممن كان يخالطه ويباسطه? قلت: ما رأيته إلا وحده؛ وكم كان زمان التلاقي? كان أقل من شهر، أفي هذا القدر يتوكد الأنس وترتفع الحشمة وتستحكم الثقة ويقع الاسترسال والتشاور? هذا بعيد. قال: هذا المتخلف كنت قد قربته ورتبته، ووعدته ومنيته؛ وتقدمت إلى أبي الوفاء بالإقبال عليه، والإحسان إليه، وإذكاري بأمره في الوقت بعد الوقت، حتى أزيده نباهة وتقديماً، فترك هذا كله وطوى الأرض كأنه هارب من حبس، أو خائف من عذاب. ويقال في الأثر: إن بعض الصفيحيين قال: لله قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، ما أكثر من يفر من هذه الكرامة، ويقوى - على ترفٍ جمٍ - على الهوان، ويصبر على البلاء، ويقلق في العافية! إن السجايا المختلفة، وإن الطباع لمتعادية؛ قلما يرى شخصان يتشاكلان في الظاهر إلا يتباينان في الباطن.
قلت: كذلك هو.
قال: حدثني لم امتنعت من النفوذ مع ابن موسى إلى الجبل فيما رسمنا له أن يتوجه فيه? ولقد أطلت التعجب من هذا وكررته على أبي الوفاء.
فقلت: منعني من ذلك ثلاثة أشياء: أحدها أن ابن موسى لم يكن من شكلي ولا أشد للضد هوناً من مصاحبة الضد، لأنه سوداوي وجعد. والآخر أنه قيل: ينبغي أن تكون عيناً عليه، وأنا لو قررت لك الحديث لما رأيته لائقاً بحالي، فكيف إذا قرنت برجل باطلي لو بوهمه أمري لدهدهني من أعلى جبل في الطريق. والآخر أني كنت أفد مع هذا كله على ابن عباد - وهو رجل أساء إلي وأوحشني، وحاول على لسان صاحبه ابن شاهويه أن أنقلب إليه ثانياً؛ وكنت أكره ذلك، وما كنت آمن ما يكون منه ومني، والمجنون المطاع، مهروب منه بالطباع.
وبعد، فليس لي حاجةٌ في مثل هذه الخدمة، لأن صدر العمر خلا مني عارياً من هذه الأحوال، وكان وسطه أضعف حملاً، وأبعد من القيام به والقيام عليه.
فقال: ما كان عندي هذا كله.
قال: إني أريد أن أسألك عن ابن عباد فقد انتجعته وخبرته وحضرت مجلسه، وعن أخلاقه ومذهبه وعادته، وعن علمه، وعن علمه وبلاغته، وغالب ما هو عليه، ومغلوب ما لديه؛ فما أظن أني أجد مثلك في الخبر عنه، والوصف له، على أني قد شاهدته بهمذان لما وافي، ولكني لم أعجمه، لأن اللبث كان قليلاً، والشغل كان عظيماً، والعائق كان واقعاً.
فقال: إني رجل مظلوم من جهته، وعاتبٌ عليه في معاملتي، وشديد الغيظ لحرماني، وإن وصفته أربيت منتصفاً، وانتصفت منه مسرفاً، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب، أو عارياً منهما جملة، كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق؛ على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير، ولفظي الطويل والقصير، وهي في المسودة ولا جسارة لي على تحريرها، فإن جانبه مهيب، ولمكره دبيب، وقد قال الشاعر:

إلى أن يغيب المرء يرجى ويتقى

 

ولا يعلم الإنسان ما في المغيب

قال: دع هذا كله، وانسخ لي الرسالة من المسودة، ولا يمنعنك ذاك فإن العين لا ترمقها والأذن لا تسمعها واليد لا تنسخها.

وبعد، فما سألتك إلا وصفه بما جبل عليه، أو بما كسب هو بيديه من خير وشر؛ وهذا غير منكر ولا مكروه، لأمر الله تعالى، فإنه مع علمه الواسع، وكرمه السابغ، يصف المحسن والمسيء، ويثني على هذا وينثو على ذاك؛ فاذكر لي من أمره ما خف اللفظ به وسبق الخاطر إليه وحضر السبب له.
قلت: إن الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان؛ قد نتف من كل أدب خفيفٍ أشياء، وأخذ من كل فن أطرافاً؛ والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجنة بطرائقهم، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب؛ وهو شديد التعصب على أهله الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقي والمنطق والعدد؛ وليس عنده بالجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر؛ وهو حسن القيام بالعروض والقوافي؛ ويقول الشعر، وليس بذاك؛ وفي بديهيته غزارة. وأما رويته فخوارة؛ وطالعه الجوزاء، والشعري قريبة منه؛ ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة، والناس كلهم محجمون عنه، لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته؛ شديد العقاب طفيف الثواب، طويل العتاب؛ بذيء اللسان؛ يعطي كثيراً قليلاً أعني يعطي الكثير القليل، مغلوبٌ بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسودٌ حقودٌ حديد، وحسده وقفٌ على أهل الفضل، وحقده سارٍ إلى أهل الكفاية؛ أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته؛ وقد قتلا خلقاً، وأهلك ناساً، ونفى أمة، نخوةً وتعنتاً وتجبراً وزهواً؛ وهو مع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبي؛ لأن المدخل عليه واسع، والمأتي إليه سهل؛ وذلك بأن يقال: مولانا يتقدم بأن أعار شيئاً من كلامه، ورسائل منثوره ومنظومه؛ فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به، وأتعلم البلاغة منه؛ لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان؛ واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان؛ فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص.
فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق ويسهل له الإذن عليه، والوصول إليه، والتمكن من مجلسه؛ فهذا هذا.
ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعراً، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم، ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى - وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك - وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنك - والله - مجيد زه يا أبا عيسى والله، قد صفا ذهن، وزادت قريحتك، وتنقحت قوافيك؛ ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي، محل تخرج الناس وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحول الكودن عتيقاً، والمحمر جواداً؛ ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية؛ وعطية هنية؛ ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم، لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعاً ولا يزن بيتاً ولا يذوق عروضاً.
قال يوماً: من في االدار? فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت؛ فعمل في الحال بيتين، وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل: قد قلت بيتين، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت وازعم أنك بدهت بهما، ولا تجزع من تأففي بك، ولا تفزع من نكري عليك، ودفع البيتين إليه، وأمره بالخروج إلى السجن؛ وأذن للرجلين حتى وصلا؛ فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما، ووقف للخدمة، وأخذ يتلمظ يرى أنه يقرض شعراً؛ ثم قال: يا مولانا، قد حضرني بيتان، فإن أنت أذنت لي أنشدت. قال: أنت إنسان أخرق سخيف، لا تقول شيئاً فيه خير، اكفني أمرك وشعرك. قال: يا مولانا، هي بديهتي، فإن نكرتني ظلمتني؛ وعلى كل حال فاسمع، فإن كان بارعين وإلا فعاملني بما تحب قال: أنت لجوج، هات. فأنشد:

يأيها الصاحب تاج العلا

 

لا تجعلني نهزة الشامت

بملحدٍ يكنى أبا قـاسـم

 

ومجبر يعزى إلى ثابت

قال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسىء: قال لي أبو القاسم: فكدت أتفقأ غيظاً، لأني علمت أنه من فعلاته المعروفة؛ وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتاً. ثم حدثني الخادم الحديث بنصه.

والذي غلطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه، أنه لم يجبه قط بتخطئة، ولا قوبل بتسوئة؛ ولا قيل له: أخطأت أو قصرت أو لحنت أو غلطت أو أخللت، لأنه نشأ على أن يقال: أصاب سيدنا، وصدق مولانا، ولله دره، ولله بلاؤه، ما رأينا مثله، ولا سمعنا من يقاربه، من ابن عبد كان مضافاً إليه? ومن ابن ثوابة مقيساً عليه? ومن إبراهيم بن العباس الصولي إذا جمع بينهما? من صريع الغواني من أشجع السلمي إذا سلك طريقهما، ومتح برشائهما، وقدح بزندهما? قد استدرك مولانا على الخليل في العروض، وعلى ابي عمرو بن العلاء في اللغة وعلى أبي يوسف في القضاء، وعلى الإسكافي في الموازنة، وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات، وعلى ابن مجاهد في القراءات؛ وعلى ابن جرير في التفسير، وعلى أرسطوطاليس في المنطق، وعلى الكندي في الجزء، وعلى ابن سيرين في العبارة، وعلى أبي العيناء في البديهة، وعلى ابن أبي خالد في الخط، وعلى الجاحظ في الحيوان، وعلى سهل بن هرون في الفقر، وعلى يوحنا في الطب؛ وعلى ابن ربن في الفردوس، وعلى عيسى بن دأب في الرواية، وعلى الواقدي في الحفظ، وعلى النجار في البدل، وعلى ابن ثوابة في التفقه، وعلى السري السقطي في الخطرات والوساوس، وعلى مزبد في النوادر، وعلى أبي الحسن العروضي في استخراج المعمى، وعلى بني برمك في الجود، وعلى ذي الرياستين في التدبير، وعلى سطيح في الكهانة، وعلى ابن المحيا خالد بن سنان العبسي في دعواه؛ هو والله أولى بقول أبي شريح أوس بن حجر التميمي في فضالة بن كلدة:

الألمعي الذي يظن بك الظن

 

كأن لقد رأى وقد سمـعـا

قد يسبق المدح إلا من لا يستحقه، ويصير المال إلى من لا يليق به أن يكون ميلاً حتى إذا وجد من كان لذلك مستحقاً منحه ووفر عليه.
فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوى ويتبسم، ويطير فرحاً ويتقسم ويقول: ولا كذا؛ ثمرة السبق لهم، وقصرنا أن نلحقهم، أو نقفو أثرهم ونشق غبارهم أو نرد غمارهم. وهو في كل ذلك يتشاكى ويتحايل، ويلوي شدقه، ويبتلع ريقه، ويرد كالآخذ، ويأخذ كالمتمنع، ويغضب في عرض الرضا، ويرضى في لبوس الغضب، ويتهالك ويتمالك، ويتقابل ويتمايل؛ ويحاكي المومسمات، ويخرج في أصحاب السماجات؛ ومع هذا كله يظن أن هذا خافٍ على نقاد الأخلاق وجهابذة الأحوال، والذين قد فرغهم الله لتتبع الأمور، واستخراج ما في الصدور، واعتبار الأسباب؛ وذلك أنه ليس بجيد العقل، ولا خالص الحمق؛ وكل كدر بالتركيب فقلما يصفو، وكل مركب على الكدر فقلما يعتدل؛ إلا أن الانحراف متى كان إلى جانب العقل كان أصلح من أن يكون إلى طرف الحمق؛ والكامل عزيز، والبرىء من الآفات معدوم؛ إلا أن العليل إذا قيض الله له طبيباً حاذقاً رفيقاً ناصحاً كان إلى العافية أقرب، وللشفاء أرحي، ومن العطب أبعد، وبالاحتياط أعلق، أعني أن العاقل إذا عرف من نفسه عيوباً معدودة، وأخلاقاً مدخولة، استطب لها عقله، وتطبب فيها بعقله، وتولى تدبيرها برأيه ورأي خلصانه، فنفي ما أمكن نفيه، وأصلح ما قبل إصلاحه، وقلل ما استطاع تقليله؛ فقد يجد الإنسان الرمص في عينه فينحيه، ويبتلي بالبرص في بدنه فيخفيه.
وقد أفسده أيضاً ثقة صاحبه به، وتعويله عليه، وقلة سماعه من الناصح فيه؛ فعذر بازدهاء المال والغلم والاقتدار والأمر والكفاية وطاعة الرجال وتصديق الجلساء والعادة الغالبة؛ وهو في الأصل مجدود لا جرم ليس يقله مكانٌ دلالاً وترفاً، وعجباً وتيهاً وصلفاً؛ واندراءً على الناس، وازدراءً للصغار والكبار، وجبها للصادر والوارد؛ وفي الجملة، صغار آفاته كبيرة، وذنوبه جمة ولكن الغني ربٌ غفور قال: ما صدر هذا البيت? فأنشدته الأبيات، وهي لعروة بن الورد في الجاهلية، وكان يقال له عروة الصعاليك، لأنه كان يؤويهم ويحسن إليهم كثيراً:

ذريني للغنى أسعى فإنـي

 

رأيت الناس شرهم الفقير

وأبعدهم وأهوانهم عليهـم

 

وإن أمسى له حسبٌ وخير

ويقصيه النـدى وتـزدريه

 

حليلته وينهره الصـغـير

وتلقى ذا الغنى وله جـلالٌ

 

يكاد فؤاد صاحبه يطـير

قليلٌ ذنبه والـذنـب جـمٌ

 

ولكن الغني رب ٌ غفـور

فقال: لاشك أن المسودة جامعةٌ لهذا كله. قلت: تلك تجزع في دست كاغدٍ فرعوني. فقال: أجد تحريرها، وعلى بها، ولك الضمان ألا يراها إنسان، ولا يدور بذكرها لسان.
قلت: السمع والطاعة. قال: قد تركنا من حديثه ما هو أولى مما مر بنا؛ كيف بلاغته من بلاغة ابن العميد? وأين طريقته من طريقة ابن يوسف والصابي? قلت: قد سألت جماعة عن هذا، فأجابني كل واحد بجواب إذا حكيته عنه كان ما يقال فيه ألصق، وكنت من الحكم عليه وله أبعد.
قال: صف هذا؛ قلت: سألت ابن عبيد الكاتب عن ابن عباد فيك تابته فقال: يرتفع عن المتعلمين فيها بدرجة أو بدرجتين. وقال علي بن القاسم: هو مجنون الكلام، تارةً تبدو لك منه بلاغة قس، وتارة يلقاك بعي باقل؛ تحريف كثير في المعاني، وإحالةٌ في الوضع، وغلطٌ في السجع، وشرودٌ عن الطبع.
وقال ابن المرزبان: هو كثير السرقة، سيىء الإنفاق، رديء القلب والعكس، فروقةٌ في غيراده، هزيمته قبل هجومه. وإحجامه أظهر من إقدامه. وقال الصابي: هو مجتهد غير موفق، وفاضل غير منطق ولو خطا كان أسرع له، كما أنه لما عدا كان أبطأ عليه؛ وطباع الجبلي مخالف لطباع العراقي، يثب مقارباً فيقع بعيداً، ويتطاول صاعداً فيتقاعس قعيداً.
وقال علي بن جعفر: مم كانت الطبائع! هو يكذر نفسه بحسن الظن في البلاغة، وطباعه تصدق عنه بالتخلف، فهو يشين اللفظ ويحيل المعنى، فأما شينه اللفظ فبالجفوة والغلظة والإخلال والفجاجة؛ وأما إحالته فبالإبعاد عن حومة القصد والإرادة؛ والعجب أنه يحفظ الطم والرم من النثر والنظم؛ ثم إذا ادعاهما يقع دونهما سقوطاً، أو يتجاوزهما فروطاً؛ هذا مع الكبر الممقوت والتشيع الظاهر، والدعوى العارية من البينة العادلة.
وما أحسن ما كتب بن أحمد بن إسماعيل بن الخصيب إلى آخر: الكبر - أعزك الله - معرض يستوي فيه النبيه ذكراً، والخامل قدراً، ليس أمامه حاجب يمنعه، ولا دونه حاجز يحظره؛ والناس أشد تحفظاً على الرئيس المحظوظ، وأكثر اجتلاء لأفعاله، وتتبعاً لمعايبه، وتصفحاً لأخلاقه، وتنقيراً عن خصاله منهم عن خامل لا يعبأ به، وساقطٍ لا يكترث له؛ فيسير عيب الجليل يقدح فيه، وصغير الذنب يكبر منه، وقليل الذم يسرع إليه؛ ولابن هندو في هذا المعنى:

العيب في الرجل المذكور مذكـور

 

والعيب في الخامل المستور مستور

كفوفة الظفر تخفي من مهانتـهـا

 

ومثلها في سواد العين مشـهـور

وقال الزهيري: قد نجم بأصبهان ابنٌ لعبادٍ في غاية الرقاعة والوقاحة والخلاعة وإن كان له يوم، فسيشقى به قوم، سمعته يقول هذا سنة اثنتين وخمسين في مجلسٍ من الفقهاء.
وقال ابن حبيب: قال بعض الحكماء: إن اللنفس أمراضاً كأمراض البدن إلا أن فضل أمراض النفس على أمراض البدن في الشر والضرر كفضل النفس على البدن في الخير؛ وصاحبنا يعني - ابن عباد - مريض عندنا، صحيح عند نفسه، زيف بنقدنا، جيد بنقده؛ ولو قامت السوق على ساقها، وتناصف المتعاملون فيها، ولم يقع إكراه في أخذٍ ولا إعطاء، عرف البهرج الذي ضرب خارج الدار والجيد الذي ضرب داخل الدار.

وقال أحمد بن محمد: إذا أنصفنا التزمنا مزية العراقيين علينا بالطبع اللطيف والمأخذ القريب، والسجع الملائم، واللفظ المونق، والتأليف الحلو، والسبوطة الغالبة، والموالاة المقبولة في السمع، الخالبة للقلب العابثة بالروح، الزائدة في العقل، المشعلة للقريحة، الموقوفة على فضل الأدب، الدالة على غزارة المغترف، النائية عن عادة كثير من السلف والخلف؛ وابن عباد بلي في هذه الصناعة بأشياء كلها عليه لا له، وخاذلته لا ناصرته، ومسلمته لا منقذته؛ فأول ما بلي به أنه فقد الطبع، وهو العمود؛ والثاني العادة وهي المؤاتية؛ والثالث الشغف الجاسي من اللفظ وهو الاختيار الرديء؛ والرابع تتبع الوحشي، وهو الضلال المبين؛ والخامس الذهاب مع اللفظ دون المعنى؛ والسادس استكراه المقصود من المعنى، واللفظ على النبوة؛ والسابع التعاظل المجهول بالاعتراض؛ والثامن إلف الرسوم الفاسدة من غير تصفح ولا فحص؛ والتاسع قلة الاتعاظ بما كان - للثقة الواقعة في النفس - من الفائت، والعاشر تنفيق المتاع بالاقتدار في سوق العز، وهذه كلها سبل الضلالة، وطرق الجهالة. قال: وليس شيء أنفع للمنشىء من سوء الظن بنفسه، والرجوع إلى غيره وإن كان دونه في الدرجة وليس في الدنيا محسوب إلا وهو محتاج إلى تثقيف، والمستعين أحزم من المستبد، ومن تفرد لم يكمل، ومن شاور لم ينقص، وقد يستعجم المعنى كما يستعجم اللفظ، ويشرد اللفظ كما يند المعنى، وينتثر النظم كما ينتظم النثر وينحل المعقد كما يعقد المنحل.
والمدار على اجتلاب الحلاوة المذوقة بالطبع، واجتناب النبوة الممجوجة بالسمع؛ والقريحة الصافية قد تكدر، والقريحة الكدرة قد تصفو، وشر آفات البلاغة الاستكراه، وأنصح نصائحها الرضا بالعفو. وقال: كان ابن المقفع يقف قلمه كثيراً؛ فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لأتخيره.
والكتاب يتصفح أكثر من تصفح الخطاب، لأن الكاتب مختار والمخاطب مضطر؛ ومن يرد عليه كتابك فليس يعلم أسرعت فيه أم أبطأت وإنما ينظر أصبت فيه أم أخطأت، وأحسنت أم أسأت؛ فإبطاؤك غير إصابتك كما أن إسراعك غير معفٍ على غلطك.
قال: هذا كله مفيد فأين هو من غيره من أصحابنا? قلت: في الجملة هو أبلغ من ابن يوسف، وأغزر وأحفظ وأروى وأجم ركية، وأعذب مورداً، وأبعد من التفاوت؛ وليس ابن يوسف من ابن عباد في شيء.
فأما ابن العميد فإني سمعت ابن الجمل يقول: سمعت ابن ثوابة يقول: أول من أفسد الكلام أبو الفضل، لأنه تخيل مذهب الجاحظ وظن أنه إن تبعه لحقه، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيداً من الجاحظ، قريباً من نفسه؛ ألا يعلم أبو الفضل أن مذهب الجاحظ مدبر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان ولا تجتمع في صدر كل أحد: بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ؛ وهذه مفاتح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد.
وأما ابنه ذو الكفايتين، فلو عاش كان أبلغ من أبيه، كما كان أشعر منه؛ ولقد تشبه بالجاحظ فافتضح في مكاتبته لإخوانه، ومجانته في كلامه ومسائله لمعلمه التي دلتنا على سرقته وغارته وسوء تأتيه، في تستره وتغطيه؛ ومن شاء حمق نفسه؛ وكان مع هذا أشد الناس ادعاء لكل غريبة، وأبعد الناس من كل قريبة؛ وهو نزر المعاني، شديد الكلف باللفظ؛ وكان أحسد الناس لمن خط بالقلم، أو بلغ باللسان، أو فلج في المناظرة، أو فكه بالنادرة، أو أغرب في جواب، أو اتسع في خطاب؛ ولقد لقي الناس منه الدواهي لهذه الأخلاق الخبيثة؛ وقد ذكرت ذلك في الرسالة، وإذا بيضت وقفت عليها من أولها إلى آخرها إن شاء الله؛ وانصرفت.

الليلة الخامسة

قال لي ليلة أخرى: ألا تتمم ما كنا به بدأنا. قلت: بلى.

قأما أبو إسحاق فإنه أحب الناس للطريقة المستقمية، وأمضاهم على المحجة الوسطى، وإنما ينقم عليه قلة نصيبه من النحو؛ وليس ابن عباد في النحو بذاك؛ ولا كان أيضاً ابن العميد إلا ضعيفاً؛ وكان يذهب عنه الشيء اليسير. وأبو إسحاق معانيه فلسفية، وطباعه عراقية، وعادته محمودة؛ لا يثب ولا يرسب، ولا يكل ولا يكهم، ولا يلتفت وهو متوجه، ولا يتوجه وهو ملتفت. وقال لنا: إمام ابن عبدكان، وهو قد أوفى عليه، وإن كان احتذى على مثاله؛ وفنونه أكثر، ومأخذه أخفى، وخاطره أوقد، وناظره أنقد، وروضه أنضر، وسراجه أزهر، ويزيد على كل من تقدم بالكتاب التاجي، فإنها أبان عن أمور وكنى في مواضع، وشن الغارة في الصبح المنير مع الرعيل الأول، ودل على التفلسف، وعلى الاطلاع على حقائق السياسة ولو لم يكن له غيره لكان به أعرق الناس في الخطابة، وأعرق الكتاب في الكتابة، هذا ونظمه منثوره، ومنثوره منظومه؛ إنما هو ذهبٌ إبريزٌ كيفما سبك فهو واحد، وإنما يختلف بما يصاغ منه ويشكل عليه؛ هذا مع الظرف الناصع والتواضع الحسن، واللهجة اللطيفة، والخلق الدمث، والمعرفة بالزمان، والخبرة بأصناف الناس؛ وله فنونٌ من الكلام ما سبقه إليها أحد، وما ماثله فيها إنسان. وإني لأرحم من لا يسلم له هذا الوصف، لأنه إما أن يكون جاهلاً، وإما عالماً فإن كان جاهلاً فهو معذور، وإن كان عالماً فهو ملوم، لأنه يدل من نفسه - بدافع ما يعلمه - على حسده، والحاسد مهين.
قال: هل كان في زمان هؤلاء من يلحق بهم، ويدخل في زمرتهم? قلت: نعم، أبو طالب الجراحي من آل علي بن عيسى كتب للمرزبان ملك الديلم بعد ما انتجع فناء ابن العميد أبي الفضل، فحسده وطرده، وعض بعد ذلك على ناجذه ندماً على سوء فعله، ولقي منه ابن ببأأبي طالب الأمرين؛ ورسائله مبثوثة.
وأبو الحسن الفلكي، وكان من أهل البصرة، ووقع إلى المراغة ونواحيها وهو حسن الديباجة، رقيق حواشي اللفظ؛ وهو أحدهم غرباً، وأغزرهم سكباً، وأبعدهم مناحاً وأعذبهم نقاخاً، وأعطفهم للأول على الآخر وأنشرهم للباطن من الظاهر. وقرأت له: فإن رأى أن ينظر نظر راحم متعطف، إلى نادم متلهف؛ ويجعل العفو عن فرطته وكفرانه، صدقةً عن بسطته وسلطانه؛ فأجدر الناس بالاغتفار أقدرهم على الانتصار؛ فعل - إن شاء الله تعالى -.
وله مكاتبات واسعة بينه وبين رجل من أهل المراغة يقال له: محمد بن إبراهيم، من أهل سر من رأى وفي الجملة، الفضل في الناس مبثوث، وهم منه على جدود؛ والمرذول هو العاري من لبوسه، المتردد بين تخلفه ونقصه.
قال: فكيف يتم له ما هو فيه مع هذه الصفات التي تذكرها? قلت: والله لو أن عجوزاً بلهاء، أو أمةً ورهاء أقيمت مقامه، لكانت الأمور على هذا السياق. قال: وكيف ذاك? قلت: قد أمن أن يقال له: لم فعلت، ولم لم تفعل? وهذا باب لا يتفق لأحدٍ من خدم الملوك إلا بجد سعيد، ولقد نصح صاحبه الهروي في أموال تاوية، وأمورٍ من النظر عارية؛ فقذف بالرقعة إليه حتى عرف ما فيها، ثم قتل الراقع خنقاً. هذا وهو يدين بالوعيد، وله نظائر، ولنظائره نظائر، ولكن ليس له ناظر، ولا فيه مناظر. وقال لي الثقة من أصحابه: ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطأ فيلقبه جده صواباً، حتى كأنه عن وحي؛ وأسرار الله في خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفيةٌ في أستار الغيب، لا يهتدي إليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي مهذب؛ ولو جرت الأمور على موضوع الرأي وقضية العقل، لكان معلماً في مصطبة على شاعر، أو في دار؛ فإنه يخرج الإنسان بتفيهقه وتشادقه، واستحقاره واستكباره، وإعادته وإبدائه، وهذه أشكال تعجب الصبيان ولا تنفرهم من المعلمين، ويكون فرحهم بها سبباً للملازمة والحرص على التعلم والحفظ والرواية والدراسة.
قال: هذا قدرٌ كافٍ إلى أن تبيض الرسالة؛ هات ملحة الوداع. قلت: قال أبو العيناء: قال أبو دعلج: قال المهدي: بايع؛ قلت: أبايعكم علام? قال: على ما بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صفين. قال كريز أبو سيار المسمعي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدرك صفين، إنما كانت صفين بين علي ومعاوية. فقال دوست بن رباط الفقيمي أبو شعيب: قد علم الأمير هذا، ولكن أحب التسهيل على الناس، وانصرفت.

الليلة السادسة

ثم حضرته ليلةً أخرى فأول ما فاتح به المجلس أن قال: أتفضل العرب على العجم أم العجم على العرب? قلت: الأمم عند العلماء أربع: الروم، والعرب، وفارس، والهند؛ وثلاث من هؤلاء عجم، وصعبٌ أن يقال: العرب وحدها أفضل من هؤلاء الثلثة، مع جوامع مآلها، وتفاريق ما عندها. قال: إنما أريد بهذا الفرس. فقلت: قبل أن أحكم بشيء من تلقاء نفسي، أروي كلاماً لابن المقفع، وهو أصيلٌ في الفرس عريق في العجم، مفضل بين أهل الفضل؛ وهو صاحب اليتيمة القائل: تركت أصحاب الرسائل بعد هذا الكتاب في ضحضاح من الكلام. قال: هات على بركة الله وعونه. قلت: قال شبيب بن شبة: إنا لوقوفٌ في عرصة المربد - وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر - إذ طلع ابن المقفع، فما فينا أحد إلا هش له، وارتاح إلى مساءلته، وسررنا بطلعته؛ فقال: ما يقفكم على متون دوابكم في هذا الموضع? فوالله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحداً سواكم، فهل لكم في دار ابن برثن في ظلٍ ممدود، وواقيةٍ من الشمس، واستقبال من الشمال، وترويحٍ للدواب والغلمان، ونتمهد الأرض فإنها خير بساط وأوطؤه، ويسمع بعضنا من بعض فهو أمد للمجلس، وأدر للحديث. فسارعنا إلى ذلك، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسم الشمال، إذ أقبل علينا ابن المقفع، فقال: أي الأمم أعقل? فظننا أنه يريد الفرس، فقلنا: فارس أعقل الأمم، نقصد مقاربته، ونتوخى مصانعته. فقال: كلا، ليس ذلك لها ولا فيها، هم قوم علموا فتعلموا، ومثل لهم فامتثلوا واقتدوا وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتباعه، ليس لهم استنباط ولا استخراج. فقلنا له: الروم. فقال: ليس ذلك عندها، بل لهم أبدانٌ وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة، لا يعرفون سواهما، ولا يحسنون غيرهما.
قلنا: فالصين. قال: أصحاب أثاثٍ وصنعة، لا فكر لها ولا روية. قلنا: فالترك. قال: سباع للهراش. قلنا: فالهند. قال: أصحاب وهم ومخرقة وشعبذة وحيلة. قلنا: فالزنج: قال: بهائم هاملة. فرددنا الأمر إليه. قال: العرب.
فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض، فغاظه ذلك منا، وامتقع لونه، ثم قال: كأنكم تظنون في مقاربتكم، فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب، ولكن لا أدعكم حتى أبين لكم لم قلت ذلك، لأخرج من ظنة المداراة، وتوهم المصانعة؛ إن العرب ليس لها أولٌ تؤمه ولا كتابٌ يدلها، أهل بلد قفر، ووحشةٍ من الإنس، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله؛ وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض فوسموا كل شيء بسمته، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير؛ ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعياً وصيفياً، وقيظياً وشتوياً؛ ثم علموا أن شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء؛ وعرفوا تغير الزمان فجعلوا له منازله من السنة؛ واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلةً على أطراف الأرض وأقطارها، فسلكوا بها البلاد؛ وجعلوا بينهم شيئاً ينتهون به عن المنكر، ويرغبهم في الجميل، ويتجنون به على الدناءة ويحضهم على المكارم؛ حتى إن الرجل منهم وهو في فجٍ من الأرض يصف المكارم فما يبقى من نعتها شيئاً، ويسرف في ذم المساوىء فلا يقصر؛ ليس لهم كلام إلا وهم يحاضون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد، كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون، بل نحائز مؤدبة، وعقولٌ عارفة؛ فلذلك قلت لكم: إنهم أعقل الأمم، لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم. هذا آخر الحديث.
قال: ما أحسن ما قال ابن المقفع! وما أحسن ما قصصته وما أتيت به! هات الآن ما عندك من مسموع ومستنبط.
فقلت: إن كان ما قال هذا الرجل البارع في أدبه المقدم بعقله كافياً فالزيادة عليه فضلٌ مستغنىً عنه، وإعقابه بما هو له لا فائدة فيه.

 

فقال: حد الوصف في التزيين والتقبيح مختلف الدلائل على ما يعتقد صوابه وخطؤه، متباين؛ وهذه مسألة - أعني تفضيل أمة على أمة - من أمهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعوا فيه؛ ولم يرجعوا منذ تناقلوا الكلام في هذا الباب إلى صلح متين واتفاق ظاهر. فقتل: بالواجب ما وقع هذا، فإن الفارسي ليس في فطرته ولا عادته ولا منشئه أن يعترف بفضل العربي، ولا في جبلة العربي وديدنه أن يقر فضل الفارسي. وكذلك الهندي والرومي والتركي والديلمي؛ وبعد، فاعتبار الفضل والشرف موقوف على شيئين: أحدهما ما خص به قوم دون قوم في أيام النشأة بالاختيار للجيد والرديء، والرأي الصائب والفائل، والنظر في الأول والآخر. وإذا وقف الأمر على هذا فلكل أمة فضائل ورذائل ولكل قوم محاسن وماسوٍ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلا وعقدها كمال وتفسير؛ وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق، مفضوضةٌ بين كلهم.
فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم؛ وللروم الحكمة؛ وللهند الفكر والرؤية والخفة والسحر والأناة؛ وللترك الشجاعة والإقدام؛ وللزنج الصبر والكد والفرح؛ وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان.
ثم إن هذه الفضائل المذكورة، في هذه الأمم المشهورة، ليست لكل واحد من أفرادها، بل هي الشائعة بينها؛ ثم في جملتها من هو عارٍ من جميعها، وموسوم بأضدادها، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة، خالٍ من الأدب، داخلٍ في الرعاع والهمج؛ وكذلك العرب لا تخلو من جبانٍ جاهلٍ طياش بخيلٍ عيي وكذلك الهند والروم وغيرهم؛ فعلى هذا إذا قوبل أهل الفضل والكمال من الروم بأهل الفضل والكمال من الفرس، تلاقوا على صراط مستقيم، ولم يكن بينهم تفاوتٌ إلا في مقادير الفضل وحدود الكمال، وتلك لا تخص بل تلم.
وكذلك إذا قوبل أهل النقص والرذيلة من أمة بأهل النقص والخساسة من أمة أخرى، تلاقوا على نهج واحد، ولم يقع بينهم تفاوت إلا في الأقدار والحدود؛ وتلك لا يلتفت إليها، ولا يعار عليها؛ فقد بان بهذا الكشف أن الأمم كلها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة، واختيار الفكرة. ولم يكن بعد ذلك إلا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابية، والعادة المنشئية والهوى الغالب من النفس الغضبية، والنزاع الهائج من القوة الشهوية.
وها هنا شيء آخر، وهو أصل كبير لا يجوز أن يخلو كلامنا من الدلالة عليه والإيماء إليه.

وهو أن كل أمة لها زمان على ضدها، وهذا بين مكشوف إذا أرسلت وهمك في دولة يونان والإسكندر، لما غلب وساس وملك ورأس وفتق ورتق ورسم ودبر وأمر، وحث وزجر، ومحا وسطر، وفعل وأخبر؛ وكذلك إذا عطفت إلى حديث كسرى أنوشروان وجدت هذه الأحوال بأعيانها، وإن كانت في غلف غير غلف الأول، ومعارض غير معارض المتقدم؛ ولهذا قال أبو مسلم صاحب الدولة حين قيل له: أي الناس وجدتهم أشجع? فقال: كل قوم في إقبال دولتهم شجعان. وقد صدق؛ وعلى هذا كل أمة في مبدأ سعادتها وأفضل وأنجد وأشجع وأمجد وأسخى وأجود وأخطب وأنطق وأرأى وأصدق؛ وهذا الاعتبار ينساق من شيء عامٍ لجميع الأمم، إلى شيء شاملٍ لأمة أمة إلى شيء حاوٍ لطائفةٍ طائفة، إلى شيء غالبٍ على قبيلةٍ قبيلة، إلى شيء معتادٍ في بيتٍ بيت، إلى شيء خاص بشخصٍ شخص وإنسانٍ إنسان؛ وهذا التحول من أمة إلى أمة، يشير إلى فيض جود الله تعالى على جميع بريته وخليقته بحسب استجابتهم لقبوله، واستعدادهم على تطاول الدهر في نيل ذلك من فضله ومن رقي إلى هذه الربوة بعين لا قذى بها، أبصر الحق عياناً بلا مرية، وأخبر عنه بلا فرية؛ ومتى صدق نظرك في مابدىء الأحوال وأوائل الأمور وضح لك هذا كله كالنهار إذا متع، واستنار كالقمر إذا طلع؛ ولم يبق حينئذ ريب في عرفان الحق وحصول الصواب، إلا ما يلتاث بالهوى، ويسمج بالتعصب، ويجلب اللجاج، ويخرج إلى المحك؛ فهناك يطيح المعنى ويضل المراد، فإذا آثرت أن تعرف صحة هذا الحكم وصواب هذا الرأي، فاسمع ما أرويه: قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: انصرف العباس بن مرداس السلمي من مكة فقال: يا بني سليم، إني رأيت أمراً، وسيكون خيراً، رأيت بني عبد المطلب كأن قدودهم الرماح الردينية، وكأن وجوههم بدور الدجنة وكأن عمائمهم فوق الرجال ألوية، وكأن منطقهم مطر الوبل على المحل؛ وإن الله إذا أراد ثمراً غرس له غرساً، وإن أولئك غرس الله؛ فترقبوا ثمرته وتوكفوا غيثه، وتفيئوا ظلاله، واستبشروا بنعمة الله عليكم به. ولقد قرع العباس بهذا الكلام باب الغيب، وشعر بالمستور، وأحس بالخافي، واطلع عقله على المستتر، واهتدى بلطف هاجسه إلى الأمر المزمع، والحادث المتوقع؛ وهذا شيء فاشٍ في العرب، لطول وحدتها، وصفاء فكرتها، وجودة بنيتها واعتدال هيئتها، وصحة فطرتها، وخلاء ذرعها، واتقاد طبعها، وسعة لغتها وتصاريف كلامها في أسمائها وأفعالها وحروفها، وجولانها في اشتقاقاتها، ومآخذها البديعة في استعاراتها، وغرائب تصرفها في اختصاراتها، ولطف كناياتها في مقابلة تصريحاتها، وفنون تبحبحها في أكناف مقاصدها، وعجيب مقاربتها في حركات لفظها؛ وهذا وأضعافه مسلم لهم، وموفر عليهم، ومعروفٌ فيهم ومنسوبٌ إليهم، مع الشجاعة والنجدة والذمام والضيافة والفطنة والخطابة والحمية والأنفة والحفاظ والوفاء، والبذل والسخاء، والتهالك في حب الثناء والنكل الشديد عن الذم والهجاء؛ إلى غير ذلك مما خصت به في جاهليتها قبل الإسلام، مما لا سبيل إلى دفعه وجحوده، والبهت فيه، والمكابرة عليه؛ وقد سمعنا لغاتٍ كثيرةً - وإن لم نستوعبها - من جميع الأمم، كلغة أصحابنا العجم والروم والهند والترك وخوارزم وصقلاب وأندلس والزنج، فما وجدنا لشيء من هذه اللغات نصوع العربية، أعني الفرج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة التي بين مخارجها، والمعادلة التي نذوقها في أمثلتها، والمساواة التي لا تجحد في أبنيتها؛ وإذا شئت أن تعرف حقيقة هذا القول، وصحة هذا الحكم، فالحظ عرض اللغات الذي هو بين أشدها تلابساً وتداخلاً، وترادفاً وتعاظلاً وتعسراً وتعوصاً، وإلى ما بعدها مما هو أسلس حروفاً، وأرق لفظاً، وأخف اسماً؛ وألطف أوزاناً، وأحضر عياناً؛ وأحلى مخرجاً وأجلى منهجاً وأعلى مدرجاً؛ وأعدل عدلاً، وأوضح فضلاً، وأصح وصلاً إلى أن تنزل إلى لغة بعد لغة، ثم تنتهي إلى العربية، فإنك تحكم بأن المبدأ الذي أشرنا إليه في العوائص والأغماض، سرى قليلاً قليلاً حتى وقف على العربية في الإفصاح والإيماض.

وهذا شيء يجده كل من كان صحيح البنية، بريئاً من الآفة، متنزهاً عن الهوى والعصبية، محباً للإنصاف في الخصومة، متحرياً للحق في الحكومة، غير مسترق بالتقليد، ولا مخدوع بالإلف، ولا مسخر بالعادة، وإني لأعجب كثيراً ممن يرجع إلى فضل واسع، وعلمٍ جامع؛ وعقل سديد، وأدب كثير، إذا أبى هذا الذي وصفته، وأنكر ما ذكرته؛ وأعجب أيضاً فضل عجب من الجيهاني في كتابه وهو يسب العرب، ويتناول أعراضها ويحط من أقدارها ويحط من أقدارها، ويقول: يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيات ويتعاورون ويتساورون، ويتهاجون ويتفاحشون، وكأنهم قد سلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أهب الخنازير. قال: ولهذا كان كسرى يسمى ملك العرب: سكان شاه، أي ملك الكلاب. قال: وهذا لشدة شبههم بالكلاب وجرائها، والذئاب وأطلائها وكلاماً كثيراً من هذا الصوب أرفع قدره عن مثله، وإن كان يضع من نفسه بفضل قوله. أتراه لا يعلم لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي والموامي، كل كسرى كان في الفرس، وكل قيصر كان في الروم، وكل بلهور كان بالهند، وكل يقفور كان بخراسان، وكل خاقان كان بالترك وكل أخشاد كان بفرغانة وكل صبهبذ كان من أسكنان وأردوان ما كانوا يعدون هذه الأحوال لأن من جاع أكل ما وجد، وطعم ما لحق، وشرب ما قدر عليه، حباً للحاية، وطلباً للبقاء، وجزعاً من الموت، وهرباً من الفناء. أترى أنوشروان إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبر وبار وسفوح طيبة، ورمل يبرين وساحة هبير، وجاع وعطش وعري، أما كان يأكل اليربوع والجرذان؛ وما كان يشرب بول الجمل وماء البئر، وما أسن في تلك الوهدات? أو ما كان يلبس البرجد والخميصة والسمل من الثياب وما هو دونه وأخشن? بلى والله، ويأكل حشرات الأرض ونبات الجبال، وكل ما حمض ومر، وخبث وضر، هذا جهلٌ من قائله، وحيفٌ من منتحله؛ على أن العرب - رحمك الله - أحسن الناس حالاً وعيشاً إذا جادتهم السماء، وصدقتهم الأنواء؛ وازدانت الأرض، فهدلت الثمار، واطردت الأودية، وكثر اللبن والأقط والجبن واللحم والرطب والتمر والقمح، وقامت لهم الأسواق، وطابت المرابع وفشا الخصب، وتوانى النتاج، واتصلت الميرة، وصدق المصاب وأرفغ المنتجع، وتلاقت القبائل على المحاضر، وتقاولوا وتضايفوا، وتعاقدوا وتعاهدوا، وتزاوروا وتناشدوا؛ وعقدوا الذمم، ونطقوا بالحكم؛ وقروا الرطاق ووصلوا العفاة، وزودوا السابلة، وأرشدوا الضلال، وقاموا بالحمالات وفكوا الأسرى، وتداعوا الجفلى، وتعافوا النقرى، وتنافسوا في أفعال المعروف؛ هذا وهم في مساقط رءوسهم، بين جبالهم ورمالهم، ومناشىء آبائهم وأجدادهم، وموالد أهلهم وأولادهم، على جاهليتهم الأولى والثانية، وقد رأيت حين هبت ريحهم وأشرقت دولتهم بالدعوة، وانتشرت دعوتهم بالملة، وعزت ملتهم بالنبوة، وغلبت نبوتهم بالشريعة، ورسخت شريعتهم بالخلافة، ونضرت خلافتهم بالسياسة الدينية والدنيوية، كيف تحولت جميع محاسن الأمم إليهم وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها، بل جاءتهم هذه المناقب والمفاخر، وهذه النوادر من المآثر عفواً، وقطنت بين أطناب بيوتهم سهواً رهواً؛ وهكذا يكون كل شيء تولاه الله بتوفيقه، وساقه إلى أهله بتأييده، وحلي مستحقيه باختياره؛ ولا غالب لأمر الله، ولا مبدل لحكم الله، ولذلك قال الله تعالى: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قديرٌ". ولله في خلقه أسرار، تتصرف بها دوائر الليل والنهار، وتذللها مجاري الأقدار، حتى ينتهى بمحبوبها ومكروهها إلى القرار.

عز إلهاً معبوداً، وجل رباً محموداً مقصوداً. وبعد، فالذي لاشك فيه من وصف العرب، ولا جاحد له من حالها، أنه ليس على وجه الأرض جيلٌ من الناس ينزلون القفر، وينتجعون السحاب والقطر؛ ويعالجون الإبل والخيل والغنم وغيرها، ويستبدون في مصالحهم بكل ما عز وهان، وبكل ما قل وكثر، وبكل ما سهل وعسر؛ ويرجون الخير من السماء في صوبها، ومن الأرض في نباتها؛ مع مراعاة الأوان بعد الأوان، وثقةً بالحال بعد الحال وتبصرةً فيما يفعل ويجتنب؛ ما للعرب فيما قدمنا وصفه، وكررنا شرحه من علمهم بالخصب والجدب، واللين والقسوة، والحر والبرد، والرياح المختلفة والسحائب الكاذبة، والمخايل الصادقة، والأنواء المحمودة والمذمومة، والأسباب الغريبة العجيبة.
وهذا لأنهم مع توحشهم مستأنسون، وفي بواديهم حاضرون، فقد اجتمع لهم من عادات الحاضرة أحسن العادات، ومن أخلاق البادية أطهر الأخلاق.
وهذا المعنى على هذا النظم قد عدمه أصحاب المدن وأرباب الحضر، لأن الدناءة والرقة والكيس والهين والخلابة والخداع والحيلة والمكر والخب تغلب على هؤلاء وتملكهم، لأن مدار أمرهم على المعاملات السيئة، والكذب في الحس، والخلف في الوعد.
والعرب قد قدسها الله عن هذا الباب بأسره، وجبلها على أشرف الأخلاق بقدرته؛ ولهذا تجد أحدهم وهو في بتٍ حافياً حاسراً يذكر الكرم، ويفتخر بالمحمدة، وينتحل النجدة، ويحتمل الكل، ويضحك في وجه الضيف ويستقبله بالبشر، ويقول: أحدثه إن الحديث من القرى ثم لا يقنع ببث العرف وفعل الخير والصبر على النوائب حتى يحض الصغير والكبير على ذلك ويدعو إليه، ويستنهضه نحوه، ويكلفه مجهوده وعفوه.
وقد قيل لرجل منهم في يوم شاتٍ وهو يمشي في سمل: أما تجد البرد يا أخا العرب? فقال: أمشي الخيزلي ويكفيني حسبي. والفارسي لا يحسن هذا النمط، ولا يذوق هذا المعنى ولا يحلم بهذه اللطيفة؛ وكذلك الرومي والهندي وغيرهما من جميع العجم.
ومما يدل على تحضرهم في باديتهم، وتبديهم في تحضرهم، وتحليهم بأشرف أحوال الأمرين، أسواقهم التي لهم في الجاهلية، مثل دومة الجندل بقرى كلب وهي النصف بين العراق والشام، كان ينزلها الناس أول يوم من شهر ربيع الأول، فيقيمون أسواقهم بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء؛ وكان يعشرهم أكيدر دومة، وربما غلبت على السوق كلب فيعشرهم بعض رؤساء كلب؛ فيقوم سوقهم إلى آخر الشهر، ثم ينتقلون إلى سوق هجر، وهو المشقر في شهر ربيع الآخر، فتقوم أسواقهم؛ وكان يعشرهم المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم، ثم يرتحلون نحو عمان، فتقوم سوقهم بديار دبا، ثم بصحار، ثم يرتحلون فينزلون إرم، وقرى الشحر فتقوم أسواقهم أياماً، ثم يرتحلون فينزلون عدن أبين، ومن سوق عدن تشتري اللطائم وأنواع الطيب، ولم يكن في الأرض أكثر طيباً، ولا أحذق صناعاً للطيب من عدن؛ ثم يرتحلون فينزلون الرابية من حضرموت، ومنهم من يجوزها ويرد صنعاء، فتقوم أسواقهم بها، ومنها كانت تجلب آلة الخرز والأدم والبرود، وكانت تجلب إليها من معافر، وهي معدن البرود والحبر ثم يرتحلون إلى عكاظ وذي المجاز في الأشهر الحرم، فتقوم أسواقهم بها، فيتناشدون ويتحاجون ويتحادون، ومن له أسير يسعى في فدائه، ومن له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة من بني تميم، وكان آخرهم الأقرع بن حابس؛ ثم يقفون بعرفة، ويقضون ما عليهم من مناسكهم؛ ثم يتوجهون إلى أوطانهم.
وهذه الأسواق كانت تقوم طول السنة، فيحضرها من قرب من العرب ومن بعد. هذا حديثهم، وهم همل لا عز لهم إلا بالسؤدد، ولا معقل لهم إلا السيف، ولا حصون إلا الخيل، ولا فخر إلا بالبلاغة.
ثم لما ملكوا الدور والقصور والجنان والأودية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبر والبحر، لم يقعدوا عن شأو من تقدم بآلاف سنين، ولم يعجزوا عن شيء كان لهم؛ بل أبروا عليهم وزادوا، وأغربوا وأفادوا؛ وهذا الحكم ظاهر معروف، وحاضر مكشوف؛ ليس إلى مرده سبيل ولا لجاحده ومنكره دليل.
 فليستحي الجيهان بعد هذا البيان والكشف والإيضاح، بالإنصاف من القذع والسفه اللذين حشا بهما كتابه، وليرفع نفسه عما يشين العقل، ولا تقبله حكام العدل؛ وصاحب العلم الرصين، والأدب المكين؛ لا يسلط خصمة على عرضه بلسانه، ولا يستدعي مر الجواب بتعرضه ويرضى بالميسور في غالب أمره؛ فإن العصبية في الحق ربما خذلت صاحبها وأسلمته؛ وأبدت عورته، واجتلبت مساءته؛ فكيف إذا كانت في الباطل ونعوذ بالله أن نكون لفضل أمة من الأمم جاحدين، كما نعوذ به أن نكون بنقص أمة من الأمم جاهلين.
فإن جاحد الحق يدل من نفسه على مهانة، وجاهل النقص يدل من نفسه على قصور؛ فهذا هذا؛ وفي الجملة المسلمة، والدعوة المرسلة، أن أهل البر وأصحاب الصحارى الذين وطأؤهم الأرض، وغطاؤهم السماء، هم في العدد أكثر وعلى بسيط الأرض أجول، ومن الترفه والرفاهية أبعد، وبالحول والقوة أعلق وإلى الفكرة والفطنة أفزع، وعلى المصالح والمنافع أوقع، ومن المخازي آنف وللقبائح أعيف؛ وهذا للدواعي الظاهرة، والحاجات الضرورية، والعلائق الحاضة على الألفة والمودة، والشدائد المؤذية، والعوارض اللازبة؛ ولهذا يقال: عيب الغني أنه يورث البلادة، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة؛ وهذا معنىً كريم، لا يقر به إلا كل نقاب عليم.
وقال الجيهاني أيضاً: مما يدل على شرفنا وتقدمنا وعزنا وعلو مكاننا، أن الله أفاض علينا النعم ووسع لدينا القسم وبوأنا الجنان والأرياف، ونعمنا وأترفنا. ولم يفعل هذا بالعرب، بل أشقاهم وعذبهم، وضيق عليهم وحرمهم، وجمعهم في جزيرة حرجة، ورقعة صغيرة، وسقاهم بأرنق ضاحٍ؛ وبهذا يعلم أن المخصوص بالنعمة والمقصود بالكرامة فوق المقصود بالإهانة.
فأطال هذا الباب بما ظن أنه قد ظفر بشيء لا جواب عنه، ولا مقابل له؛ ولو كان الأمر كما قال لما خفي على غيره وتجلى له، بل قد خصت العرب بعد هذا بأشياء تطول حسرة من فاتته عليها، ولا يفيد التفاته بالغيظ إليها؛ وقد دل كلامه على أنه جاهل بالنعمة، غافلٌ عما هو سر الحكمة.
وعنده أن الجاهل إذا لبس الثوب الناعم، وأكل الخبز الحواري وركب الجوادي، وتقلب على الحشية، وشرب الرحيق، وباشر الحسناء، هو أشرف من العالم إذا لبس الأطمار، وطعم العشب، وشرب الماء القراح، وتوسد الأرض، وقنع باليسير ورخي العيش، وسلا عن الفضول؛ هذا خطأ من الرأي، ومردود من الحكم، عند الله تعالى أولاً، ثم عند جميع أهل الفضل والحجا، وأصحاب التقى والنهى؛ وعلى طريقته أيضاً أن البصير أشرف من الأعمى، والغني أفضل من الفقير.
ألا يعلم أن المدار على العقل الذي من حرمه فقد أنقص من كل فقير، وعلى الدين الذي من عري منه فهو أسوأ حالاً من كل موسر؛ ونعمة الله على ضربين: أحد الضربين عم به عباده، وغمر بفضله خليقته، بدءاً بلا استحقاق وذلك أنه خلق ورزق وكفل وحفظ ونعش وكلأ وحرس وأمهل وأفضل ووهب وأجزل؛ وهذا هو العدل المخلوط بالإحسان، والتسوية المعمومة بالتفضل والقدرة المشتملة على الحكمة؛ والضرب الثاني هو الذي يستحق بالعمل والاجتهاد والسعي والارتياد، والاختبار والاعتقاد؛ ليكون جزاءً وثواباً، ولهذا محرم العاصي المخالف، وأنال الطائع الموافق؛ فقد بان الآن أن المدار ليس بالجنان والترفه، ولا بالذهب والفضة، ولا الوبر والمدر.
وقد مر هذا الكلام كله فليسكن من الجيهاني جأشه، وليفارقه طيشه؛ وليعلم أن من أنصف أعطى بيده، وسلم الفضل لأهله؛ فإن التواضع للحق رفعة والترفع بالباطل ضعة.

وههنا بقية ينبغي أن يتبصر فيها؛ من عرف النقص البحت، والنقص المشوب بالزيادة؛ والفضل الصرف، والفضل الممزوج بالنقيصة لم يجحد المغوي فضلاً، ولم يدع للعصبية المردية شرفاً، ولم ينكر الحسد مزية؛ والخلق كلهم في نعم الله تعالى مشتركون، وفي أياديه مغموسون وبمواهبه متفاضلون، وعلى قدرته متصرفون؛ وإلى مشيئته صائرون، وعن حكمته مخبرون، ولآلائه ذاكرون، ولنعمائه شاكرون، ولأياديه ناشرون، وعلى اختلاف قضائه صابرون، ولثوابه بالحسنات مستحقون، ولعقابه بالسيئات مستوجبون، ولعفوه برحمته منتظرون، والله خبيرٌ بما يعملون، وبصير بما يسرون وما يعلنون مع الجماعة، وأبو سليمان يقول: العرب أذهب مع صفو العقل؛ ولذلك هم بذكر المحاسن أبده، وعن أضدادها أنزه. ولو كانت رويتهم في وزن بديهتهم، كان الكمال؛ ولكن لما عز الكمال فيهم، عز أيضاً في غيرهم من الأمم، فالأمم كلها شرعٌ واحد في عدم الكمال إلا أنهم متفاضلون بعد هذا فيما نالوه بالخلقة الأولى، وبالاختيار الثاني؛ واختلفت أبصارهم في هذا الموضع، فأما ما منعه الإنسان في الأول فلا عتب عليه فيه، لأنه لا يقال للأعمى: لم لا تكون بصيراً، ولا يقال للطويل: لم لا تكون قصيراً وقد يقال للقصير: سدد طرفك، واكحل عينك، ومد ناظرك؛ كما يقال للطويل: تطامن، في هذا الزقاق حتى تدخل، وتقاصر حتى تصل؛ وأما ما لم يمنعه الإنسان في الأول، بل أعطيه ووهب له، فهو فيه مطلبٌ بما عليه وله كما أنه مطالب بما له وعليه.
وقال الجيهاني أيضاً: ليس للعرب كتاب إقليدس ولا المجسطي ولا الموسيقي ولا كتاب الفلاحة، ولا الطب ولا العلاج، ولا ما يجري في مصالح الأبدان، ويدخل في خواص الأنفس.
فليعلم الجيهاني أن هذا كله لهم بنوعٍ إلهي لا بنوع بشري، كما أن هذا كله لغيرهم بنوعٍ بشري لا بنوعٍ إلهي، وأعني بالإلهي والبشري الطباعي والصناعي؛ على أن إلهي هؤلاء قد مازجه بشرى هؤلاء، وبشرى هؤلاء قد شابه إلهي هؤلاء؛ ولو علم هذا الزاري لعلم أن المجسطي وما ذكره ليس للفرس أيضاً، وما عندي أنه مكابر فيدعي هذا لهم. فإن قال: هو لليونان، ويونان من العجم، والفرس من العجم، فأنا أخرج هذه الفضيلة من العجم إلى العجم فهذا منه حيفٌ على نفسه، وشهادةٌ على نقصه؛ لأنه لو فاخر يونان لم يستطع أن يدعي هذا الفرس، ولا يمكنه أن يقول: نحن أيضاً عجم، وفضيلتكم في هذه الكتب والصناعة متصلةٌ بنا، وراجعةٌ إلينا. ومتى قال جبه بالمكروه وقوبل بالقذع، وقيل له: صه، كما يقال للجاهل - إن لم تقل له: اخسأ، كما يقال - في كل الأحاديث، وإن أغفلته ظلمت نفسي؛ ومن حابى خصمه غلب.
قال القاضي أبو حامد المروروذي: لو كانت الفضائل كلها بعقدها وسمطها، ونظمها ونثرها، مجموعةً للفرس، ومصبوبةً على أرؤسهم، ومعلقةً بآذانهم، وطالعةً من جباههم؛ لكان لا ينبغي أن يذكروا شأنها، وأن يخرسوا عن دقها وجلها، مع نيكهم الأمهات والأخوات والبنات فإن هذا شر كريهٌ بالطباع، وضعيف بالسماع، ومردود عند كل ذي فطرة سليمة، ومستبشع في نفس كل من له جبلة معتدلة. قال: ومن تمام طغيانهم، وشدة بهتانهم، أنهم زعموا أن هذا بإذن من الله تعالى، وبشريعة أتت من عند الله، والله تعالى حرم الخبائث من المطعومات فكيف حلل الخبائث من المنكوحات?

قال: وكذب القوم، لم يكن زرادشت نبياً، ولو كان نبياً لذكره الله تعالى في عرض الأنبياء الذين نوه بأسمائهم وردد ذكرهم في كتابه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" لأنه لا كتاب لهم من عند الله منزل على مبلغ عنه. وإنما هو خرافة خدعهم بها زرادشت بقوة الملك الذي قبل ذلك منه وحمل الناس عليه طوعاً وكرهاً، وترغيباً وترهيباً؛ وكيف يبعث الله نبياً يدعو إلى إلهين اثنين? وهذا مستحيل بالعقل، وما خلق الله العقل إلا ليشهد بالحق للمحق والباطل للمبطل؛ ولو كان شرعاً لكان ذلك شائعاً عند أهل الكتابين، أعني اليهود والنصارى؛ وكذلك عند الصابئين، وهم كانوا أكثر الناس عنايةً بالأديان والبحث عنها، والتوصل إلى معرفة حقائقها، ليكونوا من دينهم على ثقة؛ فكيف صارت النصارى تعرف عيسى، واليهود تعرف موسى؛ ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم يذكرهما ويذكر غيرهما، كداود وسليمان ويحيى وزكريا، وغير هؤلاء، ولا يذكر زرادشت بالنبوة وأنه جاء من عند الله تعالى بالصدق والحق كما جاء موسى وعيسى.... لكني بعثت ناسخاً لكل شريعة، ومجدداً لشريعة خصني الله بها من بين العرب.
قال: وهذا بيانٌ نافع في كذبهم؛ وإنما جاءوا إلى وهيٍ فرقعوه، وإلى حرامٍ بالعقل فأباحوه، وإلى خبيثٍ بالطبع فارتكبوه وإلى قبيحٍ في العادة فاستحسنوه.
وقد وجدنا في البهائم ما إذا أنزى الفحل منها على أمة لم يطاوع، وإذا أكره وخدم وعرض غضب على أهله وند عنهم، وشرر عليهم؛ فما تقول في خلق لا ترضاه البهيمة، ولا تطاوعه فيه الطبيعة، بل يأباه حسه مع كلولة وتبرد شهوته مع اشتعالها، ويرضاه هؤلاء القوم مع عجبهم بعقولهم، وكبرهم في أنفسهم.
ولو كان زرادشت أقام لهم على هذه الخصلة اللئيمة والفعلة الذميمة كل آية وكل برهان، ونثر عليهم نجوم السماء، وأطلع لهم الشمس من المغرب، وفتت لهم الجبال، وغيض لهم البحار، وأراهم الثريا تمشي على الأرض تخترق السكك وتشهد له بالصدق، لكان من الواجب بالعقل وبالغيرة وبالحمية وبالأنفة وبالتقزز وبالتعزز ألا يجيبوه إلى ذلك، ويشكوا في كل آية يرون منه، ويقتلوه، وينكلوا به.
ولكن بمثل هذا العقل قبلوا من مزدك ما قبلوه مرة، ولو عاملوا زرادشت بما عاملوا به مزدك ما كان الأمر إلا واحداً، ولا كان الحق إلا منصوراً، ولا كان الباطل إلا مقهوراً، ولكن اتفق على مزدك ملك عاقل فوضع باطله، واتفق لزرادشت ملك ركيك فرفع باطله؛ وما نزع الله عنهم الملك إلا بالحق، كما قال تعالى: "فلما آسفونا انتقمنا منهم". ثم قال: وبعد، فكل شيء خارجٍ من الحكمة الإلهية والعقلية والطبيعية فهو ساقطٌ بهرج، ومردودٌ مرذول، إذا فعله جاهل عذر بالجهل، وإذا أتاه عالم عذل للعلم.
قال: وكانت العرب بهذا الخلق الذميم، وهذا الفعل اللئيم، لو فعلته أعذر، لأنهم أشد غلمة من غيرهم وأكثر تهيجاً، وأقوى على البضاع، وأوثب على النساءئ يدلك على هذا غزلهم وعشقهم ونظمهم ونثرهم وفراغهم وشهوتهم، وتراهم مع هذه الدواعي والبواعث لم يستحسنوا هذا ولم يفعلوه، ولو أكرههم على هذا مكره ودعاهم إليه داع لما أطاعوه، ولذلك لم ينجم منهم ناجم بالحيلة فدعا إلى هذا؛ ولو كان لكان أول من دق رأسه بالعمد، وبعج بطنه بالخنجر؛ وما منعهم من هذا إلا الأنفس الكريمة، والطباع المعتدلة، والشكائم الشديدة، والأرواح العيفة، والعادات الرضية، والضرائب الطيبة؛ وكان وأد البنات عندهم أنفى للمعاير، وأطرد للقبائح من هذا الذي استحسنه زرادشت وقبل منه الفرس، وهم يدعون الحكم والعلم والحزم والعزم، ولفرط جهلهم وغلبة شهوتهم غفلوا عما يجوز أن يكون الله سبحانه مبيحاً له أو حاظراً، أو مطلقاً أو مانعاً، أو محللاً أو محرماً؛ هيهات ما كلف الله أهل العقل القيام بالدين والتصفح للحق من الباطل إلا لما شرفهم به في العاجل، وعرضهم له في الآجل؛ والعاقبة للمتقين.

قال أبو الحسن الأنصاري - وكان حاضراً - الهند أوضح عذراً في هذا الحديث لأنهم جعلوه من باب القربة في بيوت الأصنام، وبلغوا مرادهم بهذه الخديعة، ولم ينسبوا إلى الله شيئاً منه، ولا استجازوا الكذب عليه، ولا علقوه أيضاً على نبي من عند الله، بل رأوه صواباً بالوضع ثم طابت أنفسهم من هذا الفعل بالمران والعادة. وبعد؛ فعقولهم مدخولة، والبارع منهم قليل، وهم إلى الإفك والوهم والسحر أميل، وفي أبوابها أدخل؛ ثم قال أبو الحسن: انظر إلى جهل زرادشت في هذا الحكم وإلى ضعف عقول الفرس في قبولهم منه هذا الفعل، وخير بينها وبين عقول العرب، فإنهم قالوا: اغتربوا لا تضووا.
واستفاض هذا منهم حتى سمع من صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الضوى مكروه؛ والعرب قالت هذا بالإلهام، لقرائحهم الصافية، وأذهانهم الواقدة، وطينتهم الحرة، وأعراقهم الكريمة، وعاداتهم السليمة: وإنما شعروا بهذا لأن الضوى الواصل إلى الأبدان هو سارٍ في العقول، ولكن الفرس عن هذا السر غافلون، ولا يفطن لهذا وأمثاله إلا الألمعيون الأحوذيون؛ ثم قال: أنشد الأصمعي عن العرب قول قائلهم في مدح صاحب له:

فتىً لم تلده بـنـت عـمٍ قـريبةٌ

 

فيضوى وقد يضوى رديد الأقارب

قال: وقالت العرب: أضواه حقه: إذا نقصه. قال: وقال آخر لولده: والله لقد كفيتك الضؤولة، واخترت لك الخؤولة.
وقال أيضاً: العرب تقول: ليس أضوى من القرائب، ولا أنجب من الغرائب. وقال الشاعر:

أنذرت من كان بعيد الهـم

 

تزويج أولاد بنات الـعـم

ليس بناجٍ من ضوى أو سقم

 

وأنت إن أطعمته لا ينمى

وقال الأسدي يفتخر:

ولست بضاويٍ تموج عظامـه

 

ولادته في خالد بعد خـالـد

تردد حتى عمـه خـال أمـه

 

إلى نسب أدنى من السر واحد

ثم قال: والعرب لم ترد بهذا إلا نقص الذهن والعقل، لأنها لو أرادت نقصان الجسم لكانت مخطئة، لأنهم يريدون سمانة الجسم مع السلامة والصلابة.
ثم قال: وعلى هذا طباع الأرض، ولذلك يقال: إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض، لأن الرياح إذا اختلفت حولت تراب أرضٍ إلى أرض، وإذا كان الاغتراب يؤثر من التراب إلى التراب، فبالحري أن يؤثر الإنسان في الإنسان بالاغتراب، لأن الإنسان أيضاً من التراب.
قال أبو حامد: فما ظنك بقوم يجهلون آثار الطبيعة، وأسرار الشريعة? ما أذلهم الله باطلاً، ولا سلبهم ملكهم ظالماً، ولا ضربهم بالخزي والمهانة إلا جزاءً على سيرتهم القبيحة، وكذبهم على الله بالجرأة والمكابرة، وما الله بظلام للعبيد.
فلما بلغ القول مداه قال: لله در هذا النفس الطويل والنفث الغزير! لقد كنت قرماً إلى هذا النوع من الكلام، ففرغ نفسك لرسمه في جزء لأنظر فيه، وأشرب النفس حلاوته، وأستنتج العقيم منه؛ فإن الكلام إذا مر بالسمع حلق، وإذا شارفه البصر بالقراءة من كتاب أسف؛ والمحلق بعيد المنال، والمسف حاضر العين، والمسموع إذا لم يملكه الحفظ تذكر منه الشيء بعد الشي بالوهم الذي لا انعقاد له، والخيال الذي لا معرج عليه. فقلت: أفعل سامعاً مطيعاً - إن شاء الله -.

الليلة السابعة

ولما عدت إليه في مجلس آخر، قال: سمعت صياحك اليوم في الدار مع ابن عبيد، ففيم كنتما? قلت: كان يذكر أن كتابه الحساب أنفع وأفضل وأعلق بالملك، والسلطان إليه أحوج، وهو بها أغنى من كتابة البلاغة والإنشاء والتحرير، فإذا الكتابة الأولى جد، والأخرى هزل؛ ألا ترى أن التشادق والتفهيق والكذب والخداع فيها أكثر؛ وليس كذلك الحساب والتحصيل والاستدراك والتفصيل. قال: وبعد هذا فتلك صناعةٌ معروفة بالمبدأ، موصولةٌ بالغاية، حاضرة الجدوى، سريعة المنفعة؛ والبلاغة زخرفة وحيلة، وهي شبيهة بالسراب، كما أن الأخرى شبيهة بالماء. قال: ومن خساسة البلاغة أن أصحابها يسترقعون ويستحمقون؛ وكان الكتاب قديماً في دور الخلفاء ومجالس الوزراء يقولون: اللهم إنا نعوذ بك من رقاعة المنشئين، وحماقة المعلمين، وركاكة النحويين، والمنشىء والمعلم والنحوي إخوة وإن كانوا لعلات؛ والآفة تشملهم والعادة تجمعهم، والنقص يغمرهم، وإن اختلفت منازلهم، وتباينت أحوالهم.

قال: ولو لم يكن من صنعة الإنشاء إلا أن المملكة العريضة الواسعة يكتفى فيها بمنشىء واحد، ولا يكتفى فيها بمائة كاتب حساب.... وإذا كانت الحاجة إلى هذه أمس، كانت الأخرى في نفسها أخس؛ وبعد، فمصالح أحوال العامة والخاصة معلقة بالحساب؛ على هذه الجديلة والوتيرة يجري الصغار والكبار والعلية والسفلة، وما زال أهل الحزم والتجارب يحثون أولادهم ومن لهم به عناية على تعلم الحساب، ويقولون لهم: هو سلة الخبز. وهذا كلام مستفيض؛ ومن عبر عما في نفسه بلفظ ملحونٍ أو محرف أو موضوع غير موضعه وأفهم غيره، وبلغ به إرادته، وأبلغ غيره، فقد كفى؛ والزائد على الكفاية فضل والفضل يستغنى عنه كثيراً، والأصل يفتقر إليه شديداً، قال: ومن آفات هذه الكتابة أن أصحابها يقرفون بالريبة، ويرمون بالآفة، كآل الحسن بن وهب وآل ابن ثوابة. قال: هذه ملحمة منكرة؛ فما كان من الجواب? قلت: ما قام من مجلسه إلا بعد الذل والقماءة، وهكذا يكون حال من عاب القمر بالكلف، والشمس بالكسوف، وانتحل الباطل ونصر المبطل، وأبطل الحق وزرى على المحق. قلت: أيها الرجل، قولك هذا كان يسلم لو كان الإنشاء والتحرير والبلاغة بائنةً من صناعة الحساب والتحصيل والاستدراك وعمل الجماعة وعقد المؤامرة. فأما وهي متصلة بها وداخلة في جملتها ومشتملة عليها وحاوية لها، فكيف يطرد حكمك وتسلم دعواك? ألا تعلم أن أعمال الدواوين التي ينفرد أصحابها فيها بعمل الحساب فقيرة في إنشاء الكتب في فنون ما يصفونه ويتعاطونه؛ بل لا سبيل لهم إلى العمل إلا بعد تقدمة هذه الكتب التي مدارها على الإفهام البليغ والبيان المكشوف والاحتجاج الواضح، وذلك يوجد من الكاتب المنشىء الذي عبته وعضضته، وهذه الدواوين معروفة، والأعمال فيها موصوفة؛ وأنا أحصيها لك كي تعلم أنك غالط وعن الصواب فيها منحرف.
فمنها ديوان الجيش، وديوان بيت المال، وديوان التوقيع والدار، وديوان الخاتم، وديوان الفض، وديوان النقد والعيار ودور الضرب، وديوان المظالم وديوان الشرطة والأحداث؛ هذا إلى توابع هذه الدواوين مثل باب العين والمؤامرات، وباب النوادر والتواريخ، وإدراة الكتب ومجالس الديوان وقبل وبعد، كما يلزم كاتب الحساب أن يعرف وجوه الأموال حتى إذا جباها وحصلها عمل الحساب أعماله فيها، فلا يمكنه أن يجبي إلا بالكتب البليغة والحجج اللازمة واللطائف المستعملة، ومن تلك الوجوه الفيء، وهو أرض العنوة وأرض الصلح وإحياء الأرض والقطائع والصفايا والمقاسمة والوضائع وجزية رءوس أهل الذمة وصدقات الإبل والبقر والغنم وأخماس الغنائم والمعادن والركاز والمال المدفون، وما يخرج من البحر وما يؤخذ من التجار إذا مروا بالعاشر واللقطة والضالة وميراث من لا وارث له ومال الصدقة؛ إلى غير ذلك من الأمور المحتاجة إلى المكاتبات البالغة على الرسوم المعتادة والعادات الجارية، كعهد ينشأ في إصلاح البريد وتقسيط الشرب، وكتاب في العمارة وإعادة ما نقص منها، وفي حزر الغلة والدياس، وفي الدوالي والدواليب والغرافات، وفي القلب والقسمة، وفي تقدير الخضر المبكرة وفي المساحة وفي الطراز، وفي الجوالي، وفي قبض فرائض الصدقات، وفي افتتاح الخراجات، إلى غير ذلك من كتب المحاسبين.

فإن قلت: هذا كله مستغنىً عنه كابرت وبهت، لأن مدار المال ودروره، وزيادته ووفوره على هذه الدواوين التي إما أن يكون حظ البلاغة فيها أكثر، وإما أن يكون أثر الحساب فيها أظهر، وإما أن يتكافآ؛ فعلى جميع الأحوال لا يكون الكاتب كاملاً، ولا لاسمه مستحقاً، إلا بعد أن ينهض بهذه الأثقال، ويجمع إليها أصولاً من للفقه مخلوطة بفروعها، وآيات من القرآن مضمومةً إلى سعته فيها، وأخباراً كثيرة مختلفة في فنون شتى لتكون عدة عند الحاجة إليها، مع الأمثال السائرة والأبيات النادرة؛ والفقر البديعة؛ والتجارب المعهودة، والمجالس المشهودة، مع خط كتبر مسبوك، ولفظٍ كوشيٍ محوك؛ ولهاذ عز الكامل في هذه الصناعة، حتى قال أصحابنا: ما نظن أنه اجتمع هذا كله إلا لجعفربن يحيى فإن كتابته كانت سودايةً، وبلاغته سحبانيةً، وسياسته يونانية، وآدابه عربية، وشمائله عراقية؛ أفلا يرى كيف غرق الحساب في غمار هذه الأبواب? ثم اعلم أن البليغ مشتملٍ بلاغته من العقل، ومأخذه فيها من التمييز الصحيح، وليس كذلك الحساب في متناوله فلو ظن ظان بأن مدار الملك على الحساب - فهو صحيح - ولكن بعد بلاغة المنشىء، لأن السلطان يأمر وينهى ويلاطف ويخاطب ويحتج وينصف ويوعد ويعد ويضمن ويمني ويعلق الأمل ويؤكد الرجاء ويحسم المادة الضارة ويذيق الرعية حلاوة العدل ويجنبهم مرارة الجور، ثم يجبي، فإذا جبى احتاج إلى الحساب حتى يكون بالحاصل عالماً، ثم يتقدم بتوزيع ذلك على الحساب حتى يكون من الغلط آمناً، فانظر إلى المنزلتين كيف اختلفتا? وكيف حصلت المزية لإحداهما؛ ولو أنصفت لعلمت أن الصناعة جامعة بين الأمرين، أعني الحساب والبلاغة؛ والإنسان لا يأتي إلا صناعة فيشقها نصفين ويشرف أحد النصفين على الآخر.
وأما قولك: إحدى الصناعتين هزلٌ والأخرى جد فبئسما سولت لك نفسك على البلاغة، هي الجد، وهي الجامعة لثمرات العقل، لأنها تحق الحق وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه؛ ثم تحقيق الباطل وإبطال الحق لأغراض تختلف، وأغراض تأتلف، وأمورٍ لا تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشر، وإباءٍ وإذعان، وطاعةٍ وعصيان، وعدلٍ وعدول، وكفر وإيمان، والحاجة تدعو إلى صانع البلاغة وواضع الحكمة وصاحب البيان والخطابة؛ وهذا هو حد العقل والآخر حد العمل.
وأما قولك: الإنشاء صناعة مجهولة المبدأ، والحساب معروف المبدأ فقد خرفت، لأن مبدأها من العقل، وممرها على اللفظ، وقرارها في الخط؛ وأنت إذا قلت هذا دللت من نفسك على أنه ليس لك ما تبصر به هذا المبدأ الشريف وهذا الأول اللطيف.
وأما قولك: والبلاغة زخرفة وهي شبيهة بالسراب فقد أوضحنا لك فيه ما كفى، فإن لم يكف فأنت محتاج إلى بينة أخرى.
وأما قولك: إن أصحابها يسترقعون فهذا شنعٌ من القول، ولو عرفت الصدق فيه لم تنبس به ولم تنطق بحرف منه، فإن فيه زرايةً على السلف الصالح والصدر الأول، ولو وجب أن يسترقع البليغ إذا كان عاقلاً، لوجب أن يستعقل العيي إذا كان أحمق؛ وهذا خلف.
وأما قولك: المنشىء والمعلم والنحوي إخوة في الركاكة فيما يتعلم الناس إلا من المعلم والعالم والنحوي وإن ندر منهم واحد قليل البضاعة من الحق.
وأما قولك: إن المملكة تكتفي بمنشىء واحد فقد صدقت، وذلك أن هذا الواحد في قوته يفي بآحاد كثيرة، وهؤلاء الآحاد ليس في جميعهم وفاء بهذا الواحد، وهذا عليك لا لك. لكن بقي أن تفهم أنك محتاج إلى الأساكفة أكثر مما تحتاج إلى العطارين، ولا يدل هذا على أن الإسكاف أشرف من العطار، والعطار دون الإسكاف؛ والأطباء أقل من الخياطين، ونحن إليهم أحوج، ولا يدل على أن الطبيب دون الخياط.
وأما قولك: ما زال الناس يحثون أولادهم على تعلم الحساب ويقولون: هو سلة الخبز فهو كما قلت، لأن الحاجة إليه عامة للكابر والصغار؛ وأشرف الصناعات يحتاج إليها أشرف الناس، وأشرف الناس الملك، فهو محتاج إلى البليغ والمنشىء والمحرر، لأنهلسانه الذي به ينطق، وعينه التي بها يبصر، وعيبته التي منها يستخرج الرأي ويستبصر في الأمر، ولأنه بهذه الخاصة لا يجوز أن يكون له شريك، لأنه حامل الأسرار، والمحدث بالمكنونات، والمفضي إليه ببنات الصدور.

وأما قولك: من عبر عما في نفسه بلفظ ملحون أو محرف وأفهم غيره فقد كفى فكيف يصح هذا الحكم ويقبل هذا الرأي? والكلام يتغير المراد فيه باختلاف الإعراب، كما يتغير الحكم فيه باختلاف الأسماء، وكما يتغير المفهوم باختلاف الأفعال؛ وكما ينقلب المعنى باختلاف الحروف؛ ولقد قال رجل بالري كان نبيلاً في حاله جليلاً في مرتبته عظيماً عند نفسه: اقعد حتى تتغذى بنا. وهو يريد: حتى نتغذى معنا؛ فانظر إلى هذا المحال الذي ركبه بلفظه وإلى المراد الذي جانبه بجهله؛ ولهذا نظائر غير خافية عليك ولا ساقطةٍ دونك وكفى بالبلاغة شرفاً أنك لم تستطع تهجينها إلا بالبلاغة، ولم تهتد إلى الكلام عليها إلا بوتها؛ فانظر كيف وجدت في استقلالها بنفسها ما يقلها ويقل غيرها؛ وهذا أمر بديع وشأنٌ عجيب.
وأما قولك: ومن آفاتها أن أصحابها يقرفون بالريبة وينالون بالعيب فهذا ما لا يستحق الجواب، وما يضر الشمس نباح الكلاب؛ وصيانة اللسان عن هذا النوع أحسن؛ قال الله تعالى: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً"؛ وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لو كان المرء أقوم من قدحٍ لوجد له غامر. وآل ابن وهب وابن ثوابة كانوا أنبل وأفضل وأعقل من أن يظن بهم ما لا يظن بخساس العبيد وسفهاء الناس وداصة الرعية وسفلة العامة؛ على أنا ما سمعنا هذا إلا في مجلس ابن عباد، منه وممن كان يخبط في هواه، ويتحرى بمثل هذه الأحاديث رضاه؛ وحسده لهم في صناعتهم يبعثه على هذه الأكاذيب عليهم؛ فالعجب أنه يظن أن كذبه إلى غيره ينفي الصدق عن نفسه؛ ولو نزه لسانه ومجلسه ومذهبه أبوته لكان أولى به وأزين له، ولكن النعمة والقدرة إذا عدمتا عقلاً سائساً وحزماً حارساً وديناً متيناً وطريقاً قويماً أوردتا ولم تصدرا وخذلتا ولم تنصرا؛ ونعوذ بالله من نعمة تحوز بلاءً، ومرحباً ببلاءٍ يورث يقظة ويكون تمحيصاً لما نقص من التقصير؛ ولكن من هذا الذي يشرب فلا يسكر ولا يثمل? ومن هذا الذي إذا سكر عقل? ومن هذا الذي إذا صحا لا يعتقب من رابه خماراً يصدع الرأس ويمكن الوسواس? فقال: هذه جملة قامعة لمن ادعى دعواه أو نحا منحاه؛ وأنى لك هذا? لم لا تداخل صاحب ديوان ولم ترضى لنفسك بهذا اللبوس? فقلت: أنا رجلٌ حب السلامة غالبٌ علي، والقناعة بالطفيف محبوبة عندي. فقال: كنيت عن الكسل بحب السلامة، وعن الفسولة بالرضا باليسير، قلت: إذا كنت لا أصل إلى السلامة إلا بالفسولة، ولا أتطعم الراحة إلا بالكسل، فمرحباً بهما.
فقال: لكل إنسان رأيٌ واختيار وعادة ومنشأ ومألوف وقرناء متى زحزح عنها قلق، ومتى أريغ على سواها فرق؛ أظن أنه قد نصف الليل. قلت: لعله. قال: في الدعة؛ قد خبأت لك مسألة، وسألقيها عليك بعدها - إن شاء الله تعالى - وانصرفت.

الليلة الثامنة

وقال لي مرة أخرى: أوصل وهب بن يعيش الرقي اليهودي رسالةً يقول في عرضها بعد التقريظ الطويل العريض: إن هنا طريقاً في إدراك الفلسفة مذللةً مسلوكةً مختصرة فسيحة، ليس على سالكها كد ولا شق في بلوغ ما يريد من الحكمة ونيل ما يطلب من السعادة وتحصيل الفوز في العاقبة؛ وإن أصحابنا طولوا وهولوا وطرحوا الشوك في الطريق، ومنعوا من الجواز عليه غشاً منهم وبخلاً ولؤم طباع وقلة نصح وإتعاباً للطالب وحسداً للراغب، وذلك أنهم اتخذوا المنطق والهندسة وما دخل فيهما معيشةً ومكسبة، ومأكلة ومشربة، فصار ذلك كسور من حديد لطلاب الحكمة والمحبين للحقيقة والمتصفحين لأثناء العالم وكلاماً هذا معناه، وإلى هذا يرجع مغزاه.
فكان من الجواب: قد عرفت مذهب ابن يعيش في هذا الباب، وهو جاري، وكتب هذه الرسالة على هذا الطراز بالأمس إلى الملك السعيد سنة سبعين، وتقرب بها، ونفعته بالمسألة والتفقد له، فإنه شديد الفقر، ظاهر الخصاصة، لاصق بالدقعاء؛ وللذي قاله وادعاه، وقصده وانتحاه، وجه واضح وحجة ظاهرة؛ وللذي قاله أصحابنا - أعني مخالفيه - وجهٌ أيضاً وتأويل وللقولين أنصار وحماة، وحفظة ورعاة.

قال: هات - على بركة الله - فإني أحب أن أسمع في هذا الخطب كل ما فيه وأكثر ما يتصل به؛ فكان من الجواب أن ابن يعيش يريد بهذه الخطبة أن عمر الإنسان قصير، وعلم العالم كثير، وسره مغمور؛ وكيف لا يكون كذلك وهو ذو صفائح مركبة بالوضع المحكم، وذو نضائد مزينة بالتأليف المعجب المتقن؛ والإنسان الباحث عنه وعما يحتويه ذو قوى متقاصرة، وموانع معترضة، ودواعٍ ضعيفة، وإنه مع هذه الأحوال منتبه بالحس، حالمٌ بالعقل، عاشقٌ للشاهد، ذاهل عن الغائب، مستأنسٌ بالوطن الذي ألفه ونشأ فيه، مستوحشٌ من بلد لم يسافر إليه ولم يلم به وإن كان صدر عنه، فليس له بذلك معرفة باقية ولا ثقةٌ تامة، وإن الأولى بهذا الإنسان المنعوت بهذا الضعف والعجز أن يلتمس مسلكاً إلى سعادته ونجاته قريباً ويعتصم بأسهل الأسباب على قدر جهده وطوقه؛ وإن أقرب الطرق وأسهل الأسباب هو في معرفة الطبيعة والنفس والعقل والإله تعالى، فإنه متى عرف هذه الجملة بالتفصيل، واطلع على هذا التفصيل بالجملة، فقد فاز الفوز الأكبر ونال الملك الأعظم، وكفى مؤونة عظيمة في قراءة الكتب الكبار ذوات الورق الكثير، مع العناء المتصل في الدرس والتصحيح والنصب في المسألة والجواب، والتنقير عن الحق والصواب؛ وهذا الذي قاله ابن يعيش ليس بحيف ولا خارجٍ عن حومة الحق، وإن كان الأمر فيه أيضاً صعباً وشاقاً وهائلاً وعاملاً، ولكن ليس لكل أحد هذه القوة الفائضة، وهذه الخصوصية الناهضة؛ وهذا الاستبصار الحسن، وهذا الطبع الوقاد، والذهن المنقاد، والقريحة الصافية والاستبانة والتأمل، لأن هذه القوة إلهية، فإن لم تكن إلهية فهي ملكية؛ وإن لم تكن ملكية فهي في أفق البشرية؛ وليس يوجد صاحب هذا النعت إلا في الشاذ النادر، وفي دهر مديدٍ بين أمة جمة العدد؛ والفائق من كل شيء والبائن من كل صنف عزيزٌ في هذا العالم الوحشي، كما أن الرديء والفاسد معدوم في هذا العالم الإلهي، ويمكن أن يقال بالمثل الأدنى: إن من يتكلم بالإعراب والصحة ولا يلحن ولا يخطىء ويجري على السليقة الحميدة والضريبة السليمة، قليل أو عزيز، وإن الحاجة شديدة لمن عدم هذه السجية وهذا المنشأ إلى أن يتعلم النحو ويقف على أحكامه، ويجري على منهاجه، ويفي بضروطه في أسماء العرب وأفعالها وحروفها وموضوعاتها ومستعملاتها ومهملاتها؛ ومتى اتفق إنسانٌ بهذه الحلية وعلى هذا النجار، فلعمري إنه غني عن تطويل النحويين كما يستغني قارض الشعر بالطبع عن علم العروض، وهكذا يستغني صاحب تلك القوة التي أشار إليها ابن يعيش عن ذلك، ولكن أين ذاك الفرد والشاذ والنادر? فإن حضر فما تفعل معه إلا أن تقلده وتأخذ عنه وتتبعه.
وإنما المدار على أن تكون أنت بهذا الكمال حائزاً لهذه الغاية، ولا سبيل لك إليها من تلقاء نفسك، وإنما هو شيء يأتي من تلقاء غيرك، فإذن بالضرورة وبالواجب ينبغي أن تخطو على آثار المنطقيين والطبيعيين والمهندسين بالزحف والعناء والتكلف الدءوب حتى تصير متشبهاً بذلك الرجل الفاضل والواحد الكامل والبديع النادر؛ فقد بان من هذا القدر صواب ما أشار إليه ابن يعيش وانكشف أيضاً وجه ما حث عليه مخالفوه؛ ولا عيب على المنقوص أن يطلب الزيادة ببذل المجهود، وإن الكامل مربوط بما منح من العطية من غير طلب.
وأما قوله في صدر كلامه: إن القوم صدوا عن الطريق وطرحوا الشوك فيه، واتخذوا نشر الحكمة فخاً للمثالة العاجلة، فما أبعد، بل قارب الحق فإن متى كان يملي ورقةً بدرهم مقتدريٍ وهو سكران لا يعقل، ويتهكم، وعنده أنه في ربح، وهو من الأخسرين أعمالاً، الأسفلين أحوالاً.
ثم إني أيها الشيخ - أحياك الله لأهل العلم وأحيى بط طالبيه - ذكرت للوزير مناظرةً جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد وأبي بشر متى واختصرتها؛ فقال لي: اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه بين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه، وتوعى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه. فكتبت: حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة. فأما علي بن عيسى الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة.

لما انعقد المجلس سنة ست وعشرين وثلاثمائة، قال الوزير ابن الفرات للجماعة - وفيهم الخالدي وابن الأخشاد والكتبي وابن أبي بشر وابن رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى الجراح وابن فراس وابن رشيد وابن عبد العززي الهاشمي وابن يحيى العلوي ورسول ابن طغج من مصر والمرزباني صاحب آل سامان -: ألا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق، فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، فأطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه. فأحجم القوم وأطرقوا قال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه وإني لأعدكم في العلم بحاراً، وللدين وأهله أنصاراً، وللحق وطلابه مناراً؛ فما هذا الترامز والتغامز اللذان تجلون عنهما? فرفع أبو سعيد السيرافي في رأسه فقال: اعذر أيها الوزير، فإن العلم المصون في الصدر غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الحادة والألباب الناقدة؛ لأن هذا يستصحب الهيبة، والهيبة مكسرة، ويجتلب الحياء، والحياء مغلبة؛ وليس البراز في معركة خاصة كالمصاع في بقعة عامة.
فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار في نفسك راجع إلى الجماعة بفضلك.
فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما رسمه هجنة، والاحتجاز عن رأيه إخلاد إلى التقصير؛ ونعوذ بالله من زلة القدم، وإياه نسأل حسن المعونة في الحرب والسلم؛ ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به? فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سننٍ مرضيٍ وطريقة معروفة.
قال متى: أعني به أنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان، والشائل من الجانح.
فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية؛ وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعق إذا كنا نبحث بالعقل؛ وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن، فمن لك بمعرفة الموزون أيما هو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص? فأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها؛ فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك، إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول:

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

وبعد، فقد ذهب عليك شيء هاهنا، لي كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن، وفيها ما يكال، وفيها ما يذرع، وفيها ما يمسح وفيها ما يحرز وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية، فإنه على ذلك أيضاً في المعقولات المقررة؛ والإحساسات ظلال العقول تحكيها بالتقريب والتبعيد، مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة. ودع هذا؛ إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضياً وحكماً لهم وعليهم، ما شهد لهم به قبلوه، وما أنكره رفضوه? قال متى: إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة؛ والناس في المعقولات سواء ألا ترى أن أربعةً وأربعة ثمانية سواءٌ عند جميع الأمم، وكذلك ما أشبهه.

قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة وأنهما ثمانية، زال الاختلاف وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا، ولقد موهت بهذا المثال، ولكم عادة بمثل هذا التمويه؛ ولكن مع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة? قال: نعم. قال: أخطأت، قل في هذا الموضع: بلى. قال: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا. قال: أنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها? وقد عفت منذ زمان طويل، وباد أهلها، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها؛ على أنك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغةٍ أخرى سريانية، ثم من هذه إلى أخرى عربية? قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدت المعاني، وأخلصت الحقائق.
قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقومت وما حرفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام - وإن كان هذا لا يكون، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني - فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.
قال متى: لا، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصنائع، ولم نجد هذا لغيرهم.
قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى، فإن علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم، ولهذا قال القائل:

العلم في العالم مبثوث

 

ونحوه العاقل محثوث

وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جدد الأرض؛ ولهذا غلب علمٌ في مكان دون علم، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة؛ وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة؛ ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفةً من بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة، والفطنة الظاهرة، والبنية المخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا لما قدروا، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم، والحق تكفل بهم، والخطأ تبرأ منهم؛ والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم، والرذائل بعدت من جواهرهم وعروقهم؛ وهذا جهلٌ ممن يظنه بهم، وعنادٌ ممن يدعيه لهم؛ بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء، ويعلمون أشياء ويجهلون أشياء، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال؛ وليس واضع المنطق يونان بأسرها، إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده؛ وليس هو حجةً على هذا الخلق الكثير والجم الغفير، وله مخالفون منهم ومن غيرهم؛ ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخٌوطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه? هيهات هذا محال، ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان عليه قبل منطقه؛ فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع لأنه منعقد بالفطرة والطباع؛ وأنت لو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها، وتجارينا فيها، وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها، لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان.

وها هنا مسألة، تقول: إن الناس عقولهم مختلفة، وأنصباؤهم منها متفاوتة. قال: نعم. قال: وهذا الاختلاف والتفاوت بالطبيعة أو بالاكتساب? قال: بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون هاهنا شيء يرتفع به هذا الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي? قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً. قال أبو سعيد: فهل وصته بجواب قاطع وبيانٍ ناصع? ودع هذا؛ أسألك عن حرف واحد، وهو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل؛ فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه، وهو الواو ما أحكامه? وكيف مواقعه? وهل هو على وجه أو وجوه? فبهت متى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عثر النحوي بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.
فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن الكلام والنطق واللغة واللفظ والإفصاح والإعراب والإبانة والحديث والإخبار والاستخبار والعرض والتمني والنهي والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة، ألا ترى أن رجلاً لو قال: نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق، وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح، أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ، لكان في جميع هذا محرفاً ومناقضاً وواضعاً للكلام في غير حقه، ومستعملاً اللفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره؛ والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية والمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي؛ ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان، لأن الزمان يقفو أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان، لأن مستملى المعنى عقل، والعقل إلهي؛ ومادة اللفظ طينية، وكل طيني متهافت؛ وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار، ويسلم لك ذلك بمقدار؛ وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضاً من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة.
فقال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان.
قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها؛ وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات، وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة؛ على أن ها هنا سراً ما علق بك، ولا أسفر لعقلك؛ وهو أن تلعم أن لغة من اللغات لا تطابق لغةً أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها، في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها، وتشديدها وتخفيفها، وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها، ووزنها وميلها، وغير ذلك مما يطول ذكره؛ وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يشك في صوابه ممن يرجع إلى مسكةٍ من عقل أو نصيبٍ من إنصاف، فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف? بل أنت إلى تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى تعرف المعاني اليونانية؛ على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية، كما أن اللغات تكون فارسية وعربية وتركية؛ ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، فلم يبق إلا أحكام اللغة، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطوطاليس بها، مع جهلك بحقيقتها? وحدثني عن قائل قال لك: حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قومٍ كانوا قبل واضع المنطق، أنظر كما نظروا، وأتدبر كما تدبروا، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد. ما تقول له? أتقول: إنه لا يصح له هذا الحكم ولا يستتب هذا الأمر، لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التي عرفتها أنت? ولعلك تفرح بتقليده لك - وإن كان على باطل - أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على حق؛ وهذا هو الجهل المبين، والحكم المشين.

ومع هذا، فحدثني عن الواو ما حكمه? فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً، وأنت تجهل حرفاً واحداً في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان، ومن جهل حرفاً أمكن أن يجهل حروفاً جاز أن يجهل اللغة بكمالها، فإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها، فلعله يجهل ما يحتاج إليه، ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه. وهذه رتبة العامة أو رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير؛ فلم يتأبى على هذا ويتكبر، ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان? وإنما سألتك عن معاني حرف واحد، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها، وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق، والتي لها بالتجوز؛ سمعتكم تقولون: إن في لا يعرف النحويون مواقعها، وإنما يقولون: هي للوعاء كما يقولون: إن الباء للإلصاق؛ وإن في تقال على وجوه: يقال الشيء في الإناء والإناء في المكان و السائس في السياسة و السياسة في السائس.
أترى أن هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها? ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب? فهذا جهلٌ من كل من يدعيه، وخطلٌ من القول الذي أفاض فيه؛ النحوي إذا قال في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح، وكني مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل؛ ومثل هذا كثير، وهو كافٍ في موضع التكنية.
فقال ابن الفرات: أيها الشيخ الموفق، أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون أشد في إفحامه، وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه، ومع هذا فهو مشنع به.
فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع: منها معنى العطف في قولك: أكرمت زيداً وعمراً ومنها القسم في قولك: والله لقد كان كذا وكذا ومنها الاستئناف في قولك: خرجت وزيد قائم لأن الكلام بعده ابتداء وخبر ومنها معنى رب التي هي للتقليل نحو قولهم: وقاتم الأعماق خاوي المخترق ومنها أن تكون أصلية في الاسم، كقولك: واصلٌ واقدٌ وافدٌ، وفي الفعل كذلك، كقولك: وجل يوجل؛ ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله عز وجل: "فلما أسما وتله للجبين وناديناه"، أي ناديناه؛ ومثله قول الشاعر:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

المعنى: انتحى بنا؛ ومنها معنى الحال في قوله عز وجل: "ويكلم الناس في المهد وكهلاً" أي يكلم الناس في حال كهولته؛ ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر، كقولك: استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة.
فقال ابن الفرات: لمتى: يا أبا بشر: أكان هذا في نحوك.
ثم قال أبو سعيد: دع هذا، ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي، ما تقول في قول القائل: زيد أفضل الإخوة? قال: صحيح. قال: فما تقول إن قال زيد أفضل إخوته? قال: صحيح. قال: فما الفرق بينهما مع الصحة فبلح وجنح وغص بريقه.
فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة؛ المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها؛ والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضاً ذاهلاً عن وجه بطلانها.
قال متى: بين لي ما هذا التهجين? قال أبو سعيد: إذا حضرت العسة استفدت، ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس، مع من عادته التمويه والتشبيه؛ والجماعة تعلم أنك أخطأت، فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ دون المعنى، والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ? هذا كان يصح لو أن المنطقي كان يسكت ويجيل فكره في المعاني، ويرتب ما يريد بالوهم السانح والخاطر العارض والحدس الطارىء؛ فأما وهو يريغ أن يبرر ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر، فلابد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده، ويكون طباقاً لغرضه، وموافقاً لقصده.
قال ابن الفرات لأبي سعيد: تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرةً لأهل المجلس، والتبكيت عاملاً في نفس أبي بشر.
فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال مل.
فقال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة؛ فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر.
 فقال أبو سعيد: إذا قلت: زيد أفضل إخوته لم يجز، وإذا قلت: زيد أفضل الإخوة جاز؛ والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيدٌ خارج عن جملتهم. والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل فقال: من إخوة زيد. لم يجز أن تقول: زيد وعمرو وبكر وخالد وإنما تقول: بكر وعمرو وخالد ولا يدخل زيدٌ في جملتهم، فإذا كان زيد خارجاً عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن تقول: أفضل إخوته، كما لم يجز أن تقول: إن حمارك أفره البغال لأن الحمير غير البغال، كما أن زيداً غير إخوته، فإذا قلت: زيد خير الإخوة جاز، لأنه أحد الإخوة، والاسم يقع عليه وعلى غيره، فهو بعض الإخوة، ألا ترى أنه لو قيل: من الإخوة? عددته فيهم، فقلت: زيد وعمرو وبكر وخالد فيكون بمنزلة قولك: حمارك أفره الحمير لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير. فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس، فتقول: زيد أفضل رجل وحمارك أفره حمار فيدل رجل على الجنس كما دل الرجال؛ وكما في عشرين درهماً ومائة درهم.
فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار.
فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك، وإن زاغ شيء عن هذا النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد، أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم. فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلم لهم ومأخوذ عنهم، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم، فترجموا لغةً هم فيها ضعفاء ناقصون. وجعلوا تلك الترجمة صناعة، وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.
ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال: أما تعرف يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب، وتقول بالمثل: هذا ثوب والثوب اسم يقع على أشياء بها صار ثوباً، لأنه نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دون لحمته ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته ورقة سلكه كرقة لفظه، وغلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كله ثوب، ولكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه.
قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه، في المنطق الذي ينصره، والحق الذي لا يبصره.
قال أبو سعيد: ما تقول في رجل يقول: لهذا على درهم غير قيراط؛ ولهذا الآخر على درهم غير قيراط. قال: ما لي علم بهذا النمط. قال: لست نازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق، ها هنا ما هو أخف من هذا، قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان، وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغان وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين بين هذه المعاني التي تضمنها لفظٌ لفظ.
قال متى: لو نثرت أنا أيضاً عليك من مسائل المنطق أشياء لكان حالك كحالي.
قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت، ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً، وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متصلاً باللفظ ولكن على وضعٍ لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها.
ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب والآلة والسلب والإيجاب والموضوع والمحمول والكون والفساد والمهمل والمحصور وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العي أقرب، وفي الفهاهة أذهب.
ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقصٍ ظاهر، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة، فتدعون الشعر ولا تعرفونه وتذكرون الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب؛ وقد سمعت قائلكم يقول: الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان. فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب، وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان، فهي أيضاً ماسةٌ إلى ما بعد البرهان، وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه. هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق.

وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً، وتستذلوا عزيزاً? وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص، وتقولوا: الهلية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرية والجوهرية والهيولية والصورية والأيسية والليسية والنفسية? ثم تتطاولون فتقولون: جئنا بالسحر في قولنا: "لا" في شيء من "ب" و "ج" في بعض "ب"، ف "لا" في بعض "ج" و "لا" في كل "ب" و "ج" في كل "ب" فإذن "لا" في كل "ج"؛ هذا بطريق الخلف، وهذا بطريق الاختصاص.
وهذه كلها خرافات وترهات، ومغالق وشبكات؛ ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كله - بعون الله وفضله - وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس من منائح الله الهنية، ومواهبه السنية، يختص بها من يشاء من عباده وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً، وهذا الناشىء أبو العباس قد نقض عليكم وتتبع طريقتكم، وبين خطأكم، وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال، وما زدتم على قولكم: لم يعرف غرضنا ولا وقف على مرادنا، وإنما تكلم على وهم. وهذا منكم تجاجزٌ ونكول ورضىً بالعجز وكلول، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض هذا قولكم في "يفعل وينفعل" لم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما، ولم تقفوا على مقاسمهما، لأنكم قنعتم بوقوع الفعل من "يفعل" وقبول الفعل من "ينفعل"، ومن وراء ذلك غاياتٌ خفيت عليكم، ومعارف ذهبت عنكم وهذا حالكم في الإضافة.
فأما البدل ووجوهه، والمعرفة وأقسامها، والنكرة ومراتبها، وغير ذلك مما يطول ذكره، فليس لكم فيه مقال ولا مجال.
وأنت إذا قلت لإنسان: "كن منطقياً"، فإنما تريد: كن عقلياً أو عاقلاً أو اعقل ما تقول لأن أصحابك يزعمون أن النطق هو العقل؛ وهذا قولٌ مدخول، لأن النطق على وجوه أنتم عنها في سهو.
وإذا قال لك آخر: "كن نحوياً لغوياً فصيحاً" فإنما يريد: افهم عن نفسك ما تقول، ثم رم أن يفهم عنك غيرك.
وقدر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه، وقدر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه؛ هذا إذا كنت في تحقيق شيء ما هو به. فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فأجل اللفظ بالروداف الموضحة والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة، وبين المعاني بالبلاغة، أعني لوح منها لشيء حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عز وحلا، وكرم وعلا؛ واشرح منها شيئاً حتى لا ميكن أن يمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرج عنه لاغتماضه؛ فهذا المذهب يكون جامعاً لحقائق الأشباه ولأشباه الحقائق؛ وهذا بابٌ إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس؛ على أني لا أدري أيؤثر فيك ما أقول أو لا? ثم قال: حدثنا هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين، أو رفعتم الخلاف بين اثنين؛ أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد، وأن الشرع ما تذهب إليه، والحق ما تقوله? هيهات، ها هنا أمور ترتفع عن دعوى أصحابك وهذيانهم، وتدق عن عقولهم وأذهانهم.
ودع هذا، ها هنا مسألة قد أوقعت خلافاً، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك.
قال قائل: "لفلانٍ من الحائط إلى الحائط" ما الحكم فيه? وما قدر المشهود به لفلان? فقد قال ناس: له الحائطان معاً وما بينهما. وقال آخرون: له النصف من كلٍ منهما. وقال آخرون: أحدهما. هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأنى لك بهما، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك.
ودع هذا أيضاً؛ قال قائل: "من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم محال، ومنه ما هو مستقيم قبيح، ومنه ما هو محال كذب، ومنه ما هو خطأ". فسر هذه الجملة. واعترض عليه عالمٌ آخر، فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل? فإن قلت: كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته، والآخر لم أحصل اعتراضه? قيل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملاً له، ثم أوضح الحق منهما، لأن الأصل مسموع لك، حاصلٌ عندك وما يصح به أو يرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة.

فقد بان الآن أن مركب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل؛ والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامة؛ وليس في قوة اللفظ من أي لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به، وينصب عليه سوراً، ولا يدع شيئاً من داخله أن يخرج، ولا شيئاً من خارجه أن يدخل، خوفاً من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل، ويشبه الباطل بالحق؛ وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بعد المنطق؛ وأنت لو عرفت تصرف العلماء والفقهاء في مسائلهم، ووقفت على غورهم في نظرهم وغوصهم في استنباطهم، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكيانات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة، لحقرت نفسك، وازدريت أصحابك، ولكان ما ذهبوا إليه وتابعوا عليه أقل في عينك من السها عند القمر، ومن الحصا عند الجبل. أليس الكندي وهو علم في أصحابك يقول في جواب مسألة "هذا من باب عد". فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب، حتى وضعوا له مسائل من هذا الشكل وغالطوه بها وأروه أنها في الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع، فاعتقد فيه أنه صحيح وهو مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوش اللب.
قالوا له: أخبرنا عن اصطكاك الأجرام، وتضاغط الأركان? هل يدخل في باب وجوب الإمكان? أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان? وقالوا له أيضاً: ما نسبة الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولاتية? وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان، أو مزايلةٌ له مزايلة على غاية الإحكام? وقالوا له: ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله? وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة والضعف والفساد والفسالة والسخف. ولولا التبوقي من التطويل لسردت ذلك كله، ولقد مر بي في خطه: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاطٍ به، لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفرزع؛ وكل ما يكون على هذا النهج فالنكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النكرة، على أن النكرة والمعرفة من باب الألبسة العارية من ملابس الأسرار الإلهية، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال البشرية.
ولقد حدثنا أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى ويشمت العدو ويغ الصديق، وما ورث هذا كله إلا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق ونسأل الله عصمة وتوفيقاً نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل، إنه سميع مجيب.
هذا آخر ما كتبت عن ابن عيسى الرماني الشيخ الصالح بإملائه.
وكان أبو سعيد قد روى لمعاً من هذه القصة.
وكان يقول: لم أحفظ عن نفسي كل ما قلت، ولكن كتب ذلك أقوامٌ حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضاً؛ وقد اختل علي كثير منه.
قال علي بن عيسى: وتقوض المجلس وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد الثابت ولسانه المتصرف ووجهه المتهلل وفوائده المتتابعة.
وقال الوزير ابن الفرات: عين الله عليك أيها الشيخ، فقد نديت أكباداً وأقررت عيوناً، وبيضت وجوهاً، وحكت طرازاً لا يبليه الزمان، ولا يتطرق إليه الحدثان.
قلت لعلي بن عيسى: وكم كان سن أبي سعيد في ذلك الوقت? قال: مولده سنة ثمانين ومائتين، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة، وقد عبث الشيب بلهازمه مع السمت والوقار والدين والجد، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم، وقل من تظاهر به أو تحلى بحليته إلا جل في العيون وعظم في النفوس، وأحبته القلوب، وجرت بمدحه الألسنة.
وقلت لعلي بن عيسى: أما كان أبو علي الفسوي النحوي حاضر المجلس? قال: لا، كان غائباً، وحدث بما كان، فكان يكتم الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور، والثناء المذكور.
فقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث: ذكرتني شيئاً قد دار في نفسي مراراً، وأحببت أن أقف على واضحه؛ أين أبو سعيد من أبي علي، وأين علي بن عيسى منهما، وأين ابن المراغي أيضاً من الجماعة? وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه?  

فكان من الجواب، أبو سعيد أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كل باب، وأخرج من طل طريق، وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق، وأروى في الحديث، وأقضى في الأحكام، وأفقه في الفتوى، وأحضر بركة على المختلفة، وأظهر أثراً في المقتبسة. ولقد كتب إليه نوح بن نصر - وكان من أدباء ملوك آل سامان - سنة أربعين كتاباً خاطبه فيه بالإمام وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة، الغالب عليها الحروف، وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شك فيها فسأل عنها؛ وكان هذا الكتاب مقروناً بكتاب الوزير البلعمي خاطبه فيه بإمام المسلمين، ضمنه مسائل في القرآن وأمثالاً للعرب مشكلة.
وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتاباً خاطبه فيه بشيخ الإسلام، سأله عن مائة وعشرين مسألة، أكثرها في القرآن، وباقي ذلك في الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم.
وكتب إليه ابن خنزابة من مصر كتاباً خاطبه فيه بالشيخ الجليل، وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف.
وقال لي الدارقطني سنة سبعين: أنا جمعت ذلك لابن خنزابة على طريق المعونة.
وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتاباً يخاطبه فيه بالشيخ الفرد، سأله عن سبعين مسألة في القرآن، ومائة كلمة في العربية وثلاثمائة بيت من الشعر، هكذا حدثني به أبو سليمان؛ وأربعين مسألة في الأحكام وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين.
قال لي الوزير: وهذه المسائل والجواب عنها عندك? قلت: نعم. قال: في كم تقع? قلت: لعلها تقع في ألف وخمسمائة ورقة، لأن أكثرها في الظهور. قال: ما أحوجنا إلى النظر فيها والاستمتاع بها والاستفادة منها! وأين الفراغ وأين السكون? ونحن كل يوم ندفع إلى طامةٍ تنسى ما سلف، وتوعد بالداهية، اللهم ناصيتي بيدك، فتولني بالعصمة، واخصصني بالسلامة، واجعل عقباي إلى الحسنى.
ثم قال: صل حديثك.
قلت: وأما أبو علي فأشد تفرداً بالكتاب وأشد إكباباً عليه، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين، وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد، وأطرافاً مما لغيره؛ وهو متقد بالغيظ على أبي سعيد، وبالحسد له، كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"، لأن هذا شيء ما تم للمربد ولا للزجاج ولا لابن السراج ولا لابن درستويه مع سعة علمهم، وفيض كلامهم.
ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل، ولكنه قعد على الكتاب على النظم المعروف.
وحدثني أصحابنا أن أبا علي اشترى شرح أبي سعيد في الأهواز في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستنين - لاحقاً بالخدمة المرسومة به، والندامة الموقوفة عليه - بألفي درهم؛ وهذا حديث مشهور، وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به إلا من زعم أنه أراد النقض عليه، وإظهار الخطأ فيه.
وقد كان الملك السعيد - رضي الله عنه - هم بالجمع بينهما فلم يقض له ذلك، لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة.
وأبو علي يشرب ويتخالع ويفارق هدى أهل العلم وطريقة الربانيين وعادة المتنسكين.
وأبو سعيد يصوم الدهر، ولا يصلي إلا في الجماعة، ويقيم على مذهب أبي حنيفة، ويلى القضاء سنين، ويتأله ويتحرج، وغيره بمعزل عن هذا؛ ولولا الإبقاء على حرمة العلم، لكان القلم يجري بما هو خافٍ ويخبر بما هو مجمجم ولكن الأخذ بحكم المروءة أولى، والإعراض عما يجلب اللائمة أحرى.
وكان أبو سعيد حسن الحظ، ولقد اراده الصيمري أبو جعفر على الإنشاء والتحرير فاستعفى وقال: هذا أمر يحتاج فيه إلى دربة وأنا عارٍ منها، وإلى سياسةٍ وأنا غريب فيها

ومن العناء رياضة الهرم

وحدثنا النصري أبو عبد الله - وكان يكتب النوبة للمهلبي - بحديث مفند لأبي سعيد هذا موضعه، قال: كنت أخط في بيدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد، فالتمسني يوماً لأن أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني، وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته؛ فظن أنه بفضل علمه أقوم بالجواب من غيره، فتقدم إليه أن يكتب ويجيب، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح، ثم أخذ يحرر، والصيمري يقرأ ما يكتبه، فوجده مخالفاً لجاري العادة لفظاً، مبايناً لما يريده ترتيباً.

قال: ودخلت في تلك الحال، فتمثل الصيمري بقول الشاعر:

يا باري القوس برياً ليس يصلحـه

 

لا تظلم القوس، أعط القوس باريها

ثم قال لأبي سعيد: خفف عليك أيها الشيخ وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه، فخجل من هذا القول، فلما اتبدأت الجواب من غير نسخة تحير مني أبو سعيد ، ثم قال: أيها الأستاذ، ليس بسمتنكرٍ ما كان مني، ولا بمستكثرٍ ما كان منك، إن مال الفيء لا يصح في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذٍ، والكتاب جهابذة الكلام، والعلماء مستخرجوه. فتبسم الصميري وأعجبه ما سمع، وقال: على كل حال ما أخليتنا من فائدة.
وكان أبو سعيد بعيد القرين، لأنه كان يقرأ عليه القرآن والفقه والشروط والفرائض والنحو واللغة والعروض والقوافي والحساب والهندسة والحديث والأخبار وهو في كل هذا إما في الغاية وإما في الوسط.
وأما علي بن عيسى فعالي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق، وعيب به، إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق، بل أفرد صناعة، وأظهر براعة، وقد عمل في القرآن كتاباً نفيساً، هذا مع الدين الثخين، والعقل الرزين.
وأما ابن المراغي فلا يلحق بهؤلاء، مع براعة اللفظ، وسعة الحفظ، وعزة النفس، وبلل الريق، وغزارة النفث، وكثرة الرواية؛ ومن نظر في كتاب البهجة له عرف ما أقول، واعتقد فوق ما أصف، ونحل أكثر مما أبذل.
وأما المرزباني وابن شاذان وابن القرمسيني وابن حيويه فهم رواة وحملة ليس لهم في ذلك نقطٌ ولا إعجام، ولا إسراج ولا إلجام.
فقال: فصل حديثك عن هؤلاء بحديث أصحابنا الشعراء، صف لي جماعتهم، واذكر لي بضاعتهم، وما خص كل واحد منهم. قلت: لست من الشعر والشعراء في شيء، وأكره أن أخطو على دحض، وأحتسي غير محض. قال: دع هذا القول، فما خضنا في شيء إلى هذا الوقت إلا على غاية ما كان في النفس، ونهاية ما أفاد من الأنس، فكان من الوصف: أما السلامي فهو حلو الكلام، متسق النظام، كأنما يبسم عن ثغر الغمام خفي السرقة، لطيف الأخذ، واسع المذهب، لطيف المغارس، جميل الملابس؛ لكلامه ليطةٌ بالقلب، وعبثٌ بالروح، وبردٌ على الكبد.
وأما الحاتمي فغليظ اللفظ، كثير العقد، يحب أن يكون بدوياً قحاً، وهو لم يتم حضرياً؛ غزير المحفوظ، جامعٌ بين النظم والنثر، على تشابهٍ بينهما في الجفوة وقلة السلاسة، والبعد من المسلوك، بادي العورة فيما يقول، لكأنما يبرز ما يخفي، ويكدر ما يصفي، له سكرة في القول إذا أفاق منها خمر وإذا خمر سدر؛ يتطاول شاخصاً، فيتضاءل متقاعساً؛ إذا صدق فهو مهين، وإذا كذب فهو مشين.
وأما ابن جلبات فمجنون الشعر، متفاوت اللفظ، قليل البديع، واسع الحيلة، كثير الزوق، قصير الرشاء، كثير الغثاء؛ غره نفاقه ونفقه نفاقه.
وأما الخالع فأديب الشعر، صحيح النحت، كثير البديع، مستوي الطريقة، متشابه الصناعة، بعيدٌ من طفرة المتحير، قريبٌ من قرصة المتخير؛ كان ذو الكفايتين يقدمه بالري، ويقبله على النشر والطي.
وأما مسكويه فلطيف اللفظ، رطب الأطراف، رقيق الحواشي، سهل المأخذ، قليل السكب، بطيء السبك؛ مشهور المعاني، كثير التواني؛ شديد التوقي، ضعيف الترقي؛ يرد أكثر مما يصدر، ويتطاول جهده ثم يقصر؛ ويطير بعيداً ويقع قريباً، ويسقي من قبل أن يغرس، ويمتح من قبل أن يميه؛ وله بعد ذلك مآخذ كشدوٍ من الفلسفة، وتأتٍ في الخدمة، وقيامٍ برسوما لندامة؛ وسلة في البخل، وغرائب من الكذب؛ وهو حائل العقل لشغفه بالكيمياء.
وأما ابن نباتة فشاعر الوقت، لا يدفع ما أقول إلا حاسد أو جاهل أو معاند، قد لحق عصابة سيف الدولة وعدا معهم ووراءهم، حسن الحذو على مثال سكان البادية، لطيف الائتمام بهم، خفي المغاص في واديهم، ظاهر الإطلال على ناديهم؛ هذا مع شعبة من الجنون وطائفٍ من الوسواس.
وأما ابن حجاج فليس من هذه الزمرة بشيء، لأنه سخيف الطريقة بعيدٌ من الجد، قريعٌ في الهزل؛ ليس للعقل من شعره منال، ولا له في قرضه مثال؛ على أنه قويم اللفظ، سهل الكلام، وشمائله نائيةٌ بالوقار عن عادته الجارية في الخسار؛ وهو شريك ابن سكرة في هذه الغرامة؛ وإذا جد أقعى، وإذا هزل حكى الأفعى.

وله مع ذي الكفايتين مناظرة طيبة. قال: ما هي? قلت: لما ورد ذو الكفايتين سنة أربع وستين وهزم الأتراك مع أفتكين، وكان من الحديث ما هو مشهور، سأل عن ابن حجاج - وكان متشوقاً له لما كان يقرأ عليه من قوافيه، فأحب أن يلقاه، لأنه الخبر كالمعاينة، والمسموع والمبصر كاأنثى والذكر؛ ينزع كل واحد منهما إلى تمامه؛ فلما حضره أبو عبد الله احتبسه للطعام، وسمع كلامه، وشاهد سمته، واستحلى شمائله، فقام من مجلسه؛ فلما خلا به قال: يا أبا عبد الله، لقد والله تهت عجباً منك، فأما عجبي بك فقد تقدم؛ لقد كنت أفلي ديوانك، فأتمنى لقاءك، وأقول: من صاحب هذا الكلام، أطيش طائش، وأخف خفيف، وأغرم غارم؛ وكيف يجالس من يكون في هذا الإهاب? وكيف يقارب من ينسلخ من ملابس الكتاب واصحاب الآداب؛ حتى شاهدتك الآن، فتهالكت على وقارك وسكون أطرافك، وسكوت لفظك، وتناسب حركاتك، وفرط حيائك وناضر ماء وجهك، وتعادل كلك وبعضك؛ وإنك لمن عجائب خلق الله وطرف عباده؛ والله ما يصدق واحد أنك صاحب ديوانك، وأن ذلك الديوان لك، مع هذا التنافي الذي بين شعرك وبينك في جدك. فقال ابو عبد الله: أيها الأستاذ، وكان عجبي منك دون عجبك مني، لو تقارعنا على هذا لفلجت عليك بالتعجب منك. قال: لأني قلت: إذا ورد الأستاذ فسألقى منه خلقاً جافياً وفظاً غليظاً وصاحب رواسير وآكل كوامخ وجبلياً ديلمياً متكائباً متعاظماً، حتى رأيتك الآن وأنت ألطف من الهواء، وأرق من الماء، وأغزل من جميل بن معمر، وأعذب من الحياة، وأرزن من الطود، وأغزر من البحر، وأبهى من القمر، وأندى من الغيث، وأشجع من الليث، وأنطق من سحبان، وأندى من الغمام، وأنفذ من السهام، وأكبر من جميع الأنام.
فقال أبو الفتح وتبسم: هذا أيضاً من ودائع فضلك، وبواعث تفضلك.
ووصله وصرفه.
قال: لم يكن هذا الحديث عندي.
وأما بشر بن هارون فليس من هذه الطبقة في شيء، لكنه يقرص فيحز ويشم فيهز، ويجرح فيجهز؛ والمدهوون منه كثير؛ واصحابنا يستحسنون قول ابن الحجاج في الوزير حين يقول:

لله در الحسين من قمـر

 

ردت إليه وزارة الشمس

فقال: إن قبلت هذا منهم خفت أن يقال: مادح نفسه يقرئك السلام؛ وما أصنع بهذا البيت وهو مضموم إلى كل بيت سخيف في القصيدة.
ثم قال: وجب أن نصف قبل هذا عصابة العلماء، فلم تركنا ذكرهم ونحن لا نخلو في حديثهم من غرة لائحة، وفائدة نافعة، وصوابٍ زائد في العقل وفضيلة على الأدب، وحلمٍ يزدان به في وقت الحاجة، وحكمةٍ يستعان بها في داهمة؛ ورأى يكون مقيلاً للتمييز عند تهجيرنا به.
قلت: أما أبو عبد الله الجعل فقد شاهدته. قال: صدقت، ولكن لم أقف على مذهبه ودخلته وسيرته في اعتقاده.
قلت: كان الرجل ملتهب الخاطر، واسع أطراف الكلام، مع غثاثة اللفظ، وكان يرجع إلى قوة عجيبة في التدريس، وطول نفس في الإملاء، مع ضيق صدر عند لقاء الخصم ومعاركة القرن، بعيد العهد بالمصاع والدفاع والوقاع؛ وكان سبب هذا الجبن والخور قلة الضراوة على هذه الأحوال؛ ولقد خزي في مشاهد عظيمة.
وأما يقينه فكان ضعيفاً؛ وأما سيرته فكانت واقفةً على حب الرياسة وبذل المال والجاه إذا حضرا، مع تعصب شديد لمن قدمه وأحبه، وإنحاءٍ مفرط على من عاداه، وكان خوضه في الدول والولايات - ولهذا رغب عنه الواسطي وكان أخا ورع ودين - وقال: هذا منفر عن الدين والمذهب، ودافعٌ للناس عن القول بالحق، وطارح للشبهة في القلوب.
وكان يجهر بهذا وأشباهه، ولكن كان جاه الرجل لا ينتقص بهذا القدر وركنه لا يتخلخل على هذا الهد، لأسباب انعقدت له، وأصحاب ذابوا عنه.
وأما ابن الملاح فشيخ حسن المعرفة بالمذهب، شديد التوقي، محمود القناعة ظاهر الرضا؛ تدل سيرته الجميلة على أنه حسن العقيدة.
وأما ابن المعلم فحسن اللسان والجدل، صبور على الخصم، كثير الحيلة ظنين السر، جميل العلانية.
وأما أبو إسحق النصيبي فدقيق الكلام، يشك في النبوات كلها، وقد سمعت منه فيها شبهاً، ولغته معقدة، وله أدب واسع؛ ولقد أضل بهمذان كاتب فخر الدولة ابن المرزبان. وحمله على قلة الاكتراث بظلم الرعية، وأراه أنه لا حرج عليه في غبنهم لأنهم بهائم، وما خرج من الجبل حتى افتضح.
وأما ابن خيران فشيخ لا يعدو الفقه، وفيه سلامة.

وأما الداركي فقد اتخذ الشهادة مكسبة، وهو يأكل الدنيا بالدين، ويغلب عليه اللواط، ولا يرجع إلى ثقة وأمانة؛ ولقد تهتك بنيسابور قديماً، وببغداد حديثاً؛ هذا مع الفدامة والوخامة؛ ولقد ند بجعل غلام، وهو اليوم قاضي الري. وابن عباد يكنفه ويقربه ليكون داعية له ونائباً عنه، وليس له أصل وهو من سواد همذان، وأبوه كان فلاحاً، ولقد رأيته، إلا أنه يأتي لابن عباد في سمته ولزوم ناموسه حتى خف عليه، وهو اليوم قارون؛ وقد علت رتبته في الكلام حتى لا مزيد عليها، إلا أنه مع ذلك نغل الباطن، خبيث الخبء، قليل اليقين؛ وذلك أن الطريقة التي قد لزموها وسلكوها لا تفضي بهم إلا إلى الشك والارتياب، لأن الدين لم يأت بكمٍ وكيفٍ في كل باب، ولهذا كان لأصحاب الحديث أنصار الأثر، مزية على أصحاب الكلام وأهل النظر؛ والقلب الخالي من الشبهة أسلم من الصدر المحشو بالشك والريبة، ولم يأت الجدل بخير قط. وقد قيل: من طلب الدين بالكلام ألحد، ومن تتبع غرائب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر. وما شاعت هذه الوصية جزافاً، بل بعد تجربة كررها الزمان، وتطاولت عليها الأيام؛ يتكلم أحدهم في مائة مسألة ويورد مائة حجة ثم لا ترى عنده خشوعاً ولا رقة، ولا تقوى ولا دمعة؛ وإن كثيراً من الذين لا يكتبون ولا يقرءون ولا يحتجون ولا يناظرون ولا يكرمون ولا يفضلون خيرٌ من هذه الطائفة وألين جانباً، وأخشع قلباً، وأتقى لله عز وجل، وأذكر للمعاد، وأيقن بالثواب والعقاب، وأقلق من الهفوة، وألوذ بالله من صغير الذنب، وأرجع إلى الله بالتوبة؛ ولم أر متكلماً في مدة عمره بكى خشية، أو دمعت عينه خوفاً، أو أقلع عن كبيرة رغبة؛ يتناظرون مستهزئين ويتحاسدون متعصبين، ويتلاقون متخادعين، ويصنفون متحاملين؛ جذ الله عروقهم، واستأصل شأفتهم، وأراح العباد والبلاد منهم؛ فقد عظمت البلوى بهم، وعظمت آفتهم على صغار الناس وكبارهم؛ ودب داؤهم، وعسر دواؤهم، وأرجو ألا أخرج من الدنيا حتى أرى بنيانهم متضغضعاً، وساكنه متجعجعاً.
قال: فما تقول في ابن الباقلاني?. قلت:

فما شر الثلاثة أم عمـرو

 

بصاحبك الذي لا تصبحينا

يزعم أنه ينصر السنة ويفحم المعتزلة وينشر الرواية؛ وهو في أضعاف ذلك على مذهب الخرمية، وطرائق الملحدة. قال: والله إن هذا لمن المصائب الكبار والمحن الغلاظ، والأمراض التي ليس لها علاج.
ثم قال: إن الليل قد ولى، والنعاس قد طرق العين عابثاً؛ والرأي أن نستجم لننشط، ونستريح لنتعب؛ وإذا حضرت في الليلة القابلة أخذنا في حديث الخلق والخلق - إن شاء الله - وأنا أزودك هذا الإعلام ليكون باعثاً لك على أخذ العتاد بعد اختماره في صدرك، وتحيل الحال به عند خوضك وفيضك ولا تجبن جبن الضعفاء، ولكن قل واتسع مجاهراً بما عندك، منفقاً مما معك.
وانصرفت.

الليلة التاسعة

وعدت ليلة أخرى فقال: فاتحة الحديث معك، فهات ما عندك. فكان من الجواب: أن أخلاق أصناف الحيوان الكثيرة مؤتلفةٌ في نوع الإنسان، وذلك أن الإنسان صفو الجنس الذي هو الحيوان، والحيوان كدر النوع الذي هو الإنسان والإنسان صفو الشخص الذي هو واحد من النوع، وما كان صفواً ومصاصاً بهذا النظر انتظم فيه من كل ضرب من الحيوان خلق وخلقان وأكثر، وظهر ذلك عليه وبطن أيضاً بالأقل والأكثر والأغلب والأضعف، كالكمون الذي في طباع السبع والفأرة، والثبات الذي في طباع الذئب، والتحرز الذي في طباع الجاموس من بنات الليل، والحذر الذي في طباع الخنزير، والتقدم الذي في طباع الفيل أمام قطيعه تمثلاً بصاحب المقدمة.
وكذلك ضد ذلك في الخنزير تمثلاً بصاحب الساقة، وكالحراسة التي في طباع الكلب، وكاوب الطير إلى أوكارها التي تراها كالمعاقل وغيرها بالدغل والأشب والغياض.
ولهذا قال بعض الحكماء: خذ من الخنزير بكوره في الحوائج، ومن الكلب نصحه لأهله، ومن الهرة لطف نفسها عند المسألة.
وقالت الترك: ينبغي للقائد العظيم أن يكون فيه عسشر خصال من ضروب الحيوان: سخاء الديك، وتحنن الدجاجة، ونجدة الأسد، وحملة الخنزير وروغان الثعلب، وصبر الكلب، وحراسة الكركي، وحذر الغراب، وغارة الذئب، وسمن بعروا، وهي دابة بخراسان تسمن على التعب والشقاء.
 ولما وهب الإنسان الفطرة، وأعين بالفكرة؛ ورفد بالعقل، جمع هذه الخصال وما هو أكثر منها لنفسه وفي نفسه، وبسبب هذه المزية الظاهرة فضل جميع الحيوان حتى صار يبلغ منها مراده بالتسخير والإعمال واستخراج المنافع منها وإدراك الحاجات بها؛ وهذه المزية التي له مستفادة بالعقل، لأن العقل ينبوع العلم، والطبيعة ينبوع الصناعات، والفكر بينهما مستملٍ منهما ومؤدٍ بعضها إلى بعض بالفيض الإمكاني والتوزيع الإنساني؛ فصواب بديهة الفكرة من سلامة العقل، وصواب روية الفكرة من صحة الطباع، وصحة الطباع من موافقة المزاج، وموافقة المزاج بالمدد الاتفاقي والاتفاق الغيبي؛ أعني بهذا أن وجه الحادث المجهول عندنا اتفاق، ووجه الحادث المعلوم عند الله عز وجل غيب؛ فلو ظهر هذا الغيب لبطل الاتفاق، ولو بطل الاتفاق لارتفع الغيب.
فانقسمت الأحداث بين ما هو على جديلة واحدة معروفة، وبين نادر لا يدوم العهد به، فدل ما ظهر واستمر على ما جاد به ووهب، ودل ما غاب واستتر على ما تفرد به وغلب.
ولما كان الحيوان كله يعمل صنائعه بالإلهام على وتيرة قائمة، وكان الإنسان يتصرف فيها بالاختيار ، صح له من الإلهام نصيب حتى يكون رفداً له في اختياره، وكذلك يكون النحل أيضاً، صح له من الاختيار قسط في إلهامه حتى يكون ذلك معيناً له في اضطراره، إلا أن نصيب الإنسان من الإلهام أقل كما أن قسط سائر الحيوان من الاختيار أنزر؛ وثمرة اختيار الإنسان إذا كان معاناً بالإلهام أشرف وأدوم وأجدى وأنفع وأبقى وأرفع من ثمرة غيره من الحيوان إذا كان مرفوداً بالاختيار، لأن قوة الاختيار في الحيوان كالحلم كما أن قوة الإلهام في الإنسان كالظل.
ومراتب الإنسان في العلم ثلاث تظهر في ثلاثة أنفس، فاحدهم ملهم فيتعلم ويعمل، ويصير مبدأً للمقتبسين منه، المقتدين به، الآخذين عنه، الحاذين على مثاله، المارين على غراره، القافين على آثاره؛ وواحد يتعلم ولا يلهم فهو يماثل الأول في الدرجة الثانية، أعني التعلم؛ وواحد يتعلم ويلهم، فتجتمع له هاتان الخلتان، فيصير بقليل ما يتعلم مكثراً للعمل والعلم بقوة ما يلهم ويعود بكثرة ما يلهم مصفياً لكل ما يتعلم ويعمل.
والكلام في هذه المواضع ربما جمح فلم يمكن كفه، فينبغي أن يضح العذر إذا عرض تفاوتٌ في الترتيب، ودخل الخلل من ناحية التقريب.
وقال أبو سليمان لنا في هذه الأيام: الإنسان بين طبيعته وهي عليه وبين نفسه وهي له، كالمنتهب المتوزع، فإن استمد من العقل نوره وشعاعه قوي ما هول له من النفس، وضعف ما هو عليه من الطبيعة وإلا فقد قوي ما هو عليه من الطبيعة وضعف ما هو له من النفس.
وحكى لنا فقال: كان للحكماء الأولين مثلٌ يضربونه ويكتبونه في هياكلهم ومتعبداتهم وهو: الملك الموكل بالدنيا يقول: إن ههنا خيراً وههنا شراً، وههنا ما ليس بخير ولا شر، فمن عرف هذه الثلاثة حق معرفتها تخلص مني، ونجا سليماً، وبقي كريماً، وملك نعيماً عظيماً.
ومن لم يعرفها قتلته شر قتلة، وذلك أني لا أقتله قتلاً وحياً يستريح به مني، ولكن أقتله أولاً فأولاً في زمان طويل، بحسرات على فوت مأمول بعد مأمول، وبلايا يكون بها كالمغلول المكبول.
قال: هذا كلام شريف في أعلى ذروة الحكمة، لكنك خليت يدك من طرف الحديث في الخلق. قلت: إذا طاب الحديث باسترسال السجية ووقوع الطمأنينة لها الإنسان عن مباديه، وسال مع الخاطر الذي يستهويه، ولتحفظ الإنسان في قوله وعمله من الخطل والزلل حدٌ بلغه كل الخاطر واختل.
ثم نعود فنقول: أخلاق الإنسان مقسومة على أنفسه الثلاث: أعني النفس الناطقة، والنفس الغضبية، والنفس الشهوانية، وسمات هذه الأخلاق مختلفة بعرض واسع.
ويمكن أن يقال في نعتها على مذهب التقريب: إنها بين المحمودة وبين المذمومة، وبين المشوبة بالحمد والذم، وبين الخارجة منهما. فمن أخلاق النفس الناطقة - إذا صفت - البحث عن الإنسان ثم عن العالم، لأنه إذا عرف الإنسان فقد عرف العالم الصغير، وإذا عرف العالم فقد عرف الإنسان الكبير، وإذا عرف العالمين عرف الإله الذي بجوده وجد ما وجد، وبقدرته ثبت ما ثبت، وبحكمته ترتب ما ترتب؛ وبمجموع هذا كله دام ما دام.

بهذا البحث يتبين له ما تشتمل عليه القوة الغضبية والقوة الشهوية فإن توابع هاتين القوتين أكثر، لأنهما بالتركيب أظهر، وفي الكثرة أدخل وعن الوحدة أخرج؛ فإذا ساستهما الناطقة حذفت زوائدهما، ونفت فواضلهما، ووفت نواقصهما، وذيلت قوالصهما أعني إذا رأت غلمةً في الشهوية أخمدت نارها، وإذا وجدت السرف في الغضبية قصرت عنانها؛ فحينئذ يقومان على الصراط المستقيم، فيعود السفه حلماً أو تحالماً، والحسد غبطةً أو تغابطاً والغضب كظماً أو تكاظماً، والغي رشداً أو تراشداً، والطيش أناةً أو تآنياً وصرفت هذه الكوامن في المكامن - إذا سارت سورتها، وثارت ثورتها - على مناهج الصواب، تارةً بالعظة واللطف، وتارةً بالزجر والعنف، وتارةً بالأنفة وكبر النفس، وتارةً بإشعار الحذر، وتارةً بعلو الهمة؛ وهناك يصير العفو عند القادر ألذ من الانتقام، والعفاف عند الهائج ألذ من قضاء الوطر، والقناعة عند المحتاج أشرف من الإسفاف، والصداقة عند الموتور آثر من العداوة، والمذاراة عند المحفظ أطيب من المماراة.
وفي الجملة الخلق الحسن مشتق من الخلق، فكما لا سبيل إلى تبديل الخلق كذلك لا قدرة على تحويل الخلق، لكن الحض على إصلاح الخلق وتهذيب النفس لم يقع من الحكماء بالعبث والتجزيف، بل لمنفعة عظيمة موجودة ظاهرة، ومثاله أن الحبشي يتدلك بالماء والغسول لا ليستفيد بياضاً، ولكن ليستفيد نقاءً شبيهاً بالبياض؛ ويقال للمهذار: اكفف لا ليكف عن النطق، ولكن ليؤثر الصمت.
ويقال للموتور: لا تحقد لا ليزول عنه ما حنق عليه، ولكن ليتكلف الصبر ويتناسى الجزاء على هذا أبداً.
وقد تقرر بالحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه أن أحواله مختلفة، أعني أن كل ما يدور عليه ويحور إليه مقابل بالضد أو شبيهٍ بالضد كالحياة والموت، والنوم واليقظة، والحسن والقبيح، والصواب والخطأ، والخير والشر، والرجاء والخوف، والعدل والجور، والشجاعة والجبن، والسخاء والبخل، والحلم والسفه، والطيش والوقار، والعلم والجهل، والمعرفة والنكرة، والعقل والحمق، والصحة والمرض، والاعتدال والانحراف، والعفة والفجور، والتنبه والغفلة، والذكر والنسيان، والذكاء والبلادة، والغبطة والحسادة، والدماثة والكزازة، والحق والباطل، والغي والرشد، والبيان والحصر، والثقة والارتياب، والطمأنينة والتهمة، والحركة والسكون، والشك واليقين، والخلاعة والوقار، والتوقي والتهور، والإلف والملل، والصدق والكذب، والإخلاص والنفاق، والإحسان والإساءة، والنصح والغش، والمدح والذم، وعلى هذا الجر والسحب؛ ولعل هذه الصفات بلا آخر ولا انقطاع.
فمما ينبغي أن يعني الإنسان المحب للتبصرة، المؤثر للتذكرة، الجامع للنافع له، النافي للضار به في هذه الأحوال التي وصفناها بأسمائها معرفةً - ما استطاع - باجتلاب محمودها واجتناب مذمومها، وتمييزه مما يكمن فيه أو تقليله، أو إطفاء جمرته، أو اجتناء ثمرته، والطريق إلى هذا التمييز واضح قريب، كأن تنظر إلى الحياة والموت فتعلم أن هذين ليسا من الأخلاق ولا مما يعالج بالاجتهاد، وإلى النوم واليقظة فتعلم أنهما ضروريان للبدن من وجه، وغير ضروريين من وجه، فتنفى منهما ما خرج عن حد الضرورة وتسلم البدن ما دخل في حد الضرورة؛ ولا يكثرن الإنسان نومه ولا سهره، ولكن يطلب العدل بينهما بقدر جهده.
فأما الحسن والقبيح فلا بد له من البحث اللطيف عنها حتى لا يجور فيرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً، فيأتي القبيح على أنه حسن، ويرفض الحسن على أنه قبيح؛ وماشىء الحسن والقبيح كثيرة: منها طبيعي، ومنها بالعادة، ومنها بالشرع، ومنها بالعقل، ومنها بالشهوة، فإذا اعتبر هذه المناشىء صدق الصادق منها وكذب الكاذب، وكان استحسانه على قدر ذلك ومثال ذلك الكبر فإنه معيب بالنظر الأول، لكنه حسنٌ في موضعه بالعلة الداعية إليه، والحال الموجبة له.
وأما الصواب والخطأ فأمران عارضان للأقوال والأفعال والآراء، وليسا بخلقين محضين، ولكنهما موكولان إلى نور العقل، فما أشرق عليه العقل بنوره فهو صواب، وما أفل عنه العقل بنوره فهو خطأ.
وأما الخير والشر فهما في العموم والشمول ليسا بدون الصواب والخطأ لهما مناط بكل شيء، ويغلبان على الأفعال، وإن كان أحدهما عدماً للآخر.

وأما الرجاء والخوف فهما عرضان للقلب بأسباب بادية وخافية، ولا يدخلان في باب الخلق من كل وجه ولا يخرجان أيضاً بكل وجه وهما كالعمادين للإنسان قد استصلح لهما، وربط قوامه بغلبتهما وضعفهما.
وأما العدل والجور فقد يكونان خلقين بالفطرة، ويكونان فعلين بالفكرة وجانباهما بالفعل ألصق، وإلى الاكتساب أقرب.
وأما الشجاعة والجبن فهما خلقان متصلان بالخلق، ولهذا يعز على الشجاع أن يتحول جباناً، ويتعذر على الجبان أن يصير شجاعاً، وكذلك طرفاهما داخلان في الخلق أعني التهور والتوقي.
وأما السخاء والبخل فهما خلقان محضان أو قريبان من المحض، ولهذا تعلق الحمد والذم بهما وبأصحابهما، والمدح والهجو سريا إليهما واتصلا بهما؛ وقد يندم السخي على بذله كثيراً خوفاً من الإملاق، فلا يستطيع ذلك إذا أخذت الأريحية، وحركته اللوذعية؛ وقد يلوم البخيل نفسه كثيراً إذا سلقته الألسنة الحداد، وجبه بالتوبيخ، وشمخ عند رؤيته الأنف، وغضن الجبين وأولم بالعذل وقوبل؛ ومع ذلك فلا يرشح إلا على بطء وكلفة وتضجر؛ والكلام في هذين الخلقين طويل، لأنهما أدخل في تلاقي الناس وتعاطيهم في عشرتهم ومعاملتهم.
وأما الحلم والسفه فهما أيضاً خلقان، والأخلاق تابعة للمزاج في الأصل، ولذلك قلنا: إن الخلق ابن الخلق، والولد شبيهٌ بوالده؛ وفي الجملة، كل ما يمكن أن يقال فيه للإنسان لا تفعل هذا، وأقلل من هذا وكف عنه، فإنه في باب الأفعال أدخل، وكل ما لم يجز أن يقال ذلك فيه فهو في باب الأخلاق أدخل، ثم لبعض هذا نسبة إلى الخلق أو الخلق، إما ظاهرة غالبة وإما خفية ضعيفة.
وأما الطيش والوقار فهما يختلطان بالحلم والسفه ويجريان معهما؛ فليس ينبغي أن ينشر الكلام ويطول الشرح.
وأما الجهل والعلم فليسا من الأخلاق ولا من الخلق وإنما يبرزان من صاحب الأخلاق والخلق للمزاج أثرين قويين واحدهما عدم والآخر وجدان، والعدم لا يكون أعدم من عدم، والوجدان يكون أبين من وجدان.
وأما المعرفة والنكرة فهما في جوار العلم وضده، ولكنهما أعلق بالحس وألصق بالنفسين، أي الشهوية والغضبية.
وأما العقل والحمق فليس من الخلق، والكلام في تفسير العقل مشهور، وعدمه الحمق.
وأما الصحة والمرض فليسا أيضاً من الأخلاق، ولكنهما يوجدان في الإنسان بواسطة النفس، إما في البدن، وإما في العقل، ولذلك يقال: أمراض البدن، وأمراض النفس، وصحة البدن وصحة النفس.
وأما الاعتدال والانحراف فهما يدخلان في الخلق بوجه، ويخلصان منه بوجه، ويعمان أعراض البدن وأعراض النفس، ويوصف بهما الإنسان، على أن الانحراف المطلق لا يوجد، والاعتدال المطلق لا يوجد، ولكن كلاهما بالإضافة. وأما العفة والفجور فخلقان لهما جمرة وهمود، والحاجة تمس إلى العدل في استعمال العفة ونفي الفجور، وإذا قويت العفة حالت العصمة، وإذا غلب الفجور صار عدواناً.
وأما التنبيه والغفلة فقريبان من الخلق ويغلبان على الإنسان، إلا أن فرط التنبيه موصولٌ بالوحي، وفرط الغفلة موصول بالبهيمية.
وأما الذكر والنسيان فليسا بخلقين محضين، ومنشؤهما بالمزاج، وأحدهما من علائق النفس العالمة، والآخر من علائق النفس البهيمية.
وأما الذكاء والبلادة فهما خلقان، ونعتهما كنعت الذكر والنسيان، إلا أن هذين يعرضان في الحين بعد الحين، والأخريان كالراسخين في الطينة.
وأما الغبطة والحسد فخلقان رسم الأول منهما بأن تتمنى لنفسك ما أوتيه صاحبه ورسم الثاني بأن تتمنى زوال ما أوتيه صاحبك وإن لم يصل إليك. ورسوم هذه الأخلاق أسهل من تحديدها، لكنا تركنا ذلك، لأن الكلام الذي كان يجري هو على مذهب الخدمة.
على أن مراتب هذه الأخلاق مختلفة، فيبعد أن يعمها حد واحد، وإنما اختلفت منازلها لأنها تارة تصفو بقوة النفس الناطقة، وتارة تكدر بالقوانين الأخريين؛ ولبعضها حدة بالزيادة، ولبعضها كلة بالنقص، فلم يكن التحديد يفصل كل ذاك، فلم نعرج على شيء عجزنا عنه قبل أخذنا فيه. وتتم بقية ما علق بهذه الجملة، فنقول: وأما الدماثة والكزازة فخلقان محضان تابعان للمزاج، ثم المران يزيدهما قوة وضعفاً؛ وهما للنعت أقرب، كالسهولة والعسر؛ ولذلك يقال: ما أدمث هذه الأرض، أي ما أرخاها وألينها؛ وفي المثل: دمث لجنبك قبل النوم مضجعاً.

وأما الحق والباطل فليسا من الخلق ولا الخلق في شيء، وهما من نتائج المعرفة والنكرة، لأنك تعرف الحق وتنكر الباطل، وذلك لأغراض تتبعهما، ولواحق تلتبس بهما.
وأما الغي والرشد فليسا من الخلق، لكنهما من علائق الأفعال الحميدة والذميمة؛ وللرأي والعقل فيهما مدخل قوي وحظ تام.
وأما البيان والحصر فليس بينهما وبين الخلق علاقة، وإنما يتبعان المزاج ويزيد فيهما وينقص الجهد والتواني والطلب والقصور.
وأما الثقة والارتياب فخلقان يغلبان ينفعان ويضران ويحمدان ويذمان ألا ترى أنه يقال: لا تثق بكل أحد، ولا ترتب بكل إنسان وهكذا الطمأنينة والتهمة، لأنهما في طيهما.
وأما الحركة والسكون فليسا من حديث الخلق في شيء لأنهما عامان لجميع الأحوال سواء كان العمل مباشراً أم كان معتقداً؛ وفي الحركة والسكون كلامٌ واسع، وذلك أن ههنا حركةً إلهيةً، وحركةً عقلية، وحركةً نفسية، وحركةً طبيعية، وحركة بدنية، وحركة فلكية، وحركة كوكبية، وحركةً كأنها سكون. فأما السكون فهو ضرب واحد، لأنه في مقابلة كل حركة ذكرناها. فإذا اعتبرت هذه المقابلة في كل مقابل لحظ الانقسام في السكون، كما وجد الانقسام في الحركة.
والحركة أوضح برهان على كل موجود حسي، والسكون أقوى دليل على كل موجودٍ عقلي؛ وهذا القدر كافٍ في هذا الموضع.
وأما الشك واليقين، فمن علائق النفس الناطقة، ولهذا لا يقال في الحيوان الذي لا ينطق: له يقين وشك.
وأما الخلاعة والوقار، فقد تقدم البحث عنهما.
وأما التوقي والتهور، فهما خلقان في جميع الحيوان، ويغلبان على نوع الإنسان، لأن العقل يبطل أحدهما، والحس يغلب الآخر.
وأما الإلف والملل فخلقان محضان، يذمان ويحمدان على قدر المألوف والمملول، وإن كان جريان العادة قد وفر الحمد على الإلف، والذم على الملل.
وقد مدح زيد فقيل: هو ألوف. وذم عمرٌو فقيل: هو ملول.
وأما الصدق والكذب، فمن علائق النفس الناقصة والكاملة؛ وقد يكونان راسخين فيلحقان بالخلق، إلا أن الصدق ممدوح، والكذب مذموم، هذا في النظر الأول، وقد يعرض ما يوجب المصير إلى الكذب لينجى به؛ فهما إذن بعد الحقيقة الأولى وقفٌ على الإضافة؛ وقد وجدنا من كذب لينتفع، ولم نجد من صدق ليكتسب الضرر.
وأما الإخلاص والنفاق، فهما يلحقان بالخلق، ولكنهما يصدران عن عقيدة القلب وضمير النفس.
وأما الإحسان والإساءة، فهما يعمان الأفعال والأقوال، فإذا رسخ اعتيادهما استحالا خلقين.
وأما النصح والغش، فهما خلقان، وطرفاهما يتعلقان بالخلق.
وكذلك الطمع واليأس، والحب والبغض، واللهج والسلو، وما شاكل هذا الباب.
ولم يجر هذا كله في المذاكرة بالحضرة، ولكن رأيت من تمام الرسالة أن أضم هذا كله إلى حومته، وأبلغ الممكن من مقتضاه في تتمته.
وقال لي: هات الوداع، فإن الليل قد هم بالإقلاع.
قلت: قال ابو سعيد الذهبي الطبيب: لو علم الذي يحمل الباذنجان أن على ظهره باذنجاناً لصال على الثيران.
فضحك - أضحك الله سنه، وحقق في كل خير ظنه - وقال: إن كنت تحفظ في غرائب أخلاق الحيوان شيئاً فاذكره إذا حضرت، فقد مر في أخلاق الإنسان ما يكفي مجلس الإمتاع والمؤانسة، فإذا ضم هذا إلى ذاك كان للإنسان فيه تبصر كافٍ، وتذكرٌ شافٍ. وصدق - صدق الله قوله - لأن الإنسان أشرف الحيوان، وإنما كان هكذا لأنه حاز جميع قوى الحيوان ثم زاد عليه بما ليس لشيء منه، فصار رباً له سائساً، ومصرفاً له حارساً، ونظر إلى ما سخر له منه فاعتبر، وقاد نفسه إلى حسن ما رأى، وعزفها عن قبيح ما وجد، ولم يجز في الحكمة أن يحرم الإنسان هذا مع ما فيه من المواهب السنةي؛ والمنائح الهنية، فإن قال قائل: فالملائكة إذن قد حرمت هذه الفضيلة، فليعلم هذا القائل أن الملك لما خلق كاملاً لم يكلف أن يكمل ويتكامل ويستكمل، فصار كل شيء يطلبه ويتوقاه سبباً إلى كماله المعد له وغايته المقصودة.
فإن زاد فقال: فهلا خلق كاملاً? فليعلم أن كلامه على طريق الجدل، لا عىل طريق البحث عن العلل، لأنه قد جهل أنه بالحكمة وجب أن يكون الأمر مقسوماً بين ما يجوز الكمال بالجبلة، وبين ما يكسب الكمال بالقصد.
ولما وجب هذا بالحكمة سرت إليه القدرة، وساح به الجود، واشتملت عليه المشيئة، وأحاطت به الحكمة، وشاعت فيه الربوبية.

وههنا زيادةٌ في شرح الخلق يتم بها الكلام؛ فليس من الرأي أن يقع الإخلال بذكرها، لأنها مكشوفة ظاهرة، وهي أن الإنسان إذا غلبت الحرارة عليه في مزاج القلب يكون شجاعاً بذالاً ملتهباً، سريع الحركة والغضب قليل الحقد، زكي الخاطر، حسن الإدراك.
وإذا غلبت عليه البرودة يكون بليداً، غليظ الطباع، ثقيل الروح.
وإذا غلبت عليه الرطوبة يكون لين الجانب، سمح النفس، سهل التقبل كثير النسيان.
وإذا غلبت عليه اليبوسة يكون صابراً، ثابت الرأي، صعب القبول يضبط ويحتد، ويمسك ويبخل؛ وهذا النعت على هذا التنزيل - وإن كان مفهوماً - فأسرار الإنسان في أخلاقه كثيرة وخفية، وفيها بدائع لا تكاد تنتهي، وعجائب لا تنقضي؛ وقد قال الأول:

كل امرىء راجعٌ يوماً لشيمته

 

وإن تخلق أخلاقاً إلى حـين

وقال آخر:

ارجع إلى خيمك المعروف ديدنه

 

إن التخلق يأتي دون الخـلـق

ولولا أن النزوع عن الخلق شاقٌ لما قالوا: تخلق فلان.
وقد قيل أيضاً: " وخالق الناس بخلق حسن"، وعلى هذا يجري أمر الضريبة والطبيعة والنحيتة والغريزة والنحيزة والسجية والشيمة، وربما قيل: الطبيعة أيضاً، ثم العادة تاليةٌ لهذه كلها، أو زائدة فيما نقص فيها، وموقدة لما خمد منها.

الليلة العاشرة

ولما عدت في الليلة الأخرى ونعمت بهذه الفضيلة، تفضل وقال: ما في العلم شيءٌ إلا إذا بدىء بالكلام فيه اتصل وتسلسل حتى لا يوجد له مقطع ولا منفذ ثم قرأت عليه نوادر الحيوان، وغرائب ما كنت سمعته ووجدته، فزاد عجباً وأنا أرويه في هذا المكان حتى يكون تذكرةً وفائدة - إن شاء الله تعالى.
يقال: إن أسنان الرجل اثنتان وثلاثون سناً.
وأسنان المرأة ثلاثون سناً.
وأسنان الخصى ثمانٌ وعشرون سناً.
وأسنان البقر أربعٌ وعشرون سناً.
وأسنان الشاة إحدى وعشرون سناً.
وأسنان التيس ثلاث وعشرون.
وأسنان العنز تسع عشرة سناً.
الذي ذكر من أصناف الحيوان أنه يكتسب معاشه ليلاً: البومة والوطواط.
ومن الحيوان الوحشي ما يستأنس سريعاً: الفيل.
ويحكى أن الحيوان الذي أسنانه قليلة عمره قصير، والذي أسنانه كثيرة عمره طويل.
الفيل إذا ولد نبتت أسنانه في الحال، فأما أسنانه الكبار وأنيابه الكبار فتظهر إذا شب وكبر.
قلب جميع الحيوان موضوعٌ في الوسط من الصدر ما خلا الإنسان، فإن قلبه مائل إلى الجانب الأيسر.
الأفعى تبيض في رحمها، ثم يصير هناك حيواناً.
الشعر المولود مع الإنسان شعر الرأس والأشفار والحاجبين.
وأول ما ينبت بعد ذلك شعر العانة وشعر الإبطين وشعر اللحية: إن خصي الإنسان قبل احتلامه لم ينبت في جسده الشعر الذي يتأخر نباته، وإن خصي بعد احتلامه فإن ذلك الشعر يزول، ما خلا شعر العانة فإنه يبقى.
شعر الحاجبين ربما طال عند الكبر.
وشعر الأشفار لا يطول.
للأرانب في داخل أشداقها شعر، وكذلك تحت أرجلها.
القنفذ في فيه خمس أسنان في عمقه.
والبرية منها تسفد قائمة وظهر الأنثى لاصق بظهر الذكر.
الرجال يشتاقون إلى الجماع في الشتاء، والنساء في الصيف.
الخنزير إذا تمت له من ولادته ثمانية أشهر ينزو على الأنثى.
الكلبة تحمل وتبقى ستين يوماً ويوماً، وهذا أطول ما يكون، ولا تضع قبل أن يتم حملها ستين يوماً، فإن وضعت قبل ذلك فإنها لا تربي ولا يبقى لها ولد.
الفيل الذكر ينزو إذا تمت له خمس سنين، وزمان هياجه ونزوه أيام الربيع والأنثى تحمل سنتين، ولا تضع إلا واحداً.
إذا باض الطائر وما كان من أصنافه يخرج من البيضة الطرف العريض ثم يرق بعد ذلك.
كل ما كان من البيض مستطيلاً محدد الطرف فهو يفرخ الإناث وما كان مستديراً عريض الأطراف يفرخ الذكور.
وجرب من إناث الطير أنها إذا لم تجلس على البيض تمرض.
القبج إذا هاج ووقفت الأنثى قبالة الذكر، وهبت الريح من ناحية الذكر مقبلة إلى ناحيتها حملت من ساعتها.
الحمامة إذا نتفت ريشة من ريشها احتبس بيضها أكثر مما لها بالطبع.
مبدأ خلق الفرخ من بياض البيضة، وغذاؤه من الصفرة، فإذا خرج فرخان كان أحدهما أكبر جثةً من الآخر، والذكر منهما من البيضة الأولى ومن الثانية الأنثى.
الفاختة تعيش أربعين عاماً.
والحجل يعيش عشرين عاماً.
 الرخمة تفرخ على صخور مشرفة عالية لا ينالها أحد، ولا توجد رخمة وفراخها إلا في الفرط.
العقاب يجلس على البيض ثلاثين يوماً، وكذلك كل طائر عظيم الجثة مثل الإوز وما أشبهه، والمتوسط الجثة يجلس على البيض عشرين يوماً، كالحدأة والبزاة وما أشبه ذلك.
إناث الغربان تجلس على البيض جلوساً دائماً، والذكر يأتيها بالطعم حينئذ.
الحجل تعمل عشين يجلس الذكر على واحد، والأنثى على واحد.
الطاوس يعيش خمساً وعشرين سنة، وفي هذه المدة تنتهي ألوان ريشه.
ويحضن بيضه ثلاثين يوماً، قيل: وربما أكثر قليلاً، ويبيض في كل سنة مرة واحدة، وعدد بيضه اثنتي عشرة بيضة، ويلقي ريشه في زمن الخريف وبعده قليلاً، وذلك حين كيلقي الشجر ورقه، فإذا بدا أول الشجر وظهرت فروعه، ونبت ورقه بدأ ريشه ينبت.
الدلفين له لبن، ويرضع، ويحمل عشرة أشهر، وتلد في الصيف ولا تلد في زمانٍ آخر البتة، وربما غاب تحت الموج في الماء ثلاثين يوماً لا يظهر؛ وهو محب لخرئه يأكله.
الجمل الذكر يكره قرب الفرس ويقاتله إذا تمكن منه.
الشاة إن مطرت بعد نزوها انتقض حملها.
الغنم إذا أنزيت والريح جنوبٌ تضع اولادها إناثاً؛ وإن كانت العروق التي تحت ألسن الكباش الفحول بيضاً فإن إناث الغنم تضع حملاناً بيضاً، وإن كانت العروق سوداء فإنها تضع حملاناً سوداً. وإن كانت لونين تكون مختلفة؛ وإن كانت شقراً خرجت شقراً.
الغنم إذا هاجت المسنة منها أولاً فالسنة ذات خصب، وإن هاجت الفتية أولاً فالسنة رديئةٌ على الغنم.
الكلب السلوقي ينزو إذا تم له ثمانية أشهر، والأنثى منها تحمل ستين يوماً، وربما زادت يوماً أو يومين، وجراؤها عميٌ اثنين وعشرين يوماً.
ومنها ما تحمل ثلاثة أشهر وتكون جراؤها عمياً سبعة عشر يوماً.
إناث الكلاب تطمث في كل سبعة أيام وتبول جالسة، ومنها ما ترفع رجلها عند البول.
ذكور الكلاب ترفع أرجلها للبول إذا تمت لها من ولادتها ثمانية أشهر وبعضها في ستة أشهر.
ذكور الكلاب السلوقية تعيش عشر سنين، وإناثها اثنتي عشرة سنة، ومن أجناسها ما تعيش عشرين سنة، وإناثها كلها أطول أعماراً من الذكور.
قال أوميروس الشاعر: إن كلب إديوس هلك وهو ابن عشرين سنة.
وليس تلقى الكلاب شيئاً من أسنانها سوى النابين، فإذا تم للكلب أربعة أشهر أبقاهما.
البقر تلقي أسنانها لسنتين، وإذا كثر نزو الذكور منها وحمل الإناث يكون ذلك علامة شتاء وجود أمطار وخصب، وإناثها تطمث.
إناث الخيل تضع أولادها في أحد عشر شهراً، أو في الثاني عشر.
الحيات رغبةٌ نهمة، قليلة شرب الماء، لأنها لا تضبط أنفسها، وإذا شمت الشراب فإنها تشتاق إليه جداً.
الأسد إذا بال رفع رجله كما يرفع الكلب.
البقر تشتهي شرب الماء الصافي النقي، والخيل على الضد فإنها تشرب مثل الجمال الماء الكدر الغليظ.
الغنم في الخريف تشرب الماء الذي تصيبه ريح الشمال، وذلك الوقت أوفق لها.
الدراج إذا هبت الريح شمالاً تتزاوج وتخصب، وإن كانت جنوباً ساءت حالها ومرضت.
السمك الذي يأوي إلى الشطوط من ناحية البر ألذ من الذي يأوي اللجج وما كان منها مستطيل الجثة فهو يخصب في الصيف وهبوب الشمال؛ والعريض الجثة على ضد ذلك، وأكثر ما يصاد السمك قبل طلوع الشمس لكلبه على الرعي، وطلب الطعم.
والسمك الجاسي الجلد يخصب في السنة المطيرة، لأن ماء البحر يحلو فيها.
الكلب له ثلاثة أمراض: الكلب، والذبحة - وهو القاتل لها - والنقرس.
والداء الذي يقال له الكلب يعرض للجمال أيضاً؛ فإذا كلب الجمل نحر ولم يؤكل لحمه.
الخيل إذا ألقت حوافرها وقت تنصل نبت لها حافر آخر عاجلاً، لأن نباته يطلع مع نصول الحافر.
وعلامة ذلك اختلاج الخصية اليمنى.
ويعرض للخيل داء شبيه بالكلب، وعلامته استرخاء آذانها إلى ناحية أعرافها، وامتناعها من العلف، وليس لهذا الداء علاج إلا التسكين.
لا يكون في بلد الهند خنزير. لا أنيسٌ ولا بري، وفي أرض تعرف بكذا يجز البقر كما يجز الغنم، وفي أرض النوبة تولد الكباش نابتة القرون.
وإناث الكلاب السلوقية أسرع إلى الأدب من الذكور.
جميع أجناس الحيوان إناثها أقل جرأة وأجزع، ما خلا الذئبة، فإنها أصعب خلقاً وأجرأ من الذكور.
العقاب والتنين يتقاتلان، والعقاب تأكل الحيات حيثما وجدتها.

الغداف يخطف بيض البومة نصف النهار فيأكله، لأن البومة لا تبصر بصراً حاداً في ذلك الوقت. فإذا كان الليل شدت البومة على بيض الغذاف فأكلته.
بين العنكبوت وبين الحرذون شر، لأن الحرذون يأكل العنكبوت.
عصفور الشوك يقاتل الحمار، لأن الحمار إذا مر بالشوك أفسد عشه، فإذا نهق بالقرب منه وقع بيضه، وإن كان فيه فراخ خرجت منه، فلهذه العلة يطير هذا العصفور حول الحمار وينقره.
الغراب يعادي الثور والحمار وينقرهما.
والحية تعادي الخنزير وابن عرس، لأنهما يأكلان الحية حيث وجداها.
الغداف مصادق للثعلب، والثعلب مصادق للحية، والسبب في عداوة العصفور للحمار أن معاش العصفور في بزر الشوك وفيه يبيض، وهو وكره، والحمار يرعى ذلك الشوك إذا كان رطباً.
البقر يكون في الجبال إذا ضلت بقرة تبعتها الأخرى، ولذلك الرعاة إذا لم يجدوا بقرة واحدة وعدموها طلبوا سائر البقر وفقدوها من ساعتهم.
الخيل إذا ضلت الأنثى منها أو هلكت ولها ولد فإن إناث الخيل ترضعه وتربيه، وذلك أن جنس الخيل في طباعها حب أولادها.
الأيايل تلقي قرونها في أماكن عسرة صعبة، لا ترتقى لئلا تؤخذ؛ ولذلك قيل في المثل: حيث تلقي الأيايل قرونها، فإذا ألقتها توقت أن تظهر إلى أن تنبت، كأنه قد ألقت سلاحها. وقيل: إنه لم يعاين أحد القرن الأيسر من قرنيها، لأن فيه منفعة عظيمة.
وإذا وضعت أولادها أكلت مشائمها من ساعتها، ولا يمكن أخذها لأنها تأكلها من قبل أن تقع على الأرض.
والأيلة تصاد بالصفير والغناء، ويفعل ذلك رجلان أحدهما يغني ويصفر، والآخر يرشقها بالسهام، فلإصغائها إلى الصفير والغناء لا تحذر السهام.
ويقال إن الأيل إذا كانت أذناه قائمتين فهو يسمع كل شيء ولا يخفى عليه ما يراد به، وإن كانتا مسترخيتين خفي ذلك عليه.
الفهد إذا أكل العشبة التي تسمى خانقة الفهود يطلب زبل الإنسان فيأكله ويتعالج به.
ابن عرس إذا قاتل الحيلة أكل السذاب مخالفة للحية.
اللقالق إذا خرجت من قتال بعضها بعضاً تضع على الجرح صعتراً برياً.
يقال إن ذكور العصافير تبقى سنة فقط، والدليل على ذلك - أنها من قبل أطواقها التي في أعناقها - لا تظهر في الربيع، بل بعد ذلك بأيام، لأنها لا تبقي شيئاً من الذكور التي كانت من العام الماضي، فأما إناثها فهي أطول أعماراً.
إذا دنا الصياد من عش القبج تخرج الأنثى من بين يديه وتطعمه في صيدها حتى تهرب فراخها، ثم تطير وتدعو فراخها إليها.
وإناث القبج تبيض خمس عشرة بيضة، والذكر منها يطلب موضع بيض أنثاه فيدحرجه - مخافة أن تقعد عليه وتشتغل عنه - فيفسده، وهي تحتال أبداً في الهرب منه وتخفي موضع عشها، فتبيض في أماكن خفية، ومتى قصدها قامت عنه وأطعمت في نفسها حتى تبعد عن أماكن بيضها، فإذا بعد طارت ثم احتالت في الرجوع إليه.
الهدهد يعمل عشه من زبل الإنسان، فلذلك رائحته كريهة.
العقاب تصيد منذ حين الغداة إلى وقت الرواح، فأما من أوان الرواح إلى أن يترحل النهار فهي قاعدة في مكانها لا تتحرك.
ومنقار العقاب الأعلى ينشأ ويعظم ويتعفف حتى يكون ذلك سبب هلاكها لأنها لا تنال به الطعم، فإذا فضلت للعقاب فضلةٌ من طعمه وضعها في عشه لحاجة فراخه إليها.
أصناف الطير المتفقة المعقفة المخالب لا تجلس على الصخر إلا في الفرط، لأن خشونة الصخر مخالفةٌ لتعقف مخالبها.
النحل تعمل عشها في زمانين: في الربيع والخريف. والعسل الذي تعمله في الربيع أشد بياضاً وأجود من الذي تعمله في الخريف.
وأضعف العسل يكون أبداً في أعلى الإناء، والنقي الطيب في أسفله.
الأسد عظامه جاسية جداً، وإن دلكت بعض عظامه ببعض خرجت منها نار كما تخرج من الحجارة.
الحيوان الذي له شعر في أشفار عينيه ليس في أشفار عينيه شعر إلا الشعر الأعلى.
والنعامة لها أشفار في الجفنين الأعلى والأسفل.
القنفذ تبيض خمس بيضات، وليس بيضاً بالحقيقة، بل هو على صورة البيض، يشبه الشحم.
قلب كل حيوان طرفه حاد، وهو أصلب من سائر جسده، وهو موضوع في وسط الصدر سوى الإنسان، فإنه مائل فيه إلى الناحية اليسرى، لأنه يكون بإزاء الجانب الأيسر فيعادل الناحية اليمنى، فإن اليسرى من الإنسان أكثر برداً.
وليس في قلوب جميع الحيوان عظم إلا في الخيل، وفي جنس من البقر، فإن في قلب هذين عظماً دون غيرهما من الحيوان.

وكل حيوان له قلبٌ كبيرٌ يكون جزوعاً.
الكلاب الهندية تتولد من كلب وسبع شبيه بالكلب.
والحمار حيوان بارد، ولذلك لا يكون الوحشي منها إلا في المكان البارد.
ذكور البغال لا تشم أبوال إناثها كسائر ذوات الحافر.
بيض الطير فيه لونان: بياض وصفرة.
وبيض السمك فيه لون واحد.
إذا كانت الريح جنوباً كان المولود أنثى، لأن الجنوب إذا هبت رطبت وإذا أشملت كان المولود ذكراً.
عيون جميع الصبيان ساعة ولادتهم شهل، ثم تنتقل إلى الطباع الغالبة عليها.
وعيون جميع الحيوان لون واحد، كالبقر فإن عيونها سود. وعيون البشر ألوان كثيرة.
صاحب العين الناتئة لا يبصر ما بعد عنه بصراً جيداً، والغائرة تبصر ما بعد عنها، لأن حركتها لا تتفرق ولا تتبدد.
الفهد ربما نكح الدب فيتولد بينهما سبع مختلف المنظر، لا يتناول الناس ويصيد الكلاب، ويأكلها ويستخفي في البحر، فإذا مر به أيلٌ مفاجأة وثب عليه وأنشب مخالبه في أكتافه ومص دمه حتى يضعف الأيل ويسقط فيجتمع عليه هذا الصنف من السباع فيأكله، فإن اجتاز بها أسد نضهت عنه وتركت الفريسة له تقرباً إليه.
بأرض يونان معزى جعدة الصوف، يقال لها: المعزى البرية، فإذا أصابت قرونها شيئاً من قضبان الكرم ولم ينبت ورقه ولا ثمره، بل يجف مكانه ويسقط ما عليه من الورق والثمر.
السلحفاة تخرج من البحر إلى الرمل فتبيض فيه، حتى إذا بلغ أوانه وخرج أولادها، فما كان ناظراً إلى ناحية البحر كان بحرياً، وما كان وجهه إلى ناحية البر كان برياً.
والسلاحف تمتنع من الذكران، فيأتيها بعود يحمله في فمه، ويدنو منها، فإذا رأت ذلك العود سكنت له.
وما كان من السلاحف بحرياً فخرج إلى البر وأصابه حر الشمس لم يستطع الرجوع إلى البحر وبقي حتى هلك. وما كان برياً فوقع إلى ناحية البحر تلف ولم يستطع الرجوع إلى البر وهلك.
الثعلب يهيىء عشه ووكره ذا سبعة أحجرة، فإذا طرقته الكلاب وغيرها مما يتخوف في جحر خرج من غيره.
وإذا قارب الزرع أن يسنبل دخل الثعلب فيه وتمعك فرحاً به، فيفسد ذلك الزرع، ولذلك سمي احتراق الشعر: داء الثعلب، لأنه يسقطه كما يذهب ورق السنبلة والشوكة.
القنفذ يعمد إلى الكرمة فيحركها فيقع منها العنب، فيتمرغ فيه حتى يملأ شوكه ويعود إلى عشه، فإذا بصرت به جراؤه أطافت به تلتقط ذلك الحب من شوكه وتأكله.
الذئب إذا هيىء من معاه وترٌ وهيىء من معي الشاة وتر، ثم علقاً بآلات الملاهي، ثم ضرب بهما، صوت المعمول من الذئب، وخرس الوتر المعمول من الشاة.
وكل شاة يتناول الذئب من لحمها يكون لحمها حلواً لذيذاً، وكل جزة صوف تهيأ من الشاة التي قد تناول الذئب منها قمل الثوب المعمول منها من قبل سم أسنانه.
الكلب إذا مرض أكل حلفاء رطبةً.
والأيل إذا مرض أكل حية.
والضبع إذا مرض أكل كلباً.
الأسد إذا أكل كلباً فإنه يكون قد ضرس فيزول ذلك.
الرخمة إذا ضعف بصرها بقرت مرارة إنسان.
الأعنز البرية تألف حيتاناً بحرية، وتدع الجبال وتسلك طريقاً بعيداً حتى تأتي البحر لمكان تلك الحيتان، فلما عرف ذلك الملاحون سلخوا جلود تلك الأعنز، ودنوا بها من شاطىء البحر على ظهورهم، فإذا نظرت تلك الحيتان إليها خرجت مسرعة إليها فيصيدها الملاحون.
ليس من السباع شيء صلبه عظم واحد بلا خرز إلا الأسد والضبع.
من ربط على بدنه سناً من أسنان الذئب يكون سريع الجري.
المعزى البرية تكون صلبة القرون، تأوي أطراف الجبال وما كان مشرفاً من الصخور على أودية، فإن بصرت بالصياد ألقت أنفسها من تلك الصخور لتقيها بقرونها، فإن سقطت على غيرها هلكت، وفي قرونها خرزات مستديرات على قدر ما يكون عدد سنيها.
والعجب أنها تحفظ إنائها عند الكبر وتتعهدها بالمطعم والمشرب تحمله على أفواهها.
المعزى البرية إذا صيد شيء من سخالها تبعته ورضيت بالعبودية مع ولدها وفي أطراف قرونها جحرة تتنفس منها، فإن سدت هلكت مكانها.
الورشان يتحرز بأن يضع ورق الغار في عشه.
والحدأة تضع في عشها ورق العليق تتحرز به.
الخطاف يضع في عشه قضيب كرفس.
التدرج يضع في عشه سرطاناً نهرياً.
جميع السباع والدواب عند المشي تقدم اليد اليمنى والرجل اليسرى.
لا تكون الزرافة إلا في أرض قليلة الماء.

إذا هم أصحاب الخيل أن ينزو حماراً على فرس جزوا عرفها فتقر حينئذ وتذل لكدم الحمار لها.
يبونان ثيران لها أربعة قرون لا ترضى بمجامعة البقر، بل تجامع إناث الخيل، ويتولد بينهما خيول عجيبة المنظر.
الجاموس لا ينام أصلاً وإن أرخى عينيه إرخاء يسيراً، لكنه ساهرٌ الليل والنهار.
الجمل إذا وقع على الناقة وقع الضراب ستر عن الرجال، فإن نظر إليه رجل غضب.
قالت الروم: إن السنور يتولد من مجامعة الفهد لبعض السباع.
لا ينام البوم إلا إغفاءة.
ومن العجب أن السنور يكون صافي العين كثير البريق عند امتلاء الهلال وينقص ذلك الصفاء والبريق عند نقصان الهلال.
الأفعى إذا جامعها الذكر واسمه الأفعوان تحولت إليه، فإن ظفرت به أكلت رأسه من شدة عشقها له.
ذكر العقرب اسمه عقربان، أسود صغير، سريع المشي، جاد الذهاب الحرذون تفسيره بالعربية الذي يخرج من الزعفران.
التمساح لا يكون إلا في النيل ونهرٍ بأرض الهند يقال له: الرسيس ويبيض كبيض الإوز، وربما يولد منه حراذين صغار، ثم يكبر حتى يبلغ طوله عشر أذرع، ويزداد طولاً كلما ازدادت سنو حياته.
وسنه اليسرى نافعة لحمى النافض.
وذكر أنه يجامع ستين مرة في حركة واحدة ومحل واحد.
الحمار الوحشي يتولد بين الفرس والفيل، وله قرن ينبت من أنفه كأنه سيف، وإن ضرب شجرةً قطعها وبه يقاتل الفيل ويبعج بطنه بقرنه، ولم يعاين من هذا الجنس أنثى قط.
في البحر حوت يقال له: البوس، يتولد من الصاعقة إذا كانت في البحر وإن وضع ذلك الحوت بين اثنين فأكلا منه تحابا ولا يحقد أحد على صاحبه، ويتآخيان أحسن الإخاء.
كلب الماء أبدا ذنبه على ظهره واقع مع انطباق والتواء، يرعى نبات الأرض، وهو شديد الجزع من المنار، فإذا كان الليل خرج الصيادون بأيديهم شعل النار، فيأتون مجثمها، وتلك لا تتحرك لجزعها من النار حتى تؤخذ، وإن كان منها ذكر لم يجامع أنثى قط، وإذا أرادت المجامعة فإنها تجتمع وتجلد فتفرخ.
وإن أخذ صياد بشبكة واحداً وثبت كلها حتى تدخل الشبكة آبية فراق بعضها بعضاً.
ومن لبس جورباً من جلودها وبه نقرس انتفع به جداً.
وإذا ابتلي إنسان برعاف ثم أخذ قطعة من جلدها، ثم انعقد في لبن واشتمه انقطع ذلك الرعاف.
اليرابيع إذا اجتمعت في موضع ارتفع رئيس لها حتى يكون في موضع مشرف أو على صخرة أو تل ينظر منه إلى الطريق من كل ناحية، فإن رأى أحداً مقبلاً أو سبعاً صر بأسنانه وصوت، فإذا سمعته انصرفت عن الموضع إلى جحرتها فإذا أغفل ذلك وعاينت البقية سبعاً أو راجلاً قبل أن يراه ذلك الرئيس انصرفت إليه وقتلته لتضييعه أو غفلته.
وإذا كان حسن الرصد مضت اليرابيع فقطعت أطرأ ما يكون من الخضرة وأطيب العشب فحملته بأفواهها حتى تأتيه تحية وتكرمة.
وإذا كانت في جحرتها خرج الرئيس أولاً فيبصر الطريق، فإن لم ير أحداً صر بأسنانه وصوت لها لتخرج فترعى.
في البحر حوت يقال له: موفي، ضعيف الجسد، قليل القوة، إذا جاع خرج إلى الشاطىء فاستلقى على الرمل فأقام شوكة في رأسه، فإذا نظر إليه حوت آخر جاء مسرعاً ليأكله يظن أنه ميت، فيدخل بطنه تلك الشوكة فيقتله بها ويأكله.
وإذا ألقى الملاح صنارته ولقيت ذلك الحوت رمى مكانه بتلك الشوكة الحادة يد الملاح فتخدر ويطرح أداة صيده.
فإذا رأى الحوت أن الصنارة داخلت أضلاعه غلبت الظلمة على بصره ومات من ساعته.
وفي جلد هذا الحوت عجب، وهو أن الصاعقة لا تدنو من جلده، والملاحون يغطون سفنهم به عندما يتبينون الصواعق ووقوع المطر، ويدنو هذا الحوت إلى طرف مقدم السفينة فيمسك بطرفه اللطيف، فلو اجتمعت الرياح كلها بأشد هبوبها لم تستطع تحريك تلك السفينة، فمن أخذ من جلدها وسمر به شراع السفينة لم يخف على سفينته غرقاً.
السريع الحضر أربعة: النمر والحريش وعنز الجبل وكباشها.
عدو الحيات أربع: القنفذ والفيل والأيل والعقعق.
الجبان اثنان: الأرنب والأيل.
ذو الزهو ثلاثة: الفرس والديك والطاوس.
ذو حدة السمع ثلاثة: الذئب والحمار والخلد.
القادر على التزاوج ثلاثة: العصفور والحمام والعقعق.
ذو الشهوة ثلاثة: العصفور والثور والباشق.
لمتحارس بالليل اثنان: الكركي والبط.
نافى فراخه ثلاثة: النعام والغداف والعقاب.
محب الظلمة ثلاثة: البوم والخفاش والخلد.

ذو حدة البصر ثلاثة: العقاب والظبي والباشق.
من أخذ لسان ضبع ومر به بين الكلاب لم تكلب عليه.
من مر بمكان كثير الضباع فأخذ بيده أصلاً من أصول عنب الحية هربت منه. وعنب الحية هو الحنظل.
وذكر الحباري يقال له: الخرب.
إذا أراد إنسان أن يتزوج امرأة فلينظر إلى أبيها وأخيها فإنها بعيانه وبين يديه أحدهما.
من الحيوان ما لا يشبه الولد الوالد كالدببة والنحل والدبر.
أما الدببة فتضع أولادها توائم لا صور لها حين تولد، غير أن أمها تهيىء، وتسويها بلحسها إياها بألسنتها....
وأما الدبر فإنها تلد دوداً يتصور بعد ذلك.
الضفادع والغيالم والسرطانات لا ضرر عليها في ماء ولا يبس، لكنهما عندها سيان لا تهلك في بر ولا تخنق في بحر.
كل ما أكل اللحم فهو ذو أسنان قواطع صلاب، وأعناقٍ قصارٍ شداد، ومخالب وأظفارٍ حداد، ومناقير معقفةٍ جذابة.
للأسد ثلاث طبائع: الأولى منها أنه إذا مشى فشم ريح الصيادين عفى على آثاره بذنبه لكيلا يتبعه الصيادون ويقفوا عليه في عرينه فيتصيدوه.
والثانية أن اللبءة تلد شبلها ميتاً، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه في اليوم الثالث فينفخ فيم نخره فيبعثه.
والثالثة أنه يفتح عينيه إذا نام وهما يقظتان.
ومن تمسح بشحم كلى الأسد ومشى بين السباع لم يخفها ولم تقربه؛ وإن افترس الأسد الفريسة ولم يأكلها ميز أن ريحها منتنة جداً.
وأصناف الحيوان التي تلغ الدم بألسنتها: الكلاب والسنانير.
الأسد: تضع أولادها غير منفتحة العيون، وإنما تنفتح بعد ذلك.
وأما الأسد خاصة فليس له من جنسه قرين، ولا يرى شيئاً من السباع كفؤاً له فيصحبه، ولا يقرب شيئاً من بقايا فريسته بالأمس ولو جهده الجوع ويهر زئيره كثيراً من الحيوان الذي هو أعظم منه جسماً وقوة.
وإنما تلد اللبوة واحداً ويخرق بطن أمه بأظفاره ويخرج منه.
الثعلب إذا جاع فلم يقدر على صيدٍ عمد إلى أرض شديدة الحر وإلى موضع الطير إذا حمي، فاستلقى على ظهره ونظر إلى فوق، ثم اختلس نفسه وأخذ به داخلاص حتى ينتفخ انتفاخاً شديداً فيحسبه الطير قد مات، فيقع عليه ليأكل منه كما يأكل الجيفة، فإذا اجتمع الطير انتفض سريعاً وقبض على ما وجد فأكله، لأنه ذو خبٍ ومكر، كذلك طبيعته إن أصابه ضرر فأثر فيه آثاراً وكلم فيه كلوماً أخذ من صمغ شجرة تدعى قنطوريا فأبرأها به.
القدر أهيأ الحيوان لقبول التعليم، وهو لعوب غضوب سريع الحس، لا يكون في بلد كثير السباع، عدو لجميع الحيوان، مليح الإهاب، نهوشٌ خطوف، إلا أنه إذا شبع نام في غارة ثلاثة أيام، فإذا خرج صاح بصوت عالٍ تخرج منه رائحة طيبة، فيجتمع إليه الحيوان لحسن صوته.
ومن أراد ختله فليتمسح بشحم الضبع ويدخل عليه في غاره، فإنه لا يمتنع؛ خفيف الجرم، حديد الشد يقظان.
دابة يقال لها بالفارسية درباست إذا طلبه القانص استلقى لظهره وأراه أنه لا خصية له، كأنه قد علم ما يطلب منه.
خلق الجبان من الحيوان الخائف سريع الحضر سريع الحركة، وجعل الصنف الجريء العادي بطىء الحضر مبلداً.
الضبع مخالفة لجميع أجناس الحيوان، وذلك أنها تصير مرة ضبعاً ذكراً ومرة أنثى، تلقح أحياناً كالذكر، وتقبل اللقاح أحياناً كالأنثى.
وطبيعتها أنها إذا رأت الكلب في ليلة مقمرة مشت على الآثار ووطئت ظله فوقع.
ومن قتل ضبعاً وأخذ لسانها ومر بين الكلاب لم تكلب عليه، ولم تعرض له.
ومن مر بمكان كثير الضباع فأخذ بيده أصلاً من حنظل، أسكتها عنه وهربت منه.
القنفذ عدو الحيات، إذا قبض على حية تركها تضطرب على شوكه حتى تموت، فإذا ماتت قطعها قطعاً.
الدب يقتل الثور، والغالب عليه الانحجار في مغارته.
الفيل ليس له شهوة السفاد، فإذا أراد الولد أتى رياضاً وجناناً فيها اللقاح هو وإناثه فهيج له اللفاح برائحته وقوة حرارته شهوته فتسافدت، فإذا ولدت ولدت قائمة، لأن أوصالها ليست مواتيةً كأوصال التي تلد باركة ورابضة غير أنها تلد في الماء حذراً على دغفلها أن يموت إذا وقع على الأرض، فلذلك تدخل ساحل البحر حتى يبلغ الماء بطنها فتضع ولدها على الماء كالفراش الوثير والذكر في ذلك يحرسها وولدها من الحية.
ما أشد عداوة الفيل للحية؛ حيثما أصاب الفيل الحية وطئها وقتلها.
وإن هو سقط على جنبه لم يستطع القيام، إنما نومه إذا اتكأ على شجرة.

ومن هناك - لما عرف أهل تلك البلاد كيف نومه - يأتون الشجرة فينشرونها بالمنشار، فإذا أتاها الفيل واتكأ عليها وقعا على الأرض معاً، وحينئذ يشتد صياحه بصوت رفيع، ويجتمع إليه لذلك فيلةٌ كثيرة تحاول معاونته على النهوض والانبعاث، فلا تقدر على ذلك، فتصيح جماعتها بصوت واحد جزعاً من ضعف حيلتها وعجزها حتى يأتي الفيل الذي هو في الجسم أصغر، وفي الحيلة أكبر منها، فيدخل مشفره تحت الفيل الساقط، وتفعل كفعله جميعاً في إدخال مشافيرها تحته حتى تدعمه فينبعث، وإنما كون رأس الفيل في عنق قصير، وكون له بدل العنق الطويل المشفر الطويل ليكتفى به من الضيق؛ وبه يتناول طعامه وشرابه.
وخلقت قوائمه غير منفصلة، لكنها كالأساطين المصمته والسواري الوثيقة لتحمل الكثير الثقيل؛ وربطت بعراقيب صغارٍ غير منحنية ولا منثنية على الأوصال، لكن عظامه مفرغة إفراغاً.
تطول أعمارها إلى ثلاثمائة سنة؛ غير أن الدرذان والبق تعلق بالفيلة فتؤذيها.
السمندل: دابة لا تخاف النار، لأنها لا تحرقها، وإن دخلت أخدوداً متأججاً مضطرماً بالنار لم تحفل بذلك، وصارت النار التي تبيد الأجسام مبعثاً لهذه الدابة المهينة الحقيرة، تستلذ التقلب فيها استلذاذ القلب بالهواء البسيط وهبوب أرواحه الطيبة؛ ونضارة جلدها وتنقيته بالنار، فيزداد بالنار حسن لون.
الأرنب من طباعها الجبن والخوف، وهي كثيرة الولادة.
الكلب ذو فحص واقتفاء للأثر، وبشمه يسترشد ويهتدي ويستدل إذا شم المولى عرفه إن كان له أو لغيره.
ومن طباعه الترضي والبصبصة والهشاشة لمن عرفه.
ليس في الحيوان أشد حباً لصاحبه منه، فإن أشار له على صيد وثب ناصباً رأسه رافعاً ذنبه مستعداً كالفارس البطل والشجاع النجد، مع نشاطه في الطلب وهو يعلم أن الصيد ليس بحاضر، لكن ذلك منه حسن طاعة.
فأما حب بعض جراء الكلاب لبعض إذا كان أخاه لأم ولأب فمما قد عهد وشوهد، وذلك أنه حيث كان يطرح لها الطعام في الوسط، فلا يخطف واحد منها ذلك، ولكنها تتعاطاه بينها بسكون وتمكين بعضها لبعض، غير مستأثرة به ولا محاربة عليه.
الفرس من طباعه الزهو والحرارة وشهوة الإناث للسفاد. وإن وطىء الفرس أثر وطء الذئب ارتعد وخرج الدخان من جسده كله.
الذئب إذا رأى الإنسان مبطئاً خطوه وهو ساكنٌ سكت عنه، فإن رآه خاف وجبن اجترأ وحمل عليه وكبسه.
وليس كل ذئب يعدو، ولكن هو الذي يكون ضارياً؛ وفيه خلتان: إحداهما أن يكون منفرداً يمشي وحده، والأخرى حدة سمعه، إن خفي عليه مكان الغنم أتى مكاناً وعوى صوتين أو ثلاثة، ثم سكت منصتاً لأصوات الكلاب التي مع الغنم ونباحها حين سمعت عواءه، فإذا سمع نباح الكلاب شد مسرعاً نحوها، قاصداً إليها؛ فإذا قرب من الغنم مال إلى ناحية أخرى خالية من محرس الكلاب فاختطف ما أمكنه خطفه من الغنم.
حمار الوحش إذا ولدت الأنثى الأولاد الذكور جاء الفحل فانتزع خصي تلك الذكور وقطعها بأسنانه لكيلا تصاد أو تشاركه في طروقةٍ، إلا أن الأنثى ربما وضعت ولدها في مكان غامضٍ حتى يشتد جسمه وتصلب حوافره، ويقوى بالشد على النجاة من الفحل، ولهذا السبب يقل منها الفحول.
الحريش دابة صغيرة في جرم الجدي ساكنةٌ جداً، غير أن لها من قوة الجسم وسرعة الحضر ما يعجز القناص عنها، ثم لها في وسط رأسها قرن واحد منتصب مستقيم، به تناطح جميع الحيوان فلا يغلبها شيء.
احتل لصيدها بأن تعرض لها فتاةً عذراء وضيئةً، فإذا رأتها وثبت إلى حجرها كأنها تريد الرضاع، وهذه محبة فيها طبيعية ثابتة، فإذا هي صارت في حجر الفتاة أرضعتها من ثديها على غير حضور اللبن فيها حتى تصير كالنشوان من الخمر والوسنان من النوم، فيأتيها القناص على تلك الحال فيشد من وثاقها على سكون منها بهذه الحيلة.
الأيل عدو الحيات إن قربت منه حية فانجحرت في صدع صفا ملأ الأيل فاه من الغدير أو من حيث وجد فدفعه في ذلك الصدع، ثم اجتذب الحية إليه بالقوة حتى يقتلها، وإن كانت فوق أنزلها، وكذلك إن كانت أسفل، فإن كان جائعاً أكل ما أصاب منها، وإن لم يكن به جوع قتلها وتركها فصارت الحيات ذوات السم الزعاف المميت لكل من أصابه أو خالط بدنه غذاء هذه الأيايل، ويكون ملائماً لها لذيذاً عندها.
وإن دخن البيت الذي فيه الحيات بدخان حريق قرن الأيل فرت منه كلها خوفاً.

على أن الأيل نفسه جبانٌ شديد الرعب، إذا أكل الحية بدأ بذنبها حتى ينتهي إلى رأسها، ثم يقطعه بأسنانه، وأكبر من ذلك أنه يتعلق برءوسها وتبقى في الهواء. وتكثر فيه المرة ويعطش عطشاً شديداً فيعوج إلى غدير الماء.
الغزال، يقال: ليس في الحيوان أبصر من الظباء؛ ويقال لها باليونانية النظارة والمبصرة.
الثور دابة عمولٌ كدودٌ مقدرٌ جسمه بقدر قوته. من طبيعته كثرة المنى وتوقد شهوة السفاد، إن لم يخص لم يذلل للعمل ولم يسكن ولم يصح جسمه لأن الغلمة تحل جسمه وتنحله، والخصاء يقطع ذلك كله. وبينه وبين الدب عداوةٌ شديدة.
أعنز الجبل وكباشه وهي الأرواء والتياتل هذا جنس متمرد في الجبال سريع الحضر في الشواهق والتوقل فيها وطبيعتها أن تلد توائم.
قد يوجد من البهائم ما لا يحمل، فأما أنثى الخيل إذا كانت حاملاً فوطئت أثر الذئب بحافرها أجهضت حملها.
الحمار في طبيعته معرفة صوت الإنسان الذي اعتاد استماعه وإيناسه، لا يضل عن طريق سلكه مرة ولا يخطئه، إذا ضل راكبه الطريق هداه وحمله على المحجة.
وأما حدة السمع، فليس في البهائم فيما يذكر أحداً سمعاً منه.
اليامورة دابة وحشية نافرة، لها قرنان طويلان، كأنهما منشاران تنشر بهما الشجر؛ إذا عطشت وردت الفرات وعليه غياطل وغياض ملتفةٌ أشجارها تفرعت من أغصانها غصونٌ طوال دقاق مشبكة، فإذا شربت ريها وأرادت الصدر اشتهت الاستتار والعدو بين تلك الأشجار ولحت هناك فعلق قرناها بتلك الغصون اللدنة المتينة، وكلما عالجتها لتفلت ازدادت ارتباطاً فإذا ضجرت مما وقعت فيه عجت جزعاً، وسمع القناص صوتها فأتوها فقتلوها.
الجمل: حقود، يرتصد من ضاربه الفرصة والخلوة لينتقم منه؛ فإذا أصاب ذلك لم يستبق صاحبه، فأما ظهره فذو سنام مقبب يكون لكثرة الحمل واحتمال الثقل، وأوصال ركتبه وعراقيبه كبارٌ صلاب، وأوتارها وعروقها متينة شديدة، وعصبه وثيق لم يشتد بضغط التحام مفاصله واتصالها ولم يسترخ مطوياً، لكنها هيئت على الاعتدال ليهون عليه بذلك البروك والنهوض بحمله، مع تسهيل الارتقاء عليه في ذلك.
البغال: نوعٌ هجين قد أنبئنا أنه لا يلد، إلا أنه أهدى للطريق للناس وأثبت حفظاً.
الثيران وكل ذي قرن لا يأخذه الفواق.
وأما سباع الطير وآكلات اللحم منها فصلاب الأظفار، حجن المناقير ذات حدة وقوة، قوية الأجنحة.
والنواهض التي فيها القوادم أكثر طيراً.
الديك صلف في طبيعته، غير أن له مع ذلك إيقاظاً للنائم بصياحه في آناء الليل، والتبشير بإقبال الصبح وطلوع الشمس، يؤنس السيارات في السفر بصياحه في الليل، ويحرضهم على السير، مع إيقاظه الفلاحين لعملهم، والصناع لصناعتهم، وإذا سمع المرضى صوته داخلهم من ذلك روحٌ وخفة من مرضهم.
الطاوس يحب الزينة، غير عفيف الطبيعة، يدعوه زهوه وحرصه على التزين إلى نشر ذنبه وعقده كالطاق لتراه الأنثى بحسن زينته.
الكراكي تتحارس بالليل؛ ويجعل الحارس منها يتردد في المحلة ويهتف بصوت يسمع محذراً، فإذا قضى نوبته استراح وأعقبه الذي كان مستريحاً نائباً عنه حتى تقضي كلها ما يلزمها من الحراسة، فإذا طارت لم تطر متقطعةً، لكنها تطير نسقاً غير مشتتة، يقدمها واحد منها كالرأس والهادي لها حتى تتلوه كلها لازمةً صفها، ثم يعقبه بعده آخر متقدم حتى يصير المتقدم الأول متأخراً في آخرها، وتقتسم كرامة المتقدم كلها بالسوية؛ وفيها ما يبعد سفره وينتقل عن مصيفه إذا هجم الشتاء.
البط له يقظة حارسة تدل على حدة حسه.
الجراد معروف الحال.
العقاب تطلب عين الماء، فإذا أصابتها تحلق طائرةً إلى حر الشمس وهو موضع دورانها فيحترق ريشها وما كان من جناح، ثم تغوص في تلك العين فإذا هي قد عادت شابة وتذهب ظلمة عينيها.
وأما الطريح فيتقيض الله له طائراً يقال له: قاس فيضمه إليه ولا يدعه يهلك، ولكنه يقويه ويربيه مع أفراخه.
وأجنحة العقبان مفصلة شبه ريشها.
وبصرها قوي بعيد تحت الشعاع المستنير.
ويقال: إنها أبصر الطير.
الحجل يأتي أعشاش نظرائه فيسرق بيضها ثم يحضنها، فإذا تحركت الفراخ وطارت لحقت بأمهاتها.
البوم مأواه ومحله الخراب، يوافقه الليل، لأنه بالليل بصير وبالنهار كليل، مع حبه التوحد والخلوة بنفسه، وبينه وبين الغربان عداوة ما تنقضي.

النسر يتخذ وكره في المكان العالي المرتفع، وعليه يقع وفيه ينام كالراصد، إما في ذروة الجبل أو في وسطه من شظاياه وثناياه وموضع المنعة.
وإذا حملت زوجته مضى إلى الهند فأخذ من هناك حجراً كهيئة الجوزة إذا حرك سمع به صوت حجرٍ آخر - يتحرك في وسطه - كصوت الجرس، فإن عسرت على زوجته الولادة جعلت ذلك الحجر تحتها وعلت عليه فيذهب عنها العسر.
قال: ورأيت مرة أنثى من جنس الطير مات زوجها فامتنعت من الطعام والنوم ليالي كثيرة صارت فيها كالنائحة الباكية على زوجها بتنفس الصعداء وزفرات الحزن لا تلقط أياماً متتابعة شيئاً.
البزاة من طبيعتها أن تداوي أنفسها وفراخها فلا تموت، لأنها تستعمل في بعض المرض والداء نبتةً تعرفها وتعرف طبها ... ومنه ما ينقص ويزيد.
النعام: لا يعول أفراخه إلا أياماً يسيرة، ثم يدحضها ويطردها من عنده إنكاراً لها.
الغداف لا يبيض ولا يفرخ من سفاد، فإذا أفرخت أنثاه فراخاً لم يزقها ولم يطعمها، إلا أن البق والبعوض يقع عليها لزهومتها ونتن لحمها، فتفتح أفواهها وتبلع ما دخل فيها من ذلك البق، فهو يمسكها ويقويها.
أنحاء طيران الطير مختلفةٌ كاختلاف الطير، بعضها يطير قريباً من الأرض كالبط وما أشبهه، وبعضها يرتفع، غير أنه لا يبعد، كالحمام والغربان، وبعضها يحلق تحليقاً، كالعقاب والصقور والأجادل والبزاة.
وما كان من الطير بدنه أعظم من جناحه فهو قريب الطيران من الأرض، لسرعة إحناء أجنحته واضطراره إلى الوقوع على الأرض.
البيضاني والأبغث: هذا طائر يحب ولده، فإذا تحركت فراخه ودرجت ضربت وجهه بأجنحتها فيدعوه المحك والغضب المطبوعان فيه إلى قتلها، فإذا ماتت اكتأب عليها الأبوان وأقاما عليها شبه المأتم ثلاثة أيام، ثم إن الأم في اليوم الثالث تشق جنبها حتى يقطر دمها على تلك الفراخ، فيصير ذلك نشوراً لها بعد موتها.
مالك الحزين ينشل الحيتان من الماء فيأكلها وهي طعامه؛ لا يحسن السباحة، فإن أخطأه انتشالٌ فجاع طرح نفسه على شاطىء النهر في بعض ضحضاحه، فإذا اجتمعت إليه السمك الصغار لتأكله أسرع لأكل ما يؤكل منه.
من الطير ما يلقح من هبوب الريح، لا يحتاج إلى تزاوج ولا إلى سفاد.
والخفاش له خصيتان كخصي الحيوان، وله أربع قوائم وأسنان حداد كأسنان ذوات الأربع، يرضع ولده من اللبن إرضاعاً، وجلده أملس.
العقعق لا يأوي تحت سقف ولا يستظل به، ولكنه يهيىء وكره في الواضع المشرفة العالية والعراء الكاشف وجه الهواء الفسيح؛ وطبيعته الزنا وخيانة الزوج، فإذا باضت الأنثى بيضها حضنته بورق الدلب وغطته كيلا يقربه الخفاش، فإن مسه مرق البيض من ساعته وفسد.
النحل يلد من غير لقاح الذكور.
الحية إذا هرمت وكل بصرها واسترخى جلدها دخلت في صدع صفاة ضيق أو جحر ضاغط يعسر عليها النفوذ فيه حتى ينسلخ عنها جلدها فتأتي عين الماء فتنغمس فيها حتى يقوى لحمها وينعصب، فإذا هي فعلت ذلك عادت شابة كما كانت. فإذا أرادتأن تضىء عينها أكلت الرازيانج الرطب فاشتفت عيناها واحتد بصرها، وإن ضربت ضربة بقصبة استرخت فلم تستطع الفرار، فإن ثنيتها وثبت وسعت هاربة.
إن أنقع الحسك في الماء ثم نضح ذلك الماء بين يدي جحر الحية فرت من هناك.
وإن وضع في جحرها أص حمصٍ رطب فرت أيضاً.
وإن رأت الحية إنساناً عرياناً استحيت منه ولم تقربه.
وإن رأته كاسياً حملت عليه بجرأة شديدة؛ وما أشد طلبها لثأرها؛ وإن شدخ رأسها ماتت من ساعتها.
السمسمة، وهي حية حمراء براقة، إذا كبرت وأصابها وجع العين وكمدت التمست حائطاً مقابل المشرق، فإذا تبدت الشمس أحدت إليها بصرها قدر ساعة فإذا دخل شعاع الشمس عينها كشط عنها العمى والإظلام، ولا تزال تفعل ذلك سبعة أيام حتى يتجدد بصرها تماماً.
الأفعى تزاوج دابةً بحريةً، تأتي الأفعى شفير البحر فتصوت، وصوتها مهيجٌ لتلك الدابة البحرية.
من أحرق عقرباً طرد برائحة حريقها عقارب ذلك البيت.
فأما حمة العقرب فهي جوفاء كهيئة المزمار معقفة الرأس مكونة اللدغ، فإذا ضربت شيئاً تحركت فخرج سمها وجرى في حمتها وسرى في الملدوغ.
الإناث من بنات عرسٍ إنما تلقح من أفواهها وتلد من آذانها.

من عادة هذا الجنس أن يسرق ما وجد من حلي الذهب والفضة، ويخبؤه في جحرته، فإن وجد أيضاً في ابيت حبوباً خلط بعضها ببعض، كأن عمله عمل الطباخين في خلط التوابل.
الفار الفارسي أطيب ريحاً من كل طيب.
وإن أخذ إنسان جرذاً فربطه في بيت فرت منه الجرذان كلها.
وإن وضع في جحر الجرذ البري ورق الدفلى ماتت الجرذان.
الدودة الهندية هي دودة القز، لها في رأسها قرنان، ثم تتحول بيضة ثم تتصور في هيئة أخرى، ذات جناحين عريضين منتصبين، وصناعتها دمقس الحرير.
النمل عمول مواظب، فإذا جمع الحب قطعه كيلا ينبت إذا أصابه الندى والبلة، ويخرجه ويبسطه عند فم الجحر، فإذا يبس أدخله.
ومن جرب طبائع النمل فليدق الكبريت والحبق ويذرهما في جحرته ولا يولد من تزاوج، ولكنه يخرج منه شيء قليل صغير فيقع في الأرض فيصير بيضاً، ثم يتصور من البيض بالهيئة التي تُرى، وإذا شمت الورد موتت وأجنحتها مدمجةٌ لاصقةٌ بها.
البق والبعوض لا نتاج لهما، وإنما تنجل من عفن الماء ووسخه ونتنه.
ومن وضع غصن العنب في موضعٍ تحت سريره لم يقربه بق ولا بعوض.
ومن أراد ألا يتأذى بالبراغيث فليحفر في وسط البيت حفرة ويملأها دم تيس فإن البراغيث تجتمع هناك.
وإن وضع في الحفرة ورق دفلى مات البراغيث.
الخلد غير ذي عينين، دائم الحفر في غير نفع؛ وطعامه من أصول النبت وعروقه الذاهبة في الأرض، فهو يصيب ذلك في خلال حفره.
يقال: إن في بلد كذا نهراً ماؤه في البحر منحدراً إليه على حال طبيعته ست ساعات، وفي الست الثانية يحتبس ماؤه في ينبوعه ويرى جوفه ناضباً قد يبس.
ونهراً آخر يجري في كل سبع سنين نهر كبريت، ولا يكون فيه سمك، لأن ماءه يتغير في كل يوم ثلاث مرات، وينبعث منه شبه ثور ليس له رأس.
وأهل الشام إذا أرادوا أخذه ألقوه في سفينة، ولا يستطيعون قطعه بفأس ولا كسره بحجر، إنما يؤتى بالماء المنتن ودم الحيض فيخلطان جميعاً ثم ينضحان عليه، فإذا وقعا عليه تحلل وتكتل كتلاً صغاراً، وتستعمل في أشياء ينتفع بها.
عين النار تنبع منها نارٌ تضيء بالليل للسيارات فلا تطفأ ولا تحتاج إلى شيء يمسكها، لكنها محفوظة بالحجارة؛ إن حمل إنسانٌ منها شعلة قبسٍ إلى موضع لم توقد.
البحر الميت يقال له ذلك لأنه يموت فيه كل حي.
السرطان ينسلخ جلده في السنة سبع مرات، ويتخذ بجحره بابين: أحدهما شارعٌ إلى الماء، والآخر إلى اليبس؛ وإذا سلخ جلده سد عليه الشارع إلى الماء لكيلا يدخل السمك فيأكله؛ إلا أنه يدع الذي إلى اليبس مفتوحاً فتصيبه الريح وما ينفع لحمه ويعصمه، فإذا اشتد لحمه وعاد إلى حاله فتح ذلك المسدود وسلك في الماء وطلب طعمه وما يقيم حياته.
الزامور حوت صغير الجسم إلفٌ لأصوات الناس، مستأنسٌ باستماعها ولذلك يصحب السفن متلذذاً بأصوات الناس، فإذا رأى الحوت الأعظم يريد الاحتكاك بها وكسرها، وثب الزامور ودخل أذنه، فلا يزال زامراً فيها حتى يفر الحوت إلى الساحل يطلب خزفاً أو صخرة، فإذا أصاب ذلك لا يزال يضرب به رأسه حتى يموت.
وركاب السفينة يحبونه ويطعمونه ويتفقدونه، ليدوم إلفه لهم وصحبته لسفينته، ويسلموا به من ضرر السمك العادي.
وإذا ألقوا شبكةً ليصطادوا السمك فوقع فيها الزاموار خلوه حياً وأخذوه وأعتقوا لكرامته أصناف السمك الواقع في الشبكة أحياءً.
وإني قرأت هذا الفصل على الوزير - كبت الله كل شانىء له - في ليلتين، فتعجب وقال: ما أوسع رحمة الله؛ وما أكثر جند الله؛ وما أغرب صنع الله. قلت: نعم؛ وما أغفل الإنسان عن حق الله الذي له هذا الملك المبسوط، وهذا الفلك المربوط؛ وهذه العجائب التي تصعد فوق العقول التامة بالاعتبار والاختبار بعد الاختبار؛ وإنما بث الله تعالى هذا الخلق في عالمه على هذه الأخلاق المختلفة والخلق المتباينة، ليكون للإنسان المشرف بالعقل طريقٌ إلى تعرف خالقها، وبيانٌ لصحة توحيده له بما يشهد من أعاجيبها، ونيلٌ لرضوانه بما يتزود من عبره التي يجد فيها، وليكون له موقظٌ منها، وداعٍ حادٍ إلى طاعة من أبداها وأبرزها، وخلطها وأفردها.
فقال: قد كنت قلت: إنه يجري كلامٌ في النفس منذ ليالٍ، فهل لك في ذلك?.

قلت: أشد الميل وأوحاه، لكن بشرط أن أحكي ما عندي، وأروي ما حصلت من هذه العصابة بسماعي وسؤالي. فقال: نستأنف الخوض في ذلك - إن شاء الله - فإن النعسة قد حدثت العين، فأنا كما قال:

قد جعل النعاس يغر نديني

 

أدفعه عني ويسر ندينـي

أنشدني أبياتاً ودعني بها، ولتكن من سراة نجد، ليشتم منها ريح الشيخ والقيصوم.
فأنشدته لأعرابي قديم:

مطـرنـا فـلــمـــا أن روينـــا تـــهـــادرت

 

شقـاشــق مـــنـــهـــا رائبٌ وحـــلـــيب

ورامـــت رجـــالٌ مـــن رجـــالٍ ظـــلامةً

 

وعـــادت ذحـــولٌ بـــينـــنـــا وذنـــوب

ونـصـت ركـابٌ لـلـصـبـا فـــتـــروحـــت

 

لهـن بـمـا هـاج الـحـــبـــيب حـــبـــيب

وطـئن فـنـاء الـحــي حـــتـــى كـــأنـــه

 

رجـا مـنـهـلٍ مـن كـــرهـــن نـــخـــيب

بنـى عـمـنـا لا تـعـجـلـوا ينـضـب الــثـــرى

 

غلـيلاً ويشـفـى الـمـســرفـــين طـــبـــيب

فلـو قـد تـولـى الـنـبـت وامـتـيرت الــقـــرى

 

وحـثـت ركـاب الـــحـــي حـــين تـــؤوب

وصار عيوف الخود وهي كريمةٌعلى أهلها ذو جدتين قشيب

 

 

وصار الذي في أنفه خنزوانةٌ

 

ينـادي إلـــى داعـــي الـــردى فـــيجـــيب

أولــئك أيامٌ تـــبـــين مـــا الـــفـــتـــى

 

أكـــابٍ ســـكـــيتٌ أم أشـــم نـــجـــيب

فعجب وقال: هذا جنى غرسٍ قد جذ أصله، ونزيح قليبٍ قد غار مده وجزره، وانصرفت.

الليلة الثالثة عشرة

فلما حضرت ليلةً أخرى قال: هات. قلت: إن الكلام في النفس صعب، والباحثون عن غيبها وشهادتها وأثرها وتأثرها في أطراف متناوحة وللنظر فيهم مجال، وللوهم عليهم سلطان، وكل قد قال ما عنده بقدر قوته ولحظه، وأنا آتي بما أحفظه وأرويه، والرأي بعد ذلك إلى العقل الناصح والبرهان الواضح.
قال بعض الفلاسفة: إذا تصفحنا أمر النفس لحظناها تفعل بذاتها من غير حاجة إلى البدن، لأن الإنسان إذا تصور بالعقل شيئاً فإنه لا يتصوره بآلة كما يتصور الألوان بالعين والروائح بالأنف، فإن الجزء الذي فيه النفس من البدن لا يسخن ولا يبرد ولا يستحيل من جهة إلى أخرى عند تصوره بالعقل، فيظن الظان منا أن النفس لا تفعل بالبدن، لأن هذه الأمور ليست بجسم ولا أعراض جسمية.
وقد تعرف النفس أيضاً الآن من الزمان والوحدة واليقظة، وليس لأحد أن يقول: إن النفس تعرف هذه الأشياء بحس من الإحساس، ففعل النفسي إذن يفارق البدن، وتأليف البرهان أن يكون على أن يقال: للنفس أفعال تخصها خلوٌ من البدن، مثل التصور بالعقل، وكل ما له فعل يخصه دون البدن فإنه لا يفسد بفساد البدن عند المفارقة.
وقال أيضاً: وجدنا الناس متفقين على أن النفس لا تموت، وذلك أنهم يتصدقون عن موتاهم، فلولا أنهم يتصورون أن النفس لا تموت، ولكنها تنتقل من حال إلى أخرى إما إلى خير وإما إلى شر؛ ما كانوا يستغفرون لهم، وما كانوا يتصدقون على موتاهم ويزورون قبورهم.
وقال أيضاً: النفس لا تموت، لأنها أشبه بالأمر الإلهي من البدن، إذ كان يدبر البدن ويرأسه.
والله جل وعز المدبر لجميع الأشياء، والرئيس لها. والبدن أشبه شيء بالشيء الميت من النفس إذ كان البدن إنما يحيا بالنفس.
وقال أيضاً: النفس قابلة للأضداد، فهي جوهر، فالفائدة أن النفس جوهر.
وقال: النفس ليست بهيولى، فلو كانت هيولى لكانت قابلةً للعظم، فليست النفس إذاً بهيولى.
وقال: ليست النفس بجسم، لأن النفس نافذة في جميع أجزاء الجسم الذي له نفس، والجسم لا ينفذ في جميع أجزاء الجسم؛ ولا هيولى، لأن النفس لو كانت هيولى لكانت قابلة للمقادير والعظم، وفائدة هذا أن النفس جوهر على طريق الضرورة.
وقال آخر: حركة كل متحرك تنقسم قسمين: أحدهما من داخل، وهو قسمان: قسم كالطبيعة التي لا تسكن البتة، كحركة النار ما دامت ناراً، وقسمٌ هو كحركة النفس تهيج أحياناً وتسكن أحياناً، وكحركة جسد الإنسان التي تسكن إذا خرجت نفسه وصار جيفة.
والقسم الآخر من خارج، وهو قسمان: أحدهما يدفع دفعاً كما يدفع السهم ويطلق عن القوس، والآخر يجر جراً كما تجر العجلة والجيفة.
وقال: فنقول: ليس يخفى أن جسدنا ليس مدفوعاً دفعاً ولا مجروراً جراً ولما كان كل مدفوع أو مجرور متحرك من خارج متحركاً لا محالة من داخل، فالجسد إذن متحرك من داخل اضطراراً.

وقال: إن كان جسدنا متحركاً من داخل، وكان كل متحرك من داخل إما متحركاً حركةً طبيعية لا تسكن، وإما نفسية تسكن.
فليس يخفى أن حركة جسد الإنسان ليست بدائمة لا تسكن، بل ساكنة لا تدوم، وكانت حركة كل ما سكنت حركته فلم تدم ليست حركةً طبيعية لا تسكن، بل نفسيةً من قبل نفسٍ تحركه وتحسسه.
بوقال: إن كانت النفس هي التي تحيي الإنسان وتحركه، وكان كل محرك يحرك غيره حياً قائماً موجوداً، فالنفس إذاً حيةٌ قائمة موجودة.
وقال أيضاً: النفس جوهر لا عرض، وحد الجوهر أنه قابل للأضداد من غير تغير، وهذا لازم للنفس، لأنها تقبل العلم والجهل، والبر والفجور، والشجاعة والجبن، والعفة وضدها، وهذه أشياء أضدادٌ، من غير أن تتغير في ذاتها، فإذا كانت النفس قابلةً لحد الجوهر، وكان كل قابل لحد الجوهر جوهراً فالنفس إذاً جوهر.
وقال: قد استبان أن النفس هي المحيية المحركة للجسد الذي هو الجوهر ولما كان كل محيٍ حركٍ للجوهر جوهراً فالنفس إذاً جوهر.
وقال: لا سبيل أن يكون المحيا المحرك جوهراً ويكون المحيي المحرك غير جوهر، فإذا كانت هي المحيية المحركة للجسد، وكان لا يمكن أن يكون المحيي المحرك للموجود غير موجود، فالنفس إذاً لا يمكن أن تكون غير موجودة.
وقال: إن كانت النفس بها قوى وحياة الجسد، فيمتنع أن يكون قوامها بالجسد، بل بذاتها التي قامت بها حياة الجسد.
وقال: إن كانت النفس قائمة بذاتها التي قامت بها حياة الجسد، فما كان قائماً بذاته فهو جوهر، فالنفس إذا جوهر.
وقد أملى علينا أبو سليمان كلاماً في حديث النفس هذا موضعه، ولا عذر في الإمساك عن ذكره ليكون مضموماً إلى غيره، وإن كان كل هذا لم يجر على وجهه بحضرة الوزير - أبقاه الله ومد في عمره - لكن الخوض في الشيء بالقلم مخالفٌ للإفاضة باللسان، لأن القلم أطول عناناً من اللسان، وإفضاء اللسان أحرج من إفضاء القلم، والغرض كله الإزادة، فليس يكثير الطويل.
قال: ينبغي أن نعرف باليقظة التامة أن فينا شيئاً ليس بجسم له مدات ثلاث: أعني الطول والعرض والسمك، ولا يجزأ من جسم ولا عرض من الأعراض، ولا حاجة به إلى قوة جسمية، لكنه جوهر مبسوط غير مدرك بحس من الإحساس. ولما وجدنا فينا شيئاً غير الجسم وضد أجزائه بحدته وخاصته، ورأينا له أحوالاً تباين أحوال الجسم حتى لا تشارك في شيء منها وكذلك وجدنا مباينته للأعراض، ثم رأينا منه هذه المباينة للأجسام والأعراض إنما هي من حيث كانت الأجسام أجساماً والأعراض أعراضاً؛ قضينا أن ها هنا شيئاً ليس بجسم ولا جزء من الجسم، ولا هو عرض، ولذلك لا يقبل التغير ولا الحيلولة، ووجدنا هذا الشيء أيضاً يطلع على جميع الأشياء بالسواء ولا يناله فتور ولا ملال، ويتضح هذا بشيء أقوله: كل جسم له صورة فإنه لا يقبل صورةً أخرى من جنس صورته الأولى البتة إلا بعد مفارقته الصورة الأولى، مثال ذلك أن الجسم إذا قبل صورةً أو شكلاً كالتثليث، فليس يقبل شكلاً آخر من التربيع والتدوير إلا بعد مفارقة الشكل الأول. وكذلك إذا قبل نقشاً أو مثالاً فهذا حاله، وإن بقي فيه من رسم الصورة الأولى شيء لا يقبل الصورة الأخرى على النظم الصحيح، بل تنقش فيه الصورتان، ولا تتم واحدة منهما، وهذا يطرد في الشمع وفي الفضة وغيرها إذا قبل صورة نقشٍ في الخاتم؛ ونحن نجد النفس تقبل الصور كلها على التمام والنظام من غير نقص ولا عجز، وهذه الخاصة ضدٌ لخاصة الجسم، ولهذا يزداد الإنسان بصيرةً كلما نظر وبحث وارتأى وكشف.
ويتضح أيضاً عن كثب أن النفس ليست بعرض، لأن العرض لا يوجد إلا في غيره، فهو محمول لا حامل وليس هو قواماً، وهذا الجوهر الموصوف بهذه الصفات هو الحامل لما لها أن تحمل، وليس له شبه من الجسم ولا من العرض.
وكان يقول: إذا صدق النظر، وكان الناظر عارياً من الهوى، وصح طلبه للحق بالعشق الغالب، فإنه لا يخفى عليه الفرق بين النفس المحركة للبدن، وبين البدن المتحرك بالنفس.
قال: ولما عرضت الشبهة لقوم قصر نظرهم، ولم يكن لهم لحظ ولا اطلاع فظنوا أن الرباط الذي بين النفس والبدن إذا انحل فقد بطلا جميعاً.
وهذا ظن فيه عسف، لأنهما لم يكونا في حال الارتباط على شكل واحد وصورةٍ واحدة، أعني أنهما تباينا في تصاحبهما وتصاحبا في تباينهما.

ألا ترى أن البدن كان قوامه ونظامه وتمامه بالنفس? هذا ظاهر.
وليس هذا حكم النفس في شأنها مع البدن، لأ،ها واصلته في الأول عند مسقط النطفة، فما زالت تربيه وتغذيه وتحييه وتسويه حتى بلغ البدن إلى ما ترى، ووجد الإنسان بها، لأن النفس وحدها ليست بإنسان، والبدن وحده ليس بإنسان، بل الإنسان بهما إنسان، فإذاً الإنسان نصيبه من النفس أكثر من نصيبه من البدن.
وهذه الكثرة توجد في الأول من ناحية شرف النفس في جوهرها، وتوجد في الثاني من جهة صاحب النفس الذي هو الإنسان بما يستفيده من المعارف الصحيحة، ويضمه إلى الأفعال الواجبة الصالحة، فأمر المعارف الصحيحة معرفة الله الواحد الحق باليقين الخالص، وأمر الأفعال الواجبة الصالحة العبادة له والرضوان عنه.
وغاية المعرفة الاتصال بالمعروف، وغاية الأفعال الواجبة الفوز بالنعيم والخلود في جوار الله، وهذا هو الصراط المستقيم الذي دعا إلى الجواز عليه كل من رجع إلى بصيرة وآوى إلى حسن سيرة.
فأما من هو عن هذا كله عمٍ وعما يجب عليه ساهٍ، فهو في قطيع النعم، وإن كان متقلباً في أصناف النعم.
وكان يقول كثيراً: الناس أصناف في عقولهم: فصنفٌ عقولهم مغمورة بشهواتهم، فهم لا يبصرون بها إلا حظوظهم المعجلة، فلذلك يكدون في طلبها ونيلها، ويستعينون بكل وسع وطاقة على الظفر.
وصنف عقولهم منتبهة، لكنها مخلوطة بسبات الجهل، فهم يحرضون على الخير واكتسابه، ويخطئون كثيراً، وذلك أنهم لم يكملوا في جبلتهم الأولى وهذا نعتٌ موجود في العباد الجهلة والعلماء الفجرة، كما أن النعت الأول موجودٌ في طالبي الدنيا بكل حيلة ومحالة.
وصنفٌ عقولهم ذكيةٌ ملتهبة، لكنها عمية عن الآجلة، فهي تدأب في نيل الحظوظ بالعلم والمعرفة والوصايا اللطيفة والسمعة الربانية، وهذا نعت موجود في العلماء الذين لم تثلج صدورهم بالعلم، ولا حق عندهم الحق اليقين؛ وقصروا عن حال أبناء الدنيا الذين يشهرون في طلبها السيوف الحداد، ويطيلون إلى نيلها السواعد الشداد فهم بالكيد والحيلة يسعون في طلب اللذة وفي طلب الراحة.
وصنف عقولهم مضيئة بما فاء عليها من عند الله تعالى باللطف الخفي، والاصطفاء السني، والاجتنباء الزكي، فهم يحلمون بالدنيا ويستيقظون بالآخرة؛ فتراهم حضوراً وهم غيب، واشياعاً وهم متباينون.
وكل صنف من هؤلاء مراتبهم مختلفة، وإن كان الوصف قد جمعهم باللفظ.
وهذا كما تقول: الملوك ساسةٌ، ولكل واحد منهم خاصة؛ وكما يقولون: هؤلاء شعراء ولكل واحد منهم بحر؛ وهؤلاء بلغاء ولكل واحد منهم أسلوب وكما تقول: علماء، ولكل واحد منهم مذهب.
وعلى هذا أبو سليمان - حفظه الله - إذا أخذ في هذا الطريق أطرب، لسعة صدره بالحكمة، وفيض صوابه من المعرفة، وصحة طبيعته بالفطرة.
وقال: إنا بعد هذا المجلس تركنا صنفاً لم نرسمه بالذكر، ولم نعرض له بالاستيفاء، وهم الهمج الرعاع الذين إن قلت: لا عقول لهم كنت صادقاً، وإن قلت: لهم أشياء شبيهة بالعقول كنت صادقاً؛ إلا أنهم في العدد، من جهة النسبة العنصرية والجبلة الطينية والفطرة الإنسية، وفي كونهم في هذه الدار عمارة لها ومصالح لأهلها: ولذلك قال بعض الحكماء: لا تسبوا الغوغاء فإنهم يخرجون الغريق ويطفئون الحريق ويؤنسون الطريق ويشهدون السوق.
فضحك - أضحك الله ثغره، وأطال عمره، وأصلح شأنه وأمره - فقال: قد جرى في حديث النفس أكثر مما كان في النفس، وفيه بلاغ إلى وقت، وأظن الليل قد تمطى بصلبه، وناء بكلكله؛ وانصرفت.

الليلة الرابعة عشرة

ومر بعد ذلك في عرض السمر: ما تقلد امرؤ قلادةً أفضل من سكينة.
فقال: ذكرتني شيئاً كنت مهتماً به قديماً، والآن قرعت إلى بابه؛ ما السكينة? فإني أرى أصحابنا يرددون هذا الاسم ولا يبسطون القول فيه. فكان من الجواب: سألت أبا سليمان عن السكينة ما هي? فقال: السكائن كثيرة: طبيعية، ونفسية وعقلية، وإلهية. ومجموعة من هذه بأنصباء مختلفة، ومقادير متفاوتة ومتباعدة.
والسكينة الطبيعية اعتدال المزاج بتصالح الأسطقسات، تحدث به لصاحبه شارةٌ تسمى الوقار، ويكون للعقل فيها أثر باد، وهو زينة الرواء المقبول.
 والسكينة النفسية مماثلة الروية للبديهة، ومواطأة البديهة للروية، وقصد الغاية بالهيئة المتناسبة، يحدث بها لصاحبها سمتٌ ظاهر ورنو دائم وإطراقق لا وجوم معه، وغيبة لا غفلة معها، وشهامة لا طيش فيها.
والسكينة العقلية حسن قبول الاستفاضة بنسبة تامة إلى الإفاضة؛ ومعنى هذا أن القابل مستغرق بقوة المقبول منه، وبهذه الحال يحدث لصاحبها هدى يشتمل على وزن الفكر في طلب الحق مع سكون الأطراف في أنواع الحركات.
والسكينة الإلهية لا عبارة عنها على التحديد، لأنها كالحلم في الانتباه وكالإشارة في الحلم، وليست حلماً ولا انتباهاً في الحقيقة، لأن هذين نعتان محمودان في عالم السيلان والتبدل، جاريان على التخيل والتجوز بزوائد لا ثبات لها ونواقص لا مبالاة بها، روحانية في روحانية، كما يقال: هذا صفو هذا؛ وهذا صفو الصفو ومن لحظ هذه الكيفية وبوشر صدره بهذه الحقيقة استغنى عن رسوم محددة بألفٍ ولام، وحقائق مكنونة في عرض الكلام؛ وإذا جهلنا أشياء هي لأهل الأنس بلغات قد فطروا عليها، وعبارات أنسوا بها، كيف نجد السبيل إلى الإفصاح والإشارة إليها.
فهذا باب واضح، والطمع في نيله نازح؛ وإذا كان المنال صعباً في الموضع الذي عمدنا إليه، فكيف يكون حالنا في البحث عما في حيز الألوهية وبحبوحة الربوبية، ولا كون هناك ولا ما نسبته للكون؛ وأقوى ما في أيدينا أن نتعلل بالوجود، فالموجود والوجدان والجود، وهذه كلها غليظة بالإضافة إلينا وفوق الدقيقة بالإضافة إلى أعيانها.
فعلى هذا، الصمت أوجد للمراد من النطق، والتسليم أظفر بالبغية من البحث.
قال البخاري: فشيء كهذا بدقيقه وإشكاله، وغموضه وخفائه، كيف يظهر على جبلة بشري وبنية طينية وكمية مادية وكيفية عنصرية?.
فقال: يا هذا، إنما يشع من هذه السكينة على قدر ما استودع صاحبها من نور العقل، وقبس النفس، وهبة الطبيعة، وصحة المزاج، وحسن الاختيار واعتدال الأفعال، وصلاح العادة، وصحة الفكرة، وصواب القول، وطهارة السر ومساواته للعلانية، وغلبته بالتوحد، وانتظام كل صادر منه ووارد عليه.
وها هنا تمحى الجبلة البشرية، وتتبدد الجبلة الطينية، وتبيد الكمية المادية وتعفو الكيفية العنصرية، ويكون السلطان والولاية والتصريف والسياسة كلها لتلك السكينة التي قدمنا وصفنا لها، واشتد وجدنا بها، وطال شوقنا إليها ودام حديقنا نحوها، واتصل رنونا إليها، وتناهت نجوانا بذكرها.
وهذا هو الخلع الذي سمعت بذكره، واللباس الذي سألت عنه، أعني خلع ما أنت منه إنسان، ولبس ما أنت به ملك. الله المستغاث منكم، ما أشد بلواي بكم، لم تتحركون إلا إلى ما لا سكون لكم فيه? ولم تسألون عما لا اطلاع لكم عليه? سلوا ربكم أعيناً بصيرة، وآذاناً واعية، وصدوراً طاهرة، وقوة متتابعة، فإنكم إذا منحتموها هديتم لها، وإذا حرمتموها قطعتم دونها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال البخاري: وقد تركنا يا سيدنا حديث السكينة المجموعة من هذه الجملة بأنصباء مختلفة.
فقال: لا عجب أن ينشأ العالم بكل ما فيه في هذه الحوة التي لذنا بها وحاولنا الوصول إليها؛ وأي شيء أعجب في هذا المقام، رسم أو قوام، أو ثبات أو دوام، إلا له نصيب من عناية الله تعالى الكريم.
نعم، والسكينة المجموعة من كل ما سلف القول فيه تقاسمها نوع الإنسان بالزيادة والنقصان، والغموض والبيان، والقلة والكثرة، والضعف والقوة، وهذا يتبين بأن تقسم الطيش والحدة والعجلة والخفة على أصحابها، فتجد التفاوت ظاهراً.
وكذلك إذا قسمت الهدوء والقرار والسكون والوقار على أهلها، فإنك تجد التباين مكشوفاً والاختلاف ظاهراً.
ثم قال: أما السكينة التي هي في أعلى المراتب فهي لأشخاص فوق البشر، وليس لهم نسبة من الخلق إلا الخلقة الحسية والعشرة البشرية، وإلا فهم في ذروة عالية، ومحلة إلهية.
قال: وأما السكينة التي تلي هذه فهي للأنبياء على اختلاف حظوظهم منها لأنها مرتبات تنقسم بين المنام واليقظة انقساماً متفاوتاً بالعرض الحامل للصدق وللشبيه بالصدق، وللحق وللقرب من الحق، وللصحيح والتالي للصحيح، ثم يختلف بيانهم عن ذلك بالتعريض والإيضاح، والكناية والإفصاح، والتشبيه والاستعارة.
 قال: فأما السكينة التي تتلو هذه فهي التي تظهر على طائفة تخلف الأنبياء، وذلك أن بقايا قواهم يرثها الذين صحبوهم، واستضاءوا بنورهم، وفهموا عنهم، ولقنوا منهم، ودخلوا في زمرتهم، وحاكوهم في الشمائل والأخلاق، وسلكوا منهاجهم في القيادة والسياق، وصلحوا سفراء بين الأبعدين، كما كانوا سجراء للأقربين، وهم الذين يفسرون الغامض، ويوضحون المشكل، ويبسطون المطوي، ويشرحون المكنى، ويبرزون المراد والمعنى، ويوطدون الأساس، ويرفعون الالتباس، وينفون الوحشة ويحدثون الإيناس.
وأما السكينة الباقية فهي مفضوضة على اتباع هؤلاء بالسهام العلوية، والمقادير العدلية، والمناسيب العقلية، من غير جور ولا حيف، ولا انحراف ولا ميل.
فقال البخاري: أهي - أعني السكينة - في معنى فاعلة أو مفعولة? فقال: الفضاء أعرض مما تظن، وإن كان في غاية العرض؛ والذروة أعلى من أن ترام وإن كان الإنسان يطلبها بالبسط والقبض.
هي بوجه في معنى فاعلة إذا شعرت بتأثيرها، وبوجه آخر في معنى مفعولة إذا شعرت بتأثرها.
وبوجه آخر، ليست من هذين القبيلين في شيء إذا لحظتها في معانيها قبل تأثيرها وتأثرها، وأنت تعتبر حد الفاعل والمفعول من شكل اللفظ ووزن الترتيب، بشائع العادة وقائم العرف، والسكينة وراء هذا كله بالحق والواجب والصحة والتمام فإنها صراط الله للمخصوصين بالاستقامة عليه، فإذا شهدت المخصوص بها كانت عبارتك عن الملحوظ منها مشاكلةً لعبارتك عن أخلاق رضية وأحوال مرضية، وإذا شهدت ذلك المعنى من معاني الحق كانت عبارتك متلجلجةً لا نظام لها ولا تعادل ولا اتساق على العادة الجارية والحال الطارئة؛ فأحق ما ينبغي لطالب الحكمة واللائذ بهذه الحومة أن يبحث وينظر، ويكشف وينقر، ويستقصى ويسبر ويسأل ويستبصر؛ حتى إذا بلغ هذه الآفاق، وشهد هذه الأعلام، ووجد الصواب الذي لا شوب فيه، وصادف اليقين الذي لا ريب معه، وعرف الاستبانة التي تغني عن البيان، وذاق المعنى الذي هو فوق العيان، أمسك وانتهى، ووقف واستغنى لا لعرض ظلام غشيه، ولكن لسطان شعاعٍ ملكه؛ لأن ذلك النور محيط بكل شيء دونه، ومستولٍ على كل شيء تحته.
وكان يقول في هذا الفن إذا جد به الكلام وبدا منه المكتوم وشرد عنه الخاطر ما لا يوعى بحفظ، ولا يروى بلفظ.
وإنما كان أصحابنا ينتظرون منثوره بهذه الحروف لفظاً لينظموا منه شذراً وعقداً، وكانوا إذا تلاقوا اشتركوا في تقويم ذلك كله، وتعاونوا على تحبيره، وتصادقوا على مفهومهم منه، وتجنبوا المنازعة والشغب عليه، وأخذوا بالعفو والممكن منه، لئلا يفوتهم المعنى، ولا يتحيرون في المنتهى.
وسأله الأندلسي في هذا المجلس عن الأمم وأحوالها، ونقصها وكمالها فقال: اشتركت الأمم في جميع الخيرات والشرور، وفي جميع المعاني والأمور: اشتراكاً أتى على أول التفاوت ووسطة وآخره، ثم استبدت كل أمة بقوالب ليست لأختها، واشتراكهم فيها كالأصول واستبدادهم كالفروع، وفيما اشتركوا فيه المحمود والمذموم.
ولم يجز في الحكمة الإلهية غير هذه القسمة، لأن الاشتراك لو سبق بلا تفاوت لم يكن اشتراكاً، والتقاسم لو عري من الاتفاق لم يكن تقاسماً، فصار ما من أجله يفترقون، به يجتمعون، وما من أجله ينتظمون، به ينتثرون.
فعلى هذا اشتركوا في الأخلاق واللغات، والعقائد والصناعات، وجر المنافع ودفع المضار، مع اختلافهم فيها بنوع ونوع.
ألا ترى أن لغة الهند غير لغة الروم، وكذلك الصناعة والعقيدة وما يجري مجراهما، إلا أنهم مع هذه الأصول والقواعد تقاسموا أشياء بين الفطرة والتنبيه، وبين الاختيار والتقدمة، فصار الاستنباط والغوص والتنقير والبحث والاستكشاف والاستقصاء والفكر ليونان والوهم والحدس والظن والحيلة والتحيل والشعبذة للهند والحصافة واللفظ والاستعارة والإيجاز والاتساع والتصريف والسحر باللسان للعرب؛ والروية والأدب والسياسة والأمن والترتيب والرسوم والعبودية والربوبية للفرس.
فأما الترك فلها الشجاعة. والعرب تشاركها إما بالزيادة وإما بالمساواة؛ وليس للترك بعد هذا حظ ولا دراية إلابقسط من الظل من الشخص.
والعرب مع منطقها البارع لها المزية المعروفة على الترك بعد في السياسة وإن كانت قاصرةً؛ وأما الزيج والسودان فغلبت عليها الفسولة وشاكلت البهائم الضعيفة، كما شاكلت الترك السباع القوية.

قيل له: إن أبا زيد قد عمل كتاباً في أخلاق الأمم. قال: قد رأيته وقرأته وقد أفاد، وكل من تكلم على طريقة الحكماء الذين يتوخون من الأمور لبابها، ويصرفون عنها قشورها، فله السابقة والتقدم على من يخبط كفلان وفلان.
ومن جحد بلاغة العرب في الخطابة وجولانها كل مجال وتميزها باللسان فقد كابر، ومن أنكر تقدم يونان في إثارة المعاني من أماكنها وإقامة الصناعات بأسرها، وبحثها عن العالم الأعلى والأوسط والأسفل فقد بهت.
ومن دفع مزية الفرس في سياستها وتدبيراتها وترتيب الخاصة والعامة بحق ما لها وعليها فقد عاند.
وهكذا من دفع ما للهند، فليس من شخص وإن كان زرياً قميئاً إلا وفيه سر كامنٌ لا يشركه فيه أحد، وإذا كان هذا في شخص على ما قلنا، فكيف إذا نظرت إلى ما يحويه النوع. وهكذا إذا ارتقيت إلى الجنس، وهذا لأن عرض الجنس أوسع من عرض النوع، كما أن عرض النوع أوسع من عرض الشخص، وليس دون الشخص تحت، كما أنه ليس فوق الجنس فوق. وأما انقسام هذه الثلاثة على هذا فليكون فضاء العالم غاصاً بالطرف والوسط والأفق وليكون سحاً بالغاً من المصدر إلى المورد.
وعلى هذا لولا الجنس لم يوجد نوعٌ، ولولا النوع لم يوجد شخص.
وكذلك العكس.
قال أبو سعيد الطبيب: أللعالم العلوي أجناس وأنواع وأشخاص? قال: كيف يخلو العالم العلوي من هذا التقسيم، وإنما هذا الذي لحقنا في العالم السفلي حكاية ذلك العالم العلوي حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة. فقال له مستزيداً: فهل في البسائط الإلهية أجناس وأنواع وأشخاص? فقال: لا، إلا أن يتخذ شيء من هنالك قراره في معارض العالم السفلي بقوة العالم العلوي، وذلك كالبرق إذا خطف، والنسيم إذا لطف.
قال: فهل ينال البسائط نقصٌ بالإخبار بالأجزء المركبة عنها كما ينال المركبات كمالٌ بالأجزاء البسيطة عنها? فقال: لا، لأن ما علا يؤثر ولا يقبل التأثير؛ وما سفل يتأثر. ألا ترى أن ما علا من الكواكب لا يتصل بشيء دونه، وما سفل منها يتصل بما علا عنه.
وقال له أيضاً: إذا قلنا: الروحانيات، فماذا ينبغي أن يلحظ منها? فقال: الروحانيات على أقسام؛ فقسم منها متبدد في المركبات من الحيوان والجماد، وقسم منها مكتنفٌ للحيوان والجماد، وبحسب هذا الاكتناف هو أبسط وألطف من القسم الأول المتبدد؛ وقسمٌ منها فوق القسم المكتنف، وهو الذي منه مادة المحيط؛ وقسم آخر فوق هذا الممتد، ثم فوق هذا ما لا يملكه وهم، ولا يدركه فهم؛ وذلك أنه في جناب القدس وحيث لا مرام لشيء من قوى الجن والإنس.
وسألت أبا سليمان فقلت: إن علي بن عيسى الرماني ذكر أن التمكين من القبيح قبيح، لأن التمكين من الحسن حسن. فلو كان التمكين من القبيح قبيحاً مع كونه من الحسن حسناً كان حسناً قبيحاً؛ وهذا تناقض؛ كيف صحة هذا الذي أومأ إليه? فقال: أخطأت، لأن التمكين وحده اسمٌ مجرد لشيء محدد، والأسماء المحددة دلالتها على الأعيان لا على صفات الأعيان أو ما يكون من الأعيان أو ما يكون في الأعيان.
والتمكين معتبر بما يضاف إليه ويناط به، فإن كان من القبيح فهو قبيح لأنه علة القبيح، وإن كان من الحسن فهو حسن لأنه سبب الحسن.
وهذا كما تقول: هذا الدرهم نافع أو ضار? فيقال: إن صرفته فيما ينبغي فهو نافع، وإن أنفقته فيما لا ينبغي فهو ضار، وكذلك السيف في الآلات، وكذلك اللفظ في الكلمات، والإضافة قوة إليهة سرت في الأشياء سرياناً غريزياً قاهراً متملكاً قاسراً، فلا جرم لا ترى حسياً أو عقلياً أو وهمياً أو ظنياً أو علمياً أو عرفياً أو عملياً أو حلمياً أو يقظياً إلا والتصاريف سارية فيها، والإضافة حاكمة عليها.
وهذا لأن الأشياء بأسرها مصيرها إلى الله الحق، لأن مصدرها من الله الحق، فالإضافة لازمة، والنسبة قائمة، والمشابهة موجودة. ولولا إضافة بعضنا إلى بعض ما اجتمعنا ولا افترقنا، ولولا الإضافة بيننا الغالبة علينا ما تفاهمنا ولا تعاوناً.
قال: إذا كنا بالتضايف نتوالى، فبأي شيء بعده نتعادى? قال: هذا أيضاً بالإضافة، لأن الإضافة ظل، والشخص بالظل يأتلف، وبالظل يختلف.
وقال: ويزيدك بياناً أن العدم والوجود شاملان لنا، سائران فينا فبالوجود نتصادق، وبالعدم نتفارق.
وسأل مرة عن الطرب على الغناء والضرب وما أشبههما.

فكان من الجواب: قيل لسقراط فيما ترجمه أبو عثمان الدمشقي. لم طرب الإنسان على الغناء والضر? فقال: لأن نفسه مشغولةٌ بتدبير الزمان من داخل ومن خارج، وبهذا الشغل هي محجوبة عن خاص مآلها.
فإذا سمعت الغناء انكشف عنها بعض ذلك الحجاب، فحنت إلى خاص ما لها من المثالات الشريفة والسعادات الروحانية من بعد ذلك العالم، لأن ذلك وطنها بالحق.
فأما هذا العالم فإنها غريبة فيه، والإنسان تابع لنفسه، وليست النفس تابعة للإنسان، لأن الإنسان بالنفس إنسان، وليست النفس نفساً بالإنسان، فإذا طربت النفس - أعني حنت ولحظت الروح الذي لها - تحركت وخفت فارتاحت واهتزت.
ولهذا يطرح الإنسان ثوبه عنه، وربما مزقه كأنه يريد أن ينسل من إهابه الذي لصق به، أو يفلت من حصاره الذي حبس فيه، ويهرول إلى حبيبه الذي قد تجلى له وبرز إليه.
إلا أن هذا المعنى على هذا التنضيد إنما هو للفلاسفة الذين لهم عناية بالنفس والإنسان وأحوالهما.
وأما غيرهم فطربهم شبيهٌ بما يعتري الطير وغيرها، وانصرفت.

الليلة الخامسة عشرة

وجرى مرة كلامٌ من الممكن، فحكيت عن ابن يعيش الرقي فصلاً سمعته يقوله، لابأس برسمه في هذا الموضع، فإن التشاور في هذا الحرف دائم متصل وينبغي لنا أن نبحث عنه بكل زحف وحبو، وبكل كد وعفو.
قال: الممكن شبيهٌ بالرؤيا لا بدن له يستقل به، ولا طبيعة يتحيز فيها.
ألا ترى أن الرؤيا تنقسم على الأكثر والأقل والتساوي، وكما أن الرؤيا ظل من ظلال اليقظة، والظل ينقص ويزيد إذا قيس إلى الشخص؛ كذلك الممكن ظل من ظلال الواجب، فطوراً يزيد تشابهاً للواجب، وطوراً ينقص تشاكها للمتنع، وطوراً يتساوى بالوسط.
قال: والواجب لا عرض له، لأنه حد واحد، وله نصيب من الوحدة بدليل أنه لا تغير له ولا حيلولة لا بالزمان ولا بالمكان ولا بالحدثان ولا بالطبيعة ولا بالوهم ولا بالعقل، بل العقل ينقاد له، والطبيعة تسلم إليه، والوهم يفرق منه وصورة الواجب لا يحدسها الظن، ولا يتحكم فيها تجويز، ولا يتسلط عليها دامغ ولا ناسخ، وهذا الحكم يطرد على الممتنع، لأنه في مقابلته على الضد، أعني أنه لا بدن له، فيكون له عرض، والعرض كله للمكن بالنعت الذي سلف من الكثرة والقلة والمساواة.
ولهذا تعلقت التكاليف به في ظاهر الحال وبادىء الأمر وعارض الشان، واستولى الوجود عليه بباطن الحال وخفي الأمر وراتب الشان، لكن هذا الفصل الذي اشتمل على الظاهر والباطن ليس ينكشف للحس كما ينكشف للعقل.
ولما كنا بالحس أكثر - وإن كنا لا نخلو في هذه الكثرة من آثار العقل - لزمنا الاعتراف بعوائد الممكن وعلائقه، والعمل عليه، والرجوع إليه إذا أمرنا أو نهينا أو ائتمرنا أو انتهينا.
ولما ظهر لنا بإزاء هذا الذي كنا به أكثر أن لنا شبحاً آخر نحن به أقل وهو العقل يشهد لنا بأن صورة الوجوب استولت من مبدأ الأمر إلى منقطعه الذي هو في عرض الواجب إلى الآخر الممتنع.
وكما لزمنا الاعتراف الأول لكون به عاملين ومستعملين، ورافعين وواضعين، ولائمين وملومين، ونادمين ومندمين؛ كذلك لزمنا الاعتراف بسلطان الواجب الذي لا سبيل إلى عزله، ولا محيص عن الإقرار به، ولا فكاك من اطراده بغير دافع أو مانع.
واتصل كلام ابن يعيش على تقطعٍ في عبارته التي ما كانت أداته تواتيه فيها، مع تدفق خواطره عليها؛ فقال: الرؤيا ظل اليقظة، وهي واسطةٌ بين اليقظة والنوم، أعني بين ظهور الحس بالحركة، وبين خفائه بالسكون.
قال: والنوم واسطة بين الحياة والموت، والموت واسطةٌ بين البقاء الذي يتصل بالشهود وبين البقاء الذي يتصل بالخلود.
قال: وهذا نعتٌ على تسهيل اللفظ وتقريب المراد والتصور؛ والثقة شوك القتاد، وازدراد العلقم والصاب، للحواجز القائمة والموانع المعترضة من الإلف والمنشأ وغير ذلك مما يطول تعديده ويشق استقصاؤه.
فقال: هذا كلامٌ ظريف، وما خلت أن ابن يعيش مع فدامته، ووخامته يسحب ذيله في هذا المكان، ويجري جواده بهذا العنان.
قلت له: إن له مع هذه الحال مرامي بعيدة، ومقاصد عالية، وأطرافاً من المعاني إذا اعتلقها دل عليها، إما بالبيان الشافي، وإما بما يكون طريقاً إلى الوهم الصافي.
وقلت: لقد مر له اليوم شيءٌ جرى بينه وبين أبي الخير اليهودي أستفيد منه.

قال: وما ذاك? أنثر علينا درر هذه الطائفة التي نميل إليها بالاعتقاد وإن كنا نقع دونها بالاجتهاد؛ ونسأل الله أن يرحم ضعفنا الذي منه بدئنا ويبدلنا قوةً بها نجد قربنا في آخرنا.
قلت: ذكر أن العقل لا غناء له في الأشياء التي تغلب عليها الحيلولة والسيلان والتطول، كما أن الحس لا ينفذ في الأمور التي لا تطور لها بالحيلولة والتطول، ولذلك عرفت الحكمة في الكائنات الفاشيات، وخفيت العلل والأسباب في بدوها وخفيتها وتبددها وتآلفها، لكن هذا الفرق والخفاء مسلمان للقدرة المستعلية والمشيئة النافذة.
قال: ولهذا التريتب سر به حسن هذا النعت، وإليه انتهى هذا البحث وذلك أن خفاء ما خفي بحق الأول ألحق، وبدو ما بدا من نصيبٍ أطلق للذي لا يحتمل غير هذا الثقل، ولو خفف عنه هذا الحق، وبدو ما بدا من نصيبٍ أطلق للذي لا يحتمل غير هذا الثقل، ولو خفف عنه هذا للحق الإنسان البهائم، ولو ثقل عليه هذا للحق الملائكة، فكان حينئذ لا يكون إنساناً، وقد وجب في الأصل أن يكون إنساناً كاملاً بالنصب والدأب، ويمتعض من أن تكون صورة الإنسان عنده معارة، لأنه في الحقيقة حيوان غير ناطق، بل يجتهد بسعيه وكدحه أن يصير إنساناً فاضلاً، ويكون في فضله وكماله ملكاً، أعني بالمشاكهة الإرادية لا بالمشاكهة النوعية.
قال: وغاية الحكمة منها للمباشرين لها أن المعرفة تقف على حيلولتها ولسيلانها فقط، لا على تصفح أجزائها، لأن الترتيب فيها يستحيل مع الزمان.
ألا ترى أن الرقم على الماء لا صورة له، لأن صفحة الماء لا ثبات لها، وكذلك الخط في الهواء، وكذلك الكائنات البائدات لا صورة لها، لأنها لا ثبات لها، وأنت إذا وجدت شيئاً لا ثبات له لم تضم إليه شيئاً آخر لا ثبات له طمعاً في وقوع الثبات بينهما، هذا ما لا يدين به وهم، ولا ينقاد له ظن؛ ولو ساغ هذا لساغ أن يجمع بين ما له ثبات، وبين ما له أيضاً ثبات، فيحدث هناك سيلانٌ واستحالة.
وقال: وصف العقل بشهادة الحس، كما يكون وصف الحسن بشهادة العقل إلا أن شهادة الحس للعقل شهادة العبد للمولى، وشهادة العقل للحس شهادة المولى للعبد؛ على أن هاتين الشهادتين لا يطردان ولا يستمران، لأن لكل واحد من الحس والعقل تفرداً بخاص ماله، ولذلك ما وجد حيوانٌ لا عقل له البتة، ووجد في مقابلته حي لا حس له.
ثم قال: بل العقل يحكم في الأشياء الروحانية البسيطة الشريفة من جهة الصور الرفيعة، والعلائق التي بين المعقولات والمحسوسات ما نعت العقل، والعاقل من خلص الباقيات الخالدات الدائمات القائمات الثابتات من حومة الكائنات الفاسدات البائنات الذاهبات الحائلات الزائلات المائلات البائدات.
ودخل في هذا التلخيص ضربٌ من الشك والتماري والخصومة والتعادي والتعنت إلى اختلاف عظيم، ووقفت عن الحكم بعد اليقين.
وقال - أدام الله سعادته - ماالسجية? قلت: سمعت الأندلسي يقول: فلان يمشي على سجيته، أي طبعه.
قال: هل يقال: ظفرت عليه? قلت: قد قال شاعرهم:

وكانت قريش لو ظفرنا عـلـيهـم

 

شفاءً لما في الصدر والنقص ظاهر

قال: هذا حسن. قلت: الحروف التي تتعدى إلى الأفعال، والأفعال التي تتعدى بالحروف؛ يراعى فيها السماع فقط لا القياس.
هذا كان مذهب إمامنا أبي سعيد؛ وقد جاء أيضاً ظفر به؛ وجاء سخرت به ومنه.
ومن لا اتساع له في مذهب العرب يظن أن سخرت به لا يجوز وهو صحيح. حكاه أبو زيد.
قال: كيف يقال في جمل به غدة? فكان من الجواب: جملق مغد. قال: فكيف يجمع? فكان الجواب بأنه في القياس ظاهر، ولكن السماع قد كفى.
قال الشاعر - وهو خراش بن زهير:

فقدتكمو ولحظكمو إلـينـا

 

ببطن عكاظ كالإبل الغداد

ضربناهم ببطن عكاظ حتى

 

تولوا طالعين من النجـاد

وقال - حرس الله نفسه - من لقبه الخرسي إلى أي شيء ينسب? فكان من الجواب: يقال: رجل خراساني وخرسي وخراسي، فنسبت إلى رجل نزلها فاشتهرت به.
فقال: القذال كيف يجمع? فكان من الجواب أن فعالاً وفعالاً وفعالاً وفعيلاً وفعولاً أخوات تجمع في الأقل على أفعلة، يقال: حمار وأحمرة، وغراب وأغربة، وقذال وأقذلة، وعمود وأعمدة.
قال: نسيت أسألك عن المسألة الأولى - أعني الخرسي - من أين لك تلك الفتيا? فكان من الجواب: قرأته على أبي سعيد الإمام في شرحه كتاب سيبويه.

قال: بردت غليلي، فإن الحجة في مثل هذا متى لم تكن بأهلها كانت متلجلجة.
قال: أنشدني شيئاً نختم به المجلس، فقد مرت طرائف.
فأنشدته لعمارة بن عقيل في بنت له:

حبك يا ذات الأنيف الأكشم

 

حب تساقاه مشاس أعظمي

ودب بين كبدي ومحزمي

 

وساطه الله بلحمي ودمي

فلـيس بـالمذق ولا المكتم

 

ولا الذي إن يتقادم يسأم

لقد نزلت من فؤادي فاعلمي منزلة الشيء المحب المكرم

 

 

وانصرفت.

الليلة السادسة عشرة

ثم عدت وقتاً آخر فقال: كنت حكيت لي أن العامري صنف كتاباً عنونه بإنقاذ البشر من الجبر والقدر، فكيف هذا الكتاب? فقلت: هذا الكتاب رأيته بخطه عند صديقه وتلميذه أبي القاسم الكاتب ولم أقرأه على العامري، ولكن سمعت أبا حاتم الرازي يقرؤه عليه، وهو كتاب نفيس، وطريقة الرجل قوية، ولكنه ما أنقذ البشر من الجبر والقدر، لأن الجبر والقدر اقتسما جميع الباحثين عنهما والناظرين فيهما.
قال: لم قيل الجبر والقدر ولم يقل الإجبار.
فكان الجواب: أن الإجبار لغة قوم، والجبر لغة تميم، يقال: جبر الله الخلق وأجبر الخلق، وجبر بمعنى جبل؛ واللام تعاقب الراء كثيراً.
قال: فتكلم في هذا الباب بشيء يكون غير ما قاله العامري، وانقد له إن كان الحق فيما ذهب غليه ودل عليه.
فكان من الجواب: أن من لحظ الحوادث والكوائن والصوادر والأواتي من معدن الإلهيات أقر بالجبر وعرى نفسه من العقل والاختيار والتصرف والتصريف، لأن هذه وإن كانت ناشئةً من ناحية البشر، فإن منشأها الأول إنما هو من الدواعي والبواعث والصوارف والموانع التي تنسب إلى الله الحق؛ فهذا هذا.
فأما من نظر إلى هذه الأحداث والكائنات والاختيارات والإرادات من ناحية المباشرين الكاسبين الفاعلين المحدثين اللائمين الملومين المكلفين، فإنه يعلقها بهم ويلصقها برقابهم، ويرى أن أحداً ما أتي إلا من قبل نفسه وبسوء اختياره وبشدة تقصيره وإيثار شقائه؛ والملحوظان صحيحان واللاحظان مصيبان، لكن الاختلاف لا يرتفع بهذا القول والوصف، لأنه ليس لكل أحد الوصول إلى هذه الغاية، ولا لكل إنسان اطلاع إلى هذه النهاية.
فلما وقعت البينونة بين الناظرين بالطبع والنسبة لم يرتفع القال والقيل من ناحية القول والصفة، فهذا هذا.
قال - أطال الله بقاءه - فما الفرق بين القضاء والقدر? فكان من الجواب: أن أبا سليمان قال: إن القضاء مصدره من العلم السابق، والقدر مورده بالأجزاء الحادثة.
فقال: لم ورد في الأثر: لا تخوضوا في القدر فإنه سر الله الأكبر.
فكان من الجواب: أن أبا سليمان قال لنا في هذه الأيام. إن الناموس ينطق بما هو استصلاح عام، ليكون النفع به شائعاً في سكون النفس وطيب القلب وروح الصدور.
فإن كان هذا هكذا فقد وضح أن حكمة هذا السر طيه، لأن عجز الناظرين يفضي بهم إلى الحيرة، والحيرة مضلة، والمضلة هلكة. وإذا كانت الراحة في الجهل بالشيء، كان التعب في العلم بالشيء، وكم علمٍ لو بدا لنا لكان فيه شقاء عيشنا، وكم جهل لو ارتفع منا لكان فيه هلاكنا؛ والعلم والجهل مقسومان بيننا ومفضوضان علينا على قدر احتمال كل واحد منا للذي سبق إليه وعلق به، ألا ترى أن علمنا لو أحاط بموتنا متى يكون? وعلى أي حال تحدث العلة أو المحنة أو البلاء? لكان ذلك مفسدةً لنا، ومحنةً شديدةً علينا.
فانظر كيف زوى الله الحكيم هذا العلم عنا، وجعل الخيرة فيه لنا.
ألا ترى أيضاً أن جهلنا لو غلب علينا في جميع أمورنا لكان فساد ذلك في عظم الفساد الأول، والبلاء منه في معرض البلاء المتقدم، فمن هذا الذي أشرف على هذا الغيب المكنون والسر المخزون فيغفل عن الشكر الخالص، والاستسلام الحسن، والبراءة من كل حول وقوة.
فالاستمداد ممن له الخلق والأمر، أعني الإبداء والتكليف، والإظهار والتشريف، والتقدير والتصريف.
قال: هذا فن حسن، وأظنك لو تصديت للقصص والكلام على الجميع لكان لك حظ وافر من السامعين العاملين، والخاضعين والمحافظين.
فكان من الجواب: أن التصدي للعامة خلوقة، وطلب الرفعة بينهم ضعة، والتشبه بهم نقيصة؛ وما تعرض لهم أحد إلا أعطاهم من نفسه وعلمه وعقله ولوثته ونفاقه وريائه أكثر مما يأخذ منهم من إجلالهم وقبولهم وعطائهم وبذلهم.
وليس يقف على القاص إلا أحد ثلاثة.

إما رجل أبله، فهو لا يدري ما يخرج من أم دماغه.
وإما رجل عاقلٌ فهو يزدريه لتعرضه لجهل الجهال، وإما له نسبة إلى الخاصة من وجه، وإلى العامة من وجه، فهو بتذبذب عليه من الإنكار الجانب للهجر، والاعتراف الجالب للوصل، فالقاص حينئذ ينظر إلى تفريغ الزمان لمداراة هذه الطوائف، وحينئذ ينسلخ من مهماته النفسية، ولذاته العقلية، وينقطع عن الازدياد من الحكمة بمجالسة أهل الحكمة، إما مقتبساً منهم، وإما قابساً لهم؛ وعلى ذلك فما رأيت من انتصب للناس قد ملك إلا درهماً وإلا ديناراً أو ثوباً؛ ومناصبةً شديدةً لمماثليه وعداته.
قال: إن الليل قد دنا من فجره، هات ملحة الوداع.
قلت: قال يعقوب صاحب إصلاح المنطق: دخل أعرابي الحمام فزلق فانشج، فأنشأ يقول:

وقالوا تطـهـر إنـه يوم جـمـعةٍ

 

فرحت من الحمام غير مـطـهـر

ترديت منه شارياً شج مـفـرقـي

 

بفلسين إني بئس ما كان متـجـري

وما يحسن الأعراب في السوق مشيةً

 

فكيف ببيتٍ من رخـامٍ ومـرمـر

يقول لـي الأنـبـاط إذ أنـا نـازل

 

به لا بظبيٍ بالـصـريمة أعـفـر

وقال - حرس الله نفسه - كنت أروي قافية هذا البيت أعفرا، وهذه فائدة كنت عنها في ناحية؛ وانصرفت.
قد رأيت أيها الشيخ - حاطك الله - عند بلوغي هذا الفصل أن أختم الجزء الأول بما أنتهي غليه، وأشفعه بالجزء الثاني على سياج ما سلف نظمه ونثره، غير عائج على ترتيبٍ يحفظ صورة التصنيف على العادة الجارية لأهله، وعذري في هذا واضح لمن طلبه، لأن الحديث كان يجري على عواهنه بحسب السانح والداعي.
وهذا الفن لا ينتظم أبداً، لأن الإنسان لا يملك ما هو به وفيه، وإنما يملك ما هو له وإليه.
وهذا فصل يحتاج إلى نفسٍ مديد، ورأيٍ يصدر عن تأييد وتسديد؛ والسلام، والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.


 

 

الإمتاع والمؤانسة

أبو حيان التوحيدي

 

 

الجزء الثاني


بسم الله الرحمن الرحيم

 

أيها الشيخ - أطال الله يدك في الخيرات، وزاد في همتك رغبةً في اصطناع المكرمات، وأجراك على أحسن العادات في تقديم طلاب العلم وأهل البيوتات - قد فرغت في الجزء الأول على ما رسمت في القيام به، وشرفتني بالخوض فيه، وسردت في حواشيه أعيان الأحاديث التي خدمت بها مجلس الوزير، ولم آل جهداً في روايتها وتقويمها ولم أحتج إلى تعمية شيءٍ منها، بل زبرجت كثيراً منها بناصع اللفظ، مع شرح الغامض وصلة المحذوف وإتمام المنقوص، وحملته إليك على يد فائقٍ العلام، وأنا حريصٌ على أن أتبعه بالجزء الثاني، وهو يصل إليك في الأسبوع إن شاء الله تعالى.
وأنا أسألك ثانيةً على طريق التوكيد، كما سألتك أولاً على طريق الاقتراح، أن تكون هذه الرسالة مصونةً عن عيون الحاسدين العيابين، بعيدةً عن تناول أيدي المفسدين المنافسين؛ فليس كل قائل يسلم، ولا كل سامعٍ ينصف، ولا كل متوسطٍ يصلح، ولا كل قادمٍ يفسح له في المجلس عند القدوم.
والبلية مضاعفةٌ من جهة النظراء في الصناعة، وللحسد ثورانٌ في نفوس هذه الجماعة؛ وقل من يجهد جهده في التقرب إلى رئيسٍ أو وزير، إلا جد في إبعاده من مرامه كل صغير وكبير؛ وهذا لأن الزمان قد استحال عن المعهود، وجفا عن القيام بوظائف الديانات وعادات أهل المروءات؛ لأمورٍ شرحها يطول؛ وقد كان الناس يتقلبون في بسيط الشمس؛ أعني الدين فغربت عنهم، فعاشوا بنور القمر، أعني المروءة فأفل دونهم، فبقوا في ظلمات البر والبحر، أعني الجهل وقلة الحياء فلا جرم أعضل الداء، وأشكل الدواء، وغلبت الحيرة، وفقد المرشد، وقل المسترشد؛ والله المستعان.
وأرجع إلى ما هو الغرض من نسخ ما تقدم في الجزء الأول.

الليلة السابعة عشرة

فلما عدت إلى المجلس قال: ما تحفظ في تفعال وتفعال، فقد اشتبها? وفزعت إلى ابن عبيد الكاتب فلم يكن عنده مقنع، وألقيت على مسكويه فلم يكن له فيها مطلع؛ وهذا دليلٌ على دثور الأدب وبوار العلم والإعراض عن الكدح في طلبه. فقلت: قال شيخنا أبو سعيد السيرافي الإمام - نضر الله وجهه -: المصادر كلها على تفعالٍ بفتح التاء، وإنما تجيىء تفعالٌ في الأسماء، وليس بالكثير. قال: وذكر بعض أهل اللغة منها ستة عشر اسماً لا يوجد غيرها. قال: هاتها.

قلت: منها التبيان والتلقاء، ومر تهواءٌ من الليل؛ وتبراك، وتعشار، وترباع، وهي مواضع؛ وتمساح للدابة المعروفة؛ والتمساح الرجل الكذاب أيضاً.
وتجفاف وتمثال وتمراد بيت الحمام، وتلفاق، وهو ثوبان يلفقان. وتلقام: سريع اللقم.
ويقال: أتت الناقة على تضرابها، أي على الوقت الذي ضربها الفحل فيه، وتضراب كثير الضرب وتقصار، وهي المخنقة؛ وتنبال، وهو القصير.
قال: هذا حسنٌ، فما تقول في تذكار? فإن الخوض في هذا المثال إنما كان من أجل هذا الحرف، فإن أصحابنا كانوا في مجلس الشراب، فاختلفوا فيه? فقلت: هذا مصدرٌ، وهو مفتوح.
ثم قال: اجمع لي حروفاً نظائر لهذا من اللغة، واشرح ما ندر منها، وعرض الشك لكثير من الناس فيها.
فقلت: السمع والطاعة مع الشرف بالخدمة.
وقال أيضاً: حدثني عن شيء هو أهم من هذا لي وأخطر على بالي، إني لا أزال أسمع من زيد بن رفاعة قولاً ومذهباً لا عهد لي به وكنايةً عما لا أحقه، وإشارةً إلى ما لا يتوضح شيءٌ منه، يذكر الحروف ويذكر النقط، ويزعم أن الباء لم تنقط من تحت واحدةً إلا بسبب، والتاء لم تنقط من فوق اثنتين إلا لعلة، والألف لم تعر إلا لغرض. وأشباه هذا؛ وأشهد منه في عرض ذلك دعوى يتعاظم بها وينتفج بذكرها؛ فما حديثه? وما شأنه? وما دخلته? وما خبره? فقد بلغني أنك تغشاه وتجلس إليه، وتكثر عنده، وتورق له، ولك معه نوادر مضحكة، وبوادر معجبة. ومن طالت عشرته لإنسانٍ صدقت خبرته به، وانكشف أمره له، وأمكن اطلاعه على مستكن رأيه وخافي مذهبه وعويص طريقته.
فقلت: أيها الوزير، هو الذي تعرفه قبلي قديماً وحديثاً بالتربية والاختبار والاستخدام، وله منك الأخوة القديمة والنسبة المعروفة.
قال: دع هذا وصفه لي. قلت: هناك ذكاءٌ غالبٌ، وذهنٌ وقادٌ، ويقظةٌ حاضرة، وسوانح متناصرة، ومتسعٌ في فنون النظم والنثر، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة، وحفظ أيام الناس، وسماعٍ للمقالات، وتبصرٍ في الآراء والديانات، وتصرفٍ في كل فنٍ: إما بالشدو الموهم، وإما بالتبصر المفهم، وإما بالتناهي المفحم. فقال: فعلى هذا ما مذهبه? قلت: لا ينسب إلى شيء، ولا يعرف برهط، لجيشانه بكل شيء، وغليانه في كل باب. ولاختلاف ما يبدو من بسطة تبيانه، وسطوته بلسانه، وقد أقام بالبصرة زماناً طويلاً، وصادف بها جماعةً لأصناف العلم وأنواع الصناعة؛ منهم أبو سليمان محمد بن معشر البيستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني والعوفي وغيرهم، فصحبهم وخدمهم؛ وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته، وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات؛ ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفلة، وذلك لأنها حاويةٌ للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية.
وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال؛ وصنفوا خمسين رسالةً في جميع أجزاء الفلسفة: علميها وعمليها، وأفردوا لها فهرستاً وسموها رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وكتموا أسماءهم، وبثوها في الوراقين، ولقنوها للناس، وادعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله عز وجل وطلب رضوانه ليخلصوا الناس من الآراء الفاسدة التي تضر النفوس، والعقائد الخبيثة التي تضر أصحابها، والأفعال المذمومة التي يشقى بها أهلها؛ وحشوا هذه الرسائل بالكلم الدينية والأمثال الشرعية والحروف المحتملة والطرق الموهمة.
فقال: هل رأيت هذه الرسائل? قلت: قد رأيت جملةً منها، وهي مبثبوتةٌ من كل فنٍ نتفاً بلا إشباعٍ ولا كفاية، وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات؛ وقد غرق الصواب فيها لغلبة الخطأ عليها؛  

وحملت عدةً منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي السجستاني محمد بن بهرام وعرضتها عليه ونظر فيها أياماً واختبرها طويلاً؛ ثم ردها علي وقال: تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا؛ ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع؛ ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة - التي هي علم النجوم والأفلاك والمجسطي والمقادير وآثار الطبيعة، والموسيقى التي هي معرفة النغم والإيقاعات والنقرات والأوزان، والمنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات والكيفيات - في الشريعة، وأن يضموا الشريعة للفلسفة.
وهذا مرامٌ دونه حدد؛ وقد توفر على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحد أنياباً، وأحضر أسباباً، وأعظم أقداراً، وأرفع أخطاراً، وأوسع قوىً، وأوثق عراً، فلم يتم لهم ما أرادوه، ولا بلغوا منه ما أملوه؛ وحصلوا على لوثاتٍ قبيحة، ولطخاتٍ فاضحة، وألقابٍ موحشة، وعواقب مخزية، وأوزارٍ مثقلة.
فقال له البخاري أبو العباس: ولم ذلك أيها الشيخ? قال: إن الشريعة مأخوذةٌ عن الله - عز وجل - بوساطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي، وباب المناجاة، وشهادة الآيات، وظهور المعجزات، إلى ما يوجبه العقل تارةً، ويجوزه تارةً، لمصالح عامةٍ متقنة، ومراشد تامةٍ مبينة؛ وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه، والغوص فيه؛ ولابد من التسليم للداعي إليه، والمنبه عليه؛ وهناك يسقط "لم" ويبطل "كيف"، ويزول "هلا" ويذهب "لو" و "ليت" في الريح، لأن هذه المواد عنها محسومة، واعتراضات المعترضين عليها مردودةٌ، وارتياب المرتابين فيها ضار، وسكون الساكنين إليها نافع؛ وجملتها مشتملةٌ على الخير، وتفصيلها موصولٌ بها على حسن التقبل، وهي متداولة بين متعلق بظاهرٍ مكشوف، ومحتجٍ بتأويلٍ معروفٍ؛ وناصر باللغة الشائعة، وحامٍ بالجدل المبين، وذابٍ بالعمل الصالح، وضاربٍ للمثل السائر، وراجعٍ إلى البرهان الواضح، ومتفقهٍ في الحلال والحرام، ومستندٍ إلى الأثر والخبر المشهورين بين أهل الملة، وراجع إلى اتفاق الأمة.
وأساسها على الورع والتقوى، ومنتهاها إلى العبادة وطلب الزلفى.
ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك ومقادير الأجرام ومطالع الطوالع ومغارب الغوارب.
ولا حديث تشاؤمها وتيامنها، وهبوطها وصعودها، ونحسها وسعدها، وظهورها واستسرارها، ورجوعها واستقامتها، وتربيعها وتثليثها، وتسديسها ومقارنتها.
ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها، وأشكال الأسطقسات، بثبوتها وافتراقها، وتصريفها في الأقاليم والمعادن والأبدان، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة؛ وما الفاعل وما المنفعل منها؛ وكيف تمازجها وتزاوجها، وكيف تنافرها وتسايرها؛ وإلى أين تسري قواها، وعلى أي شيء يقف منتهاها.
ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومقاطعها، وما الكرة? وما الدائرة? وما المستقيم? وما المنحنى? ولا فيها حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال، ومناسب الأسماء والحروف والأفعال؛ وكيف ارتباط بعضها ببعض على موضوع رجل من يونان حتى يصح بزعمه الصدق، وينبذ الكذب.
وصاحب المنطق يرى أن الطبيب والمنجم والمهندس وكل من فاه بلفظٍ وأم غرضاً فقراء إليه، محتاجون إلى ما في يديه.
قال: فعلى هذا كيف يسوغ لإخوان الصفاء أن ينصبوا من تلقاء أنفسهم دعوةً تجمع حقائق الفلسفة في طريق الشريعة? على أن وراء هذه الطوائف جماعة أيضاً لهم مآخذ من هذه الأغراض، كصاحب العزيمة وصاحب الطلسم وعابر الرؤيا ومدعي السحر وصاحب الكيمياء ومستعمل الوهم.

قال: ولو كانت هذه جائزةً وممكنةً لكان الله تعالى نبه عليها، وكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها، ويكملها باستعمالها، ويتلافى نقصها بهذه الزيادة التي يجدها في غيرها، أو يخص المتفلسفين على إيضاحها بها ويتقدم إليهم بإتمامها، ويفرض عليهم القيام بكل ما يذب به عنها حسب طاقتهم فيها، ولم يفعل ذلك بنفسه، ولا وكله إلى غيره من خلفائه والقائمين بدينه؛ بل نهى عن الخوض في هذه الأشياء، وكره إلى الناس ذكرها، وتوعدهم عليها، وقال: من أتى عرافاً أو طارقاً أو حازياً أو كاهناً أو منجماً يطلب غيب الله منه فقد حارب الله، ومن حارب الله حرب، ومن غالبه غلب، حتى قال: لو أن الله حبس عن الناس القطر سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفةٌ به كافرين.
ويقولون: مطرنا بنوء المجدح، فهذا كما ترى، والمجدح: الدبران.
ثم قال: ولقد اختلفت الأمة ضروباً من الاختلاف في الأصول والفروع، وتنازعوا فيها فنوناً من التنازع في الواضح والمشكل من الأحكام، والحلال والحرام، والتفسير والتأويل، والعيان والخبر، والعادة والاصطلاح؛ فما فزعوا في شيء من ذلك إلى منجمٍ ولا طبيب ولا منطقيٍ ولامهندسٍ ولا موسيقي ولا صاحب عزيمةٍ وشعبذة وسحرٍ وكيمياء، لأن الله تعالى تمم الدين بنبيه صلى الله عليه وسلم ، ولم يحوجه بعد البيان الوارد بالوحي إلى بيانٍ موضوعٍ بالرأي.
قال: وكما لم نجد في هذه الأمة من يفزع إلى أصحاب الفلسفة في شيء من دينها، فكذلك أمة عيسى عليه السلام وهي النصارى، وكذلك المجوس.
قال: ومما يزيدك وضوحاً ويريك عجباً أن الأمة اختلفت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها فصارت أصنافاً فيها وفرقاً؛ كالمرجئة والمعتزلة والشيعة والسنية والخوارج، فما فزعت طائفةٌ من هذه الطوائف إلى الفلاسفة، ولا حققت مقالتها بشواهدهم وشهادتهم، ولا اشتغلت بطريقتهم، ولا وجدت عندهم ما لم يكن عندها بكتاب ربها وأثر نبيها.
وهكذا الفقهاء الذين اختلفوا في الأحكام من الحلال والحرام منذ أيام الصدر الأول إلى يومنا هذا لم نجدهم تظاهروا بالفلاسفة فاستنصروهم، ولا قالوا لهم: أعينونا بما عندكم؛ واشهدوا لنا أو علينا بما قبلكم.
قال: فأين الدين من الفلسفة? وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل، من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل? فإذ أدلوا بالعقل فالعقل موهبةٌ من الله جل وعز لكل عبد، ولكن بقدر ما يدرك به ما يعلوه، كما لا يخفى به عليه ما يتلوه، وليس كذلك الوحي، فإنه على نوره المنتشر، وبيانه الميسر.
قال: وبالجملة، النبي فوق الفيلسوف، والفيلسوف دون النبي؛ وعلى الفيلسوف أن يتبع النبي، وليس على النبي أن يتبع الفيلسوف، لأن النبي مبعوث، والفيلسوف مبعوثٌ إليه.
قال: ولو كان العقل يكتفى به لم يكن للوحي فائدةٌ ولا غناءٌ، على أن منازل الناس متفاوتةٌ في العقل، وأنصباؤهم مختلفةٌ فيه؛ فلو كنا نستغني عن الوحي بالعقل كيف كنا نصنع، وليس العقل بأسره لواحدٍ منا، وإنما هو لجميع الناس، فإن قال قائل بالعبث والجهل: كل عاقل موكولٌ إلى قدر عقله، وليس عليه أن يستفيد الزيادة من غيره، لأنه مكفي به، وغير مطالبٍ بما زاد عليه.
قيل له: كفاك تمادياً في هذا الرأي أنه ليس لك فيه موافق، ولا عليه مطابق؛ ولو استقل إنسانٌ واحدٌ بعقله في جميع حالاته في دينه ودنياه لاستقل أيضاً بقوته في جميع حاجاته في دينه ودنياه، ولكان وحده يفي بجميع الصناعات والمعارف، وكان لا يحتاج إلى أحدٍ من نوعه وجنسه؛ وهذا قولٌ مزدول ورأيٌ مخذول.
قال البخاري: وقد اختلفت أيضاً درجات النبوة بالوحي، وإذا ساغ هذا الاختلاف في الوحي ولم يكن ذلك ثالماً له، ساغ أيضاً في العقل ولم يكن مؤثراً فيه.
فقال: يا هذا، اختلاف درجات أصحاب الوحي لم يخرجهم عن الثقة والطمأنينة بمن اصطفاهم بالوحي، وخصهم بالمناجاة، واجتباهم للرسالة، وأكملهم بما ألبسهم من شعار النبوة؛ وهذه الثقة والطمأنينة مفقودتان في الناظرين بالعقول المختلفة، لأنهم على بعدٍ من الثقة والطمأنينة إلا في الشيء القليل والنزر اليسير؛ وعوار هذا الكلام ظاهر، وخطل هذا المتكلم بين.

قال الوزير: أفما سمع شيئاً من هذا المقدسي? قلت: بلى قد ألقيت هذا وما أشبهه بالزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، في أوقات كثيرة بحضرة حمزة الوراق في الوراقين، فسكت، وما رآني أهلاً للجواب؛ لكن الحريري غلام ابن طرارة هيجه يوماً في الوراقين بمثل هذا الكلام، فاندف فقال: الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطبون للمضرى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط. فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرضٌ أصلاً، فبين مدبر المريض ومدبر الصحيح فرقٌ ظاهر وأمرٌ مكشوف، لأن غاية مدبر المريض أن ينتقل به إلى الصحة، هذا إذا كان الدواء ناجعاً، والطبع قابلاً، والطبيب ناصحاً. وغاية مدبر الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة فقد أفاده كسب الفضائل، وفرغه لها، وعرضه لاقتنائها؛ وصاحب هذه الحال فائزٌ بالسعادة العظمى، ومتبوىءٌ الدرجة العليا؛ وقد صار مستحقاً للحياة الإليهة؛ والحياة الإلهية من الخلود والديمومة والسرمدية.
فإن كسب من يبرأ من المرض بطب صاحبه الفضائل أيضاً؛ فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل، لأن إحداهما تقليدية، والأخرى برهانية؛ وهذه مظنونةٌ، وهذه مستيقنة، وهذه روحانية، وهذه جسمية، وهذه دهرية، وهذه زمانية.
وقال أيضاً: إنما جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترفةٌ بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدةً لها؛ وإنما جمعنا أيضاً بينهما لأن الشريعة عامة، والفلسفة خاصة، والعامة قوامها بالخاصة، كما أن الخاصة تمامها بالعامية؛ وهما متطبقتان إحداهما على الأخرى، لأنها كالظهارة التي لا بد لها من البطانة، وكالبطانة التي لابد لها من الظهارة.
فقال له الحريري: أما قولك طب المرضى وطب الأصحاء وما نسقت عليه كلامك فمثلٌ لا يعبر به غيرك ومن كان في مشكل، لأن الطبيب عندنا الحاذق في طبه هو الذي يجمع بين الأمرين، أعني أنه يبرىء المريض من مرضه، ويحفظ الصحيح على صحته؛ فأما أن يكون ها هنا طبيبان يعالج أحدهما الصحيح، والآخر يعالج المريض، فهذا ما لم نعهده نحن ولا أنت؛ وهو شيءٌ خارجٌ عن العادة، فمثلك مردودٌ عليك، وتشنيعك فاضحٌ لك، وكل أحد يعلم أن التدبير في حفظ الصحة ودفع المرض - وإن كان بينهما فرق - واحد، فالطب يجمعهما، والطبيب الواحد يقوم بهما وبشرائطهما.
وأما قولك في الفصل الثاني: إن أحدى الفضيلتين تقليدية، والأخرى برهانية، فكلامٌ مدخول، لأنك غلطت على نفسك؛ ألا تعلم ان البرهانية هي الواردة بالوحي، الناظمة للرشد، الداعية إلى الخير، الواعدة بحسن المآب؛ وأن التقليدية هي المأخوذة من المقدمة والنتيجة، والدعوى التي يرجع فيها إلى من ليس بحجة، وإنما هو رجلٌ قال شيئاً فوافقه آخر وخالفه آخر، فلا الموافق له يرجع إلى الوحي، ولا المخالف له يستند إلى حق؛ والعجب أنك جعلت الشريعة من باب الظن، وهي بالوحي، وجعلت الفلسفة من باب اليقين، وهي من الرأي.
وأما قولك: هذه روحانية - تعني الفلسفة - وهذه جسمية - تعني الشريعة - فزخرفة لا تستحق الجواب، ولمثل هذا فليعمل المزخرفون؛ على أنا لو قلنا: بل الشريعة هي الروحانية، لأنها صوت الوحي، والوحي من الله عز وجل، والفلسفة هي الجسمية، لأنها برزت من جهة رجل باعتبار الأجسام والأعراض، وما هذا شأنه فهو بالجسم أشبه، وعن لطف الروح أبعد لما أبعدنا.
وأما قولك: الفلسفة خاصةٌ والشريعة عامة، فكلام ساقط لا نور عليه، لأنك تشير به إلى أن الشريعة يعتقدها قوم - وهم العامة - والفلسفة ينتحلها قوم - وهم الخاصة - فلم جمعتم رسائل إخوان الصفاء ودعوتم الناس إلى الشريعة وهي لا تلزم إلا للعامة، ولم تقولوا للناس: من أحب أن يكون من العامة فليتحل بالشريعة، فقد ناقضتم، لأنكم حشوتم مقالتكم بآياتٍ من كتاب الله تزعمون بها أن الفلسفة مدلولٌ عليها بالشريعة، ثم الشريعة مدلولٌ عليها بالمعرفة، ثم هأنت تذكر أن هذه للخاصة؛ وتلك للعامة؛ فلم جمعتم بين مفترقين، ومزقتم بين مجتمعين؛ هذا والله الجهل المبين، والخرق المشين.

وأما قولك: إنا جمعنا بين الفلسفة والشريعة لأن الفلسفة معترفةٌ بالشريعة، وإن كانت الشريعة جاحدةً للفلسفة، فهذه مناقضة أخرى، وإني أظن أن حسك كليل، وعقلك عليل، لأنك قد أوضحت عذر أصحاب الشريعة، إذ جحدوا الفلسفة، وذلك أن الشريعة لا تذكرها، ولا تخص على الدينونة بها؛ ومع ذلك فليس لهم علمٌ بأن الفلسفة قد حثت على قبول الشريعة، ونهت عن مخالفتها، وسمتها بالناموس الحافظ لصلاح العالم.
ثم قال الحريري: حدثني أيها الشيخ: على أي شريعةٍ دلت الفلسفة? أعلى اليهودية، أم على النصرانية، أم على المجوسية، أم على الإسلام، أم ما عليه الصابئون? فإن ها هنا من يتفلسف وهو نصراني كابن زرعة وابن الخمار وأمثالهما، وها هنا من يتفلسف وهو يهودي، كأبي الخير بن يعيش، وها هنا من يتفلسف وهو مسلم، كأبي سليمان والنوشجاني وغيرهما؛ أفتقول إن الفلسفة أباحت لكل طائفة من هذه الطوائف أن تدين بذلك الدين الذي نشأت عليه? ودع هذا ليخاطب غيرك، فإنك من أهل الإسلام بالهدى والجبلة والمنشأ والوراثة؛ فما بالنا لا نرى واحداً منكم يقوم بأركان الدين، ويتقيد بالكتاب والسنة يراعي معالم الفريضة ووظائف النافلة? وأين كان الصدر الأول من الفلسفة? أعني الصحابة، وأين كان التابعون منها? ولم خفي هذا الأمر العظيم - مع ما فيه من الفوز والنعيم - على الجماعة الأولى والثانية والثالثة إلى يومنا هذا وفيهم الفقهاء والزهاد والعباد وأصحاب الورع والتقى، والناظرون في الدقيق ودقيق الدقيق وكل ما عاد بخيرٍ عاجل وثوابٍ آجل، هيهات لقد أسررتم الحشو في الارتغاء واستقيتم بلا دلو ولا رشاء، ودللتم على فسولتكم وضعف منتكم وأردتم أن تقيموا ما وضعه الله، وتضعوا ما رفعة الله، والله لا يغالب؛ بل هو غالبٌ على أمره، فعال لما يريد.
قد حاول هذا الكيد خلقٌ في القديم والحديث، فنكصوا على أعقابهم خائبين، وكبوا لوجوههم خاسرين؛ منهم أبو زيد البلخي؛ فإنه ادعى أن الفلسفة مقاودة للشريعة، والشريعة مشاكلة للفلسفة، وأن إحداهما أم والأخرى ظئر، وأظهر مذهب الزيدية، وانقاد لأمير خراسان الذي كتب له أن يعمل في نشر الفلسفة بشفاعة الشريعة، ويدعو الناس إليها باللطف والشفقة والرغبة، فشتت الله كلمته، وقوض دعامته، وحال بينه وبين إرادته، ووكله إلى حوله وقوته، فلم يتم له من ذلك شيء.
وكذلك رام أبو تمام النيسابوري، وخدم الطائفة المعروفة بالشيعية ولجأ إلى مطرف بن محمد وزير مرداويج الجيلي ليكون له به قوة، وينطق بما في نفسه من هذه الجملة، فما زادته إلا صغراً في قدره، ومهانةً في نفسه، وتوارياً في بيته؛ وهذا بعينه قصد العامري فما زال مطروداً من صقع إلى صقع ينذر دمه ويرتصد قتله، فمرةً يتحصن بفناء ابن العميد، ومرةً يلجأ إلى صاحب الجيش بنيسابور، ومرةً يتقرب إلى العامة بكتبٍ يصنفها في نصرة الإسلام، وهو على ذلك يتهم ويقرف بالإلحاد؛ وبقدم العالم واللاكم في الهيولى والصورة والزمان والمكان، وما أشبه هذا من ضروب الهذيان التي ما أنزل الله بها كتابه، ولا دعا إليها رسوله، ولا أفاضت فيها أمته.
ومع ذلك يناغي صاحب كل بدعة؛ ويجلس إليه كلٌ منهم؛ ويلقي كلامه إلى كل من ادعى باطناً للظاهر وظاهراً للباطن.
وما عندي أن الأئمة الذين يأخذ عنهم ويقتبس منهم، كأرسطوطاليس وسقراط وأفلاطون، رهط الكفر ذكروا في كتبهم حديث الظاهر والباطن، وإنما هذا من نسج القداحين في الإسلام، الساترين على أنفسهم ما هم فيه من التهم؛ وهذا بعينه دبره الهجريون بالأمس، وبهذا دندن الناجمون بقزوين وبثوا الدعاة في أطراف الأرض، وبذلوا الرغائب وفتنوا النفوس.
وقد سمعنا تأويلات هذه الطوائف لآيات القرآن في قوله عز وجل: "انطلقوا إلى ظلٍ ذي ثلاث شعبٍ" وفي قوله تعالى: "عليها تسعة عشر" وفي قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" إلى غير ذلك مما يطول ويعول فدعونا من التورية والحيلة والإيهام والكناية عن شيء لا يتصل بالإرادة، والإرادة لشيء لا يتصل بالتصريح، فالناس ألقد لأديانهم وأحرص على الظفر ببغيتهم من الصيارفة لدنانيرهم ودراهمهم.

فلما انبهر المقدسي بما سمع وكاد يتفرى إهابه من الغيظ والعجز وقلة الحيلة قال: الناس أعداء ما جهلوا، ونشر الحكمة في غير أهلها يورث العداوة ويطرح الشحناء ويقدح زند الفتنة.
ثم كر الحريري كر المدل وعطف عطفة الواثق بالظفر، فقال: يا أبا سليمان، من هذا الذي يقر منكم أن عصا موسى انقلبت حية، وأن البحر انفلق، وأن يداً خرجت بيضاء من غير سوء، وأن بشراً خلق من تراب، وأن آخرته ولدته أنثى من غير ذكر، وأن ناراً مؤججةً طرح فيها إنسانٌ فصارت له برداً وسلاماً، وأن رجلاً مات مائة عامٍ ثم بعث فنظر إلى طعامه وشرابه على حاليهما لم يتغيرا، وأن قبراً تفقأ عن ميتٍ حيى، وأ طيناً دبر فنفخ فيه فطار، وأن قمراً انشق، وأن جذعاً حن، وأن ذئباً تكلم، وأن ماءً نبع من أصابع فروى منه جيشٌ عظيم، وأن جماعةً شبعت من ثريدةٍ في قدر جسم قطاة? وعلى هذا، إن كنتم تدعون إلى شريعة من الشرائع التي فيها هذه الخوارق والبدائع فاعترفوا بأن هذه كلها صحيحة ثابتة كائنة لا ريب فيها ولا مرية، من غير تأويل ولا تدليس، ولا تعليل ولا تلبيس، وأعطونا خطكم بأن الطبائع تفعل هذا كله، والمواد تواتى له، والله تعالى يقدر عليه؛ ودعوا التورية والحيلة والغيلة والظاهر والباطن، فإن الفلسفة ليست من جنس الشريعة، ولا الشريعة من فن الفلسفة، وبينهما يرمي الرامي ويهمي الهامي؛ على أنا ما وجدنا الديانين من المتألهين من جميع الأديان يذكرون أن أصحاب شرائعهم قد دعوا إلى الفلسفة وأمروا بطلبها واقتباسها من اليونانيين هذا موسى وعيسى وإبراهيم وداود وسليمان وزكريا ويحيى إلى محمد صلى الله عليه وسلم لم نحق من يعزو إليهم شيئاً من هذا الباب، ويعلق عليهم هذا الحديث.
قال الوزير: ما عجبي من جميع هذا الكلام إلا من أبي سليمان في هذا الاستحقار والتغضب، والاحتشاد والتعصب؛ وهو رجل يعرف بالمنطقي، وهو من غلمان يحيى بن عدي النصراني، ويقرأ عليه كتب يونان، وتفسير دقائق كتبهم بغاية البيان.
فقلت: إن أبا سليمان يقول: إن الفلسفة حقٌ لكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حقٌ لكنها ليست من الفلسفة في شيء، وصاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، وأحدهما مخصوص بالوحي، والآخر مخصوص ببحثه، والأول مكفي، والثاني كادح، وهذا يقول: أمرت وعلمت، وقيل لي، وما أقول شيئاً من تلقاء نفسي؛ وهذا يقول: رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت؛ وهذا يقول: نور العقل أهتدي به؛ وهذا يقول: معي نور خالق الخلق أمشي بضيائه؛ وهذا يقول: قال الله تعالى، وقال الملك؛ وهذا يقول: قال أفلاطن وسقراط؛ ويسمع من هذا ظاهر تنزيل، وسائغ تأويل، وتحقيق سنة، واتفاق أمة؛ ويسمع من الآخر الهيولى والصورة والطبيعة والأسطقس والذاتي والعرضي والأيسي والليسي، وما شاكل هذا مما لا يسمع من مسلمٍ ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ولا مانوي.
ويقول أيضاً: من أراد أن يتفلسف فيجب عليه أن يعرض بنظره عن الديانات، ومن اختار التدين فيجب عليه أن يعرد بعنايته عن الفلسفة ويتحلى بهما مفترقين في مكانين على حالين مختلفين، ويكون بالدين متقرباً إلى الله تعالى، على ما أوضحه له صاحب الشريعة عن الله تعالى، ويكون بالحكمة متصفحاً لقدرة الله تعالى في هذا العالم الجامع للزينة الباهرة لكل عين، المحيرة لكل عقل، ولا يهدم أحدهما بالآخر. أعني لا يجحد ما ألقي إليه صاحب الشريعة مجملاً ومفصلاً، ولا يغفل عما استخزن الله تعالى هذا الخلق العظيم على ما ظهر بقدرته، واشتمل بحكمته، واستقام بمشيئته، وانتظم بإرادته واستتم بعلمه؛ ولا يعترض على ما يبعد في عقله ورأيه من الشريعة، وبدائع آيات النبوة بأحكام الفلسفة، فإن الفلسفة مأخوذة من العقل المقصور على الغاية، والديانة مأخوذة من الوحي الوارد من العلم بالقدرة.
قال: ولعمري إن هذا صعب، ولكنه جماع الكلام، وأخذ المستطاع، وغاية ما عرض له الإنسان المؤيد باللطائف، المزاح بالعلل وبضروب التكاليف.
قال: ومن فضل نعمة الله تعالى على هذا الخلق أنه نهج لهم سبيلين ونصب لهم علمين، وأبان لهم نجدين ليصلوا إلى دار رضوانه إما بسلوكهما وإما بسلوك أحدهما.
 فقال له البخاري: فهلا دل الله على الطريقين اللذين رسمتهما في هذا المكان? قال: ودل وبين، ولكنك عمٍ، أما قال: "وما يعقلها إلا العالمون"? وفي فحوى هذا وما يعلمها إلا العالمون? فقد وصل العقل بالعلم، كما وصل العلم بالعقل، لأن كمال الإنسان بهما، ألا ترى أن العاقل متى عري من العلم قل انتفاعه بعقله? كذلك العالم متى خلي من العقل بطل انتفاعه بعلمه، أما قال: "وما يتذكر إلا أولوا الألباب"? أما قال: "فاعتبروا يا أولي الأبصار"? أما قال: "أفلا يتدبرون القرآن"? أما ذم قوماً حين قال: "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"? أفما قال: "أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها"! أما قال: "وكأين من آيةٍ في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون"? أما قال: "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيدٌ"? وكتاب الله عز وجل محيطٌ بهذا كله، وإنما تقاد إلى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا فيما لا يناله عقلك، ولا يبلغه ذهنك، ولا يعلو إليه فكرك، فأمرك باتباعه والتسليم له، وإنما دخلت الآفة من قومٍ دهريين ملحدين ركبوا مطية الجدل والجهل، ومالوا إلى الشغب بالتعصب، وقابلوا الأمور بتحسينهم وتقبيحهم وتهجينهم، وجهلوا أن وراء ذلك ما يفوت ذرعهم، ويتخلف عن لحاقه رأيهم ونظرهم، ويعمي دون كنه ذلك بصرهم؛ وهذه الطائفة معروفة، منهم صالح بن عبد القدوس، وابن أبي العوجاء، ومطر بن أبي الغيث، وابن الراوندي، والحصري، فإن هؤلاء طاحوا في أودية الضلالة، واستجروا إلى جهلهم أصحاب الخلاعة والمجانة.
فقال البخاري: فما الذي تركت بهذا الوصف للذين جمعوا بين الفلسفة والديانة؛ ووصلوا هذه بهذه على طريق الظاهر والباطن، والخفي والجلي، والبادي والمكتوم? قال: تركت لهم الطويل العريض، القوم زعموا أن الفلسفة مواطئةٌ للشريعة، والشريعة موافقةٌ للفلسفة؛ ولا فرق بين قول القائل: قال النبي، وقال الحكيم، وأن أفلاطون ما وضع كتاب النواميس إلا لنعلم كيف نقول? وبأي شيء نبحث، وما الذي نقدم ونؤخر، وأن النبوة فرعٌ من فروع الفلسفة، وأن الفلسفة أصل علم العالم، وأن النبي محتاجٌ إلى تتميم ما يأتي به من جهة الحكيم، والحكيم غنيٌ عنه؛ هذا وما أشبهه؛ وأن صاحب الدين له أن يعين ويوري ويشير ويكني حتى تتم المصلحة، وتنتظم الكلمة، وتتفق الجماعة، وتثبت السنة، وتحلو المعيشة، وحتى قال قائل منهم: أوائل الشريعة أمورٌ مبتدعة، ووسائطها سننٌ متبعة، وأواخرها حقوقٌ منتزعة، وإن هذا النعت من قولي: إن الشريعة إلهية، والفلسفة بشرية، أعني أن تلك بالوحي، وهذه بالعقل، وأن تلك موثوقٌ بها ومطمأنٌ إليها، وهذه مشكوكٌ فيها مضطربٌ عليها.
قال له البخاري: فلم لم ينهج صاحب الشريعة هذه الطريق، وكان يزول هذا الخصام، وينتفي هذا الظن، وتكسد هذه السوق? فقال: إن صاحب الشريعة مستغرقٌ بالنور الإلهي، فهو محبوس على ما يراه ويبصره، ويجده وينظره، لأنه مأخوذ بما شهده بالعيان وأدركه بالحس وناله بوديعة الصدر عن كل ما عداه، فلهذا يدعو إلى اقتباس كماله الذي حصل له، ولا يسعد بدعوته إلا من وفق لإجابته، وأذعن لطاعته، واهتدى بكلمته، والفلسفة كمال بشري، والدين كمالٌ إلهي، والكمال الإلهي غنيٌ عن الكمال البشري، والكمال البشري فقيرٌ إلى الكمال الإلهي، فهذا هذا، وما أمر الله عز وجل بالاعتبار، ولا حث على التدبير، ولا حرك القلوب إلى الاستنباط، ولا حبب إلى القلوب البحث في طلب المكنونات، إلا ليكون عباده حكماء ألباء أتقياء أذكياء، ولا أمر بالتسليم ولا حظر الغلو والإفراط في التعمق إلا ليكون عباده لاجئين إليه متوكلين عليه، معتصمين به، خائفين منه، راجين له، يدعونه خوفاً وطمعاً، ويعبدونه رغباً ورهباً، فبين ما بين حرصاً على معرفته وعبادته، وطاعته وخدمته، وأخفى ما أخفى لتدوم حاجتهم إليه، ولا يقع الغنى عنه، وبالحاجة يقع الخضوع والتجرد، وبالاستغناء يعرض التجبر والتمرد؛ وهذه أمورٌ جاريةٌ بالعادة، وثابتة بالسيرة الجائرة والعادلة؛ ولا سبيل إلى دفعها ورفعها وإنكارها وجحدها، فلهذا لزم كل من أدرك بعقله شيئاً أن يتمم نقصه بما يجده عند من أدرك ما أدرك بوحيٍ من ربه.

وقال أيضاً: مما يؤكد هذه الجملة أن الشريعة قد أتت على معقولٍ كثير، بنور الوحي المنير، ولم تأتي الفلسفة على شيء من الوحي لا كثيرٍ ولا قليل: قال: وليس ليونان نبيٌ يعرف، ولا رسولق من قبل الله صادق، وإنما كانوا يفزعون إلى حكمائهم في وضع ناموسٍ يجمع مصالح حياتهم ونظام عيشهم ومنافع أحوالهم في عاجلتهم، وكانت ملوكهم تحب الحكمة وتؤثر أهلها، وتقدم من تحلى بجزء من أجزائها، وكان ذلك الناموس يعمل به ويرجع إليه، حتى إذا أبلاه الزمان، وأخلقه الليل والنهار، عادوا فوضعوا ناموساً آخر جديداً بزيادة شيء على ما تقدم أو نقصانٍ، على حسب الأحوال الغالبة على الناس، والمغلوبة بين الناس، ولهذا لا يقال: إن الإسكندر في أيام ملكه حين سار من المغرب إلى المشرق كانت شريعته كذا وكذا، وكان يذكر نبياً يقال له: فلان، أو قال: أنا نبي، ولقد واقع داراً وغيره من الملوك على طريق الغلبة في طريق الغلبة في طلب الملك، وحيازة الديار وجباية الأموال والسبي والغارة، ولو كان للنبوة ذكرٌ وللنبي حديثٌ لكان ذلك مشهوراً مذكوراً، ومؤرخاً معروفاً.
قال الوزير: هذا كلامٌ عجيبٌ ما سمعت مثله على هذا الشرح والتفصيل، قلت: إن شيخنا أبا سليمان غزير البحر، واسع الصدر، لا يغلق عليه في الأمور الروحانية والأنباء الإلهية والأسرار الغيبية، وهو طويل الفكرة، كثير الوحدة، وقد أوتي مزاجاً حسن الاعتدال، وخاطراً بعيد المنال، ولساناً فسيح المجال، وطريقته هذه التي اجتباها مكتنفةٌ بمعارضاتٍ واسعة، وعليها مداخل لخصمائه، وليس يفي كل أحدٍ بتلخيصه لها، لأنه قد أفرز الشريعة من الفلسفة، ثم حث على انتحالهما معاً، وهذا شبيهٌ بالمناقضة. وقد رأيت صاحباً لمحمد بن زكرياء ي هذه الأيام ورد من الري يقال له: أبو غانم الطبيب يشاده في هذا الموضع ويضايقه، ويلزمه القول بما ينكره على الخصم، وإذا أذنت رسمت كلامهما في ورقات. فقال الوزير: قد بان الغرض الذي رمي إليه، وتقليبه بالجدل لا يزيده إلا إغلاقاً، والقصد معروف، والوقوف عليه كافٍ، ومع هذا فليت حظنا منه كان يتوفر بالتلاقي والاجتماع، لا بالرواية والسماع، هات فائدة الوداع، فقد بلغت في المؤانسة غاية الإمتاع.
قلت: أكره أن أختم مثل هذه الفقرة الشريفة بما يشبه الهزل وينافي الجد، فإن أذنت رويت ما يكون أساساً ودعامة لما تقدم. قال: هات ما أحببت، فما عهدنا من روايتك إلا ما يشوقنا إلى رؤيتك.
قلت: قال ابن المقفع: عمل الرجل بما يعلم أنه خطأٌ هوىً، والهوى آفة العفاف، وتركه العمل بما يعلم أنه صوابٌ تهاون، والتهاون آفة الدين، وإقدامه على ما لا يعلم أصوابٌ هو أم خطأٌ لجاج، واللجاج آفة الرأي.
فقال - حرس الله نفسه -: ما أكثر رونق هذا الكلام! وما أعلى رتبته في كنه العقل! اكتبه لنا، بل اجمع لي جزءاً لطيفاً من هذه الفقر، فإنها تروح العقل في الفينة بعد الفينة، فإن نور العقل ليس يشع في كل وقت؛ بل يشع مرةً ويبرق مرةً، فإذا شع عم نفعه، وإذا برق خص نفعه وإذا خفي بطل نفعه. قلت: أفعل. فقال: إن كان معك شيءٌ آخر فاذكره، فإن الحديث الحسن لا يمل، وما أحسن ما قال خالد بن صفوان، فإنه قيل له: أتمل الحديث? قال: إنما يمل العتيق. قال: صدق خالد: إن الحديث لا يمل من الزمان إلا فيما يليه، وإلا يمل في أول زمانه وفاتحة أوانه، وإنما الملل يعرض بتكرر الزمان وضجر الحس ونزاع الطبع إلى الجديد، ولهذا قيل: لكل جديدٍ لذة.
فحكيت أنه لما تقلد كسرى أنوشروان مملكته عكف على الصبوح والغبوق، فكتب إليه وزيره رقعةً يقول فيها: إن في إدمان الملك ضرراً على الرعية، والوجه تخفيف ذلك والنظر في أمور المملكة. فوقع على ظهر الرقعة بالفارسية بما ترجمته: يا هذا، إذا كانت سبلنا آمنة، وسيرتنا عادلة، والدنيا باستقامنا عامرة، وعمالنا بالحق عاملة، فلم نمنع فرحةً عاجلة?.

قال: من حدثك بهذا? قلت: أبو سليمان شيخنا، قال: فكيف كان رضاه عن هذا الملك في هذا القول? فقلت: اعترض فقال: أخطأ من وجوه، أحدها أن الإدمان إفراط، والإفراط مذموم؛ والآخر أنه جهل أن أمن السبيل وعدل السيرة وعمارة الدنيا والعمل بالحق متى لم يوكل بها الطرف الساهر ولم تحط بالعناية التامة، ولم تحفظ بالاهتمام الجالب لدوام النظام، دب إليها النقص والنقص بابٌ للانتقاض، مزعزعٌ للدعامة، والآخر أن الزمان أعز من أن يبذل في الأكل والشرب والتلذذ والتمتع، فإن في تكميل النفس الناطقة باكتساب الرشد لها وإبعاد الغي عنها ما يستوعب أضعاف العمر، فكيف إذا كان العمر قصيراً، وكان ما يدعو إليه الهوى كبيراً?! والآخر أنه ذهب عليه أن الخاصة والعامة إذا وقفت على استهتار الملك باللذات، وانهماكه في طلب الشهوات، ازدرته واستهانت به، وحدثت عنه بأخلاق الخنازير وعادات الحمير واستهانة الخاصة والعامة بالناظر في أمرها والقيم بشأنها متى تكررت على القلوب تطرقت إلى اللسان، وانتشرت في المحافل، والتفت بها بعضهم إلى بعض وهذه مكسرةٌ للهيبة، وقلة الهيبة رافعةٌ للحشمة، وارتفاع الحشمة باعثٌ على الوثبة، والوثبة غير مأمونةٍ من الهلكة؛ وما خلا الملك من طامعٍ راصدٍ قط وليس ينبغي للملك الحازم أن يظن أنه لا ضد له ولا منازع، وقد ينجم الضد والمنازع من حيث لا يحتسب، وما أكثر خجل الواثق! وما أقل حزم الوامق! وما أقل يقظة المائق!.
ثم قال: وعلى الضد متى كان السائس ذا تحفظٍ وبحثٍ، وتتبعٍ وحزمٍ وإكبابٍ على لم الشعث وتقويم الأود وسد الخلل وتعرف المجهول وتحقق المعلوم ورفع المنكر وبث المعروف، احترست منه العامة والخاصة، واستشعرت الهيبة، والتزمت بينها النصفة، وكفيت كثيراً من معاناتها ومراعاتها، وإن كان للدولة راصدٌ للغرة يئس من نفوذ الحيلة فيها، لأن اللص إذا رأى مكاناً حصيناً وعهد عليه حراساً لم يحدث نفسه بالتعرض له، وإنما يقصد قصرا فيه ثلمة، وباباً إليه طريق، والأعراض بالأسباب، وإذا ضعف السبب ضعف العرض، وإذا انقطع السبب انقطع العرض.
فقال - أدام الله أيامه -: هذا كلامٌ كافٍ شافٍ. وقال بعد ذلك: حدثني عما تسمع من العامة في حديثنا.
قلت: سمعت بباب الطاق قوماً يقولون: اجتمع الناس اليوم على الشط فلما نزل الوزير ليركب المركب صاحوا وضجوا وذكروا غلاء القوت وعوز الطعام وتعذر الكسب وغلبة الفقر وتهتك صاحب العيال، وأنه أجابهم بجوابٍ مرٍ مع قطوب الوجه وإظهار التبرم بالاستغاثة: بعد لم تأكلوا النخالة.
فقال: والله ما قلت هذا، ولا خطر لي على بال، ولم أقابل عامةً جاهلةً ضعيفةً جائعةً بمثل هذه الكلمة الخشناء، وهذا يقوله من طرح الشر وأحب الفساد وقصد التشنيع علي والإيحاش مني، وهو هذا العدو الكلب، يعني ابن يوسف كفاني الله شره، وشغله بنفسه، ونكس كيده على رأسه؛ والله لأنظرن لها وللفقراء بمالٍ أطلقه من الخزانة، وأرسم ببيع الخبز ثمانية بدرهم، ويصل ذلك إلى الفقراء في كل محلةٍ على ما يذكر شيخها، ويبيع الباقون على السعر الذي يقوم لهم، ويشتريه الغني الواجد؛ ففعل ذلك - أحسن الله جزاءه - على ما عرفت وشاهدت، وأبلغته بنشر الدعاء له في الجوامع والمجامع بطول البقاء ودوام العلاء وكبت الأعداء ونصر الأولياء. ثم كتبت جزءاً من الفقر على ما رسم من قبل، فلما أوصلته إليه قال لي: اقرأ، فقرأته عليه، فقال: صل هذا الجزء بجزء آخر من حديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وبجزء من الشعر، وبشيء من معاني القرآن، فإنه مقدمٌ على كل شيء بحسب ما رفع الله من خطره، وأحوج إلى فهمه، وندب إلى العمل به، وأثاب على التفكر فيه والتعجب منه.
وعظ رجلٌ من "جهينة" "عمرو بن العاص" في قصة الحكومة، فقال عمرو له: ما أنت وذاك يا تيس جهينة? فوالله ما ينفعك الحق، ولا يضرك الباطل، فاسكت فإن الظلف لا يجري مع الخف.
وقال بعض الحكماء: إن المدن تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة.
وقال الشاعر:

لاح سهيلٌ في الظلام الدامس

 

كأنه نارٌ بكف الـقـابـس

قال ربيعة بن عامر بن مالك في عمرو بن الإطنابة - حين دفع أخته وأخذ أخاه وكان أسيراً في قومه، وجعل دفع أخيه إليه صداق أخته، وهو الذي تسميه العرب المساهاة -: فقد حزمى الذي هديت له، وعزمى الذي أرشدت إليه. وقال الشاعر:

وساهى بها عمرٌو وراعى إفاله

 

فزبدٌ وتمرٌ بعـد ذاك كـثـير

وكانت دية العربي مائة وسقٍ، ودية الهجين خمسين وسقاً، ودية المولى عشرة أوسق؛ وكانت العرب تجعل دية المعم المخول مائة بعيرٍ، ودية المولى خمسةً وعشرين بعيراً.
وقال جرير:

رأيت بني نبهان أذنـاب طـيىءٍ

 

وللناس أذنابٌ تـرى وصـدور

ترى شرط المعزى مهور نسائهم

 

وفي شرط المعزى لهن مهور

وقال خالد بن جعفر بن كلاب:

بل كيف تكفرني هوازن بعدما

 

أعتقتهم فتـوالـدوا أحـرارا

وقتلت ربهم زهيراً بعـدمـا

 

جدع الأنوف وأكثر الأوتـارا

وجعلت مهر نسائهم ودياتهـم

 

عقل الملوك هجائناً وبكـارا

وقال جندل بن صخرٍ، وكان عبداً:

وما فك رقى ذات دلٍ خـدلـجٌ

 

ولا ساق مالي صدقةٌ وعقـول

ولكن نماني كل أبيض خضـرمٍ

 

فأصبحت أدري اليوم كيف أقول

وقتل الكلبي عبد الله بن الجوشن الغعطفاني بقتله ابنه الجراح بن عبد الله رواد، وكانوا عرضوا عليه الدية، فقال:

شفيت بروادٍ غلـيلاً وجـدتـه

 

على القلب منه مستسرٌ وظاهر

ألا ليت قبراً بين أدمي ومطرقٍ

 

يحدثه عني الأحاديث خـابـر

وقالوا نديه من أبيه ونـفـتـدي

 

فقلت: كريمٌ ما تديه الأبـاعـر

ألم تر أن المال يذهـب دثـره

 

وتغبر أقوالٌ وتبقى المـعـاير

أدمى ومطرق غديران بين فدك وبلاد طىء.
سئلت ابنة اخس هل يلقح البازل? قالت: نعم وهو رازم، أي وإن كان لا يقدر على القيام من الضعف والهزال. يقال: جملٌ بازلٌ وناقةٌ بازلٌ، ويقال: ضربه فبركعه إذا أبركه، وتبركع، ويقال: شم لي هذه الإبل، أي انظر لي خبرها.
ويقال لولد كل بهيمةٍ إذا ساء غذاؤه: جحنٌ ومحثلٌ وجذعٌ، وكل ما غذي بغير أمه يقال له: عجيٌ، وكذلك الجحن والوغل والسغل كله السيء الغذاء.
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل، فقال: ما لك ولها? معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل من الشجر حتى يأتيها ربها.
سئل - عليه السلام - عن ضالة الغنم، فقال: هي لك أو لأخيك أو للذئب.
قيل له عليه السلام: فاللقطة? قال: تعرفها سنة وتحصي وكاءها ووعاءها وعفاصها وعددها؛ فإن جاء صاحبها فأدها إليه.
وقال أبي بن كعبٍ: أصبت مائة دينارٍ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: " احفظ عفاصها ووكاءها وعددها فإن جاء صاحبها فأخبرك بعددها وعفاصها ووكائها فأدها إليه وإلا فعرفها سنة، ثم استمتع بها".
قال علي بن الحسن: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان يقف النخلتين قال له الأنصار: يا رسول الله، هل لك في السباق? قال: نعم وهو يومئذ على النواضح - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في أخريات الناس، وأسامة بن زيدٍ على العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في أول الناس - فقال: أين أسامة? فتنادى الناس حتى بلغ أسامة الصوت، فوضع السوط في الناقة فأقبلت، فلما دنت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن إخواننا من الأنصار قد أرادوا السباق فأنخ ناقتك حتى ترعو، ثم علق الخطام ثم سابقهم؛ ففعل واستبقوا، فسبقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل أسامة يكبر ويقول: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله يقول: سبق أسامة، فلما أكثر من ذلك قال له: أقصر يا أسامة، فإن إخواننا من الأنصار فيهم حياءٌ وحفيظة.

قال: وليس لشيء من الحيوان سنامٌ إلا البعير، ولبعض البخاتي سنامان، ولبعض البقر شيء صغيرٌ على موضع الكاهل. والجمل يبول إلى خلفٍ، وكذلك الأسد. وقضيب الجمل من عصبٍ، وقضيب الإنسان من لحمٍ وغضروفٍ، وقضيب الذئب والثعلب من عظمٍ، وقضيب ذكر الأرانب من عظمٍ على صورة الثقب كأنه نصف أنبوبةٍ مشقوقة. وفي قلب الثور عظم، وربما وجد في قلب الجمل. والمرأة تلد من قبل، والناقة من خلف. وزمان نزو الجمال في شباط. والإناث من الإبل تحمل اثني عشر شهراً وتضع واحداً وتلقح إذا بلغت ثلاث سنين، وكذلك الذكر، ثم تقيم الأنثى سنةً ثم ينزى عليها.
وزعم صاحب المنطق أن الجمل لا ينزو على أمه، وإن اضطر كرهه.
قال: وقد كان رجلٌ في الدهر السالف ستر الأم بثوبٍ ثم أرسل بكراً عليها، فلما عرف ذلك لم يتم وقطع، وحقد على الجمال فقتله.
قال: وقد كان لملكٍ فرسٌ أنثى، وكان لها أفلاءٌ، فأراد أن تحمل من أكرمها، فصد عنها وكرهها، فلما سترت وثب فركبها، فلما رفع الثوب ورآها هرب ومر حضراً حتى ألقى نفسه في بعض الأودية فهلك.....
هذا كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ كرم الله وجهه.
قال حذيفة: كن في الفتنة كابن البون، لا ظهر فيركب، ولا لبن فيحلب.
قال ديوجانس: إن المرأة تلقن الشر من المرأة، كما أن الأفعى تأخذ السم من الأصلة.
وقال فيثاغورس: إن كثيراً من الناس يرون العمى الذي يعرض لعين البدن فتأباه أنفسهم، فأما عمى عين النفس فإنهم لا يرونه ولا تأباه أنفسهم، فلذلك لا يستحيون.
وقال أيضاً: كما أن الذي يسلك طريقاً لا يعرفه لا يدري إلى أي موضعٍ يؤديه، كذلك الذي يسمع كلاماً لا يعرف الغرض فيه لا يربح منه إلا التعب.
قيل لديوجانس: أيهما أولى، طلب الغنى، أم طلب الحكمة? فقال: للدنيا الغنى، وللآخرة الحكمة.
وقيل له: متى تطيب الدنيا? قال: إذا تفلسف ملوكها وملك فلاسفتها.
فقال الوزير - أسعده الله - عندي أن هذا الكلام مدخول، لأن الفلسفة لا تصح إلا لمن رفض الدنيا وفرغ نفسه للدار الآخرة، فكيف يكون الملك رافضاً للدنيا وقالياً لها، وهو محتاجٌ إلى سياسة أهلها والقيام عليها باجتلاب مصالحها ونفي مفاسدها، وله أولياء يحتاج إلى تدبيرهم وإقامة أبنيتهم والتوسعة عليهم ومواكلتهم ومشاربتهم ومداراتهم والإشراف على سرهم وعلانيتهم، والملك أتعب من الطبيب الذي يجمع معالجةً كثيرةً بضروب الأدوية المختلفة والأغذية المتباينة؛ هذا والطبيب فقيرٌ إلى تقديم النظر في نفسه وبدنه، ونفي الأمراض والأغراض عن ظاهره وباطنه، ومن كان هكذا ومن هو أكثر منه وأشد حاجةً وعلاقةً كيف يستطيع أن يكون ملكاً وحكيماً?! ولعل قائلاً يظن هذا ممكناً، ويكون الملك واعياً في الحكمة بالدعوى، وقائماً بالملك على طريق الأولى، وهذا إلى التياث الأمر واختلاله واختلاطه في الملك والفلسفة أقرب منه إلى إحكام الأصل وإثبات الفرع. قال: ولهذا لم نجد نحن في الإسلام من نظر في أمر الأمة على الزهد والتقى وإيثار البر والهدى إلا عداداً قليلاً، والمجوس تزعم أن الشريعة معرجةٌ عن الملك، أي الذي يأتي بها ليس له أن يعرج على الملك، بل له أن يكل الملك إلى من يقوم به على أحكام الدين، ولهذا قال ملكنا الفاضل: الدين والملك أخوان، فالدين أسٌ، والملك حارس، فما لا أس له فهو مهدوم، وما لا حارس له فهو ضائع.
فقلت له: هذا باب إن توزع القول فيه طال، وإن رمي بالقصد جاز، واللائمة كلامٌ كثيرٌ في الإمامة والخلافة وما يجري مجرى النيابة عن صاحب الديانة على فنونٍ مختلفة، وجمل متعددة، إلا أن الناظر في أحوال الناس ينبغي أن يكون قائماً بأحكام الشريعة، حاملاً للصغير والكبير، على طرائقها المعروفة، لأن الريعة سياسة الله في الخلق، والملك سياسة الناس للناس، على أن الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة، والسياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة، والملك مبعوث، كما أن صاحب الدين مبعوث، إلا أن أحد البعثين أخفى من الآخر، والثاني أشهر من الأول. قال - أطال الله بقاءه - كنت أحب أن أعلم من أين قلت: إن الملك مبعوث أيضاً? فإن هذه الكلمة ما ثبتت في أذني قط، ولا خطرت لي على بال؛ قلت: قال الله عز وجل في تنزيله: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً". فعجب وقال: كأني لم أسمع بهذا قط.

وذكر للإسكندر سوء أحوال رؤساء مذهبه لما كان أبوه احتاز أموالهم وسلب أحوالهم. فقال: يجب للآباء على الأبناء إزالة الذم عنهم، ومحو الإثم، واستعطاف القلوب عليهم، ونشر المحامد عنهم؛ وأمر برد أموالهم عليهم، وزاد في الإحسان إليهم. وقال: قد بلغ من فرط شفقة الآباء على الأبناء أن يسيئوا إلى أنفسهم لتكون الإساءة سبباً للإحسان إلى أولادهم، لأنهم يرون أولادهم كأنفسهم لأنهم من أنفسهم.
فقلت: أيها الوزير، إني لأعجب من الإسكندر في الفعل الرشيد والقول السديد، فهذا المنصور أبو جعفر صاحب الشهامة والصرامة أخذ من وجوه العراق أموالاً بخواتيم أصحابها وأفقرهم، وجعلها في خزائنه بعد أن كتب على تلك الخرائط والظروف أسماء أهلها، ثم وصى المهدي بردها على أصحابها بعد موته، ووكد ذلك عليه، وقال: يا بني، إنما أريد بهذا أن أحببك إلى الناس، ففعل المهدي ذلك؛ فانتشر له الصيت وكثر الدعاء وعجت الأصوات، وقال الناس: هذا هو المهدي الذي ورد في الأثر. فقال: هذا عجب.
وقال سقراط: ينبغي لمن علم أن البدن هو شيء جعل نافعاً للنفس مثل الآلة للصانع أن يطلب كل ما يصير البدن به أنفع وأوفق لأفعال النفس التي هي فيه، وأن يهرب من كل ما يصير البدن غير نافعٍ ولا موافق لاستعمال النفس له.
قال أوميروس: لا ينبغي لك أن تؤثر علم شيء إذا عيرت به غضبت، فإنك إذا فعلت هذا كنت أنت القاذف لنفسك.
وقال ديوجانس: من القبيح أن تتحرى في أغذية البدن ما يصلح له ولا يكون ضاراً، ولا تتحرى في غذاء النفس الذي هو العلم لئلا يكون ضاراً.
وقال أيضاً: من القبيح أن يكون الملاح لا يطلق سفينته في كل ريح، ونحن نطلق أنفسنا في غير بحث ولا اختبار.
ذكر لنا أبو سليمان أن فيلسوفاً ورد مدينةً فيها فيلسوف، فوجه إليه المدني كأساً ملآى، يشير بها إلى أن الاستغناء عنه واقعٌ عنده، فطرح القادم في الكأس إبرةً، يعلمه أن معرفته تنفذ في معرفته.
وقال فيلسوفٌ يوناني: التقلب في الأمصار، والتوسط في المجامع، والتصرف في الصناعات، واستماع فنون الأقوال، مما يزيد الإنسان بصيرةً وحكمةً وتجربةً ويقظةً ومعرفةً وعلماً.
قال الوزير: ما البصيرة? قلت: لحظ النفس الأمور. قال: فما الحكمة? قلت: بلوغ القاصية من ذلك اللحظ. قال: فما التجربة? قلت: كمال النفس بلحاظ مالها. قال: هذا حسن.
قال أنكساغورس: كما أن الإناء إذا امتلأ بما يسعه من الماء ثم تجعل فيه زيادة على ذلك فاض وانصب، ولعله أن يخرج معه شيءٌ آخر؛ كذلك الذهن ما أمكنه أن يضبطه فإنه يضبطه، وإن طلب منه ضبط شيء آخر أكثر من وسعه تحير، ولعل ذلك يضيع عليه شيئاً مما كان الذهن ضابطاً له، وهذا كلام صحيح، وإني لأتعجب من أصحابنا إذا ظنوا وقالوا: إن الإنسان يستطيع حفظ جميع فنون العلم والقيام بها والإبقاء عليها، ولو كان هذا مقدوراً عليه لوجد، ولو وجد لعرف، ولو عرف لذكر، وكيف يجوز هذا وقلب الإنسان مضغة، وقوته مقصورةٌ، وانبساطه متناهٍ، واقتباسه وحفظه وتصوره وذكره محدودٌ? ولقد حدثني علي بن المهدي الطبري قال: قلت ببغداد لأبي بشر: لو نظرت في شيء من الفقه مع هذه البراعة التي لك في الكلام، ومع هذا اللسان الذي تحير فيه كل خصم. قال: أفعل، قال: فكنت أقرأ عليه بالنهار مع المختلفة الكلام، وكان يقرأ علي بالليل شيئاً من الفقه، فلما كان بعد قليل أقصر عن ذلك، فقلت له: ما السبب? قال: والله ما أحفظ مسئلةً جليلةً في الفقه إلا وأنسي مسئلةً دقيقةً في الكلام، ولا حاجة لي في زيادة شيء يكون سبباً لنقصان شيء آخر مني.
وسأل رجلٌ آخر أن يقرضه مالاً، فوعده ثم غدر به، فلامه الناس، فقال: لأن يحمر وجهي مرةً أحب إلي من أن يصفر مراراً كثيرة.
وولي أريوس ولايةً فقال أصدقاؤه: الآن يظهر فضلك. فقال: ليست الولاية تظهر الرجل، بل الرجل يظهر الولاية.
وقال ديوجانس. الدنيا سوق المسافر، فليس ينبغي للعاقل أن يشتري منها شيئاً فوق الكفاف.
وقيل لاسطفانس: من صديقك? قال: الذي إذا صرت إليه في حاجةٍ وجدته أشد مسارعةً إلى قضائها مني إلى طلبها.
وقال أفلاطون: إن للنفس لذتين: لذةً لها مجردةً عن الجسد، ولذةً مشاركة للجسد، فأما التي تنفرد بها النفس فهي العلم والحكمة، وأما التي تشارك فيها البدن فالطعام والشراب وغير ذلك.

وقيل لسقراط: كيف ينبغي أن تكون الدنيا عندنا? قال: لا تستقبلوها بتمنٍ لها، ولا تتبعوها بتأسف عليها؛ فلا ذلك مجدٍ عليكم، ولا هذا راجعٌ إليكم.
وقال سقراط: القنية مخدومة، ومن خدم غير نفسه فليس بحر.
وقال بعض ندماء الإسكندر له: إن فلاناً يسيء الثناء عليك، فقال: أنا أعلم أن فلاناً ليس بشرير، فينبغي أن ينظر هل ناله من ناحيتنا أمرٌ دعاه إلى ذلك، فبحث عن حاله فوجدها رثةً، فأمر له بصلةٍ سنية، فبلغه بعد ذلك أنه يبسط لسانه بالثناء عليه في المحافل؛ فقال: أما ترون أن الأمر إلينا أن يقال فينا خيرٌ أو شر.
قيل لطيماثاوس: لم صرت تسيء القول في الناس? قال: لأنه يمكنني أن أسيء إليهم بالفعل. وكان مرة في صحراء، فقال له إنسان: ما أحسن هذه الصحراء! قال: لو لم تحضرها أنت.
وقال غالوس: ما وجه الاهتمام بما إن لم يكن أجزىء فوته، وإن كان فالمنفعة به وبحضوره قليلة منقطعة.
وقال سقراط: ينبغي إذا وعظت ألا تتشكل بشكل منتقمٍ من عدو، ولكن بشكل من يسعط أو يكوى بعلاجه داءً بصديق له، وإذا وعظت أيضاً بشيء فيه صلاحك، فينبغي أن تتشكل بشكل المريض للطبيب.
ركب مقاريوس في حاجة، فمر بزيموس وقد تعلق به رجل يطالبه بمال اختدعه عنه وعليهما جماعةٌ من الناس، وهو يسأله تنجيم ذلك المال عليه نجوماً ليؤديه، ويتضرع أشد التضرع. فقال منقاروس: ما طلبتك عند هذا الرجل. فقال: أتاني فخدعني بالزهد والنسك عن مالي، ووعدني أن يملأ بيتي ذهباً من صنعته، فلم أزل في الاسترسال إلى ظاهره السليم حتى أفقرني باطنه السقيم. فقال له مقاريوس: إن كل من بذل شيئاً إنما يبذله على قدر وسعه؛ وكان زيموس أتاك على حاله التي هو عليها، ولم يكن ليتسع لأكثر من ذلك القول؛ وعمل الذهب فبين ظاهر، لأن فقره يدل على عجزه وضعفه عنه، ومن أمل الغني عند الفقير فغاية ما يمكن أن يبلغه أن يصير مثله؛ وآخر ما يؤمل عند الفقير نيل الفقر.
فقد أصبت ما كنت تحب أن تجده عند زيموس؛ وهو حظٌ إن تمسكت به لم يغل بما تلف من مالك، ولئن كان وعدك أن يفيدك مالاً باطلاً فلقد أفادك معدناً حقاً، من غير قصدٍ إلى نفعك. ثم أقبل على زيموس وقال له: ما أبعد شبه معدنك من المعادن الطبيعية! إن المعادن تلفظ الذهب، ومعدنك هذا يبتلع الذهب؛ ومن جاور معدناً منها أغناه، ومن جاور معدنك أفقره؛ والمعادن الطبيعية تثمر من غير قول، ومعدنك يقول من غير إثمار. فقال زيموس: أجل، ولا آخرهم ولا أوسطهم، لكنك من الجهال الذين لقي الناس منهم الأذى.
فقال - أعلى الله قوله -: فهل لهذا الأمر - أعني الكيمياء - مرجوع? وهل له حقيقة? وما تحفظ عن هذه الطائفة? فكان الجواب، أما يحيى بن عدي - وهو أستاذ هذه الجماعة - فكان في إصبعه خاتمٌ من فضةٍ يزعم أن فضته عملت بين يديه، وأنه شاهد عملها عياناً، وأنه لا يشك في ذلك.
وأما أصحابه كابن زرعة وابن الخمار، فذكروا أن ذلك تم عليه من فعلٍ لم يفطن له من بعض من اغتره من هؤلاء المحتالين الخداعين.
وأما شيخنا أبو سليمان فحصلت من جوابه على أنه ممكن، ولم يذكر سبب إمكانه ولا دليل حقيقته.
وأما أبو زيد البلخي - وهو سيد أهل المشرق في أنواع الحكمة - فذكر أنه محالٌ ولا أصل له، وأن حكمة الله تعالى لا توجب صحة هذا الأمر، وأن صحته مفسدةٌ عامة، "والله لا يحب الفساد".
وأما مسكويه - وها هو بين يديك - فيزعم أن الأمر حقٌ وصحيح، والطبيعة لا تمنع من إعطائه، ولكن الصناعة شاقة، والطريق إلى إصابة المقدار عسرة، وجمع الأسرار صعبٌ وبعيد، ولكنه غير ممتنع؛ فقد مضى عمره في الإكباب على هذا بالري أيام كان بناحية أبي الفضل وأبي الفتح ابنه مع رجل يعرف بأبي الطيب، شاهدته ولم أحمد عقله، فإنه كان صاحب وسواسٍ وكذبٍ وسقط، وكان مخدوعاً في أول أمره، خادعاً في آخر عمره.

وأبين ما سمعته في هذا الحديث أن الطبيعة فوق الصناعة، وأن الصناعة دون الطبيعة، وأن الصناعة تتشبه بالطبيعة ولا تكمل، والطبيعة لا تتشبه بالصناعة وتكمل، وأن الطبيعة قوة إلهية ساريةٌ في الأشياء واصلةٌ إليها، عاملةٌ فيها بقدر ما للأشياء من القبول والاستحالة والانفعال والمواتاة، إما على التمام، وإما على النقصان. وقيل: إن الطبيعة لا تسلك إلى إبراز ما في المادة أبعد الطرق، ولا تترك أقرب الطرق، فلما كانت المعادن هي التي تعطى هذه الجواهر على قدر المقابلات العلوية والأشكال السماوية والمواد السفلية والكائنات الأرضية، لم يجز أن تكون الصناعة مساويةً لها، كما لم يجز أن تكون مستعليةً عليها، لأن الصناعة بشريةٌ مستخرجةٌ من الطبيعة التي هي إلهية، ولا سبيل لقوةٍ بشريةٍ أن تنال قوةً إلهيةً بالمساواة؛ فأما بالتشبيه والتقريب والتلبيس، فيمكن أن يكون بالصناعة شيءٌ كأنه ذهبٌ أو فضة، وليس هو في الحقيقة، لا ذهبٌ ولا فضة؛ وإذا كان ظهور القطن بالطبيعة وظهور الثوب بالصناعة فليس لهذه أن تعرض لهذه، ولا لهذه أن تعرض لهذه؛ والأمور موزونة، والصناعات متناهية؛ فإن ادعى في شيءٍ من الصناعة ما يزيد عليها حتى تكون كأنها الطبيعة، احتيج إلى برهانٍ واضح، وإلى عيان مصرح، لأنا نعلم أنه ما من صناعةٍ ولا علمٍ ولا سياسةٍ ولا نحلةٍ ولا حاٍ إلا وقد حمل عليها، وزيد فيها وكذب من أجلها بما إذا طلبت صحته بالبرهان لم تجد، أو بالعيان لم تقدر.
فأما أصحاب النسك ومن عرف بالعبادة والصلاح؛ فقد ادعى لهم أن الصفر يصير لهم ذهباً، وشيئاً آخر يصير فضة، وأن الله عز وجل يزلزل لهم الجبل وينزل لهم القطر، وينبت لهم الأرض، وغير ذلك مما هو كالآيات للأنبياء الذين يأتون من قبل الله بالكتب والوصايا والأحكام والمواعظ والنصائح، وربما يسمى كثيرٌ من الناس ما يظهر للزهاد والعباد من هذا الضرب كرامات ولا يسميها معجزات، والحقائق لا تنقلب بالأسماء، فإن المسمى بالكرامة هو المسمى بالمعجزة والآية.
والخوض في هذا الطرف قديم، وفصله في الحق شاقٌ، والتنازع فيه قائم، والظن يعمل عمله، واليقين غير مظفور به، ولا موصولٍ إليه؛ والطبيعة قد أولعت الناس بادعاء الغرائب، وبعثتهم على نصرتها بالوفق والخرق، والتسهيل واللجاج، والمواتاة والمحك، ولله في طي هذا العالم العلوي أسرارٌ وخفايا وعيوبٌ ومكامن لا قوة لأحد من البشر بالحس ولا بالعقل أن يحوم حولها، أو يبلغ عمقها، أو يدرك كنهها، ومن تصرف عرف، ومن عرف سلم، والسلام.
وحكى لنا أبو سليمان أن أرسطوطاليس كتب إلى رجل لم يشفعه في رجل سأله الكلام له في حاجة: إن كنت أردت ولم تقدر فمعذور، وإن كنت قدرت ولم ترد فسوف يجيىء وقتٌ تريد ولا تقدر.
وقال بعض الحكماء: لا ترفهوا السفلة فيعتادوا الكسل والراحة، ولا تجرئوهم فيطلبوا السرف والشغب، ولا تأذنوا لأولادهم في تعلم الأدب فيكونوا لرداءة أصولهم أذهن وأغوص، وعلى التعلم أصبر؛ ولا جرم فإنهم إذا سادوا في آخر الأمر خربوا بيوت العلية أهل الفضائل.
وقال فيلسوف: للنفس خمس قوى: الحس والوهم والذهن والاختبار والفكر.
فأما الحس فلحاق الأشياء بلا فحص، ولا يحتاج في ذلك اللحاق إلى شيء آخر، إلا أن يكون ممنوعاً بمانع، وذلك إذا وجد شيئاً أبيض حكم بأنه أبيض بلا فكر ولا قياس.
وأما الوهم، فإنه يقع على الأشياء بتوسط الحس.
وأما الاختبار فيوافق الفكر، كقولك: النفس لا تموت، فهذا قولٌ اختباريٌ بعد الفكر، فإن كان هذا هكذا فالاختبار ليس بقياس، ولكنه أفق القياس.
وأما الذهن فإنه لا يهجم على أوائل الأشياء.
وقال آخر شبيهاً بهذا الكلام، ولابأس أن يكون مضموماً إليه، ليكون شمل الفائدة أكثر نظاماً وأقرب مراماً.
قال: ليس للحواس والحركات فعلٌ دون أن تبعثها القوة المميزة، فلذلك لا يحس السكران ولا النائم، وكذلك أيضاً البهائم فإنها لا تصيح إلا بعد أن يعرض في فكرها شيء، ولا تتحرك إلا بانبعاث القوة المميزة.
ولكل واحد من الحيوان ثلاثة أرواحٍ في ثلاثة أعضاء رئيسة: نفسيةٌ في الدماغ، وحيوانية في القلب، وطبيعية في الكبد.

وفي كل واحد منها قوةٌ مميزةٌ بها يتم عمله، فالتي في الدماغ هي العقل المميز الحارس للبدن، ومنه ينبعث الحس والحركة، والتي في القلب تنبعث منها الحرارة الغريزية في جميع البدن؛ وزعموا أن تلك الحرارة هي الروح؛ والتي في الكبد هي موضع الهضم والنضج، وهي التي تنضج الطعام وتغيره وتحيله دماً وتوزع في كل عضو ما هو ملائمٌ له، وبالجاذبة تجذب، وبالحابسة تحبس، وبالهاضمة تهضم، وبالدافعة تدفع.
فأما الدماغ فينقسم ثلاثة أقسام يحجز بينها أغشية، أحدها في مقدم الرأس موضع التخيل، والثاني في وسط الرأس موضع العقل والفكر والتمييز، والثالث في مؤخر الرأس موضع الحفظ والذكر والقبول؛ فكل واحد مما ذكرنا يخدم الآخر، وإن ضعف أحدها ضعف لضعفه الآخر، وباعتدالهن وسلامتهن قوام البدن والنفس.
ولكل واحدٍ منها آلةٌ بها يستعين على خدمة الآخر.
قال: فكما أن الرحى إذا نقضت شيئاً منها أو زدت أفسد الطحن؛ إما بزيادة أو نقصان، كذلك سائر خدمه وآلاته.
وقال: الدماغ مسكن العقل، وخدمه الحس والحركة؛ والقلب مسكن الحرارة الغريزية، وخدمه العروق الضوارب؛ والكبد مسكن النضج والهضم، وخدمها العروق غير الضوارب.
وقال: النار تحرق، فإذا كانت موجودةً فالدخان والرماد موجودان، والدخان رمادٌ لطيف، والرماد دخانٌ كثيف.
وقال أبو سليمان: ذكر بعض البحاثين عن الإنسان أنه جامعٌ لكل ما تفرق في جميع الحيوان، ثم زاد عليها وفضل بثلاث خصالٍ: بالعقل والنظر في الأمور النافعة والضارة، وبالمنطق لإبراز ما استفاد من العقل بوساطة النظر، وبالأيدي لإقامة الصناعات وإبراز الصور فيها مماثلةً لما في الطبيعة بقوة النفس.
ولما انتظم له هذا كله جمع الحيل والطلب والهرب والمكايد والحذر، وهذا بدل السرعة والخفة التي في الحيوان، واتخذ بيده السلاح مكان الناب والمخلب والقرن، واتخذ الجنن لتكون وقايةً من الآفات، والعقل ينبوع العلم، والطبيعة ينبوع الصناعات، والفكر، بينهما قابلٌ منهما، مؤدٍ من بعض إلى بعض، فصواب بديهة الفكر من صحة العقل، وصواب روية الفكر من صحة الطباع.
وقال أبو العباس: الناس في العلم على ثلاث درجات، فواحد يلهم فيعلم فيصير مبدأ، والآخر يتعلم ولا يلهم فهو يؤدي ما قد حفظ، والآخر يجمع له بين أن يلهم وأن يتعلم. فيكون بقليل ما يتعلم مكثراً بقوة ما يلهم.
وقال: الإنسان بين طبيعته - وهي عليه - ونفسه - وهي له - منقسمٌ؛ فإن اقتبس من العقل قوي نوره ما هو له من النفس، وأضعف ما هو عليه من الطبيعة، فإن لم يكن يقتبس بقي حيران أو متهوراً.
وقال سقراط: الكلام اللطيف، ينبو عن الفهم الكثيف.
وحكى لنا أبو سليمان قال: قيل لفيلسوف: ما بال المريض إذا داواه الطبيب ودخل عليه فرح به وقبل منه وكافأه على ذلك، والجاهل لا يفعل ذلك بالعالم إذا علمه وبين له? فقال: لأن المريض عالمٌ بما عند الطبيب، وليس الجاهل كذلك، لأنه لا يعلم ما عند العالم.
وقال ديوجانس لصاحبه: أما تعلم أن الحمام إذا كان سمائياً كان أغلى ثمناً، وإذا كان أرضياً كان أقل ثمناً.
قال - أبقاه الله - هذا مثلٌلا في غاية الحسن والوضوح.
وقال ديوجانس: المأكول للبدن، والموهوب للمعاد، والمحفوظ للعدو.
وقال فيلسوف: التهاون باليسير أساسٌ للوقوع في الكثير.
وقال أفلاطون: مثل الحكيم كمثل النملة تجمع في الصيف للشتاء، وهو يجمع في الدنيا للآخرة.
وقال فيلسوف: من يصف الحكمة بلسانه ولم يتحل بها في سره وجهره فهو في المثل كرجل رزق ثوباً فأخذ بطرفه فلم يلبسه.
وقال السيد المسيح: إن استطعت أن تجعل كنزك حيث لا يأكله السوس، ولا تدركه اللصوص، فافعل.
قال فيلسوف: إذا نازعك إنسانٌ فلا تجبه، فإن الكلمة الأولى أنثى وإجابتها فحلها، وإن تركت إجابتها بترتها وقطعت نسلها، وإن أجبتها ألقحتها؛ فكم من ولدٍ ينمو بينهما في بطنٍ واحد.
وقال فيلسوف: إن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت.
وقال ديوجانس: من أين تأكل? فقال: من حيث يأكل عبدٌ له رب.
وقال ديوجانس: كن كالعروس تريد البيت خالياً.
قيل لأرسطوطاليس: إن فلاناً عاقلٌ. قال: إذاً لا يفرح بالدنيا.
وقيل لفيثاغورس: ما أملك فلاناً لنفسه! قال: إذاً لا تصرعه شهوته، ولا تخدعه لذته.
وقيل لأسقلبيوس: فلانٌ له همة. قال إذاً لا يرضى لنفسه بدون القدر.
 ومدح رجل ثيودوروس على زهده في المال قال: وما حاجتي إلى شيء البخت يأتي به، واللؤم يحفظه، والنفقة تبدده، إن قل غلبك الهم بتكثيره، وإن كثر تقسمك في حفظه، يحسدك من فاته ما عندك، ويخدعك عنه من يطمع فيه منك.
وقال سقراط: ما أحب أن تكون النفس عالمةً بكل ما أعد لها؛ قيل: ولم? قال: لأنها لو علمت طارت فرحاً ولم ينتفع بها.
وقال ديوجانس: القلب ذو لطافة، والجسم ذو كثافة، والكثيف يحفظ اللطيف كضوء المصباح في القنديل.
وقال أفلاطون: العلم مصباح النفس، ينفي عنها ظلمة الجهل، فما أمكنك أن تضيف إلى مصباحك مصباح غيرك فافعل.
قال أبو سليمان: ما أحسن المصباح إذا كان زجاجة نقياً، وضوءه ذكياً، وزيته قوياً، وذباله سوياً.
قيل لسقراط: ما أحسن بالمرء أن يتعلمه في صغره? قال: ما لا يسعه أن يجهله في كبره.
قال أبو سليمان: ومن ها هنا أخذ من قال: يحسن بالمرء التعلم ما حسنت به الحياة.
قيل لهوميروس: ما أصبرك على عيب الناس لك! قال: لأنا استوينا في العيب، فأنا عندهم مثلهم عندي.
وقيل للإسكندر: أي شيء أنت به أسر?. قال: قوتي على مكافأة من أحسن إلي بأحسن من إحسانه.
وقال ديوجانس: إن إقبالك بالحديث على من لا يفهم عنك بمنزلة من وضع المائدة على مقبرة.
ورأى ديوجانس رجلاً يأكل ويتذرع ويكثر، فقال له: يا هذا، ليست زيادة القوة بكثرة الأكل، وربما ورد على بدنك من ذلك الضرر العظيم، ولكن الزيادة في القوة بجودة ما يقبل بدنك منه على الملاءمة.
وقال ديوجانس: الذهب والفضة في الدار بمنزلة الشمس والقمر في العالم.
قال أبو سليمان: هذا مليح، ولكن ينبغي أن تبقى الشمس والقمر فإنهما يكسفان فيكونان سبباً لفسادٍ كثير، ويذوبان ويحميان فيكونان ضارين.
وقال أفلاطون: موت الرؤساء أصلح من رآسة السفلة.
وقال: إذا بخل الملك بالمال كثر الإرجاف به.
وقال سولون: العلم صغير في الكمية، كبيرٌ في الكيفية.
وقال أبو سليمان: يعني أن القليل منه إذا استعملته على وجهه كان له إناء ونفع فائض ودرٌ سائحٌ، وغايةٌ محمودةٌ، وأثرٌ باق. وهذه كلها كيفيات من تلك الكمية.
وقال أفلاطون: لا يسوس النفوس الكثيرة على لاحق والواجب من لا يمكنه أن يسوس نفسه الواحدة.
وقال سقراط: النفس الفاضلة لا تطغى بالفرح، ولا تجزع من الترح، لأنها تنظرفي كل شيء كما هو، لا تسلبه ما هو له ولا تضيف إليه ما ليس منه؛ والفرح بالشيء إنما يكون بالنظر في محاسن الشيء دون مساوئه، والترح إنما يكون بالنظر في مساوىء الشيء دون محاسنه؛ فإذا خلص النظر من شوب الغلط فيما ينظر فيه انتفى الطغيان والجزع، وحصل النظام وربع.
قال ديوجانس: ينبغي للإنسان أن ينظر في المرآة، فإن كان وجهه حسناً استقبح أن يضيف إليه فعلاً قبيحاً، وإن كان وجهه قبيحاً استقبح أن يضيف قبيحاً إلى قبيح حتى يتضاعف القبح.
وقال إبقراط: منزلة لطافة القلب في الأبدان بمنزلة لطافة الناظر في الأجفان.
وقال: للقلب آفتان: وهما الغم والهم، فالغم يعرض منه النوم، والهم يعرض منه السهر، وذلك أن الهم فيه فكرٌ في الخوف مما سيكون، فمنه يغلب السهر؛ والغم لا فكر فيه، لأنه إنما يحدث لما قد مضى وكان.
وقال أفلاطون: من يصحب السلطان فلا يجزع من قسوته، كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر.

قال أبو سليمان: هذا كلامٌ ضره أكثر من نفعه، وإنما نفقه صاحبه بالمثال، والمثال يستجيب للحق كما يستجيب للباطل، والمعول على ما ثبت بالدليل، لا على ما يدعى بالتمثيل، وقد يجب أن يجتنب جانب السلطان بغاية الاستطاعة والإمكان، إلا إذا كان الدهر سليماً من الآفات الغالبة. فقال له الأندلسي: وما صورة الزمان الخالي من الآفات? فقال: أن يكون الدين طرياً، الدولة مقبلة، والخصب عاماً، والعلم مطلوباً، والحكمة مرغوباً فيها، والأخلاق طاهرة، والدعوة شاملة، والقلوب سليمة، والمعاملات متكافئة، والسياسة مغروسة، والبصائر متقاربة. فقال: هذا لو صح لارتفع الكون والفساد اللذان وهما سوس هذا المكان، فقال: غلطت يا أبا عبد الله، فإن الكون والفساد يكونان على حاليهما، ولكنهما يقعان على معلومين للصورة الثابتة، والسياسة العامة الغالبة، كأنك لا تحس بالفرق بين زمان خصب الأرض وجدبها؛ وكما أن للأرض خصباً وجدباً؛ كذلك للأحوال والأديان وللدول صلاحٌ وفساد، وإقبالٌ وإدبار، وزيادةٌ ونقصان؛ ولو كان ما خلته لازماً، لكنا لا نتمنى ملكاً عادلاً، ولا سائساً فاضلاً، ولا ناظراً ناظماً، ولا مدبراً عالماً؛ وكان هذا لا يعرف ولا يعهد، ويكون في عرض المحال كونه ووجدانه؛ وليس الأمر هكذا فقد عهدنا مثل أبي جعفر بسجستان، وكان والله بصيراً خبيراً، عالماً حكيماً، يقظاً حذراً، يخلق ويفري، ويريش ويبري، ويكسو ويعري، ويمرض ويبري، وهكذا مثل أبي جعفر بالأمس ملك العراق في حزامته وصرامته وقيامه في جميع أموره، بنظره وتدبيره؛ وكذلك قد عهد الناس قبلنا مثل هذا، فلم يقع التعجب من شيء عليه مدار الليل والنهار.
وقال ديوجانس لصاحب له: اطلب في حياتك هذه العلم والمال تملك بهما الناس، لأنك بين الخاصة والعامة، فالخاصة تعظمك لفضلك، والعامة تعظمك لمالك.
وقال أفلاطون: إن الله تعالى بقدر ما يعطي من الحكمة يمنع الرزق؛ قال أبو سليمان: لأن العلم والمال كضرتين قلما يجتمعان ويصطلحان، ولأن حظ الإنسان من المال إنما هو من قبيل النفس الشهوية والسبعية، وحظه من العلم إنما هو من قبيل النفس العاقلة، وهذان الحظان كالمتعاندين والضدين.
قال: فيجب على الحصيف والمميز أن يعلم بأن العالم أشرف في سنخه وعنصره، وأوله وآخره، وسفره وحضره، وشهادته ومغيبه من ذي المال؛ فإذا وهب له العلم فلا يأس على المال الذي يجزىء منه اليسير، ولا يلهب نفسه على فوته حسرةً وأسفاً؛ فالعلم مدبر، والمال مدبر؛ والعلم نفسي، والمال جسدي، والعلم أكثر خصوصيةً بالإنسان من المال، وآفات صاحب المال كثيرةٌ وسريعة، لأنك لا ترى عالماً سرق علمه وترك فقيراً منه؛ وقد رأيت جماعةً سرقت أموالهم ونهبت وأخذت، وبقي أصحابها محتاجين لا حيلة لهم؛ والعلم يزكو على الإنفاق ويصحب صاحبه على الإملاق؛ ويهدي إلى القناعة، ويسبل الستر على الفاقة؛ وما هكذا المال.

الليلة الثامنة عشرة

وقال مرةً: تعال حتى نجعل ليلتنا هذه مجونية، ونأخذ من الهزل بنصيب وافر، فإن الجد قد كدنا، ونال من قوانا، وملأنا قبضاً وكرباً، هات ما عندك، قلت: قال حسنون المجنون بالكوفة يوماً - وقد اجتمع إليه المجان يصف كل واحد منهم لذات الدنيا - فقال: أما أنا فأصف ما جربته؛ فقالوا: هات؛ فقال: الأمن والعافية، وصفع الصلع الزرق، وحك الجرب، وأكل الرمان في الصيف، والطلاء في كل شهرين، وإتيان النساء الرعن والصبيان الزعر، والمشي بلا سراويل بين يدي من لا تحتشمه، والعربدة على الثقيل، وقلة خلاف من تحبه والتمرس بالحمقى ومؤاخاة ذوي الوفاء، وترك معاشرة السفلة.
وقال الشاعر:

أصبحت من سفـل الأنـام

 

إذ بعث عرضي بالطعـام

أصبحت صفعـانـاً لـئي

 

م النفس مـن قـومٍ لـئام

في است أم ربات الـخـيا

 

م ومن يحن إلى الـخـيام

نفسي تحن إلـى الـهـلا

 

م الموت من دون الهـلام

من لحـم جـديٍ راضـعٍ

 

رخص المفاصل والعظام

هذا لأولاد الـخـطـــا

 

يا والبـغـايا والـحـرام

حي الـقـدور الـراسـيا

 

ت وإن صممن عن الكلام

وقصـاعـهـن إذا أتـي

 

نك طافحاتٍ بـالـسـلام

لهفي على سـكـبـاجةٍ

 

تشفي القلوب من السقام

يا عاذلي أسرفـت فـي

 

عذل الخليع المستـهـام

رجلٌ يعض إذا نـصـح

 

ت له على فأس اللجـام

دع عذل من يعصي العذو

 

ل ولا يصيخ إلى الملام

خلع العـذار وراح فـي

 

ثوب المعاصي والأثـام

شيخٌ يصـلـي قـاعـداً

 

وينيك عشراً مـن قـيام

ويعاف نـيك الـغـانـيا

 

ت ويشتهي نيك الغـلام

وتـراه يرعـد حـين يذ

 

كر عنده شهر الصـيام

خوفاً من الشهر المـعـذ

 

ب نفسه في كـل عـام

سلس القياد إلى التـصـا

 

بي والملاهي والحـرام

من للمروءة والـفـتـوة

 

بعد مـوتـي والـنـدام

من للسماح ولـلـرمـا

 

ح لدى الهزاهز والحسام

من للـواط ولـلـحـلا

 

ق وللملمات العـظـام

كان محمد بن الحسن الجرجاني متقعراً في كلامه، فدخل الحمام يوماً، فقال للقيم: أين الجليدة التي تسلخ بها الضويطة من الإخفيق? قال: فصفع القيم قفاه بجلدة النورة وخرج هارباً، فلما خرج من الحمام وجه إلى صاحب الشرطة، فأخذ القيم وحبسه، فلما كان عشاء ذلك اليوم كتب إليه القيم رقعةً يقول فيها: قد أبرمني المحبوسون بالمسئلة عن السبب الذي حبست له، فإما خليتني وإما عرفتهم. فوجه من أطلقه، واتصل الخبر بالفتح، فحدث المتوكل، فقال: ينبغي أن يغني هذا القيم عن الخدمة في الحمام. وامر له بمائتي دينار.
قال: وكان بالبصرة مخنثٌ يجمع ويعشق بعض المهالبة، فلم يزل المخنث به حتى أوقعه، قال: فلقيته من غدٍ فقلت له: كيف كانت وقعة الجفرة عندكم البارحة? فقال: لما تدانت الأشخاص، ورق الكلام، والتفت الساق بالساق، ولطخ باطنها بالبزاق، وقرع البيض بالذكور، وجعلت الرماح تمور؛ صبر الكريم فلم يجزع، وسلم طائعاً فلم يخدع؛ ثم انصرف القوم على سلم، بأفضل غنم؛ وشفيت الصدور، وسكنت حرارة النفوس، ومات كل وجد، وأصيب مقتل كل هجر، واتصل الحبل، وانعقد الوصل. قال: فلو كان أعد هذا الكلام لمسئلتي قبل ذلك بدهر لكان قد أجاد.
وقال أبو فرعون الشاشي:

أنا أبو فرعون فاعرف كنيتـي

 

حل أبو عمرة وسط حجرتـي

وحل نسج العنكبوت برمـتـي

 

أعشب تنوري وقلت حنطتـي

وحالف القمل زماناً لحـيتـي

 

وضعفت من الهزال ضرطتي

وصار تباني كفاف خصـيتـي

 

أير حمارٍ في حر أم عيشتـي

أبو عمرة: صاحب شرطة المختار بن عبيد، كان لا ينزل بقوم إلا اجتاحهم، فصار مثلاً لك شؤم وشر. ويقال أيضاً: إن أبا عمرة اسم الجوع، هكذا حدثني به أبو الحسن البصري.
وأنشد بشر بن هارون في أبي طاهر:

أبا عبد الإلـه وأنـت حـرٌ

 

من الأحرار منزوع القلاده

سألتك بالإله لتخـبـرنـي

 

أجهلك مستفـادٌ أم ولاده?

فإن يك فيك مولوداً فعـذرٌ

 

وإن يك حادثاً لك باستفـاده

فواعجباً يزيد الناس فضـلاً

 

وأنت تزيد نقصاً بالـزيادة!

حكى الصولي: حدثنا ميمون بن مهران قال: كان معنا مخنثٌ يلقب مشمشة - وكان أمياً - فكتب بحضرته رجلٌ إلى صديق له كتاباً، فقال المخنث: اكتب إليه: مشمشة يقرأ عليك السلام؛ فقال: قد فعلت - وما كان فعل - فقال: أرني؛ فقال: هذا اسمك؛ فقال: هيهات، اسمي في الكتاب شبه داخل الأذن، فعجبنا من جودة تشبيهه.
قال نضلة: مررت بكناسين أحدهما في البئر والآخر على رأس البئر، وإذا ضجة، فقال الذي في البئر: ما الخبر? فقال: قبض على علي بن عيسى? فقال: من أقعدوا بدله? قال: ابن الفرات؛ قال: قاتلهم الله، أخذوا المصحف ووضعوا بدله الطنبور.
كتب أبو العيناء إلى ابن مكرم: قد أصبت لك غلاماً من بني ناعظ، ثم من بني ناشرة، ثم من بني نهد. فكتب إليه: ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.

وقدم رجلٌ مع امرأة إلى القاضي ومعها طفلٌ، فقالت: هذا ابنه، فقال الرجل: أعز الله القاضي ما أعرفه؛ فقال القاضي: اتق الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، فهذا وأمه على فراشك؛ قال الرجل: ما تنايكنا إلا في الاست، فمن أين لي ولد? فقالت المرأة: أعز الله القاضي؛ قل له: ما رأيت? يعرفه؛ فكف الرجل، وأخذ بيد ولده وانصرف.
قال: وسمعت آخر يقول لشاطر: اسكت، فإن نهراً جرى فيه الماء لابد أن يعود إليه. فقال له الآخر: حتى يعود إليه الماء تكن قد ماتت ضفادعه.
ومن كلام الشطار: أنا البغل الحرون، والجمل الهائج، أنا الفيل المغتلم لو كلمني عدوي لعقدت شعر أنفه إلى شعر استه حتى يشم فساءه، كأنه القنفذة.
وقال بعض القصاص: في النبيذ شيء من الجنة "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن" والنبيذ يذهب الحزن.
قال وسمعت ماجنةٌ تقول: ضر وسر، وقد وارقد، واطرح واقترح.
قال ابن أبي طاهر: دعا مرة قوماً وأمر جاريته أن تبخرهم، فأدخلت يدها في ثوب بعضهم فوجدت أيره قائماً، فجعلت تمرسه وتلعب به وأطالت؛ فقال مولاها: أيش آخر هذا العود? احترق? قالت: يا مولاي، هو عقدة.
قال مزيد: كان الرجل فيما مضى إذا عشق الجارية راسلها سنةً، ثم رضي أن يمضغ العلك الذي تمضغه، ثم إذا تلاقيا تحدثا وتناشدا الأشعار، فصار الرجل اليوم إذا عشق الجارية لم يكن له هم إلا أن يرفع رجلها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة.
قال ابن سيرين: كانوا يعشقون من غير ريبة، فكان لا يستنكر من الرجل أن يجيء فيحدث أهل البيت ثم يذهب. قال هشام: ولكنهم لا يرضون اليوم إلا بالمواقعة.
قال الأصمعي: قلت لأعرابي: هل تعرفون العشق بالبادية? قال: نعم، أيكون أحدٌ لا يعرفه. قلت: فما هو عندكم? قال: القبلة والضمة والشمة، قلت: ليس هو هكذا عندنا. قال: وكيف هو? قلت: أن يتفخذ الرجل المرأة فيباضعها. فقال: قد خرج إلى طلب الولد.
قال بشر بن هارون:

إن أبا موسـى لـه لـحـيةٌ

 

تدخل في الجحـر بـلا إذن

وصورةٌ في العين مثل القذى

 

ونغمةٌ كالوقـر فـي الأذن

كم صفعةٍ صاحت إلى صافعٍ

 

بالنعل من أخدعه: خـذنـي

وقال لنا أبو يوسف: قال جحظة: حضرت مجلساً فيه جماعةٌ من وجوه الكتاب، وعندنا قينةٌ محسنةٌ حاضرة النادرة، فقال لها بعضهم: بحياتي عليك غني لي:

لست مني ولست منك فدعني

 

وامض عني مصاحباً بسلام

فقالت: أهكذا كان أبوك يغنيك? فأخجلته.
اشترى مدينيٌ رطباً، فأخرج صاحب الرطب كيلجةً صغيرةً ليكيل بها، فقال المديني: والله لو كلت بها حسناتٍ ما قبلتها.
سئل أبو عمارة قاضي الكوفة: أي بنيك أثقل? قال: ما فيهم بعد الكبير أثقل من الصغير إلا الأوسط.
اجتمع جماعةٌ عند جامعٍ الصيدناني، فقال أحدهم: ليس للمخمور أنفع من سلحه، فقال جامع: أخذتها والله من فمي.
قال رجل لرؤبة: أتهمز الخرأ? قال: بإصبعك يابن الخبيثة.
وقف أعرابيٌ على قوم يسائلهم، فقال لأحدهم: ما اسمك? قال: مانع؛ وقال للآخر: ما اسمك? قال: محرز؛ وقال للآخر: ما اسمك? قال: حافظ؛ قال: قبحكم الله، ما أظن الأقفال إلا من أسمائكم.
من كلام العامة: منارة الإسكندرية عندك خشخاشة فارغة....
قال جحظة: قرأت على فص ماجنةٍ: ليلة عرسي؛ ثقبوا بالأير كسي. وعلى فص ماجنةٍ أخرى؛ السحق أخفى والنيك أشفى.
وقال جحا لأبي مسلم صاحب الدعوة: إني نذرت إن رأيتك أن آخذ منك ألف درهم. فقال: رأيت أصحاب النذور يعطون لا يأخذون، وأمر له بها.
قال السري: رأيت المخنث الذي يعرف بالغريب، وإنسانٌ من العامة قد آذاه وطال ذلك، فالتفت إليه وقال له: يا مشقوق؛ نعلك زائفة، وقميصك مقرون الحاجبين، وإزراك صدفٌ أزرق، وأنت تتلاهى بأولاد الملوك والأمراء. قال السري: فخجل العامي ومر، فقلت له: فسر لي هذا الغريب. فقال: امضر إلى ثعلب. فقلت: ليس هذا من عمله؛ فسره لي. قال: النعل الزائفة التي تجرف التراب جرفاً، والقميص المقرون، هو الخلق الذي في كتفيه رقعتان أجود منه، فهما تفصحان بياناً، والإزار صدفٌ أزرق، أي مخرقٌ مفتت.
فقلت: فقولك: يا مشقوق? قال: قطيع الظهر.
قيل للشعبي: أيجوز أن يصلى في البيعة? قال: نعم. ويجوز أن يخرأ فيها.
وقال سعيد بن جبير: القبلة رسول الجماع.

وقال الرشيد للجماز: كيف مائدة محمد بن يحيى، يعني البرمكي. قال: شبرٌ في شبر؛ وصحفته من قشر الخشخاش، وبين الرغيف والرغيف مضرب كرة؛ وبين اللون واللون فترة نبي. قال: فمن يحضرها: قال: الكرام الكاتبون؛ فضحك وقال: لحاك الله من رجل.
قال نضلة: دخلت ساقيةً في الكرخ فتوضأت؛ فلما خرجت تعلق السقاء بي وقال: هات قطعة؛ فضرطت ضرطةً وقلت: خل الآن سبيلي فقد نقضت وضوئي؛ فضحك وخلاني.
وعد رجلٌ بعض إخوانه أن يهدي إليه بغلاً؛ فطال مطله، فأخذ قارورة وبال فيها وجاء إلى الطبيب وقال: انظر إلى هذا الماء، هل يهدي إلي بعض إخواني بغلاً.
حدثنا ابن الخلال البصري قال: سمعت ابن اليعقوبي يقول: رأيت على باب المربد خالداً الكاتب وهو ينادي: يا معشر الظرفاء، والمتخلقين بالوفاء؛ أليس من العجب العجيب، والنادر الغريب، أن شعري يزني به ويلاط منذ أربعين سنةً وأنا أطلب درهماً فلا أعطى، ثم أنشأ يقول:

أحرم منكم بما أقـول وقـد

 

نال به العاشقون من عشقوا

صرت كأني ذبالةٌ نصبـت

 

تضىء للناس وهي تحترق

وسمعت الماجن المعروف بالغراب يقول: ويلك أيش في ذا? لا تختلط الحنطة بالشعير، أو يصنع الباذنجان قرعاً، أو يتحول الفجل إلى الباقلاء، ويصير الخرنوب إلى الأرندج.
وسمعت دجاجة المخنث يقول لآخر: إنما أنت بيتٌ بلا باب، وقدمٌ بلا ساق، وأعمى بلا عصا، ونارٌ بلا حطب، ونهرٌ بلا معبر، وحائطٌ بلا سقف.
وشتم آخر فقال: يا رأس الأفعى، ويا عصا المكاري، ويا برنس الجاثليق، يا كودن القصار، يا بيرم النجار؛ يا ناقوس النصارى؛ يا ذرور العين، يا تخت الثياب، يا طعن الرمح في الترس؛ يا مغرفة القدور، ومكنسة الدور؛ لا تبالي أين وضعت? ولا أي جحرٍ دخلت? ولا في أي خانٍ نزلت، ولا في أي حمام عملت؛ إن لم تكن في الكوة مترساً فتح اللصوص الباب؛ يا رحىً على رحى؛ ووعاءً في وعاء، وغطاءً على غطاء، وداءً بلا دواء؛ وعمىً على عمى؛ ويا جهد البلاء؛ ويا سطحاً بلا ميزاب، ويا عوداً بلا مضراب، ويا فماً بلا ناب، ويا سكيناً بلا نصاب، ويا رعداً بلا سحاب، ويا كوةً بلا باب؛ ويا قميصاً بلا مئزر، ويا جسراً بلا نهر، ويا قراً على قر؛ ويا شط الصراة، ويا قصراً بلا مسناه ويا ورق الكماه، يا مطبخاً بلا أفواه؛ يا ذنب الفار، يا قداراً بلا أبزار، يا رأس الطومار، يا رسولاً بلا أخبار؛ يا خيط البواري، يا رحىً في صحاري، يا طاقاتٍ بلا سواري.
دخل أبو نواس على عنان جارية الناطفي فقال لها:

لو رأى في البيت جحراً

 

لنزا حـتـى يمـوتـا

أو رأى في البيت ثقبـاً

 

لتحول عنـكـبـوتـا

فأجابته:

زوجوا هذا بألفٍ

 

وأظن الألف توتا

قبل أن ينقل الـدا

 

ء فلا يأتي ويوتى

فقال - أدام الله دولته، وبسط لديه نعمته - قدم هذ الفن على غيره، وما ظننت أن هذا يطرد في مجلسٍ واحد، وربما عيب هذا النمط كل العيب، وذلك ظلم، لأن النفس تحتاج إلى بشر. وقد بلغني أن ابن عباس كان يقول في مجلسه بعد الخوض في الكتاب والسنة والفقه والمسائل: احمصوا، وما أراه أراد بذلك إلا لتعديل النفس لئلا يلحقها كلال الجد، ولتقتبس نشاطاً في المستأنف، ولتستعد لقبول ما يرد عليها فتسمع؛ والسلام.

الليلة التاسعة عشرة

ورسم بجمع كلماتٍ بوارع، قصارٍ جوامع، فكتبت إليه أشياء كنت أسمعها من أفواه أهل العلم والأدب على مر الأيام في السفر والحضر، وفيها قرعٌ للحس، وتنبيهٌ للعقل، وإمتاعٌ للروح، ومعونةٌ على استفادة اليقظة، وانتفاعٌ في المقامات المختلفة، وتمثلٌ للتجارب المخلفة؛ وامتثالٌ للأحوال المستأنفة.
من ذلك:  

الحمد لله مفتاح المذاهب. البر يستعبد الحر. القناعة عز المعسر. الصدقة كنز الموسر. ما انقضت ساعةٌ من أمسك إلا ببضعةٍ من نفسك. درهمٌ ينفع خيرٌ من دينار يضر. من سره الفساد، ساءه المعاد. الشقي من جمع لغيره فضن على نفسه بخيره. زد من طول أملك في قصر عملك. لا يغرنك صحة نفسك، وسلامة أمسك، فمدة العمر قليلة، وصحة النفس مستحيلة. من لم يعتبر بالأيام، لم ينزجر بالملام. من استغنى بالله عن الناس، أمن من عوارض الإفلاس. من ذكر المنية، نسي الأمنية. البخيل حارس نعمته، وخازن ورثته. لكل امرىء من دنياه، ما يعينه على عمارة أخراه. من ارتدى بالكفاف، اكتسى بالعفاف. لا تخدعنك الدنيا بخدائعها، ولا تفتننك بودائعها. رب حجة، تأتي على مهجة؛ ورب فرصة، تؤدي إلى غصة. كم من دم، سفكه فم. كم إنسان، أهلكه لسان. رب حرف، أدى إلى حتف. لا تفرط، فتسقط. الزم الصمت، وأخف الصوت. من حسنت مساعيه، طابت مراعيه. من أعز فلسه، أذل نفسه. من طال عدوانه، زال سلطانه. من لم يستظهر باليقظة، لم ينتفع بالحفظة. من استهدى الأعمى عمي عن الهدى. من اغتر بمحاله، قصر في احتياله. زوال الدول، باصطناع السفل. من ترك ما يعنيه، دفع إلى ما لا يعنيه. ظلم العمال، من ظلمة الأعمال. من استشار الجاهل ضل، ومن جهل موضع قدمه زل. لا يغرنك طول القامة، مع قصر الاستقامة، فإن الذرة مع صغرها، أنفع من الصخرة على كبرها. تجرع من عدوك الغصة، إن لم تنل منه الفرصة، فإذا وجدتها فانتهزها قبل أن يفوتك الدرك، أو يصيبك الفلك، فإن الدنيا دولٌ تبنيها الأقدار، ويهدمها الليل والنهار. من زرع الإحن، حصد المحن. من بعد مطمعه، قرب مصرعه. الثعلب في إقبال جده، يغلب الأسد في استقبال شده. رب عطب، تحت طلب. اللسان، رق الإنسان. من ثمرة الإحسان، كثرة الإخوان، من سأل ما لا يجب، أجيب بما لا يحب، وأنشدت:

وليس لنا عيبٌ سوى أن جودنـا

 

أضر بنا والبأس من كل جانـب

فأفنى الندى أموالنا غير ظـالـمٍ

 

وأفنى الردى أعمارنا غير عائب

أبونا أبٌ لو كان للناس كـلـهـم

 

أبٌ مثله أغناهم بالـمـنـاقـب

قال حميد بن الصميري لابنه: اصحب السلطان بشدة التوقي كما تصحب السبع الضاري والفيل المغتلم والأفعى القاتلة؛ واصحب الصديق بلين الجانب والتواضع؛ واصحب العدو بالإعذار إليه والحجة فيما بينك وبينه؛ واصحب العامة بالبر والبشر واللطف باللسان.
وقع عبد الحميد الكاتب على ظهر كتاب: يا هذا، لو جعلت ما تحمله القراطيس من الكلام مالاً حويت جمالاً وحزت كمالاً.
ووقع السفاح مرة: ما أقبح بنا أن تكون الدنيا لنا وحاشيتنا خارجون منها، فعجل أرزاقهم، وزد على قدر كل رجل منهم إن شاء الله.
قال الحسن بن علي: عنوان الشرف، حسن الخلف.
وقال جعفر بن محمد: إن لم تجف، فقلما تصفو.
وقال أعرابي: النخلة جذعها نماء، وليفها رشاء، وكربها صلاء، وسعفها ضياء، وحملها غذاء.
وقال الأصمعي: سمعت كساحاً يقول لغلام له: ألم أضع إزارك، ألم أصنع عود مجرفتك? ألم أجعلك كساحاً على حمارين? وجد كتابٌ باليمن فيه: أنا فلانة بنت فلان التبعي، كنت آكل البقل الرطب من الهند وأنا باليمن، ثم جعنا حتى اشترينا مكوك برٍ بمكوك در، من يوسف بن يعقوب بمصر، فمن رآنا فلا يغتر بالدنيا.
وقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - لرجل من بني تغلب يوم صفين: أآثرتم معاوية? فقال: ما آثرناه، ولكنا آثرنا القسب الأصفر، والبر الأحمر، والزيت الأخضر.
قيل للحسن بن عليٍ - رضي الله عنه - لما صالح معاوية: يا عار المؤمنين. فقال: العار خيرٌ من النار.
نظر الحجاج يوماً على المائدة إلى رجل وجاأ عنق رجل آخر، فدعا بهما، فقال للواجىء: علام صنعت? فقال: غص بعظمٍ فخفت أن يقتله، فوجأ عنقه فألقاه؛ فسأل الآخر فقال: صدق؛ فدعا بالطباخ فقال له: أتدع العظام في طعامك حتى يغص بها? فقال: إن الطعام كثير، وربما وقع العظم في المرق فلا يزال. قال: تصب المرق على المناخل. فكان يفعل.

قال سلمة بن المحبق: شهدت فتح الأبلة، فوقع في سهمي قدر نحاس، فنظرت فإذا هي ذهبٌ فيها ثمانون ألف مثقال، فكتبت في ذلك إلى عمر، فأجاب بأن يحلف سلمة بأنه أخذها يوم أخذها وهي عنده، فإن حلف سلمت إليه، وإلا قسمت بين المسلمين، قال: فحلفت فسلمت إلي، فأصول أموالنا اليوم منها.
قال بعض الحكماء: لا يصبر على المروءة إلا ذو طبيعةٍ كريمة.
......
أصاب عبد الرحمن بن مدين - وكان رجل صدق بخراسان - مالاً عظيماً فجهز سبعين مملوكاً بدوابهم وأسلحتهم إلى هشام بن عبد الملك، ثم أصبحوا معه يوم الرحيل، فلما استوى بهم الطريق نظر إليهم فقال: ما ينبغي لرجل أن يتقرب بهؤلاء إلى غير الله. ثم قال: اذهبوا أنتم أحرارٌ، وأذل لقدرك عزه.
كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المهدي:

أنا ناديت عفوك من قريبٍ

 

كما ناديت سخطك من بعيد

وإن عاقبتني فلسوء فعلـي

 

وما ظلمت عقوبة مستقيد

وإن تصلح فإحسانٌ جـديدٌ

 

عطفت به على شكرٍ جديد

وقال رجل لمحمد بن نحرير: أوصني؛ فقال: اسمع ولا تتكلم، واعرف ولا تعرف، واجلس إلى غيرك ولا تجلسه إليك.
وقال رجل لابن أسيد القاضي: إن أمي تريد أن توصي فتحضر وتكتب؛ فقال: وهل بلغت مبلغ النساء? ودخل صاحب المظالم بالبصرة على رجلٍ مبرسم وعنده طبيبٌ يداويه، فأقبل على الطبيب وأهل المريض، وقال: ليس دواءٌ المبرسم إلا الموت حتى تقل حرارة صدره، ثم حنيئذ يعالج بالأدوية الباردة حتى يستبل.
واجتاز به بائع دراجٍ فقال: بكم تبيع الدراجة? فقال: بدرهم؛ فقال له: أحسن. قال: كذا بعت. قال: نأخذ منك اثنتين بثلاثة. قال: هما لك. قال: يا غلام خذ منه، فإنه يسهل البيع.
ودخل حجاج بن هارون على نجاحٍ الكاتب، فذهب ليقبل رأسه؛ فقال له: لا تفعل، فإن رأسي مملوءٌ بالدهن، فقال: والله لو أن عليه ألف رطلٍ خراءً لقبلته.
قدم لابن الحسحاس سكباجةٌ فقال لصديق له: كل فإنها أم القرى.
وعزى ابن الحسحاس صديقاً له ماتت ابنته، فقال: من أنت حتى لا تموت ابنتك البظراء! قد ماتت عائشة بنت النبي صلى الله عليه وسلم .
أخذ يعقوب بن الليثي في أول أمره رجلاً فاستصفاه، ثم رآه بعد زمان، فقال له: أبا فلان، كيف أنت الساعة? قال له: كما كنت أنت قديماً. قال وكيف كنت أنا? قال: كما أنا الساعة؛ فأمر له بعشرة آلاف درهم.
قال ابن المبارك: إذا وضع الطعام فقد أذن للآكل.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن العرب لا تصلح ببلاد لا تصلح بها الإبل.
وقال إبراهيم بن السندي: نظر رجلٌ من قريش إلى صاحب له قد نام في غداةٍ من غدوات الصيف طيبة النسيم، فركضه برجله وقال: ما لك تنام عن الدنيا في أطيب وقتها، نم عنها في أخبث حالاتها، نم في نصف النهار لبعدك عن الليلة الماضية والآتية، ولأنها راحةٌ لما قبلها من التعب، وجمامٌ لما بعدها من العمل، نمت في وقت الحوائج، وتنبهت في وقت رجوع الناس؛ وقد جاء: قيلوا فإن الشياطين لا تقيل.
وقال إبراهيم بن السندي أيقظت أعرابيةٌ أولاداً لها صغاراً قبل الفجر في غدوات الربيع وقالت: تنسموا هذه الأرواح، واستنشقوا هذا النسيم، وتفهموا هذا النعيم، فإنه يشد من منتكم.
ويقال في الوصف: كأنه محراك نار، وكأنه الجأم صدىً.
وإذا وصفوه بالقصر قالوا: كأنه عقدة رشاً، وابنةُ عصا. وإذا كان ضعيفاً قالوا: كأنه قطعة زبد، والمولدون يقولون: كأنه اسكرجة.
قال بعض السلف في دعائه: اللهم لا أحيط بنعمك علي فأعدها، ولا أبلغ كنه واحدةٍ منها فأحدها.
دعا عطاءٌ السندي فقال: أعوذ بك من عذابك الواقع، الذي ليس له دافع، وأسألك من خيرك الواسع، الذي ليس له مانع.
ودعا بعض السلف: اللهم إن قلبي وناصيتي بيدك لم تملكني منهما شيئاً، وإذ فعلت ذلك فكن أنت وليهما، فاهدنا سواء السبيل.
ودعا بعض الصالحين: اللهم ما كان لي من خيرٍ فإنك قضيته ويسرته وهديته، فلا حمد لي عليه؛ وما كان مني من سوءٍ فإنك وعظت وزجرت ونهيت فلا عذر لي فيه ولا حجة.
ودعا آخر: اللهم إني أعوذ بك من سلطان جائر، ونديمٍ فاجر، وصديق غادر، وغريم ماكر، وقريب مناكر، وشريكٍ خائن، وحليفٍ مائن، وولدٍ جافٍ، وخادم هافٍ، وحاسد ملافظ، وجارٍ ملاحظ، ورفيقٍ كسلان، وخليلٍ وسنان، و ضعيف، ومركوبٍ قطوف، وزوجةٍ مبذرة، ودارٍ ضيقة.

قال المدائني: قال بعض السلف لابنه: اسحذ طبعك بالعيون والفقر وإن قلت، فإن الشجرة لا يشينها قلة الحمل إذا كان ثمرها نافعاً، وأكلها ناجعاً.
وقيل للأوزاعي: ما كرامة الضيف? قال: طلاقة الوجه.
قال مجاهد في قول الله تعالى: "ضيف إبراهيم المكرمين" قال: قيامه عليهم بنفسه.
وقال عمر بن عبد العزيز: ليس من المروءة أن تستخدم الضيف.
وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: أربعٌ للشريف لا ينبغي أن يأنف منهن وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته لضيفه، وخدمته للعالم يتعلم منه، وإن سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم.
حاتم كان يقول: العجلة من الشيطان إلا في خمسة أشياء، فإنها من السنة: إطعام الضيف إذا حل، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب.
وقال: من أطعم الضيف لحماً وخبز حنطة وماءً بارداً فقد تمم الضيافة.
وقال حاتم: المزور المرائي إذا ضاف إنساناً حدثه بسخاوة إبراهيم الخليل، وإذا ضافه إنسانٌ حدثه بزهد عيسى بن مريم.
وقال ميمون بن ميمون: من ضاف البخيل صامت دابته، واستغنى عن الكنيف، وأمن التخمة.
وقال بعض السلف الصالح: لأن أجمع إخواني على صاعٍ من طعامٍ أحب إلي من عتق رقبة.
قال الأعمش: كان الربيع بن خيثم يصنع لنا الخبيص ويقدمه ويقول: اللهم اغفر لأطيبهم نفساً، وأحسنهم خلقاً، وارحمهم جميعاً.
وقال أنس بن مالك: كل بيت لا يدخله الضيف لا تدخله الملائكة.
ولما قرأته على الوزير - بلغه الله آماله، وزكى أعماله، وخفف عن قلبه أثقاله - قال: ما علمت أن مثل هذا الحجم يحوي هذه الوصايا والملح؛ وهذه الكلمات الغرر ما فيها ما لا يجب أن يحفظ، والله لكأنها بستان في زمان الخريف، لكل عينٍ فيه منظر، ولكل يدٍ منه مقطف، ولكل فمٍ منه مذاق. إذا فرغت فأضف لي جزءاً أو جزءين أو ما ساعدك عليه النشاط، فإن موقعها يحسن، وذكرها يجمل، وأثرها يبقى، وفائدتها تروى، وعاقبتها تحمد.
فقلت: السمع والطاعة.

الليلة العشرون

وقال لي مرة أخرى: اكتب لي جزءاً من الأحاديث الفصيحة المفيدة. فكتبت: قال مالك بن عمارة اللخمي. كنت أجالس في ظل الكعبة أيام الموسم عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير، وكنا نخوض في الفقه مرةً، وفي الذكر مرةً؛ وفي أشعار العرب وىثار الناس مرةً؛ فكنت لا أجد عند أحدٍ منهم ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم والفصاحة والبلاغة، وحسن استماعه إذا حدث، وحلاوة لفظه إذا حدث، فخلوت معه ذات ليلة فقلت: والله إني لمسرورٌ بك لما أشاهده من كثرة تصرفك وحسن حديثك، وإقبالك على جليسك؛ فقال: إنك إن تعش قليلاً فسترى العيون طامحة إلي والأعناق قاصدةً نحوي، فلا عليك أن تعمل إلي ركابك. فلما أفضت إليه الخلافة شخصت أريده، فوافيته يوم جمعة وهو يخطب الناس، فتصديت له، فلما وقعت عينه علي بسر في وجهي، وأعرض عني، فقلت: لم يثبتني معرفةً ولو عرفني ما أظهر نكرة. لكنني لم أبرح مكاني حتى قضيت الصلاة ودخل، فلم ألبث أن خرج الحاجب إلي فقال: مالك بن عمارة، فقمت، فأخذ بيدي وأدخلني عليه، فلما رآني مد يده إلي وقال: إنك تراءيت لي في موضع لم يجز فيه إلا ما رأيت من الإعراض والانقباض؛ فمرحباً وأهلاً وسهلاً، كيف كنت بعدنا? وكيف كان مسيرك? قلت: بخير، وعلى ما يحبه أمير المؤمنين. قال: أتذكر ما كنت قلت لك? قلت: نعم، وهو الذي أعملني إليك؛ فقال: والله ما هو بميراثٍ ادعيناه، ولا أثرٍ وعيناه، ولكني أخبرك عن نفسي خصالاً سمت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى، مالاحيت ذا ودٍ ولا ذا قرابة قط، ولا شمت بمصيبة عدوٍ قط، ولا أعرضت عن محدثٍ حتى ينتهي، ولا قصدت كبيرةً من محارم الله متلذذاً بها وواثباً عليها، وكنت من قريش في بيتها، ومن بيتها في وسطه، فكنت آمل أن يرفع الله مني، وقد فعل؛ يا غلام، بوئه منزلاً في الدار. فأخذ الغلام بيدي وقال: انطلق إلى رحلك؛ فكنت في أخفض حال، وأنعم بال؛ وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه، فإذا حضر عشاؤه أو غداؤه أتاني الغلام وقال: إن شئت صرت إلى أمير المؤمنين فإنه جالس، فأمشي بلا حذاء ولا رداء فيرفع مجلسي، ويقبل على محادثتي، ويسألني عن العراق مرة، وعن الحجاز مرة، حتى مضت لي عشرون ليلة. فتغديت عنده يوماً، فلما تفرق الناس نهضت للقيام، فقال: على رسلك أيها الرجل، أي الأمرين أحب إليك: المقام عندنا، ولك النصفة في المعاشرة والمجالسة مع المواساة، أم الشخوص ولك الحباء والكرامة? فقلت: فارقت أهلي وولدي على أن أزور أمير المؤمنين، فإن أمرني اخترت فناءه على الأهل والولد، قال: بل أرى لك الرجوع إليهم، فإنهم متطلعون إلى رؤيتك، فتجدد بهم عهداً ويجددون بك مثله، والخيار في زيارتنا والمقام فيهم إليك، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار، وكسوناك وحملناك، أتراني ملأت يدك أبا نصر? قلت: يا أمير المؤمنين، أراك ذاكراً لما رويت عن نفسك.
قال: أجل، ولا خير فيمن ينسى إذا وعد؛ ودع إذا شئت صحبتك السلامة.
قال الوزير: ما أحلى هذا الحديث! هات ما بعده، قلت: قال يحيى بن أبي يعلى: لما قدم المال من ناحية عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - على أبي بكر بن حزم، قسمه بين الناس في المدينة، فأصاب كل إنسان خمسين ديناراً، فدعتني فاطمة بنت الحسين فقالت: اكتب، فكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من فاطمة بنت الحسين سلام الله عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فأصلح الله أمير المؤمنين وأعانه على ما تولاه، وعصم به دينه، فإن أمير المؤمنين كتب إلى أبي بكر بن حزم أن يقسم فينا مالاً من الكتيبة، ويتحرى بذلك ما كان يصنع من قبله من الأئمة الراشدين المهديين، وقد بلغنا ذلك، وقسم فينا، فوصل الله أمير المؤمنين، وجزاه من والٍ خير ما جزى أحداً من الولاة، فقد كانت أصابتنا جفوةٌ، واحتجنا إلى أن يعمل فينا بالحق؛ فأقسم بالله يا أمير المؤمنين لقد احتدم من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا خادم له، واكتسى من كان عارياً، واستقر من كان لا يجد ما يستقر به. وبعثت إليه رسولاً.

قال يحيى: فحدثني الرسول قال: قدمت الشام عليه، فقرأ كتابها وإنه ليحمد الله ويشكره، فأمر لي بعشرة دنانير، وبعث إلى فاطمة خمسمائة دينارٍ، وقال: استعيني بها على ما يعوزك، وكتب إليها كتاباً يذكر فيه فضلها وفضل أهل بيتها، ويذكر ما فرض الله لهم من الحق.
فرق الوزير عند هذا الحديث وقال: أذكرتني أمر العلوية، وأخذ القلم، واستمد من الدواة، وكتب في التذكرة شيئاً، ثم أرسل إلى نقيب العلوية العمري في اليوم الثاني بألف دينار، حتى تفرق في آل أبي طالب، وقال لي: هذا من بركة الحديث.
ثم قال: كيف تطاول هؤلاء القوم إلى هذا الأمر مع بعدهم من رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرب بني هاشم منه? وكيف حدثتهم أنفسهم بذلك? إن عجبي من هذا لا ينقضي، أين بنو أمية وبنو مروان من هذا الحديث مع أحوالهم المشهورة في الدين والدنيا? فقلت: أيها الوزير، إذا حقق النظر واستشف الأصل لم يكن هذا عجيباً، فإن أعجاز الأمور تاليةٌ لصدورها، والأسافل تاليةٌ لأعاليها، ولا يزال الأمر خافياً حتى ينكشف سببه فيزول التعجب منه، وإنما بعد هذا على كثير من الناس، لأنهم لم يعنوا به وبتعرف أوائله والبحث عن غوامضه، ووضعه في مواضعه، وذهبوا مذهب التعصب.
قال: فما الذي خفي حتى إذا عرف سقط التعجب ولزم التسليم? فكان من الجواب: لا خلاف بين الرواة وأصحاب التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وعتاب بن أسيدٍ على مكة، وخالد بن سعيد على صنعاء، وأبو سفيان بن حرب على نجران، وأبان بن سعيد بن العاص على البحرين، وسعيد بن القشب الأزدي حليف بني أمية على جرش ونحوها، والمهاجر بن أبي أمية المخزوومي على كندة والصدف؛ وعمرو بن العاص على عمان، وعثمان بن أبي العاص على الطائف. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أسس هذا الأساس، وأظهر أمرهم لجميع الناس؛ كيف لا يقوى ظنهم، ولا ينبسط رجاؤهم، ولا يمتد في الولاية أملهم? وفي مقابلة هذا، كيف لا يضعف طمع فيها، والعاجلة محبوبة، وهذا وما أشبهه حدد أنيابهم، وفتح أبوابهم؛ وأترع كأسهم، وفتل أمراسهم، ودلائل الأمور تسبق، وتباشير الخبر تعرف.
قال ابن الكلبي: حدثني الحكم بن هشام الثقفي قال: مات عبيد الله بن جحشٍ عن أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت معه بأرض الحبشة، فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فدعا بالقرشيين فقال: من أولاكم بأمر هذه المرأة? فقال خالد بن سعيد بن العاص: أنا أولاهم بها. قال: فزوج نبيكم. قال: فزوجه ومهر عنه أربعمائة دينار؛ فكانت أول امرأة مهرت أربعمائة دينار؛ ثم حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعها الحكم بن أبي العاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكثر النظر إليه، فقيل له: يا رسول الله، إنك لتكثر النظر إلى هذا الشاب. قال: أليس ابن المخزومية? قالوا: بلى؛ قال: إذا بلغ بنو هذا أربعين رجلاً كان الأمر فيهم، وكان مروان إذا جرى بينه وبين معاوية كلامٌ قال لمعاوية: والله إني لأبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة، وما بقي إلا عشرة حتى يكون الأمر في؛ فيقول معاوية بن أبي سفيان: أخذها والله من عينٍ صافيةٍ.
فهذا - كما تسمع - إن كان حقاً فلا سبيل إلى رده، وإن كان مفتعلاً فقد صار داعيةً إلى الأمر الذي وقع النزاع فيه، وجال الخصام عليه.
وها هنا شيء آخر.
قال القعقاع بن عمرو: قلت لعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: ما حملكم على خلاف العباس بن عبد المطلب وترك رأيه? وهذا يعني به أن العباس كان قال لعليٍ - كرم الله وجهه - في جوابه لي: لو فعلنا ذلك فجعلها في غيرنا بعد كلامنا لم ندخل فيها أبداً، فأحببت أن أكف، فإن جعلها فينا فهو الذي نريد، وإن جعلها في غيرنا كان رجاء من طلب ذلك منا ممدواً، ولم ينقطع منا ولا من الناس. قال القعقاع: فكان الناس في ذلك فرقتين: فرقةٌ تحزب للعباس وتدين له، وفرقةٌ تخرب لعليٍ وتدين له. فهذا وما أشبهه يضعف نفوساً، ويرفع رءوساً؛ وبعد فهذا البيت خص بالأمر الأول، أعني الدعوة والنبوة والكتاب العزيز، فأما الدنيا فإنها تزول من قوم إلى قوم، وقد رؤي أبو سفيان صخر بن حرب وقد وقف على قبر حمزة بن عبد المطلب وهو يقول: رحمك الله يا أبا عمارة، لقد قاتلتنا على أمرٍ صار إلينا.

فإن قال قائل: فقد وصل هذا الأمر بعد مدةٍ إلى آل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فالجواب: صدقت، ولكن لما ضعف الدين وتحلحل ركنه وتداوله الناس بالغلبة والقهر، فتطاول له ناسٌ من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعجم وبوقتهم ونهضتهم وعادتهم في مساورة الملوك، وإزالة الدول، وتناول العز كيف كان، وما وصل إلى أهل العدالة والطهارة والزهد والعبادة والورع والأمانة، ألا ترى أن الحال استحالت عجماً: كسرويةً وقيصريةً، فأين هذا من حديث النبوة الناطقة، والإمامة الصادقة؛ هذا الربيع - وهو حاجب المنصور - يضرب من شمت الخليفة عند العطسة، فيشكي ذلك إلى أبي جعفر المنصور، فيقول: أصاب الرجل اسنة وأخطأ الأدب. وهذا هو الجهل، كأنه لا يعلم أن السنة أشرف من الأدب، بل الأدب كله في السنة، وهي الجامعة للأدب النبوي والأمر الإلهي، ولكن لما غلبت عليهم العزة، ودخلت النعرة في آنافهم، وظهرت الخنزاونة بينهم، سموا آيين العجم أدباً، وقدموه على السنة التي هي ثمرة النبوة، هذا إلى غير ذلك من الأمور المعروفة، والأحوال المتعالمة المتداولة التي لا وجه لذكرها، ولا فائدة لنشرها، لأنها مقررةٌ في التاريخ، ودائرةٌ في عرض الحديث.
ولما كانت أوائل الأمور على ما شرحت، وأواسطها على ما وصفت، كان من نتائجها هذه الفتن والمذاهب، والتعصب والإفراط، وما تفاقم منها وزاد ونما وعلا وتراقى، وضاقت الحيل عن تداركه وإصلاحه، وصارت العامة مع جهلها، تجد قوةً من خاصتها مع علمها، فسفكت الدماء، واستبيح الحريم، وشنت الغارات، وخربت الديارات، وكثر الجدال، وطال القيل والقال، وفشا الكذب والمحال، وأصبح طالب الحق حيران، ومحب السلامة مقصوداً بكل لسانٍ وسنان، وصار الناس أحزاباً في النحل والأديان، فهذا نصيري، وهذا أشجعي، وهذا جارودي، وهذا قطعي، وهذا جبائي، وهذا أشعري، وهذا خارجي، وهذا شعيبي، وهذا قرمطي، وهذا راوندي، وهذا نجاري، وهذا زعفراني، وهذا قدري، وهذا جبري، وهذا لفظي، وهذا مستدركي، وهذا حارثي، وهذا رافضي، ومن لا يحصي عددها إلا الله الذي لا يعجزه شيء؛ لا جرم شمت اليهود والنصارى والمجوس بالمسلمين، وعابوا وتكلموا، ووجدوا آجراً وجصاً فبنوا، وسمعوا فوق ما تمنوا فرووا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يزداد الأمر إلا صعوبة، ولا الناس إلا اتباع هوىً، حتى تقوم الساعة على شرار الناس". وقال أيضاً: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء من أمتي".
وقلت لابن الجلاء الزاهد بمكة سنة ثلاثٍ وخمسين وثلاثمائة: ما صفة هذا الغريب? فقال لي: يا بني هو الذي يفر من مدينةٍ إلى مدينة، ومن قلةٍ إلى قلة؛ ومن بلدٍ إلى بلد ومن برٍ إلى بحر، ومن بحر إلى بر، حتى يسلم، وأنى له بالسلامة مع هذه النيران التي طافت بالشرق والغرب، وأتت على الحرث والنسل، فقدمت كل أفوه، وأسكتت كل ناطق، وحيرت كل لبيب، وأشرقت كل شارب، وأمرت على كل طاعم؛ وإن الفكر في هذا الأمر لمختلسٌ للعقل وكارثٌ للنفس، ومحرقٌ للكبد.
فقال الوزير: والله إنه لكذلك، وقد نال مني هذا الكلام، وكبر علي هذا الخطب، والله المستعان.
ونظرت إليه وقد دمعت عينه ورق فؤاده وهو - كما تعلم - كثير التأله، شديد التوقي، يصوم الاثنين والخميس، فإذا كان أول رجب أصبح صائماً إلى أول يومٍ من شوال، وما راينا وزيراً على هذا الدأب وبهذه العادة، لا منافقاً ولا مخلصاً، وقد قال الله تعالى: "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً" تولاه الله أحسن الولاية، وكفاه أكمل الكفاية، إنه قريب مجيب.
فلما رايت دمعته قلت: أيها الوزير، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حرمت النار على عينٍ بكت من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله وحرمت النار على عينٍ غضت عن محارم الله"، فقال - أحسن الله توفيقه -: هو الهلاك إن لم ينقذ الله بفضله، ولم يتغمد بعفوه؛ لو غرقت في البحر كان رجائي في الخلاص منه أقوى من رجائي في السلامة مما أنا فيه. قلت: إذا علم الله من ضميرك هذه العقيدة ألبسك ثوب عفوه، وحلاك بشعرا عافيته وولايته، وكفاك كيد أعدائك، وعصب برءوسهم ما يريدونه بك "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".

فقال: اجمع لي جزءاً من رقائق العباد وكلامهم اللطيف الحلو، فإن مراميهم شريفة، وسرائرهم خالصة، ومواعظهم رادعة، وذاك - أظن - للدين الغالب عليهم ، والتأله المؤثر فيهم؛ فالصدق مقرونٌ بمنطقهم، والحق موصولٌ بقصدهم، ولست أجد هذا المعنى في كلام الفلاسفة، وذاك - أظن أيضاً - لخوضهم في حديث الطبائع والأفلاك والأثار وأحداث الزمان. قلت: أفعل، فكتبت تمام ما تقعدم به، ثم كتبت بعد وريقاتٍ في حديث النساك.
قال عتبة بن المنذر السلمي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأجلين قضى موسى - عليه السلام -? فقال: أكثرهما وأوفاهما، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن موسى - عليه السلام - لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من نتاج غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما وضعت غنمه من قالب لون ذلك العام، فلما وردت الحوض وقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاةٌ إلا ضرب جنبها بعصاه، فوضعت قوالب ألوان كلها ووضعت اثنتين أو ثلاثةً كل شاة، ليس فيهن فشوشٌ ولا ضبوبٌ ولا ثعولٌ ولا كميشةٌ تفوت الكف فإن افتتحتم الشام وجدتم بها بقايا منها، فاتخذوها، وهي السامرية".
قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي في حديثٍ: بعث الله تعالى رسولاً فينا نعرف صدقه وأمانته، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبده، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.
وقال صاحب التاريخ: ولدت لعمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب زيداً ورقية؛ وأم أم كلثوم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أنس بن مالك: صلى الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي أفراداً لم يؤمهم عليه أحد.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، هلك عبد المطلب، وهو شيبة أبو الحارث، وذلك بعد الفيل بثمان سنين، وتوفيت آمنة أمه وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة إلى مكة.

الليلة الحادية والعشرون

وسأل مرة عن المغني إذا راسله آخر لم يجب أن يكون ألذ وأطيب، وأحلى وأعذب? فكان من الجواب: أن أبا سليمان قال في جواب هذه المطالب ما يمنع من اقتضاب قولٍ وتكلف جواب، ذكر أن المسموع الواحد إنما هو بالحس الواحد، وربما كان الحس الواحد أيضاً غليظاً أو كدراً، فلا يكون لنيله اللذة به بسطٌ ونشوٌ ولذاذة، وكذلك المسموع ربما لم يكن في غاية الصفاء على تمام الأداء بالتقطيع الذي هو نفس في الهواء، فلا تكون أيضاً إنالته للذة على التمام والوفاء، فإذا ثنى المسموع - أعني توحد النغم بالنغم - قوي الحس المدرك، فنال مسموعين بالصناعة، ومسموعاً واحداً بالطبيعة؛ والحس لا يعشق المواحدة والمناسبة والاتفاق إلا بعد أن يجدها في المركب، كما أن العقل لا يعشق إلا بعد أن ينالها في فضاء البسيط؛ فكلما قوي الحس باستعماله، التذ صاحبه بقوته حتى كأنه يسمع ما لم يسمع بحسٍ أو أكثر، وكما أن الحس إذا كان كليلاً كان الذي يناله كليلاً، كذلك الحس إذا كان قوياً كان ما يناله قوياً.
قال: هذا كله موهوبٌ للحس، فما للعقل في ذلك? فإنا نرى العاقل تعتريه دهشةٌ وأريحية واهتزاز.

قلت: قد أتى على مجموع هذا ومعرفته أبو سليمان في مذاكرته لابن الخمار، وذكر أن من شأن العق السكون، ومن شأن الحس التهيج، ولهذا يوصف العاقل بالوقار والسكينة، ومن دونه يوصف بالطيش والعجرفة، والإنسان ليس يجد العقل وجداناً فيلتذ به، وإنما يعرفه إما جملةً وإما تفصيلاً؛ أعني جملةً بالرسم وتفصيلاً بالجد، ومع ذلك يشتاق إلى العقل، ويتمنى أن يناله ضرباً من النيل ويجده نوعاً من الوجدان، فلما أبرزت الطبيعة الموسيقى في عرض الصناعة بالآلات المهيأة، وتحركت بالمناسبات التامة والأشكال المتفقة أيضاً، حدث الاعتدال الذي يشعر بالعقل وطلوعه وانكشافه وانجلائه، فبهر الإحساس، وبث الإيناس، وشوق إلى عالم الروح والنعيم، وإلى محل الشرف العميم، وبعث على كسب الفضائل الحسية والعقلية، أعني الشجاعة والجود والحلم والحكمة والصبر، وهذه كلها جماع الأسباب المكملة للإنسان في عاجلته وآجلته؛ وبالواجب ما كان ذلك كذلك، لأن الفضائل لا تقتنى إلا بالشوق إليها، والحرص عليها، والطلب لها؛ والشوق والطلب والحرص لا تكون إلا بمشوقٍ وباعثٍ وداعٍ، فلهذا برزت الأريحية والهزة، والشوق والعزة؛ فالأريحية للروح، والهزة للنفس، والشوق للعقل، والعزة للإنسان. ومما يجب أن يعلم أن السمع والبصر أخص بالنفس من الإحساسات الباقية، لأنهما خادما النفس في السر والعلانية، ومؤنساها في الخلوة، وممداها في النوم واليقظة؛ وليست هذه الرتبة لشيء من الباقيات، بل الباقيات آثارها في الجسد الذي هو مطية الإنسان، لكن الفرق بين السمع والبصر في أبواب كثيرة: ألطفها أن أشكال المسموع مركبةٌ في بسيط، وأشكال المبصر مبسوطة في مركب.
قلت: وقد حكيت هذا لأبي زكرياء الصيمري فطرب وارتاح وقال: ما أبعد نظر هذا الرجل! وما أرقى لحظه! وما أعز جانبه!

الليلة الثانية والعشرون

وقال لي مرة أخرى: ارو لي شيئاً من كلام أبي الحسن العامري، فإني أرى أصحابنا يرذلونه ويذيلونه، فلا يرون له في هذه العصبة قدماً، ولا يرفعون له في هذه الطائفة علماً.
فقلت: كان الرجل لكزازته وغلظ طباعه وجفاء خلقه ينفر من نفسه، ويغري الناس بعرضه، فإذا طلب منه الفن الذي قد خص به وطولب بتحقيقه وجد على غاية الفضل.
فمن كلامه قوله: الطبيعة تتدرج في فعلها من الكليات البسيطة، إلى الجزئيات المركبة، والعقل يتدرج من الجزئيات المركبة، إلى البسائط الكلية، والإحاطة بالمعاني البسيطة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني المركبة، ليتوصل بتوسطها إلى استثباتها، والإحاطة بالمعاني المركبة تحتاج إلى الإحاطة بالمعاني البسيطة ليتوصل بتوسطها إلى تحقيق إثباتها. وكما أن القوة الحسية عاجزةٌ بطباعها عن استخلاص البسائط الأوائل، بل تحتاج معها إلى القوة العاقلة، وإنقويت لصار العقل فضلاً - كذلك أيضاً القوة العاقلة لا تقوى بذاتها على استثبات المركبات إلا من جهة القوة الحساسة، ولو قويت عليه لصار الحس فضلاً للعاقلة.
قال: هذا كلامٌ بارعٌ من صدرٍ واسع، وأحب أن تزيدني من نمطه. قلت: وقال أيضاً: الكلي مفتقرٌ إلى الجزئي لا لأن يصير بديمومته محفوظاً بل لأن يصير بتوسطه موجوداً، والجزئي مفتقر إلى الكلي لا لأن يصير بتوسطه موجوداً، بل لأن يصير بديمومته محفوظاً بل لأن يصير بتوسطه موجوداً، بل لأن يصير بديمومته محفوظاً.
وقال: الحال في جميع السبل - أعني مسالك الأشياء في تكونها صناعيةً كانت أو تدبيريةً أو طبيعيةً أو اتفاقيةً - واحدة، مثاله أن الإنسان وإن التذ بالدستنبان فلن يعد موسيقاراً إلا إذا تحقق بمبادئه الأول التي هي الطنينات وأنصاف الطنينات، وكذلك الإنسان وإن استطاب الحلو فلن يسمى حلوانياً إلا إذا عرف بسائطه وأسطقساته.
وقال: العلم لا يحيط بالشيء إلا إذا عرف مبادئه القريبة والبعيدة والمتوسطة.
وقال: نتوصل إلى كرية القمر بما نراه من اختلاف أشكاله، أعني أنا نراه في الدورة الواحدة هلالياً مرتين ومنصفاً مرتين وبدراً مرة واحدة، وهذه الأشكال وإن كانت متقدمةً عندنا فإن كونه كرياً هو المتقدم بالذات.
وقال: ما هو أكثر تركيباً فالحس أقوى على إثباته، وما هو أقل تركيباً فالعقل أخلص إلى ذاته.
وقال: الأحداث - وهي الذوات الإبداعية - الوقوف على إثباتها يغني عن البحث عن ماهياتها.

وقال: كل معنىً يوجد بوجوده غيره لا يرتفع بارتفاع ذلك الذي هو غيره، بل يرتفع غيره بارتفاعه، فإنه أقدم ذاتاً من غيره، مثاله الجنس لا يرتفع بارتفاع واحدٍ من أنواعه، والأنواع ترتفع بارتفاع الجنس، وكذلك حال النوع مع الشخص، فالجنس أقدم من النوع، والنوع أقدم من الشخص، وأعني بالجنس والنوع الطبيعيين لا المنطقيين.
وقال: معرفتنا أولاً تتعلق بالأشخاص الجزئية ثم بتوسطها ثبتت الأجناس فإذاً المتقدم بالذات غير المتقدم إلينا.
وقال: مسلك العقل في تعرف المعاني الطبيعية مقابلٌ لمسلك الطبيعة في إيجادها، لأن الطبيعة تتدرج من الكليات البسيطة إلى الجزئيات المركبة، والعقل يتدرج من الجزئيات المركبة إلى البسائط الكلية.
قال أبو النضر نفيس: إنما كان هذا هكذا لأن الطبيعة متناولة من العقل والعقل مناولٌ للطبيعة، فوجب أن يختلف الأمران، فإن قال قائل: فهلا تم الأمران معاً بواحدٍ منهما، أعني الطبيعة أو العقل? فالجواب أن أحدهما في العلو، والآخر في السفل، فليس للعالي أن يهبط، ولا للسافل أن يعلو؛ فلما كان هذا محالاً توسط بينهما - أعني العالي والسافل - المناولة والتناول حتى اتصل الأول بالثاني، وغص الفضاء بينهما بضروب الأفراد والأزواج، وانتظم الكل فلم يكن فيه خلل، ولا دونه مأتىً، ولا وراءه متوهم.
وقال: الإنسان مركب من الأعضاء الآلية بمنزلة الرأس واليدين والرجلين وغيرها، ثم كل واحد من هذه الأعضاء مركب من الأعضاء المتشابهة الأنواع بمنزلة اللحم والعظم والعصب والشريان، ثم كل واحد من هذه الأعضاء مركب من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمريان، ثم كل واحد من هذه الأخلاط مركب من الأسطقسات الأربع التي هي النار والهواء، والأرض والماء؛ ثم كل واحدٍ من هذه الأسطقسات مركب من الهيولى والصورة.
وقال: كما أن لكل عضو قوةً تخصه بتدبيرها، كذلك لجميع البدن قوةٌ أخرى ضامنةٌ لتدبيره.
قال: وقال الحكيم في كتاب السماء: علة الأنواع والأجناس ودوامها هي الفلك المستقيم، وعلة كون الأشخاص وتجدد حدوثها هي الفلك المائل، فأما الكليات المنطقية فإن طبيعتها هي القوة القياسية المستتبة لها عند تكون الحس على واحدٍ منها. قال أبو النضر نفيس: هذا حكمٌ بالوهم، ورأيٌ خرج من الظن؛ الفلك المستقيم والفلك المائل هما بنوع الوحدة ونسبة الاتفاق، فليس لأحدهما اختصاص بالأنواع والأجناس، ولا بتجدد الأشخاص، والدليل على هذا أن قالباً لو قلب قالبه ذلك لم يكن له عنه انفصال. وللرأي زلات، كما أن للسان فلتات، وللحكيم هفوات، كما أن للجواد عثرات؛ وما أكثر من يسكر فيقول في سكره ما لا يعرف، وما أكثر من يغرق في النوم فيهذي بما لا يدري، ومن الذي حقق عنده أن الفلك المستقيم هذا نعته، والفلك المائل تلك صفته؛ هذا توهم وتلفيق، لا يرجع مدعيه إلى تحقيق، وقول أبي الحسن هذا عن الحكيم تقليدٌ، كما أن دعوى ذاك الحكيم توهم، ومحبة الرجال للرجال فتنةٌ حاملةٌ على قبول الباطل، وبغض الرجال للرجال فتنةٌ حاملةٌ على رد الحق? وهذا أمرٌ قد طال منه الضجيج، وفزع إلى الله منه بالتضرع.
قال أبو الحسن: الموجود له حقيقةٌ واحدةٌ لا تدرك إلا عقلاً، وليس له مبدأ، ولو كان له مبدأٌ لشاركه المبدأ في طبيعة الوجود، وليس بمتحرك لأنه لا مقابل له فيتحرك إليه.
وقال أبو النضر نفيس: عني بهذا الموجود الحق الأول الذي هو علة العلل، وهو البارىء الإله، وما أنصف، لأنه يجب أن يقسم الموجود بأقسامه، ويصف مرتبة كل موجود على ما هي عليه وعلى ما هو به حتى ينتهي من هذا الموجود الأعلى إلى آخر الموجود الأسفل، أو يصف الموجود الأسفل حتى يرتقي إلى هذا الموجود الأعلى، فإنه لا شيء مما يعقل ويحس إلا وله من هذا الوجود نصيب به استحق أن يكون موجوداً، وإن كان ذلك النصيب قليلاً.

وقال: قد يوصف الشيء بأنه واحد بالمعنى وهو كثير بالأسماء، ويوصف بأنه واحد بالاسم وهو كثير بالمعنى، ويوصف بأنه واحد بالجنس وهو كثير بالأنواع، ويوصف بأنه واحد بالنوع وهو كثير بالشخوص، ويوصف بأنه واحد بالاتصال وهو كثير بالأجزاء، وقد نقول في شيء: إنه واحد بالموضوع وهو كثير بالحدود، كالتفاحة الواحدة التي يوجد فيها اللون والطعم والرائحة، وقد يكون واحداً في الحد وكثيراً في الموضوع، كالبياض الذي يوجد في الثلج والقطن والاسفيداج، وقد يكون كثيراً بالحج والموضوع كالعلم والحركة، فإن موضوع هذا الجسم، وموضع ذاك النفس، وحد أحدهما غير حد الآخر، وقد يكون واحداً بالموضوع والحد بمنزلة السيف والصمصام؛ وقد نقول أشياء تكون واحدةً بالفعل، وهي بالقوة كثيرة، كالسراج الواحد؛ فأما أن يكون واحداً بالقوة وكثيراً بالفعل من وجهٍ واحد، فلا يكون، بل من جهات مختلفة.
قال أبو النضر نفيس: الواحد الذي ينقسم فينشأ منه الكثرة غير الواحد الذي لا ينقسم، والكثير الذي يتوحد حتى يكون واحداً غير الكثير الذي لا يتوحد، فالواحد الذي لا ينقسم علة الواحد المنقسم، والكثير الذي يتوحد هو علة الكثير الذي لا يتوحد، وبالحكمة الإلهية ما كان هكذا حتى يكون الكثير الذي يتوحد في مقابلة الكثير الذي لا يتوحد، والواحد الذي ينقسم في مقابلة الواحد الذي لا ينقسم، وهذه المقابلة هي عبارة عن صورة التمام الحاصل للكل، وليست هي عبارة عن صورةٍ مزاحمةٍ لصورة، أو كثيرةٍ غالبةٍ لكثرة، المستغاث بالله من قصور العبارة عن الغاية، وتقاعس اللفظ عن المراد.
وقال: يعجبني من جملة الحكم الأمثال التي يضربونها، والعيون التي يستخرجونها، والمعاني التي يقربونها. قلت: صدقت، مثل قول فيلسوف: البدن للنفس بمنزلة الدكان للصانع، والأعضاء بمنزلة الآلات، فإذا انكسرت آلات الصانع وخرب الدكان وانهدم، فإن الصانع لا يقدر على عمله الذي كان يعمله إلا أن يتخذ دكاناً آخر، وآلاتٍ جددً أخر.
قال: أحب أن أسمع شيئاً من منثور كلامهم في فنون مختلفة.
قلت: قال فيلسوف: العاقل يضل عقله عند محاورة الأحمق. قال أبو سليمان: هذا صحيح، ومثاله أن العاقل إذا خاطب العاقل فهم وإن اختلفت مرتبتاهما في العقل، فإنهما يرجعان إلى سنخ العقل، وليس كذلك العاقل إذا خاطب الأحمق، فإنهما ضدان، والضد يهرب من الضد؛ وقد قيل لأبي الهذيل العلاف - وكان متكلم زمانه -: إنك لتناظر النظام وتدور بينكما نوبات، وأحسن أحوالنا إذا حضرنا أن ننصرف شاكين في القاطع منكما والمنقطع، ونراك مع هذا يناظرك زنجويه الحمال فيقطعك في ساعة.
فقال: يا قوم إن النظام معي على جادة واحدة لا ينحرف أحدنا عنها إلا بقدر ما يراه صاحبه فيذكره انحرافه، ويحمله على سننه فأمرنا يقرب، وليس هكذا زنجويه الحمال فإنه يبتدىء معي بشيء، ثم يطفر إلى شيء بلا واصلة ولا فاصلة، وأبقى، فيحكم علي بالانقطاع، وذاك لعجزي عن رده إلى سنن الطريق الذي فارقني آنفاً فيه.
وقال فيلسوفٌ آخر: العادات قاهرات، فمن اعتاد شيئاً في السر فضحه في العلانية.
قال أبو سليمان: وهذا صحيح، لأن حقيقة العادة في الشيء المعهود عوده بعد عوده، فهي - أعني العادة - بالاستمرار الذي يقهر من اعتاده، والخلوة حال، والعلانية حال، والعادة بجريانها تهجم في الحالين ولا تفرق؛ ولهذا ما قيل: العادة هي الطبيعة الثانية؛ كأن الطبيعة عادة، ولكنها الأولى بالجبلة؛ والعادة طبيعة ولكنها الأخرى بحسن الاختيار أو بسوء الاختيار.

وقال فيلسوف: ما أكثر من ظن أن الفقير هو الذي لا يملك شيئاً كثيراً وهذا فقير من جهة العرض، فأما الفقير الطبيعي فالذي شهواته كثيرة وإن كان كثير المال؛ كما أن الغني الطبيعي لا يحتاج إلى شيء وإن كان قليل المال، أي الذي ملك نفسه وقمع شهواته وأخمد لهب إرادته؛ وقد ظن قومٌ أن الذين منعوا من الشهوات، ورضوا بالزهد في اللذات، خانوا الناس وحالوا بينهم وبين حظوظهم، وحرموهم ما هو لهم، وصدوهم عن محبوباتهم؛ وهذا ظنٌ خطأ، وأي مرادٍ في هذا للواعظين والمزهدين، والذين وصوا وأشفقوا، وردعوا عن الخوض في لذات النفوس الغضبية والبهيمية? والله ما كان ذلك منهم إلا على طريق النصيحة والشفقة والإعذار والإنذار، إلا أن يكون الذين ظنوا هذا إنما ظنوه لأنهم رأوا بعض المزهدين راغباً، وبعض الناصحين غاشاً، وبعض الآمرين مخالفاً، وليس العمل على المحتال، وعلى من آثر الغش في المقال؛ ولكن المرجع إلى ما يدل عليه الحق، ويشهد له العقل، ويصح فيه البرهان؛ أترى الفيلسوف غش في قوله لأصحابه: اقنعوا بالقوت، وانفوا عن أنفسكم الحاجة، ليكون لكم قربة إلى الله، لأن الله غير محتاج، فكلما احتجتم أكثر كنتم منه أبعد، واهربوا من الشر والإثم، واطلبوا من الخير أعمه وأعظمه، وأبقاه وأدومه؛ واعرفوا الأبد، واطلبوا السرمد، فإن من طلب الأبد ثم وجد بقي على الأبد، ومن طلب الأمد ثم وجد فني على الأمد.
الحاجة ذلٌ، والغنى عز، والعز ضد الذل؛ فمن طلب العز في العاجلة فقد طلب الذل وهو لا يدري، ومن طلب العز في الآجلة فقد وجد العز وهو لا يدري.
في الحكمة أن يقال: اصبر على الذل لتنال العز، وليس في الحكمة اثبت على العز لتنال الذل، هذا معكوس.

الليلة الثالثة والعشرون

وكان الوزير رسم بكتابه لمعٍ من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأفردت ذلك في هذه الورقات، وهي: قال صلى الله عليه وسلم : "أشد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الأخ من مالك، وشكر الله تعالى على كل حال".
وقال الواقدي: لما غالط خالد بن الوليد عبد الرحمن بن عوف قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا خالد ذروا لي أصحابي، لو كان لك أحدٌ ذهباً تنفقه قراريط في سبيل الله لم تدرك غدوةً أو روحةً من عبد الرحمن.
وقال عليه السلام: "إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة تبشبش الله إليه، وإن أخرها أعرض عنه".
وقال عليه السلام: "إنما فدك طعمةٌ أطعمنيها الله حياتي، ثم هي بين المسلمين".
وقال عليه السلام: "المقوم قد يأثم ولا يغرم".
وقال عليه السلام في دعائه: "اللهم اجمع على الهدى أمرنا، وأصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واجعل قلوبنا كقلوب خيارنا، واهدنا سواء السبيل وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا ومعايشنا، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمتك، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم".
وقيل له صلى الله عليه وسلم : إن فلاناً استشهد، فقال: "كلا إن الشملة التي أخذها من الغنائم يوم حنين اشتعلت عليه ناراً".
وقال صلى الله عليه وسلم : "من اطلع من صبر بابٍ ففقئت عينه فهي هدر".
وقال صلى الله عليه وسلم لرجل يذبح شاةً: "ارهف شفرتك، فإذا فريت فأرح ذبيحتك، ودعها تخب وتشخب، فإن ذلك أمرى للدم وأحلى للحم".
وقال عليه السلام: "خير الناس الغني الخفي التقي".
وقال: "التاجر الصدوق إن مات في سفره كان شهيداً، أو في حضره كان صديقاً".
وقال صلى الله عليه وسلم : "ظهر المؤمن مشجبه، وبطنه خزانته، ورجله مطيته، وذخيرته ربه".
وقال صلى الله عليه وسلم : "ما نقص مالٌ من صدقة، فتصدقوا، ولا عفا رجلٌ عن مظلمةٍ إلا زاده الله عز وجل عزاً وعفواً؛ ولا فتح رجلٌ على نفسه باب مسئلةٍ إلا فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر، فاستعفوا".
وقال عليه السلام: "أجود الأعمال الجود في العسر، والقصد في الغضب، والعفو عند المقدرة".
وقال عليه السلام: "إن بين مصراعي باب الجنة مسيرة مائة عام، وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظٌ من الزحام".

وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول قومٍ من بني عامر يستأذنه في المرعى حول المدينة؛ فقال عليه السلام: إنها ديارٌ لا تضيق عن جارنا، وإن جارنا لا يظلم في ديارنا، وقد ألجأتكم الآزمة، فنحن نأذن لكم في المرعى ونشرككم في المأوى، على أن سرحنا كسرحكم، وعانينا كعانيكم، ولا تعينوا علينا بعد اليوم؛ فقال: لا نعين عدواً ما أقمنا في جوارك، فإذا رحلنا فإنما هي العرب تطلب أثآرها، وتشفي ذحولها؛ فقال عليه السلام: يا بني عامر، أما علمتم أن اللوم كل اللوم أن تنحاشوا عند الفاقة، وتثبوا عند العزة، فقال: وأبيك إن ذلك للؤم، ولن نبغيك غائلةً بعد اليوم، فقال: اللهم اشهد، وأذن لهم.
وسئل صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيه الوحي? فقال: "في مثل صلصلة الجرس، ثم ينفصم".
وقد روى ابن الكلبي عن أبيه عن ابن صالح، عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر، قال علي للمقداد: أعطني فرسك أركبه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت تقاتل راجلاً خيرٌ منك فارساً. قال: فركبه ووتر قوسه ورمى فأصاب أذن الفرس فصرمه، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسك على فيه، فلما رأى عليٌ ضحكه غضب فسل سيفه، ثم شد على المشركين، فقتل ثمانيةً قبل أن يرجع، فقال عليٌ: لو أصابني شرٌ من هذا كنت أهله حين يقول: أنت تقاتل راجلاً خيرٌ منك فارساً، فعصيته.
وقال صلى الله عليه وسلم : "إن امرأ عرف الله وعبده وطلب رضاه وخالف هواه لحقيقٌ بأن يفوز بالرحمة".
لما ورد محمد بن مسلمة عن عمرو بن العاص من جهة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، صنع عمرو له طعاماً ودعاه إليه، فأبى محمدٌ، فقال عمرو: أتحرم طعامي? قال: لا، ولكني لم أومر به. فقال عمرو: لعن الله زماناً عملنا فيه لابن الخطاب، لقد رأيته وأباه وإنهما لفي شملة ما تواري أرساغهما، وإن العاصي بن وائل لفي مقطعات الديباج مزررةً بالذهب. فقال محمد: أما أبوك وأبو عمر ففي النار، وأما أنت فلولا ما وليت لعمر لألفيتك معتقلاً غنزاً يسرك غزرها ويسوءك بكوها، فقال عمرو: المجالس أمانة، فقال محمد: أما ما دام عمر حياً فنعم.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة يعودها من علة، فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك? فقالت: قلة الطعم، وشدة السقم، وكثرة الهم.
قال عبد الله بن مسعود: شر الأمور محدثاتها، وشر الغني غني الإثم، وخير الغنى غنى النفس، والخمر جماع الإثم، والدنيا حبالة الشيطان، والشباب شعبةٌ من الجنون.
قيل له: أتقول هذا من تلقائك? قال: لا، بل من تلقاء من فرض الله علي طاعته.
وقال أبو ذر رحمة الله عليه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر: إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم.
وقال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم ستحرصون على الإمارة، وستكون حسرةً وندامةً يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة.
أبو أمامة يرفعه، قال: ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً أطلقه العدل، أو أوثقه الجور.
قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : أمرني يا رسول الله فأصيب.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن رجلاً جاء إلى النجاشي فقال له: أقرضني ألف دينار إلى أجل، فقال: من الكفيل بك? فقال: الله. فأعطاه الألف، فلما بلغ الأجل أراد الرد، فحبسته الريح، فعمل تابوتاً وجعل فيه الألف وغلفه، وألقاه في البحر، وقال: اللهم أد حمالتك؛ فخرج النجاشي إلى البحر فرأى سواداً؛ فقال: ائتوني به. فأتوه بالتابوت، ففتحه، فإذا فيه الألف، ثم إن الرجل جمع ألفاً بعد ذلك، وطابت الريح، وجاء إلى النجاشي فسلم عليه؛ فقال له النجاشي: لا أقبلها منك حتى تخبرني بما صنعت فيها. فأخبره بالذي صنع؛ فقال النجاشي: فقد أدى الله عنك، وقد بلغت الألف في التابوت، فأمسك عليك ألفك.
رأى أبو هريرة رجلاً مع آخر، فقال: من هذا الذي معك? قال: أبي. قال: فلا تمش أمامه، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه، ولا تستسب له.

قال أبو هريرة: كان جريجٌ يتعبد في صومعته، فأتت أمه فقالت: يا جريج، أنا أمك، كلمني؛ فقال: اللهم أمي وصلاتي؛ فاختار صلاته، فرجعت ثم أتته ثانيةً فقالت: يا جريج، كلمني، فصادفته يصلي فقال: اللهم أمي وصلاتي، فاختار صلاته، ثم جاءته فصادفته يصلي، فقالت: اللهم إن هذا ابني قد عقني فلم يكلمني فلا تمته حتى تريه المومسات، ولو دعت عليه أن يفتن لفتن؛ قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، فخرجت امرأةٌ من القرية، فوقع عليها الراعي، فحملت فولدت غلاماً، فقيل لها: ممن هذا? فقالت: من صاحب هذه الصومعة، فأقبل الناس إليه بفؤوسهم ومساحيهم فبصروا به، فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم، فأخذوا يهدمون ديره، فنزل وتبسم ومسح رأس الصبي وقال: من أبوك? فقال: أبي راعي الضأن. فلما سمع القوم ذلك راعهم، وعجبوا، وقالوا: نحن نبني لك ما هدمنا بالذهب والفضة. قال: لا، أعيدوها كما كانت تراباً؛ ثم عاد.
وقال أبو الدرداء: لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواب.
وقال أيضاً: ليس على سارق الحمام قطع.
وقال: إذا اخترتم أرضاً فلا تختاروا أرمينية، فإن فيها قطعةً من عذاب الله، يعني البرد.
أبو هريرة يرفعه: ويلٌ للعرفاء، ويلٌ للأمناء، ليتمنين أقوامٌ يوم القيامة أنهم كانوا متعلقين بين السماء والأرض يتذبذبون من الثريا، وأنهم لم يلوا عملاً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسئلةٍ وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسئلةٍ أعنت عليها".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "كلكم راع ومسؤولٌ عن رعيته، فالأمير راعٍ على الناس وهو مسؤولٌ أقام أمر الله فيهم أم ضيع؛ والمرأة راعيةٌ على بيتها وما وليت من زوجها، ومسئولةٌ عنهم أقامت أمر الله فيهم أم ضيعت؛ والخادم مسؤولٌ عن مال سيده أقام أمر الله فيه أم ضيع". هكذا رواه ابن عتبة عن نابع عن ابن عمر.
قال عياض الأشعري: قدم أبو موسى على عمر ومعه كاتبٌ له، فرفع حسابه، فأعجب عمر. وجاء إلى عمر كتابٌ، فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس? قال: إنه لا يدخل المسجد. قال: لم? أجنبٌ هو? قال: إنه نصراني. قال: فانتهره، وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأتمنهم وقد خونهم الله.
قال عبد الله بن نافع: جاء رجلان من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم يختصمان في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة، فقال صلى الله عليه وسلم : إنكم لتختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعةً من نار، يأتي بها إسطاماً في عنقه يوم القيامة. قال: فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي؛ فقال صلى الله عليه وسلم : أما إذ قلتما هذا فاذهبا فاستهما، وتوخيا الحق، وليحلل كل واحد منكما صاحبه. وفي رواية أخرى: اذهبا فاصطلحا.
وروي أن عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي أصحمة: سلامٌ عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته، فكتب النجاشي: إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشي أصحمة بن أبجر: سلامٌ عليك يا نبي الله من الله ورحمته وبركاته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "الكافر خبٌ ضبٌ، والمؤمن دعبٌ لعب".
وقال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم : اعدل فإنك إلى الآن لم تعدل. فقال: ويلك! إذا لم أعدل أنا فمن يعدل?.
وقال صلى الله عليه وسلم : "إن الواجد يبيح ظهره وعرضه".
وقال عمر: ردد الخصوم كي يصطلحوا.
وقال عليه السلام: لا تحلفوا بأيمانكم، ومن حلف بالله فليصدق، ومن حلف له فليقبل.
وقال: من حلف يميناً كاذبة يقتطع بها مال امرىء مسلمٍ لقي الله وهو عليه غضبان.
وقال: من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خيرٌ، وليكفر عن يمينه.
وقال - عليه السلام - لا تسافر المرأة ثلاثة أيامٍ إلا مع ذي محرم.

حدثنا أبو السائب القاضي عتبة بن عبيد قال: حدثنا محمد بن المرزبان قال: حدثنا المغيرة قال: حدثنا محمد بن العباس المنقري قال: كان شريك ابن عبد الله على القضاء بالكوفة، فقضى على وكيلٍ لعبد الله بن مصعب بقضاء لم يوافق عبد الله، فلقي شريكاً ببغداد، فقال له: قضيت على وكيلي قضاءً لا يوافق الحق. قال: من أنت? قال: من لا تنكر. قال: قد نكرتك أشد النكير. قال: أنا عبد الله بن مصعب. قال: فلا كبيرٌ ولا طيب. قال: كيف لا تقول هذا وأنت تشتم الشيخين. قال: من الشيخان? قال: أبو بكرٍ وعمر. قال: والله لا أشتم أباك وهو دونهما، فكيف أشتمهما وهما فوقي وأنا دونهما? وقال عقبة بن عامر الجهني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من رجل يؤتى الدنيا ويوسع له فيها وهو لله على غير ما يحب إلا وهو مستدرج، لأن الله تعالى يقول: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين". قال ابن الأنباري: قوله صلى الله عليه وسلم إلا وهو مستدرج، معناه إلا وهو مستدعٍ هلكته، مأخوذٌ من الدراج، وهو الهالك، يقال هو أعلم من دب ودرج، ويراد بدرج: هلك؛ وبدب: مشى.
وقال سعيد بن عامر بن حزيم، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن لله أمناء على خلقه يضن بهم على القتل يعيشهم في عافية، ويميتهم في عافية".
قال ناشرة بن سمي: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول يوم الجابية: إني قد نزعت خالد بن الوليد وأمرت أبا عبيدة، فقال رجلٌ: والله لقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال عمر: إنك لشابٌ قريب القرابة، وهذا القائل هو أبو عمرو بن حفص بن المغيرة ابن عم خالد.
قال قبيصة بن المخارق: نهى رسول الله عن الطرق والعيافة والخط.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صلةٌ وصدقة".
قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو قالا: لما نزلت: "وأنذر عشيرتك الأقربين"، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمةٍ من جبلٍ فعلا أعلاها حجراً، وقال: يا بني عبد مناف، يا بني فهر، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ رأى العدو فانطلق يريد أهله، وخشي أن يسبقوه إلى أهله، فجعل يهتف واصباحاه.
النعمان بن بشير وقبيصة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع".
تزوج رجلٌ امرأةً فمات قبل أن يدخل بها، ولم يسم لها صداقاً، فسئل ابن مسعود فقال: لها صداق إحدى نسائه، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث. فقام أبو سنان في رهطٍ من أشجع، فقالوا: لقد قضى فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في برزع بنت واشقٍ الأشجعية.
عقبة السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا تباطأت المغازي وكثرت الغرائم واستؤثر بالغنائم فخير جهادكم الرباط".
حبان الأنصاري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم حنينٍ فأحل لهم ثلاثة أشياء كان نهاهم عنها، وحرم عليهم ثلاثة أشياء كان الناس يحللونها، أحل لهم أكل لحوم الأضاحي، وزيارة القبور والأوعية، ونهاهم عن بياع المغنم حتى يقسم، ونهاهم عن النساء من السبايا ألا يوطأن حتى يضعن أولادهن، ونهاهم ألا تباع ثمرةٌ حتى يبدو صلاحها، ويؤمن عليها من العاهة.
وهب بن حذيفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل أحق بمجلسه.
حسان بن ثابتٍ قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور.
قال مالك بن عبادة الغافقي: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن مسعود فقال: لا تكثر همك ما يقدر يكن، وما ترزق يأتك.
خالد بن عدي الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من بلغه معروفٌ من أخيه من غير مسئلةٍ ولا إشراف نفسٍ فليقبله ولا يرده، فإنما هو رزقٌ ساقه الله إليه.
رافع بن مكيثٍ - أخو جندب بن مكيث - شهد الحديبية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حسن الملكة نماءٌ، وسوء الخلق شؤم، والصدقة تدفع ميتة السوء، والبر زيادةٌ في العمر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن يوم الجمعة يوم زينةٍ كيوم الفطر والنحر.

خباب بن الأرت - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوماً إلى جدارٍ كثير الجحرة إما ظهراً أو عصراً، فلما صلى خرجت إليه عقرب فلدغته؛ فغشي عليه، فرقاه الناس فأفاق، فقال: "إن الله شفاني وليس برقيتكم".
قال الوزير: ما أحسن هذا المجلس.

الليلة الرابعة والعشرون

وجرى حديث الفيل ليلةً فأكثر من حضر وصفه بما لم يكن فيه فائدةٌ تعاد، ولا غريبةٌ تستفاد؛ فحكيت: إن العلماء بطبائع الحيوان ذكروا أن الفيلة لا تتولد إلا في جزائر البحار الجنوبية، وتحت مدار برج الحمل، والزرافة لا تكون إلا في بلاد الحبشة، والسمور وغزال المسك لا يكونان إلا في الصحارى الشرقية الشمالية؛ وأما الصقور والنسور والبزاة وما شاكلها من الطير فإنها لا تفرخ إلا في رءوس الجبال الشامخة والعقاب. والنعام لا تفرخ إلا في البراري والقفار والفلوات. والوطواط والطيطوي وأمثالهما من الطير لا تفرخ إلا على سواحل البحار وشطوط الأنهار والبطائح والآجام؛ والعصافير والفواخت وما شاكلها من الطير لا تفرخ إلا بين الأشجار والدحال والقرى والبساتين.
وحدث ابن الأعرابي عن هشام بن سالم - وكان مسناً من رهط ذي الرمة - قال: أكلت حيةٌ بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها ويدنو منها، حتى إذا فتحت فاها تريده وهمت به ألقى في فيها حسكةً؛ فأخذت بحلقها حتى ماتت.
وأنشد أبو عمرو الشيباني قول الأسدي:

إن كنت أبصرتني قلا ومصطلما

 

فربما قتل المكاء ثـعـبـانـا

فقال - حرس الله نفسه - من أين للحيوان غير الإنسان هذه الفطنة وهذه الفضيلة وهذه الجرأة وهذه الحيلة? فقلت: شيخنا أبو سليمان يقول في هذه الأيام - وقد جرى حديث الحيوان وعجائب أفاعيله - إن الإحساسات التي للحيوان على أصنافه لها غرضٌ عظيم، وبذلك الغرض لها تفاوتٌ عظيم ظاهرٌ وخافٍ، وأفعالٌ معهودة ونادرة، ولها أخلاق معروفة، ومعارف موصوفة؛ ولولا ذلك ما كان يقال: أصول من جمل، وأغدر من ذئب، وأروغ من ثعلب، وأجبن من صقر، وأجمع من ذرة، وآلف من كلب، وأهدى من قطاة، واحذر من عقعق، وأزهى من غراب، وأظلم من حية. وأشد عداوةً من عقرب. وأخبث من قرد، وأحمق من حبارى، وأكذب من فاخته، والأم من كلبٍ على جيفة، وأعق من ضب، وأبر من هرة، وأنفر من ظليم، وأجرأ من ليث، وأحقد من فيل؛ وعلى هذا.
قال: وكما أن بين آحاد نوع الإنسان تفاوتاً في الأخلاق، كذلك بين آحاد نوع الحيوان تفاوت، وكما أنه يزل بعض العقلاء فيركب ما لا يظن بمثله لعقله، كذلك يزل ويغلط بعض الحمقى فيأتي بما لا يحسب أن مثله يهتدي إليه، فليس العقل بخاطرٍ على صاحبه أن يندر منه ما يكون من الحيوان، وأصناف الحيوان من الناس وغير الناس تتقاسم هذه الأخلاق بضروب المزاج المختلفة في الأزمان المتباعدة، والأماكن المتنازحة، تقاسماً محفوظ النسب بالطبيعة المستولية، وإن كان ذلك التقاسم مجهول النسب للغموض الذي يغلب عليه، وإذا عرف هذا الشرح وما أشبهه مما يزيده وضوحاً، زال التعجب الناشىء من جهل العلة وخفاء الأمر.
قال: ومن العجب أنا إذا قلنا: أروغ من ثعلب، وأجبن من صقر، وأحقد من فيل، أن هذا الروغ وهذا الجبن وهذا الحقد في هذه الأصاف ليست لتكون عدةً لها مع نوع الإنسان، ولكن لتتعاطى أيضاً بينها، وتستعملها عند الحاجة إليها؛ وكما يشبه إنسانٌ لأنه لصٌ بالفأرة، أو بالفيل لأنه حقود، أو بالجمل لأنه صؤول، كذلك يشبه كل ضرب من الحيوان في فعله وخلقه وما يظهر من سنخه بأنه إنسان.
ويقال للبليد من الناس: كأنه حمار؛ ويقال للذكي من الخيل: كأنه إنسان؛ ولولا هذا التمازج في الأصل والجوهر، والسنخ والعنصر، ما كان هذا التشابه في الفرع الظاهر، والعادة الجارية بالخبر والنظر.
فقال: هذا كلامٌ لا مزيد عليه.
وقالت العلماء: إن هذا الاعتبار واصلٌ في الحقيقة إلى جنس النبات، فإن النخل والموز لا ينبتان إلا في البلدان الدافئة والأرض اللينة والتربة، والجوز والفستق وأمثالهما لا ينبتان إلا في البلدان الباردة والأرض الجبلية. والدلب وأم غيلان في الصحارى والقفار؛ والقصب والصفصاف على شطوط الأنهار.

قالوا: وهكذا أيضاً وصف الجواهر المعدنية، كالذهب، فإنه لا يكون إلا في الأرض الرملية والجبال والأحجار الرخوة. والفضة والنحاس والحديد لا تكون إلا في الأرض الندية والتراب اللين والرطوبات الدهنية، والأملاح لا تنعقد إلا في الأراضي والبقاع السبخة، والجص والاسفيداج لا يكونان إلا في الأرض الرملية المختلطة ترابها بالحصى، والزاج لا يكون إلا في التراب العفص؛ وقد أحصى بعض من عني بهذا الشأن هذه الأنواع المعدنية فوجد سبعمائة نوعٍ.
وقالوا: من الجواهر المعدنية ما هو صلب لا يذوب إلا بالنار الشديدة، ولا يكسر إلا بالفأس كالياقوت والعقيق. ومنها ترابيٌ رخوٌ لا يذوب ولكن ينفرك، كالملح والزاج، والطلق؛ ومنها مائي رطب ينفر من النار كالزئبق، ومنها هوائي دهني تأكله النار، كالكبريت والزرنيخ؛ ومنها نباتيٌ كالمرجان، ومنها حيوانيٌ كالدر، ومنها طلٌ منعقد، كالعنبر والبادزهر، وذلك أن العنبر إنما هو طلٌ يقع على سطح ماء البحر، ثم ينعقد في مواضع مخصوصةٍ في زمان مقدر؛ وكذلك البادزهر، فإنه طلٌ يقع على بعض الأحجار، ثم يرسخ في خللها، ويغيب فيها، وينعقد في بقاعٍ مخصوصةٍ، في زمانٍ معلوم، وكالترنجبين الذي هو طلٌ يقع على ضربٍ من الشوك؛ وكذلك اللك فإنه يقع على نباتٍ مخصوصٍ ينعقد عليه؛ وكذلك الدر فإنه طلٌ يرسخ في أصداف نوعٍ من الحيوان البحري، ثم يغلظ ويجمد وينعقد فيه، وكذلك الموميا، وهي طلٌ يرسخ في صخورٍ هناك ويصير ماء ثم ينز من مسام ضيقةٍ ويجمد وينعقد.
والطل هو رطوبةٌ هوائيةٌ تجمد من برد الليل، وتقع على النبات والشجر والحجر والصخر؛ وعلى هذا القياس جميع الجواهر المعدنية، فإن مادتها إنما هي رطوباتٌ مائية، وأنداءٌ وبخاراتٌ تنعقد بطول الوقوع ومر الزمان.
وقالت الحكماء الأولون: ها هنا طبيعةٌ تألف طبيعةً أخرى، وطبيعةٌ تلزق بطبيعة أخرى، وطبيعةٌ تأنس بطبيعة، وطبيعةٌ تتشبه بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة، وطبيعةٌ تخبث مع طبيعة، وطبيعة تطيب مع طبيعة، وطبيعةٌ تفسد طبيعة، وطبيعة تحمر طبيعة، وطبيعة تبيض طبيعة، وطبيعة تهرب من طبيعة، وطبيعةٌ تبغض طبيعة، وطبيعةٌ تمازج طبيعة.
فأما الطبيعة التي تألف طبيعةً فمثل الماس فإنه إذا قرب من الذهب لزق به وأمسكه، ويقال: لا يوجد الماس إلا في معدن الذهب في بلدٍ من ناحية المشرق.
ومثل طبيعة المغناطيس في الحديد، فإن هذين الحجرين يابسان صلبان، وبين طبيعتيهما ألفة، فإذا قرب الحديد من هذا الحجر حتى يشم رائحته ذهب إليه والتصق به وجذب الحديد إلى نفسه وأمسكه كما يفعل العاشق بالمعشوق. وكذلك يفعل الحجر الجاذب للخز والحجر الجاذب للشعر، والجاذب للتبن؛ وعلى هذا المثال ما من حجر من أحجار المعدن إلا وبين طبيعته وبين طبيعة شيء آخر إلفٌ واشتياق، عرف ذلك أو لم يعرف؛ ومثل هذا ما يكون بين الدواء والعضو العليل، وذلك أن من خاصة كل عضوٍ عليلٍ اشتياقه إلى طبيعة الدواء التي هي ضد طبيعة العلة التي به، فإذا حصل الدواء بالقرب من العضو العليل وأحس به جذبته القوة الجاذبة إلى ذلك العضو وأمسكت الممسكة واستعانت بالقوة المدبرة لطبيعة الدواء على دفع الطبيعة المؤلفة للعلة وقويت عليها ودفعتها عن العضو العليل كما يستعين ويدفع المحارب والمخاصم بقوة من يعينه على خصمه وعدوه ويدفعه عن نفسه؛ وأما الطبيعة التي تقهر طبيعةً أخرى فمثل طبيعة السنباذج الذي يأكل الأحجار عن الحك أكلاً ويلينها ويجعلها ملساء. ومثل طبيعة الأسرب الوسخ في الماس القاهر لسائر الأحجار الصلبة، وذلك أن الماس لا يقهره شيءٌ من الأحجار، وهو قاهر لها كلها، ولو ترك على السندان وطرق بالمطرقة لدخل في أحدهما ولم ينكسر، وإن جعل بين صفيحتين من أسربٍ وضمتا عليه تفتت؛ ومثل طبيعة الزئبق الطيار الرطب القليل الصبر على حرارة النار، إذا طلي به الأحجار المعدنية الصلبة مثل الذهب والفضلة والنحاس والحديد أوهنها وأرخاها حتى يمكن أن تكسر بأهون سعيٍ، وتتفتت قطعاً.
 ومثل الكبريت المنتن الرائحة المسود للأحجار النيرة البراقة، المذهب لألوانها وأصباغها، يمكن النار منها حتى تحترق في أسرع مدة. والعلة في ذلك أن الكبريت رطوبة دهنيةٌ لزجةٌ جامدة، فإذا أصابته حرارة النار ذاب والتزق بأجساد الأحجار ومازجها، فإذا تمكنت منها احترق وأحرق معه تلك الأجساد ياقوتاً كانت أو ذهباً أو غيرهما.
وأما الطبيعة التي ترسب في طبيعة أخرى وتنيرها، فمثل النوشاذر الذي يغوص في قعر الأشياء ويغسلها من الوسخ.
وأما الطبيعة التي تعين طبيعةً أخرى فمثل البورق الذي يعين النار على سبك هذه الأحجار المعدنية الذائبة، ومثل الزاجات والشبوب التي تجلوها وتنيرهها وتصبغها، ومثل المغنيسيا والقلي المعينين على سبك الرمل وتصفيته حتى يكون منه زجاج؛ وعلى هذا المثال جميع الأحجار المعدنية.
النار هي الحاكمة بين الجواهر المعدنية بالحق.
ويقال: من أدمن الأكل والشرب في أواني النحاس أفسدت مزاجه، وعرض له أمراضٌ صعبة، وإن أدنيت أواني النحاس من السمك شممت لها رائحةً كريهة وإن كبت آنية النحاس على سمكٍ مشويٍ أو مطبوخٍ بحرارته حدث منه سمٌ قاتل.
القلعي قريبٌ من الفضة في لونه، ولكن يخالفها في ثلاث صفات: الرائحة والرخاوة والصرير، وهذه الآفات دخلت عليه وهو في معدنه كما تدخل الآفات على المفلوج وهو في بطن أمه؛ فرخاوته لكثرة زئبقه، وصريره لغلظ كبريته.
ويقال: إن لون الياقوت الأصفر والذهب الإبريز، ولون الزعفران وما شاكلها من الألوان المشرقة منسوبةٌ إلى نور الشمس وبريق شعاعها، وكذلك بياض الفضة والملح والبلور والقطن وما شاكله من ألوان النبات منسوبةٌ إلى نور القمر وبريق شعاعه؛ وعلى هذا المثال سائر الألوان.
وقال أصحاب النجوم: السواد لزحل، والحمرة للمريخ، والخضرة للمشتري، والزرقة للزهرة، والصفرة للشمس، والبياض للقمر، والتلون لعطارد.
ويقال: إن العلة الفاعلة للجواهر المعدنية هي الطبيعة، والعلة الطينية الزئبق والكبريت؛ والعلة الصورية دوران الأفلاك وحركات الكواكب حول الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ والعلة التمامية المنافع التي ينالها الإنسان والحيوان.
ويقال: إن الجواهر المعدنية ثلاثة أنواع: منها ما يكون في التراب والطين والأرض السبخة، ويتم نضجه في السنة وأقل كالكباريت والأملاح والشبوب والزاجات وما شابهها؛ ومنها ما يكون في قعر البحار وقرار المياه، ولا يتم نضجه إلا في السنة أو اكثر كالدر والمرجان، فإن أحدهما نباتٌ وهو المرجان، والآخر حيوان، وهو الدر.
ومنها ما يكون في وسط الحجر وكهوف الجبال وخلل الرمال فلا يتم نضجه إلا في السنين، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وما شاكلها؛ ومنها ما لا يتم نضجه إلا في عشرات السنين، كالياقوت والزبرجد والعقيق وما شاكلها.
وقال بعض من حضر المجلس - وهو الرجل الفدم الثقيل -: إن الزارع لا يزرع طالباً للعشب، بل قصده للحب، ولابد للعشب من أن ينبت إن أحب أو كره، فلم ذلك? فقيل له: قد يصحب المقصود ما ليس بمقصود، من حيث لا يتم المقصود إلا بما ليس بمقصود، والعشب هو فضلات الحب، وبه صفاء الحب وتمامه، ولولا القوة التي تصفي الحب وتصوره بصورته الخاصة به، وتنفي كدره وتحصل صفوه لكان العشب في بدن الحب، وحينئذ لا يكون الحب المنتفع به المخصوص باسمه المعروف بعينه، بل يكون شيءٌ آخر؛ فلما تميزت تلك الشوائب التي كانت ملابسةً له من أجزاء الأرض والماء وآثار الهواء والنار، خلص منتفعاً به، مفصوداً بعينه، فوجب بهذا الاعتبار أن يكون الحب بالذات، والعشب بالعرض.
فقال - أدام الله دولته - هل تعرف العرب الفرق بين الروح والنفس في كلامها? وهل في لفظها من نظمها ونثرها ما يدل على ما بينهما، أو هما كشيء واحد لحقه اسمان?  

فكان الجواب: إن الاستعمال يخلط هذا بهذا وهذه بهذا في مواضع كثيرة، وإذا جاء الاعتبار أفرد أحدهما عن الآخر بالحد والاسم؛ وعلى هذا اتفق رأي الحكماء، لأنهم حكموا بأن الروح جسمٌ لطيف منبثٌ في الجسد على خاص ماله فيه فأما النفس الناطقة فإنها جوهرٌ إلهي، وليست في الجسد على خاص ماله فيه ولكنها مدبرةٌ للجسد؛ ولم يكن الإنسان إنساناً بالروح، بل بالنفس، ولو كان إنساناً بالروح لم يكن بينه وبين الحمار فرق، بأن كان له روحٌ ولكن لا نفس له. فأما النفسان الأخريان اللتان هما الشهوية والغضبية فإنهما أشد اتصالاً بالروح منهما بالنفس، وإن كانت النفس الناطقة تدبرهما وتمدهما وتأمرهما وتنهاهما؛ فهذا أيضاً يوضح الفرق بين الروح والنفس، فليس كل ذي روحٍ ذا نفس، ولكن كل ذي نفسٍ ذو روح؛ وقد وجدنا في كلام العرب مع هذا الفرق بينهما، فإن النابغة قد قال للنعمان بن المنذر:

وأسكنت نفسي بعد ما طار روحها

 

وألبستني نعمي ولست بشـاهـد

وقال أبو الأسود:

لعمرك ما حشاك الله روحا

 

به جشعٌ ولا نفساً شريرة

قال: هذا من الفوائد التي كنت أحن إليها، وأستبعد الظفر بها، وما أنفع المطارحة والمفاتحة وبث الشك واستماحة النفس، فإن التغافل عما تمس إليه الحاجة سوء اختيار، بل سوء توفيق.
وما أحسن ما قاله بعض الجلة: توانيت في أوان التعلم عن المسئلة عن أشياء كانت الحاجة تحفز إليها والكسل يصد عنها، فلما كبرت أنفت من ذكرها وعرضها على من علمها عنده، فبقيت الجهالة في نفسي، وركدت الوحشة بين قلبي وفكري.
ثم جرى في حديث النفس ذكر بعض العلماء فإنه قال: إن نفسك هي إحدى الأنفس الجزئية من النفس الكلية، لا هي بعينها، ولا منفصلةٌ عنها، كما أن جسدك جزءٌ من العالم لا هو كله ولا منفصلٌ عنه؛ وقد مر من أمر النفس ما فيه إيضاحٌ تامٌ واستبصارٌ واسع، وإن كان الكلام في نعت النفس لا آخر له، ولا وقوف عنه.
ولو قال قائلٌ: إن جسدك هو كل العالم لم يكن مبطلاً، لأنه شبيهٌ به، ومسلولٌ منه، وبحق الشبه يحكيه، وبحق الانسلال يستمد منه؛ وكذلك النفس الجزئية هي النفس الكلية، لأنها أيضاً مشاكهةٌ لها، وموجودةٌ بها، فبحق الشبه أيضاً نحكي حالها، وبحق الوجود تبقى بقاءها، فليس بين الجسد إذا أضيف إلى العالم، والنفس إذا قيست بالأخرى فرق، إلا أن الجسد معجونٌ من الطينة، والنفس مدبرةٌ بالقوة الإلهية؛ ولهذا احتيج إلى الإحساس والمواد، وإلى الاقتباس والالاتماس حتى تكون مدة الحياة الحسية بالغة إلى آخرها من ناحية الجسد، ويكون مبدأ الحياة النفسية موصولاً بالأبد بعد الأبد.
فقال - أدام الله سعادته - لو كان ما يمر من هذه الفوائد الغرر والمرامي اللطاف مرسوماً بسوادٍ على بياض، ومقيداً بلفظٍ وعبارة، لكان له ريعٌ وإتاء، وزيادةٌ ونماء.
فكان الجواب إن هذا غير متعذر ولا صعبٍ إن نفس الله في البقاء، وصرف هذه الهموم التي تقسم الفكر بالعوارض التي لا تحتسب، والأسباب التي لا تعرف؛ فأما والأشغال على تكاثفها، والزمان على تلونه فكيف يمكن ذلك؛ والعجب أنه يجري حرفٌ من هذه الأمور الشريفة في هذه الأوقات الضيقة.
ولقد قال أبو سليمان أمس: كيف نشاط الوزير - أدام الله سعادته - في شأنه، وكيف كان تقبله لرسالتي إليه، وتلطفي له، وخدمتي لدولته? فقلت: ما ثم شيءٌ يحتاج إلى الزيادة من فهمٍ ودراية، وبيان واستبانة، وهشاشةٍ ورفق، واطلاعٍ وتأنٍ؛ ولكن الوقت مستوعبٌ بالتدبير والنظر، وكف العدو بالمداورة مرة، وبالإحسان مرة. فقال: الله يبقيه، ويرينا ما نحبه فيه.

وقال أيضاً أبو سليمان: كيف لا يكون ما تقلده ثقيلاً، وما تصدى له عظيماً، وما يباشره بلسانه وقلمه صعباً، والأولياء أعداء، والأعداء جهال، والحض عليه من ورائه شديد، ونصيحه غاش، وثقته مريب، والشغب متصل، وطلب المال لا آخر له، والمصطنع مستزيد، والمحروم ساخط، والمال ممزق، والتجديف من الطالب واقع، والتحكم بالإدلال دائم، والاستقالة من الكبير والصغير زائدة، والكلام ليس ينفع، والتدبر ليس يقمع؛ والوعظ هباءٌ منثور، والأصل مقطوعٌ مبتور؛ والسر مكشوف، والعلانية فاضحة؛ وقد ركب كلٌ هواه، وليس لأحدٍ فكرٌ في عقباه؛ واختلط المبرم بالسحيل، وضاق على السالك كل سبيل؛ ومنابع الفساد ومنابت التخليط كلها من الحاشية التي لا تعرف نظام الدولة ولا استقامة المملكة? وإنما سؤلها تعجيل حظٍ وإن كان نزراً، واستلاب درهمٍ وإن كان زيفاً، ولعمري ليس يكون الكدر إلا بعد الصفو، كما لا يكون الصفو إلا بعد الكدر، هكذا الليل والنهار، والنور والظلام، هذا يخلف هذا، وهذا يتلو هذا.
قال: أعني بهذا أنه لم افقد الملك السعيد - رضي الله عنه - بالأمس حدث هذا كله، فإنه كان قد زم وخطم، وجبر وحطم، وأسا وجرح، ومنع ومنح؛ وأورد وأصدر، وأظهر وستر، وسهل ووعر، ووعد وتوعد، وأنحس وأسعد، ووهب زمانه وحياته لهذا، لأنه جعل لذته فيه، وغايته إليه، واشتهى أن يطير صيته في أطراف الأرض فيسمع ملوكها بفطنته وحزمه، وتصميمه وعزمه، وجده وتشميره، ورضاه في موضع الرضا، وسخطه في وقت السخط، ورفعه لمن يرفعه بالحق، ووضعه لمن يضعه بالواجب؛ يجري الأمور بسنن الدين ما استجابت، فإن عصت أخذ بأحكام السياسة التي هي الدنيا، ولما كانت الأمور متلبسةً بالدين والدنيا لم يجز للعاقل الحصيف، والمدبر اللطيف أن يعمل التدبير فيها من ناحية الدين فحسب، ولا من ناحية الدنيا فقط، لأن دائرة الدين إلهية، ودائرة الدنيا حسية، وفي الإحسان أحقادٌ لابد من إطفاء ثائرتها، وصنائع لابد من تربيتها، وموضوعاتٌ لابد من إشالتها ومرفوعاتٌ لابد من إزالتها؛ وتدبيراتٌ لابد من إخفائها، وأحوالٌ لابد من إبدائها، ومقاماتٌ لابد من الصبر على عوارض ما فيها، وأمورٌ هي مسطورةٌ في كتب السياسات للحكماء لابد من عرفانها والعمل بها والمصير إليها، والزيادة عليها؛ فليس الخبر كالعيان، ولا الشاهد كالغائب، ولا المظنون كالمستيقن.
ثم قال: - أعني أبا سليمان - وهذا كله منوطٌ بالتوفيق والتأييد اللذين إذا نزلا من السماء واتصلا بمفرق السائس تضامت أحواله على الصلاح، وانتشرت على النجاح؛ وكفى كثيراً من همومه؛ ثم دعا للوزير بالبقاء المديد، والعيش الرغيد والجد السعيد؛ وأمن الحاضرون على ذلك، وكانوا جماً غفيراً، لا فائدة في ذكر أسمائهم والإشارة إلى أعيانهم؛ وكلهم لما سمعوا هذا الكلام الشريف عجبوا منه، وعوذوه وسألوه أن ينظم لهم رسالةً في السياسة؛ فقال: قد رسمت شيئاً منذ زمان، وقد شاع وفشا، وكتب وحمل في جملة الهدية إلى قابوس بجرجان، فهذا - أيها الشيخ - نمط أبي سليمان وأنت عنه مشغول، قد رضيت بترك النظر في أمره، وبذل الجاه له فيما عاد بشأنه، والله ما هذا لسوء عهدك فيه، ولا لحيلولة نيتك عنه؛ ولكن لقلة حظه منك وإنحاء الزمان على كل من يجري مجراه، مع عوز مثله في عصره؛ وكيف تتهم بسوء اعتقاد وقلة حفاظٍ، وتوانٍ عن رعاية عهدٍ، وقيامٍ بحق، وأنت من فرقك إلى قدمك فضلٌ وخيرٌ وجود ومجدٌ وإحسانٌ وكرمٌ ومعونةٌ ورفدٌ وإنعامٌ وتفقد وتعهد وبذلٌ وعرفٌ؛ ولو كان امرءٌ من الذهب المصفى لكنته ولو كان أحدٌ من الروح الصرف لكنته؛ ولو كان أحدٌ من الضياء المحيط لكنته؛ فسبحان من خلقك صرفاً بلا مزاج، وصفواً بلا كدر، وواحداً بلا ثان، لقد فخر بك الشرق على الغرب، وسلم لك بلا خصومةٍ ولا شغب، فأدام الله لك ما آتاك وأفاض عليك من لدنه ما ينور مسعاك؛ وبلغك السعادة العظمى في عقباك، كما بلغك السعادة الصغرى في دنياك.

أعرض أيها الشيخ هذا الحديث على ما ترى، والكلام ذو جيشان، والصدر ذو غليان، والقلم ذو نفيان ومتدفقه لا يستطاع رده؛ ومنبعثه لا يقدر على تسهيله، وخطبه غريب، وشأنه عجيب؛ وإنما يعرف دقه وجله من يذوق حلوه ومره، ومع هذا كله، فإني أذكرك أمري لتلحظه بعين الرعاية، وأعرض عليك حديثي لتحفظه في صحيفة العناية؛ فلقد أمسيت بين صديقٍ يشق علي حزنه لي، وبين عدوٍ تسوءني شماتته بي؛ وقد صح عندي أن إقبالك على يسر، كما أن إعراضك عني عسر، وأرجع إلى تمام هذين الجزأين وإنه أحرى.
وأما حديث الزهاد وأصحاب النسك، فإنه كان تقدم بإفراد جزء فيه، وقد أثبته في هذا الموضع، ولم أحب أن أعزله عن جملته، فإن فيه تنبيهاً حسناً، وإرشاداً مقبولاً، وكما قصدنا بالهزل الذي أفردنا فيه جزءاً جماماً للنفس قصدنا بهذا الجزء الذي عطفنا عليه إصلاحاً للنفس وتهذيباً للخلق، واقتداءً بمن سبق إلى الخير واتباعاً لمن قصد النصح؛ وشرف الإنسان موقوفٌ على أن يكون فاتحاً لباب من أبواب الخير على نفسه وعلى غيره، فإن لم يكن ذلك فلا أقل من أن يكون مقتفياً لأثر من كان فاتحاً قبله؛ ومن تقاعس عن هذين الأمرين فهو الخاسر الذي جهل قيمة نفسه، وضل عن غاية حياته، وحرم التوفيق في إصابة رشده؛ والله المستعان.
قال ابن مسعود: لو عرفت البهائم ما عرفتم ما أكلتم سميناً.
وقال أبو هريرة: اللهم إني أسألك قلباً قاراً، ورزقاً داراً، وعملاً ساراً.
وقال بعض السلف: اللهم إني أسألك قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً صابراً.
وقال صالح بن مسمار: لا أدري أنعمته علي فيما بسط لي أفضل، أم نعمته فيما زوى عني، لأنه فيما بسط لي أحياني، وفيما زوى عني حماني، نظر لي بما يزيد على نظري لنفسي، وآتاني من عنده أكثر مما عندي.
وقال الله عز وجل - لموسى - عليه السلام: حببني إلى عبادي. قال: وكيف أحببك? قال: ذكرهم آلائي ونعمائي.
وقال شداد بن حكيم لبعض الواعظين: أي شيء تقول إذا جلست على المنبر? قال: أذكرهم آلاء الله ليشكروا، وأذكرهم جفاءهم ليتوبوا، وأخبرهم عن إبليس وأعوانه حتى يحذروا.
وقال بعض الصالحين: مثل الدنيا ونعيمها كخابيةٍ فيها سمٌ وعلى رأسها عسلٌ، فمن رغب في العسل سقي من السم، ومثل شدة الدنيا كمثل خابيةٍ مملوءةٍ من العسل وعلى رأسها قطراتٌ من سم، فمن صبر على أكلها بلغ إلى العسل.
جاء رجلٌ إلى حاتم الزاهد بنميمةٍ، فقال: يا هذا أبطأت عني وجئت بثلاث جنايات؛ بغضت إلي الحبيب، وشغلت قلبي الفارغ، وأعلقت نفسك التهمة، وأنت آمن.
وكان خالد بن صفوان يقول: قبول قول النمام شرٌ من النميمة، لأن النميمة دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز.
وقال ابن السماك الواعظ: يدرك النمام بنميمته ما لا يدرك الساحر بسحره.
وقال معمر: ما نزلت بعبدٍ نازلةٌ فكان مفزعه إلى الله إلا فرج الله عنه.
وقال عمر: ما أسأل الله الرزق وقد فرغ منه، ولكن أسئلة أن يبارك لي فيه.
وقال مالك بن دينار: الجلوس مع الكلب خيرٌ من الجلوس مع رفيق سوء.
وقال أبو هريرة: تهادوا عباد الله يتجدد في قلوبكم الود، وتذهب السخيمة.
وقال حاتم: صاب الضغن غير ذي دين، والغائب غير ذي عبادة والنمام غير صدوق، والحاسد غير منصور.
وقال بعض السلف: من استقصى عيوب الناس بقي بلا أصدقاء.
وقال محمد بن واسع: ينبغي للرجل أن يكون مع المرأة كما يكون أهل المجنون مع المجنون، يحتملون منه كل أذى ومكروه.
قيل لمالك بن دينار لو تزوجت؛ قال: لو استطعت لطلقت نفسي.
قال شقيق: اشتريت بطيخة لأمي، فلما ذاقتها سخطت. فقلت: يا أمي، على من تردين القضاء ومن تلومين، أحارثها أم مشتريها أم خالقها? فأما حارثها ومشتريها فما لها ذنب، فلا أراك تلومين إلا خالقها.
ويقال: إن عبداً حبشياً ناوله مولاه شيئاً يأكله، وقال: أعطني قطعةً منه فأعطاه، فلما أكله وجده مراً، فقال: يا غلام، كيف أكلت هذا مع شدة مرارته. قال: يا مولاي، قد أكلت من يدك حلواً كثيراً، ولم أحب أن أريك من نفسي كراهةً لمرارته.
وأوحى الله تعالى إلى عزير: إذا نزلت بك بليةٌ لا تشكني إلى خلقي كما لم أشكك إلى ملائكتي عند صعود مساوئك إلي، وإذا أذنبت ذنباً فلا تنظر إلى صغره، ولكن انظر من أهديته إليه.

وقال لقمان: إن الذهب يجرب بالنار، وإن المؤمن يجرب بالبلاء.
وقال بعض السلف: عليكم بالصبر فإن الله تعالى قال: "وبشر الصابرين". وقال: : "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ". وقال: "أولئك يجزون الغرفة بما صبروا". وقال: اصبروا وصابروا. وقال: "سلامٌ عليكم بما صبرتم".
وقال الأوزاعي: المؤمن يقل الكلام ويكثر العمل. والمنافق يكثر الكلام ويقل العمل.
وقال فضيل بن عياض: الخوف مادام الرجل صحيحاً أفضل، فإذا نزل الموت فالرجاء أفضل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والخيانة، فإنها بئست البطانة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه لفح النار يوم القيامة".
وروي من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي شره الشباب.
وقيل لابن المبارك: إنك لتحفظ نفسك من الغيبة. قال: لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي، لأنهما أحق بحسناتي.
وقال بعض الصالحين: لو أن رجلاً تعشى بألوان الطعام وقد أصاب من النساء في الليل، ورجلاً آخر رأى رؤيا على مثال ما أصاب الأول في اليقظة، فإذا مضيا صار الحالم والآخر سواء.
وقال شقيق: من أبصر ثواب الشدة لم يتمن الخروج منها.
وقال شقيق لأصحابه: أيما أحب إليكم، أن يكون لكم شيءٌ على الملىء، أو يكون شيءٌ للملىء عليكم. فقالوا: بل نحب أن يكون لنا على الملىء. فقال: إذا كنتم ف الشدة يكون لكم على الله؛ وإذا كنتم في النعمة يكون الله عليكم.
وقال بعض السلف: شتان ما بين عملين: عملٍ تذهب لذته وتبقى تبعته، وعملٍ تذهب مؤونته ويبقى ذخره.
وقال الرقاشي في مواعظه: خذوا الذهب من الحجر، واللؤلؤ من المزبلة.
وقال يحيى بن معاذ: العلم قبل العمل، والعقل قائد الخير، والهوى مركب المعاصي، والمال داء المتكبر.
وقال: من تعلم علم أبي حنيفة فقد تعرض للسلطان، ومن تعلم النحو والعربية دله بين الصبيان، ومن علم علم الزهاد بلغ إلى العرش..
وقال بعض الصالحين: إن العلماء يسقون الناس، فبعضهم من الغدران والحياض، وبعضهم من العيون والقلب، وبعضهم من البحار الواسعة.
وقال حاتم: لا تنظر إلى من قال، ولكن انظر إلى ما قال.
وقال مالك بن دينار: إني لا أقدر أن أعمل بجميع ما اقول.
وقال وهيب بن الورد: مثل عالم السوء كمثل الحجر يقع في الساقية فلا هو يشرب الماء، ولا يخلي عن الماء فيذهب إلى الشجرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأنا من غير الدجال أخوف عليكم. قيل: ومن هو? قال: الأئمة المضلون.
وقال الثوري: نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر، وفتنة القائد الجاهل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سيكون في امتي علماء فساق، وقراءٌ جهال".
وقال الثوري: العلم طبيب الدين، والمال داؤه، فإذا رأيت الطبيب يجر الداء إلى نفسه فكيف يعالج غيره.
وقال عيسى بن مريم: ما ينفع الأعمى ضوء الشمس ولا يبصرها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس حسرةً يوم القيامة عالمٌ علم الناس ونجوا به، وارتهن هو بسوء عمله".
وقال أحمد بن حرب: إن منازل الدنيا لا تقطع بالكلام، فكيف يقطع طريق الآخرة بالكلام.
وقال أبو مسلم الخولاني: العلماء ثلاثة: رجلٌ عاش بعلمه وعاش به الناس، ورجلٌ عاش بعلمه ولم يعش به الناس، ورجلٌ عاش بعلمه الناس وهلك هو.
وشاور رجلٌ محمد بن أسلم فقال: إني أريد أن أزوج بنتي، فبمن أزوج? قال: لا تزوجها عالماً مفتوناً، ولا كاسباً كاذباً، ولا عابداً شاكاً.
قيل: نصح إبليس فقال: إياك والكبر، فإني تكبرت فلعنت؛ وإياك والحرص فإن أباك حرص على أكل الشجرة فأخرج من الجنة؛ وإياك والحسد فإن أحد بني آدم قتل أخاه بالحسد.
ومر حاتمٌ بقومٍ يكتبون العلم فنظر إليهم وقال: إن يكن معكم ثلاثة أشياء لن تفلحوا. قالوا: وما هي? قال: هم أمس، واغتمام اليوم، وخوف الغد.

وقال ابن عمر: كان في بني إسرائيل ثلاثةٌ خرجوا في وجهٍ، فأخذهم المطر فدخلوا كهفاً، فوقع حجرٌ عظيم على باب الكهف، وبقوا في الظلمة وقالوا: لا ينجينا إلا ما عملناه في الرخاء. فقال أحدهم: إني كنت راعياً فأرحت وحلبت، وكان لي أبوان وأولاد وامرأةٌ فسقيت أولاً الوالدين ثم الأولاد، فجئت يوماً فوجدت أبوي قد ناما فلم أوقظهما لحرمتهما ولم أسق الأولاد، وبقيت قائماً إلى الصبح؛ فإن كنت يا رب قبلت هذا مني فاجعل لنا فرجاً، فتحرك الحجر ودخل عليهم الضوء.
وقال الثاني: إني كنت صاحب ضياعٍ، فجاءني رجل بعد ما متع النهار، وكان لي أجراء يحصدون الزرع، فاستأجرته، فلما تم عملهم أعطيتهم أجورهم، فلما بلغت إلى ذلك الرجل أعطيته وافياً كما أعطيت غيره، فغضبوا وقالوا: تعطيه مثل ما أعطيتنا. فأخذت تلك الأجرة واشتريت بها عجولاً ونمي حتى كثر البقر؛ فجاء صاحب الأجرة يطلب فقلت: هذه البقر كلها لك، فسلمتها إليه، فإن كنت يا رب قبلت مني هذا الوفاء ففرج عنا. فتحرك الحجر ودخل منه ضوءٌ كثير.
وقال الثالث: كانت لي بنت عمٍ فراودتها، فأبت، حتى أعطيتها مائة دينار فلما أردت اضطربت وارتعدت. فقلت لها: ما لك? فقالت: إني أخاف الله. فتركتها ورجعت عنها، إلهي فإن كنت قبلت ذلك مني ففرج عنا. فتحرك الحجر وسقط عن باب الكهف وخرجوا منه يمشون.
وقال حاتم: لو أدخلت السوق شياهٌ كثيرةٌ لما اشترى أحدٌ المهزول، بل يقصد السمين للذبح.
وقال يحيى بن معاذ: في القلب عيونٌ يهيج منها الخير والشر.
وقال بعض الصالحين في دعائه: اللهم إن أحدنا لا يشاء حتى تشاء، فاجعل مشيئتك لي أن تشاء ما يقربني إليك؛ اللهم إنك قدرت حركات العبد، فلا يتحرك شيءٌ إلابإذنك، فاجعل حركاتي في هواك.
وقال قاسم بن محمد: لأن يعيش الرجل جاهلاً خيرٌ له من أن يقول ما لا يعلم.
وقال الشعبي: لم يكن مجلسٌ أحب إلي من هذا المجلس، ولأن أبعد اليوم عن بساطه أحب إلي من أن أحبس فيه.
وقال حاتم: إذا رأيت من أخيك عيباً فإن كتمته عليه فقد خنته، وإن قلته لغيره فقد اغتبته، وإن واجهته به فقد أوحشته؛ قيل له: كيف أصنع? قال: تكني عنه، وتعرض به، وتجعله في جملة الحديث.
وقال: إذا رأيت من أخيك زلةً فاطلب لها سبعين وجهاً من العلل، فإن لم تجد فلم نفسك.
وقال إبراهيم بن جنيد: اتخذ مرآتين، وانظر في إحداهما عيب نفسك، وفي الأخرى محاسن الناس.
وقال يحيى بن معاذ: الدنيا دار خراب، وأخرب منها قلب من يعمرها، والآخرة دار عمران، وأعمر منها قلب من يعمرها.
وقال ابن السماك: الدنيا كالعروس المجلوة تشوفت لخطابها وفتنت بغرورها، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة؛ والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها قاتلة.
وقال بعض العارفين: الدنيا أربعة أشياء: الفرح والراحة والحلاوة واللذة؛ فالفرح بالقلب. والراحة بالبدن، واللذة بالحلق، والحلاوة بالعين.
وقال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، فمن سكر منها لم يفق إلا في مسكن النادمين.
وقال بعض السلف: الزهد خلع الراحة، وبذل الجهد، وقطع الأمل.
وقال الأنطاكي أحمد بن عاصم: الزهد هو الثقة بالله، والتبرء من الخلق، والإخلاص في العمل، واحتمال الذل.
وقال داود - عليه السلام - في دعائه: يا رازق النعاب في عشه.
وقال بعض السلف: لو كنت على ذنب الريح لم تفر من رزقك.
وقال آخر: الإنسان بين رزقه وأجله، إلا أنه مخدوعٌ بأمله.
وقال عيسى بن مريم عليه السلام: خلقك ربك في أربع مراتب، فكنت آمناً ساكناً في ثلاث، وقلقلت في الرابعة، أولاها في بطن أمك في ظلماتٍ ثلاث، والثانية حين أخرجك منه وأخرج لك لبناً من بين فرثٍ ودمٍ. والثالثة إذا فطمت أطعمك المري الشهي، حتى إذا اشتدت عظامك وبلغت تمامك صرت خائناً وأخذت في السرقة والحيلة.
وقال أنس: رأيت طائراً أكمه فتح فاه فجاءت جرادة فدخلت فمه.
وقال عيسى - عليه السلام - يابن آدم اعتبر رزقك بطير السماء، لا يزرعن ولا يحصدن وإله السماء يرزقهن. فإن قلت: لها أجنحةٌ فاعتبر بحمر الوحش وبقر الوحش ما أسمنها وما أبشمها وأبدنها! وقال ابن السماك لو قال العبد: يا رب لا ترزقني لقال الله: بل أرزقك على رغم أنفك، ليس لك خالقٌ غيري، ولا رازقٌ سواي، إن لم أرزقك فمن يرزقك?  

وقيل لراهب: من أين تأكل? فقال: إن خالق الرحى يأتي بالطحين.
وقال حاتم: الحمار يعرف طريق المعلف، والمنافق لا يعرف طريق السماء.
وقال إبراهيم بن أدهم: سألت راهباً من أين تأكل? قال: ليس هذا العلم عندي، ولكن سل ربي من أين يطعمني.
وقال حاتم: مثل المتوكل مثل رجلٍ أسند ظهره إلى جبل.
وقال بعض الأبرار: حسبك من التوكل ألا تطلب لنفسك ناصراً غيره، ولا لرزقك خازناً غيره، ولا لعملك شاهدأً غيره.
وقال عبد الحميد بن عبد العزيز: كان لأبي صديقٌ وراق، فقال له أبي يوماً: كيف أصبحت? قال: بخير ما دامت يدي معي، فأصبح الوراق وقد شلت يده.
قال أبو العالية: لا تتكل على غير الله فيكلك الله إليه، ولا تعمل لغير الله فيجعل ثواب عملك عليه.
وقال رجلٌ لأبي ذرٍ: أنت أبو ذرٍ? قال: نعم. قال: لولا أنك رجل سوء ما أخرجت من المدينة. فقال أبو ذر: بين يدي عقبةٌ كؤودٌ إن نجوت منها لا يضرني ما قلت، وإن أقع فيها فأنا شرٌ مما تقول.
وقيل لفضيل: إن فلاناً يقع فيك. فقال: لأغيظن من أمره بذلك اللهم اغفر له.
وقال رجل لأبي هريرة: أنت أبو هريرة? قال: نعم. قال: سارق الذريرة? قال: اللهم إن كان كاذباً فاغفر له، وإن كان صادقاً فاغفر لي؛ هكذا أمرين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال رجل لابن مكدم: يا كافر. قال: وجب علي الشكر، حيث لم يجر ذلك على لساني، ولم تجب علي إقامة الحجة فيه، وقد طويت قلبي على جملة أشياء: قال: وما هن? قال: إن قلت ألف مرة لا أجيبك مرة، ولا أحقد عليك، ولا أشكوك إلى أحد، وإن نجوت من الله عز وجل بعد هذه الكلمة شفعت لك. فتاب الرجل.
كان للحسن جارٌ نصراني، وكان له كنيف على السطح، وقد نقب ذلك في بيته، وكان يتحلب منه البول في بيت الحسن، وكان الحسن أمر بإناء فوضع تحته، فكان يخرج ما يجتمع منه ليلاً، ومضى على ذلك عشرون سنةً، فمرض الحسن ذات يومٍ فعاده النصراني، فرأى ذلك، فقال: يا أبا سعيد: مذ كم تحملون مني هذا الأذى? فقال: منذ عشرين سنةً. فقطع النصراني زناره وأسلم.
وجاءت جاريةٌ لمنصور بن مهران بمرقةٍ فهراقتها عليه، فلما أحس بحرها نظر إليها، فقالت: يا معلم الخير اذكر قول الله. قال: وما هو? قالت: "والكاظمين الغيظ". قال: كظمت. قالت: واذكر "والعافين عن الناس". قال: قد عفوت. قالت واذكر "والله يحب المحسنين". قال: اذهبي فأنت حرة.
قال الحسن: ما جزعةٌ أحب إلي من جزعة مصيبةٍ ردها صاحبها بصبرٍ، وجزعة غضبٍ ردها صاحبها بحلم.
وكان محمد بن المنكدر إذا غضب على غلامه يقول: ما أشبهك بسيدك! وقال أبو ذر: كيف يكون حليماً من يغضب على حماره وسخله وهره.
ومات ابنٌ للرشيد فجزع جزعاً شديداً، فوعظه العلماء فلم يتعظ؛ فدخل مخنث وقال: أتأذي لي في الكلام? قال: تكلم. فكشف عن رأسه وقام بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل، وقد تشبهت بالنساء كما ترى، فأي شيء كنت تصنع لو كان ابنك في الأحياء وكان على صورتي، فاتعظ به وأخرج النواحات من الدار.
قال وهب: مكتوبٌ في الكتب القديمة: إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا عبادي.
وقال جعفر بن محمد حسن الجوار عمارة الديار ومثراة المال.
ولما قرأ هذا الجزء - حرسه الله - ارتاح وقال: أين نحن من هذه الطريقة، إلى الله المشتكى.

الليلة الخامسة والعشرون

وقال - أدام الله دولته - ليلةً: أحب أن أسمع كلاماً في مراتب النظم والنثر، وإلى أي حدٍ ينتهيان، وعلى أي شكل يتفقان، وأيهما أجمع للفائدة، وأرجع بالعائدة، وأدخل في الصناعة، وأولى بالبراعة?? فكان الجواب: إن الكلام على الكلام صعب. قال: ولم? قلت: لأن الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور وشكولها التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحس ممكن، وفضاء هذا متسع، والمجال فيه مختلف. فأما الكلام على الكلام فإنه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعضه؛ ولهذا شق النحو وما أشبه النحو من المنطق، وكذلك النثر والشعر وعلى ذلك.

وقد قال الناس في هذين الفنين ضروباً من القول لم يبعدوا فيها من الوصف الحسن، والإنصاف المحمود، والتنافس المقبول، إلا ما خالطه من التعصب والمحك، لأن صاحب هذين الخلقين لا يخلو من بعض المكابرة والمغالطة وبقدر ذلك يصير له مدخلٌ فيما يراد تحقيقه من بيان الحجة أو قصورها عما يرام من البلوغ بها، وهذه آفةٌ معترضةٌ في أمور الدين والدنيا، ولا مطمع في زوالها، لأنها ناشئةٌ من الطبائع المختلفة، والعادات السيئة، لكني مع هذه الشوكة الحادة، والخطة الكادة؛ أقول ما وعيته عن أرباب هذا الشأن، والمنتمين لهذا الفن، وإن عن شيءٌ يكون شكلاً لذلك وصلته به تكميلاً للشرح، واستيعاباً للباب، وصمداً للغاية، وأخذاً بالحياطة، وأخذاً بالحياطة، وإن كان المنتهى منه غير مطموع فيه، ولا موصولٍ إليه؛ والله المعين.
قال شيخنا أبو سليمان: الكلام ينبعث في أول مبادئه إما من عفو البديهة، وإما من كد الروية، وإما أن يكون مركباً منهما، وفيه قواهما بالأكثر والأقل؛ ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى، وفضيلة كد الروية أنه يكون أشفى، وفضيلة المركب منهما أنه يكون أوفى؛ وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقل؛ وعيب كد الروية أن تكون صورة الحس فيه أقل، وعيب المركب منهما بقدر قسطه منهما: الأغلب والأضعف؛ على أنه إن خلص هذا المركب من شوائب التكلف، وشوائن التعسف، كان بليغاً مقبولاً رائعاً حلواً، تحتضنه الصدور، وتختلسه الآذان، وتنتهبه المجالس، ويتنافس فيه المنافس بعد المنافس، والتفاضل الواقع بين البلغاء في النظم والنثر، إنما هو في هذا المركب الذي يسمى تأليفاً ورصفاً؛ وقد يجوز أن تكون صورة العقل في البديهة أوضح، وأن تكون صورة الحس في الروية الوح إلا أن ذلك من غرائب آثار النفس ونوادر أفعال الطبيعة، والمدار على العمود الذي سلف نعته، ورسا أصله.
وسمعت أبا عابدٍ الكرخي صالح بن علي يقول: النثر أصل الكلام، والنظم فرعه؛ والأصل أشرف من الفرع، والفرع أنقص من الأصل؛ لكن لكل واحد منهما زائناتٌ وشائنات، فأما زائنات النثر فهي ظاهرةٌ، لأن جميع الناس في أول كلامهم يقصدون النثر، وإنما يتعرضون للنظم في الثاني بداعيةٍ عارضة، وسببٍ باعث، وأمرٍ معين.
قال: ومن شرفه أيضاً أن الكتب القديمة والحديثة النازلة من السماء على ألسنة الرسل بالتأييد الإلهي مع اختلاف اللغات كلها منثورةٌ مبسوطة، متباينة الأوزان، متباعدة الأبنية، مختلفة التصاريف، لا تناقد للوزن، ولا تدخل في الأعاريض؛ هذا أمرٌ لا يجوز أن يقابله ما يدحضه، أو يعترض عليه بما يحرضه.
قال: ومن شرفه أيضاً أن الوحدة فيه أظهر، وأثرها فيه أشهر، والتكلف منه أبعد، وهو إلى الصفاء أقرب، ولا توجد الوحدة غالبةً على شيء إلا كان ذلك دليلاً على حسن ذلك الشيء وبقائه، وبهائه ونقائه.
قال: ومن فضيلة النثر أيضاً كما أنه إلهي بالوحدة، كذلك هو طبيعيٌ بالبدأة، والبدأة في الطبيعيات وحدة، كما أن الوحدة في الإلهيات بدأة، وهذا كلامٌ خطير.
قال: ألا ترى أن الإنسان لا ينطق في أول حاله من لدن طفوليته إلى زمانٍ مديدٍ إلا بالمنثور المتبدد، والميسور المتردد؛ ولا يلهم إلا ذاك، ولا يناغى إلا بذاك؛ ولبس كذلك المنظوم، لأنه صناعي؛ ألا ترى أنه داخلٌ في حصار العروض وأسر الوزن وقيد التأليف، مع توقي الكسر، واحتمال أصناف الزحاف، لأنه لما هبطت درجته عن تلك الربوة العالية، دخلته الآفة من كل ناحية.
قال: فإن قيل: إن النظم قد سبق العروض بالذوق، والذوق طباعي؛ قيل في الجواب: الذوق وإن كان طباعياً فإنه مخدوم الفكر، والفكر مفتاح الصنائع البشرية، كما أن الإلهام مستخدم للفكر، والإلهام مفتاح الأمور الإلهية.
قال: ومن شرف النثر أيضاً أنه مبرأٌ من التكلف، منزهٌ عن الضرورة، غنيٌ عن الاعتذار والافتقار، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرير، وما هو أكثر من هذا مما هو مدون في كتب القوافي والعروض لأربابها الذين استنفدوا غايتهم فيها.
وقال عيسى الوزير: النثر من قبل العقل، والنظم من قبل الحس، ولدخول النظم في ظي الحس دخلت إليه الآفة، وغلبت عليه الضرورة، واحتيج إلى الإغضاء عما لا يجوز مثله في الأصل الذي هو النثر.

وقال ابن طرارة - وكان من فصحاء أهل العصر بالعراق -: النثر كالحرة، والنظم كالأمة، والأمة قد تكون أحسن وجهاً، وأدمث شمائل، وأحلى حركات؛ إلا أنها لا توصف بكرم جوهر الحرة ولا بشرف عرقها وعتق نفسها وفضل حيائها.
وقال: ولشرف النثر قال الله تعالى في التنزيل: "إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً" ولم يقل: لؤلؤاً منظوماً؛ ونجوم السماء منتثرة وإن كان انتثارها على نظام، إلا أن نظامها في حد العقل، وانتثارها في حد الحس، لأن الحكمة إذا غطيت نفسها كانت الغلبة للصورة القائمة بالقدرة.
وقال أحمد بن محمد كاتب ركن الدولة: الكلام المنثور أشبه بالوشي، والمنظوم أشبه بالنير المخطط، والوشي يروق ما لا يروق غيره.
ويقال: كنا في نثار فلان، ولا يقال: كنا في نظام فلان.
وقال ابن هندو الكاتب: إذا نظر في النظم والنثر على استيعاب أحوالهما وشرائطهما، والاطلاع على هواديهما وتواليهما كان أن المنظوم فيه نثرٌ من وجه، والمنثور فيه نظمٌ من وجه، ولولا أنهما يستهمان هذا النعت لما ائتلفا ولا اختلفا.
وقال ابن كعب الأنصاري: من شرف النثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق إلا به آمراً وناهياً، ومستخبراً ومخبراً، وهادياً وواعظاً، وغاضباً وراضياً، وما سلب النظم إلا لهبوطه عن درجة النثر، ولا نزه عنه إلا لما فيه من النقص، ولو تساويا لنطق بهما، ولما اختلفا خص بأشرفهما الذي هو أجول في جميع المواضع، وأجلب لكل ما يطلب من المنافع.
فهذا قليل من كثير مما يكون تبصرةً لباغي هذا الشأن، ولمن يتوخى حديثه عند كل إنسان.
وأما ما يفضل به النظم على النثر فأشياء سمعناها من هؤلاء العلماء الذين كانت سماء علمهم دروراً، وبحر أدبهم متلاطماً، وروض فضلهم مزدهراً، وشمس حكمتهم طالعة، ونار بلاغتهم مشتعلة، وأنا آتي على ما يحضرني من ذلك، منسوباً إليهم، ومحسوباً لهم، ليكون حقهم به مقضياً، وذكرهم على مر الزمان طرياً.
قال السلامي: من فضائل النظم أن صار لنا صناعةً برأسها، وتكلم الناس في قوافيها، وتوسعوا في تصاريفها وأعاريضها، وتصرفوا بحورها، واطلعوا على عجائب ما استخزن فيها من آثار الطبيعة الشريفة، وشواهد القدرة الصادقة؛ وما هكذا النثر، فإنه قصر عن هذه الذروة الشامخة، والقلة العالية؛ فصار بذلك بذلةً لكافة الناطقين من الخاصة والعامة والنساء والصبيان.
وقال أيضاً: من فضائل النظم أنه لا يغني ولا يحدي إلا بجيده ولا يؤهل للحن الطنطنة، ولا يحلى بالإيقاع الصحيح غيره، لأن الطنطنات والنقرات، والحركات والسكنات لا تتناسب إلا بعد اشتمال الوزن والنظم عليها، ولو كان فعل هذا بالنثر كان منقوصاً، كما لو لم يفعل هذا بالنظم لكان محسوساً؛ والغناء معروف الشرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع في معاينة الروح، ومناغاة العقل، وتنبيه النفس، واجتلاب الطرب وتفريج الكرب؛ وإثارة الهزة، وإعادة العزة، وإذكار العهد، وإظهار النجدة، واكتساب السلوة؛ وما لا يحصى عدده.
ويقال: ما أحسن هذه الرسالة لو كان فيها بيتٌ من الشعر، ولا يقال: ما أحسن هذا الشعر لو كان فيه شيءٌ من النثر، لأن صورة المنظوم محفوظة، وصورة المنثور ضائعة.
وقال ابن نباتة: من فضل النظم أن الشواهد لا توجد إلا فيه، والحجج لا تؤخذ إلا منه، أعني ان العلماء والحكماء والفقهاء والنحويين واللغويين يقولون: قال الشاعر؛ وهذا كثيرٌ في الشعر، والشعر قد أتى به، فعلى هذا الشاعر هو صاحب الحجة، والشعر هو الحجة.
وقال الخالع: للشعراء حلبة، وليس للبلغاء حلبة، وإذا تتبعت جوائز الشعراء التي وصلت إليهم من الخلفاء وولاة العهود والأمراء والولاة في مقاماتهم المؤرخة، ومجالسهم الفاخرة، وأنديتهم المشهورة، وجدتها خارجةً عن الحصر، بعيدةً من الإحصاء؛ وإذا تتبعت هذه الحال لأصحاب النثر لم نجد شيئاً من ذلك؛ والناس يقولون: ما أكمل هذا البليغ لو قرض الشعر! ولا يقولون: ما أشعر هذا الشاعر لو قدر على النثر! وهذا لغنى الناظم عن الناثر، وفقر الناثر إلى الناظم؛ وقد قدم الناس أبا علي البصير على أبي العيناء، لأن أبا علي جمع بين الفضيلتين، وضرب بالسيفين في الحومتين، وفاز بالقدحين المعليين في المكانين.

وقال لنا الأنصاري: سمعت ابن ثوابة الكاتب يقول: لو تصفحنا ما صار إلى أصحاب النثر من كتاب البلاغة، والخطباء الذين ذبوا عن الدولة، وتكلموا في صنوف أحداثها وفنون ما جرى الليل والنهار به؛ مما فتق به الرتق، ورتق به الفتق، وأصلح به الفاسد، ولم به الشعث، وقرب به البعيد، وبعد به القريب، وحقق به الحق، وأبطل به الباطل، لكان يوفى على كل ما صار إلى جميع من قال الشعر ولاك القصيد، ولهج بالقريض، واستماح بالمرحمة؛ ووقف موقف المظلوم، وانصرف انصراف المحروم؛ وأين من يفتخر بالقريض، ويدل بالنظم، ويباهي بالبديهة، من وزير الخليفة، ومن صاحب السر، وممن ليس بين لسانه ولسان صاحبه واسطة، ولا بين أذنه وأذنه حجاب?! ومتى كانت الحاجة إلى الشعراء كالحاجة إلى الوزراء?! ومتى قام وزير لشاعر للخدمة أو للتكرمة?! ومتى قعد شاعرٌ لوزير على رجاء وتأميل?! بل لا ترى شاعراً إلا قائماً بين يدي خليفةٍ أو وزيرٍ أو أميرٍ باسط اليد، ممدود الكف، يستعطف طالباً، ويسترحم سائلاً؛ هذا مع الذلة والهوان، والخوف من الخيبة والحرمان، وخطر الرد عليه في لفظٍ يمر، وإعرابٍ يجري، واستعارةٍ تعرض، وكنايةٍ تعترض، ثم يكون مقلياً مشيناً بما يظن به من الهجاء الذي ربما دلاه في حومة الموت، وقد برأ الله تعالى بإحسانه القديم ومنه الجسيم صاحب البلاغة من هذا كله، وكفاه مؤونة الغدر به، والضرر فيه.
قال: وكان ابن ثوابة إذا جال في هذه الأكناف لا يلحق شأوه، ولا يشق غباره، ولا يطمع في جوابه.
قال: وله مناظراتٌ واسعةٌ في هذا الباب مع جماعةٍ من أهل زمانه ناقضوه وعارضوه، وكاشفوه وواجهوه؛ فثبت لهم، وانتصف منهم، وأربى عليهم، ولم يقلع عن مسالطتهم ومبالطتهم إلى أن نكصوا على أعقابهم، وراجعوا ما هو أولى بهم.
قال أبو سليمان: المعاني المعقولة بسيطةٌ في بحبوحة النفس؛ لا يحوم عليها شيءٌ قبل الفكر، فإذا لقيها الفكر بالذهن الوثيق والفهم الدقيق القى ذلك إلى العبارة، والعبارة حينئذ تتركب بين وزنٍ هو النظم للشعر، وبين وزن هو سياقه الحديث؛ وكل هذا راجعٌ إلى نسبةٍ صحيحة أو فاسدة، وصورةٍ حسناء أو قبيحة، وتأليفٍ مقبولٍ أو ممجوج، وذوقٍ حلوٍ أو مر وطريقٍ سهلٍ أو وعر، واقتضابٍ مفضلٍ أو مردود، واحتجاجٍ قاطعٍ أو مقطوع، وبرهانٍ مسفرٍ أو مظلم، ومتناولٍ بعيدٍ أو قريب، ومسموعٍ مألوفٍ أو غريب.
قال: فإذا كان الأمر في هذه الحال على ما وصفنا فللنثر فضيلته التي لا تنكر، وللنظم شرفه الذي لا يجحد ولا يستر، لأن مناقب النثر في مقابلة مناقب النظم، ومثالب النظم في مقابلة مثالب النثر؛ والذي لابد منه فيهما السلامة والدقة، وتجنب العويص، وما يحتاج إلى التأويل والتخليص.
وقد قال بعض العرب: خير الكلام ما لم يحتج معه إلى كلام.
ووقف أعرابيٌ على مجلس الأخفش فسمع كلام أهله في النحو وما يدخل معه، فحار وعجب، وأطرق ووسوس، فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب? قال: أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا.
وقال أعرابيٌ آخر:

مازال أخذهم في النحو يعجمني

 

حتى سمعت كلام الزنج والروم

وقال أبو سليمان: نحو العرب فطرة، ونحونا فطنة؛ فلو كان إلى الكمال سبيلٌ لكانت فطرتهم لنا مع فطنتنا، أو كانت فطنتنا لهم مع فطرتهم.
وقال: لما تميزت الأشياء في الأصول، تلاقت ببعض التشابه في الفروع، ولما تباينت الأشياء بالطبائع، تألفت بالمشاكلة في الصنائع، فصارت من حيث افترقت مجتمعة، ومن حيث اجتمعت مفترقة، لتكون قدرة الله - عز وجل - آتيةً على كل شيء، وحكمته موجودةً في كل شيء، ومشيئته نافذةً في كل شيء.
وقد أنشد بعض الأعراب ما يقتضي هذا المكان رسمه فيه، لأنه موافق لما نحن فيه في ذكره ووصفه.
قال:

ماذا لقيت من المستعربـين ومـن

 

تأسيس نحوهم هذا الذي ابتدعـوا

إن قلت قافيةً فـيه يكـون لـهـا

 

معنىً يخالف ما قاسوا وما وضعوا

قالوا لحنت وهذا الحرف منخفضٌ

 

وذاك نصبٌ وهذا ليس يرتـفـع

وحرشوا بين عبد الله واجتـهـدوا

 

وبين زيدٍ وطال الضرب والوجـع

إني نشأت بأرضٍ لا تشـب بـهـا

 

نار المجوس ولا تبنى بها الـبـيع

ولا يطا القرد والخنزير ساحتـهـا

 

لكن بها الهيق والسيدان والصـدع

ما كل قولي معروفٌ لكم فخـذوا

 

ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعـوا

كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقـهـم

 

وآخرين على إعرابهم طبـعـوا

وبين قـوم رأوا شـيئاً مـعـاينةً

 

وبين قومٍ رووا بعض الذي سمعوا

فهذا هذا.
وقال أبو سليمان: البلاغة ضروب: فمنها بلاغة الشعر ومنها بلاغة الخطابة ومنه بلاغة النثر، ومنها بلاغة المثل، ومنها بلاغة العقل، ومنها بلاغة البديهة، ومنها بلاغة التأويل.
قال: فأما بلاغة الشعر فأن يكون نحوه مقبولاً، والمعنى من كل ناحية مكشوفاً، واللفظ من الغريب بريئاً، والكناية لطيفة، والتصريح احتجاجاً، والمؤاخاة موجودة، والمواءمة ظاهرة.
وأما بلاغة الخطابة فأن يكون اللفظ قريباً، والإشارة فيها غالبة، والسجع عليها مستولياً، والوهم في أضعافها سابحاً، وتكون فقرها قصاراً، ويكون ركابها شوارد إبل.
وأما بلاغة النثر فأن يكون اللفظ متناولاً، والمعنى مشهوراً، والتهذيب مستعملاً، والتأليف سهلاً، والمراد سليماً، والرونق عالياً، والحواشي رقيقة، والصفائح مصقولة، والأمثلة خفيفة المأخذ، والهوادي متصلة، والأعجاز مفصلة.
وأما بلاغة المثل فأن يكون اللفظ مقتضباً، والحذف محتملاً، والصورة محفوظة، والمرمى لطيفاً، والتلويح كافياً، والإشارة مغنية، والعبارة سائرة.
وأما بلاغة العقل فأن يكون نصيب المفهوم من الكلام أسبق إلى النفس من مسموعه إلى الأذن، وتكون الفائدة من طريق المعنى أبلغ من ترصيع اللفظ، وتقفية الحروف، وتكون البساطة فيه أغلب من التركيب، ويكون المقصود ملحوظاً في عرض السنن، والمرمي يتلقى بالوهم لحسن الترتيب.
وأما بلاغة البديهة فأن يكون انحياش اللفظ للفظ في وزن انحياش المعنى للمعنى، وهناك يقع التعجب للسامع، لأنه يهجم بفهمه على ما لا يظن أنه يظفر به كمن يعثر بمأموله، على غفلةٍ من تأميله، والبديهة قدرةٌ روحانية، في جبلةٍ بشرية، كما أن الروية صورةٌ بشرية، في جبلةٍ روحانية.
وأما بلاغة التأويل فهي التي تحوج لغموضها إلى التدبر والتصفح، وهذان يفيدان من المسموع وجوهاً مختلفة كثيرةً نافعةً، وبهذه البلاغة يتسع في أسرار معاني الدين والدنيا، وهي التي تأولها العلماء بالاستنباط من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في الحرام والحلال، والحظر والإباحة، والأمر والنهي، وغير ذلك مما يكثر؛ وبها تفاضلوا، وعليها تجادلوا، وفيها تنافسوا، ومنها استملوا، وبها اشتغلوا؛ ولقد فقدت هذه البلاغة لفقد الروح كله، وبطل الاستنباط أوله وآخره، وجولان النفس واعتصار الفكر إنما يكونان بهذا النمط في أعماق هذا الفن؛ وها هنا تنثال الفوائد، وتكثر العجائب، وتتلاقح الخواطر، وتتلاحق الهمم، ومن أجلها يستعان بقوى البلاغات المتقدمة بالصفات الممثلة، حتى تكون معينةً ورافدةً في إثارة المعنى المدفون، وإنارة المراد المخزون.
وأمثلة هذه الأبواب موجودةٌ في الكتب، ولولا ذلك لرسمت في هذا المكان لكل فن مثالاً وشكلت شكلاً، ولو فعلت ذلك لكنت مكرراً لما قد سبق إليه، ومتكلفاً ما قد لقن من قبل على أن الزهد في هذا الشأن قد وضع عنا وعن غيرنا مؤونة الخوض فيه، والتعني به، والتوفر عليه، وتقديمه على ما هو أهم منه، أعني طلب القوت الذي ليس إليه سبيل إلا ببيع الدين، وإخلاق المروءة، وإراقة ماء الوجه، وكد البدن، وتجرع الأسى، ومقاساة الحرقة، ومض الحرمان، والصبر على ألوانٍ وألوان؛ والله المستعان.
وقد كان هذا الباب يتنافس فيه أوان كان للخلافة بهجة، وللنيابة عنها بهاء، وللديانة معتقد، وللمروءة عاشق، وللخير منتهز، وللصدق مؤثر، وللأدب شراة، وللبيان سوق، وللصواب طالب، وفي العلم راغب؛ فأما اليوم واليد عنه مقبوضة، والذيل دونه مشمر، والمتحلي بجماله مطرود، والمباهي بشرفه مبعد، فما يصنع به، ولله أمرٌ هو بالغه.

وقال ابن دأب: قال لي ابن موسى: اجتمعنا عند عبد الملك بن مروان فقال: أي الآداب أغلب على الناس? فقلنا فأكثرنا في كل نوع؛ فقال عبد الملك: ما الناس إلى شيء أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعاورون القول، ويتعاطون البيان، ويتهادون الحكم، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها؛ ويجمعون ما تفرق منها؛ إن الكلام فارقٌ للحكم بين الخصوم، وضياءٌ يجلو ظلم الأغاليط، وحاجة الناس إليه كحاجتهم إلى مواد الأغذية.
وقد قال زهير:

لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده

 

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

فقلنا: لم يقله زهير، إنما قاله زيادٌ الأعجم؛ فقال: لا، قاله من هو أعظم تجربةً وأنطق لساناً منه.
وقال أبو العيناء: سمعت العباس بن الحسن العلوي يصف كلام رجل فقال: كلامه سمحٌ سهل، كأن بينه وبين القلوب نسب، وبينه وبين الحياة سبب؛ كأنما هو تحفة قادم، ودواء مريض، وواسطة قلادة.
ورأيت أبا إسحاق الصابي وهو يعجب من فصلٍ قرأه من كتاب ورد عليه، وهو: أشعر قلبك يأس مجاوز السبيل، مقصرٍ عن الشوط.
وقال ابن ذكوان: سمعت إبراهيم بن العباس الصولي يقول: ما سمعت كلاماً محدثاً أجزل في رقة، ولا أصعب في سهولة، ولا أبلغ في إيجاز، من قول العباس بن الأحنف:

تعالي نجدد دارس العهد بيننا

 

كلانا على طول الجفاء ملوم

أناسيةٌ ما كان بيني وبينـهـا

 

وقاطعةٌ حبل الصفاء ظلوم

وفي الجملة، أحسن الكلام ما رق لفظه، ولطف معناه، وتلألأ رونقه، وقامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم، يطمع مشهوده بالسمع، ويمتنع مقصوده على الطبع؛ حتى إذا رامه مريغٌ حلق، وإذا حلق أسف، أعني يبعد على المحاول بعنف، ويقرب من المتناول بلطف.
وما رأيت أحداً تناهى في وصف النثر بجميع ما فيه وعليه غير قدامة ابن جعفر في المنزلة الثالثة من كتابه؛ قال لنا علي بن عيسى الوزير: عرض على قدامة كتابه سنة عشرين وثلثمائة؛ واختبرته فوجدته قد بالغ وأحسن، وتفرد في وصف فنون البلاغة في المنزلة الثالثة بما لم يشركه فيه أحد من طريق اللفظ والمعنى، مما يدل على المختار المجتبى والمعيب المجتنب. ولقد شاكه فيه الخليل بن أحمد في وضع العروض؛ ولكني وجدته هجين اللفظ، ركيك البلاغة في وصف البلاغة، حتى كأن ما يصفه ليس ما يعرفه، وكأن ما يدل به غير ما يدل عليه. والعرب تقول: فلان يدل ولا يدل، حكاه ابن الأعرابي، وهذا لا يكون إلا من غزارة العلم، وحسن التصور، وتوارد المعنى، ونقد الطبع، وتصرف القريحة. قال: ولولا أن الأمر على ما ذكرت لكان ذلك الطريق الذي سلكه، والفن الذي ملكه، والكنز الذي هجم عليه، والنمط الذي ظفر به؛ قد برز في أحسن معرض، وتحلى بألطف كلام، وماس في أطول ذيل، وسفر عن أحسن وجه، وطلع من أقرب نفق، وحلق في أبعد أفق.
وابن المراغي يقول كثيراً - وهو شيخٌ من جلة العلماء، وله سهمٌ وافٍ في زمرة البلغاء -: ما أحسن معونة الكلمات القصار، المشتملة على الحكم الكبار، لمن كانت بلاغته في صناعته بالقلم واللسان، فإنها توافيه عند الحاجة، وتستصحب أخواتها على سهولة؛ وهكذا مصاريع أبيات الشعر؛ فإنها تختلط بالنثر متقطعةً وموزونة، ومنتثرةً ومنضودة.
قال لي ابن عبيدٍ الكاتب: بلغني هذا الوصف عن هذا الشيخ؛ فبلوته بالتتبع فوجدته على ما قال؛ وما أشبه ما ذكره إلا بالصرة المعدة عند الإنسان، لما يحتاج إليه في الوقت المهم والأمر الملم؛ فهذا هذا.
فقال - أدام الله دولته، وكبت أعداءه -: قدم هذا الباب فقد أتى على ما لم أظن أنه يؤتى عليه ويهتدى إليه - إذا شئت؛ وانصرفت.

الليلة السادسة والعشرون

ثم قال: وما أمثلة الكلمات القصار التي أومأ إليها ذلك الشيخ? فكان من الجواب: إن هذا الباب واسع، نحو قول القائل: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار. كل عزيزٍ دخل تحت القدرة فهو ذليل.
غنم من أدبته الحكمة، وأحكمته التجربة. التضاغن رائد التباين. المرء ما عاش في تجريب.

الدهـر يومٌ ويوم

 

والعيش عذلٌ ولوم

وأكثر أسباب النجاح مع الياس

 

 

من لم يقدمه حزم أخره عجز. كم مستدرجٍ بالإحسان إليه، ومغترٍ باليسر عليه. الحرب متلفة العباد مذهبةٌ للطارف والتلاد.

ليس المقل عن الزمان براضي

من ضاق صدره اتسع لسانه.

وحسبك داءً أن تصح وتسلما

العيال سوس المال. الموت الفادح خيرٌ من الزي الفاضح. احذروا نفاد النعم، فما كل شاردٍ مردود. خير الأمور أوساطها. يكفيك من شرٍ سماعه. الكريم لا يلين على قسر، ولا يقتسر على يسر. ما أدرك النمام ثأراً، ولا محا عاراً.

ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

إن المطامع فقر والغنى الياس

والأمر تحقره وقد ينمى

رب كبيرٍ هاجه صغير

ذهب القضاء بحيلة الأقوام

وقد يستجهل الرجل الحليم

وإذا مضى شيءٌ كأن لم يفعل

من عرف بالحكمة لاحظته العيون بالهيبة. البطنة تذهب الفطنة، إن المقدرة تذهب الحفيظة. من ثقل على صديقه خف على عدوه. زيادة لسان على عقلٍ خدعة، وزيادة عقلٍ على منطق هجنة.

وحاجة من عاش لا تنقضي

من أطاع هواه، أعطى عدوه مناه.

عند الشدائد تذهب الأحقاد

احذر صرعات البغي وفلتات المزاح.

ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه

المرء يعجز لا المحالة ذل الطالب بقدر حاجته، إذا ازدحم الجواب خفي الصواب. الكريم للكريم مجل. موتٌ في قوةٍ وعزٍ خيرٌ من حياةٍ في ذلٍ وعجز. عدل السلطان خيرٌ من خصب الزمان. من توقى سلم، ومن تهور ندم، من أسرع إلى الناس بما يكرهون، قالوا فيه ما لا يعلمون. الضر خيرٌ من الفاقة، عيٌ صامت خيرٌ من عيٍ ناطق. ربما سود المال غير السيد، وقوي غير الأيد. وهل يدفع ريب المنية الحيل.

الموت حتمٌ في رقاب العباد

كفى بالإقرار بالذنب عذراً، وبرجاء العفو شافعاً. قليلٌ يوعى، خيرٌ من كثير ينسى، ليس على طول الخدم ندم، ومن وراء المرء ما لم يعلم. مروءتان ظاهرتان: الرآسة والفصاحة. من أطال الأمل أساء العمل. لا تكلف ما كفيت، ولا تضيع ما وليت. احتمل من أدل عليك، وأقبل ممن اعتذر إليك.

إن الشجاعة مقرونٌ بها العطب

إن الكرام على ما نابهم صبر

لو سكت من لا يعلم سقط الاختلاف. لا عذر في غدر. ليس من العدل سرعة العذل. أقبح عمل المقتدرين الانتقام. شرٌ من الموت، ما يتمنى له الموت. من جاع جشع. المكيدة في الحرب أبلغ من النجدة. لك من دنياك، ما أصلح مثواك. من أحب أن يطاع، لا يسأل ما لا يستطاع، إذا غلبتك نفسك بما تظن، فاغلبها بما تستيقن. الرد الجميل أحسن من المطل الطويل. القبر خيرٌ من الفقر. شفيع المذنب إقراره، وتوبته اعتذاره. صحبة الأشرار، تورث سوء الظن بالأخيار، لا كثير مع تبذير، ولا قليل مع تقدير. من صان لسانه نجا من الشر كله.

ولربما نفع الفتى كذبه

فمن يعدل إذا ظلم الأمير

إذا فزع الفؤاد فلا رقاد

ما العلم إلا ما وعاه الصدر

إن الكريم على الإخوان ذو المال

إن الفرار لا يزيد في الأجل

إن الشفيق بسوء ظنٍ مولع

لا تبل على أكمة، ولا تفش سرك إلى أمة. إذا أقبلت الدنيا على المرء أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. في التجارب علمٌ مستأنفٌ. قد خاطر من استغنى برأيه. عليك لأخيك مثل الذي عليه لك. الحق ظلٌ ظليل. المودة قرابةٌ مستفادة. معدمٌ وصول خيرٌ من مكثرٍ جافٍ. من الفراغ تكون الصبوة. من نال استطال. في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال. الشكر عصمةٌ من النقمة. اللب مصباح العلم. من ركب العجلة، لم يأمن الكبوة. إزالة الرواسي، أيسر من تأليف القلوب. قارب الناس في عقولهم، تسلم من غوائلهم، وترتع في حدائقهم. عاشر أخاك بالحسنى. الحسد أهلك الجسد. خذ على خلائقك ميثاق الصبر. خير ما رمت ما ينال.

كل امرىء في شأنه ساعـي

 

قد يدرك المتأني بعض حاجته

 

وقد يكون مع المستعجل الزلل

غم الفقير لا يكشفه إلا الموت. خفة الظهر أحد اليسارين. أصول الأسقام من فضول الطعام. طلاق الدنيا مهر الجنة. من عز النفس إيثار القناعة. التواضع بالغنى أجمل، والكبر بالفقير أسمج. من استعان بغير الله لم يزل مخذولاً. من لم يقبل من الدهر ما آتاه طال عتبه على الدهر. عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله. العجز والتواني ينتجان الفاقة. إن صبرت صبر الأحرار، وإلا سلوت سلو الأغمار. العلم بالعمل ينمو. معاشرة الإخوان تجلو البصر، وتطرد الفكر. لا توحشك الغربة ما أنست بالكفاية، فإن الفقر أوحش من الغربة. الغنى أنسٌ في غير الوطن. الغني في الغربة موصول، والفقير في الأهل مصروم. أوحش قرينك إذا كان في إيحاشه أنسك. إذا أيسرت فكل أهلٍ أهلك، وإن أعسرت فأنت غريبٌ في قومك. من أخلاق الصبيان، إلف الأوطان، والحنين إلى الإخوان. من لم يأنف، لم يشرف. خير المودة ما لم تكن حذار عادية، ولا رجاء فائدة. من حمل الأمور على القضاء استراح في الإقبال والإدبار حتى ينتهيا. لو استحسن الناس ما أمر به العقل استقبحوا ما نهى عنه العقل. أقدر الناس على الجواب من لا يغضب. الكلام في وقت السكوت عي، والسكوت في وقت الكلام خرس. الهم يهدم البدن، وينغص العيش، ويقرب الأجل. الموت رقيبٌ غير غافل. المرء نهب الحوادث. إذا تم العقل نقص الكلام. هب ما أنكرت لما عرفت، واغفر ما أغضبك لما أرضاك. اليأس إحدى الراحتين. المطل أحد العذابين. الكظم مر، ولا يتجرعه إلا حر. الرأي لا يصلح إلا بالشركة، والملك لا يصلح إلا بالتفرد. من كبر عنصره، حسن محضره.

ولرب مطمعةٍ تعود رياحا

والحمد لا يشترى إلا بأثمان

ولكن نكء القرح بالقرح أوجع

من أزهر بقول، حقيقٌ أن يثمر بفعل. السلام أرخى للبال، وأبقى لنفوس الرجال. حسبك من عقلك ما أوضح غيك من رشدك. التسويف بطاعة الله اغترار، وحياة المرء كالشيء المعار. من بذل بعض عنايته لك، فاجعل جميع شكرك له.

وللحر من مال الكريم نصيب

اليوم فعل، وغداً ثواب.

الخير مختارٌ شهي المطـلـب

 

والشر محذور كريهٌ مجتنـب

رب سكوتٍ من كـلامٍ أبـلـغ

 

ورب قول من عمـودٍ أدمـغ

من سلم الناس على لـسـانـه

 

أصبح منصوراً على سلطانـه

من القليل يجـمـع الـكـثـير

 

رب صغـير قـدره كـبـير

من باع ما يفنى بما يبقى غنـم

 

وآثر الدنيا على الأخـرى نـدم

قد يحرم الراجي ويعطى القانط

 

ويبعد الأدنى ويدنى الشـاحـط

من لم ينلك البر فـي حـياتـه

 

لم تبك عيناك علـى وفـاتـه

المال ما تنفق لا ما تجـمـعـه

 

والزرع ما تحصد لا ما تزرعه

يا رب هزلٍ كان منـه الـجـد

 

ورب مزحٍ كان منه الحـقـد

البحر مستغنٍ عن الـفـرات

 

 

فقال - أدام الله أيامه - هذا فنٌ موفٍ على الغاية.

الليلة السابعة العشرون

وقال - أدام الله أيامه - في ليلة أخرى: كنت أحب أن أسمع كلاماً في كنه الاتفاق وحقيقته، فإنه مما يحار العقل فيه، ويزل حزم الحازم معه، وأحب أيضاً أن أسمع حديثاً غريباً فيه؛ فكان من الجواب: إن الرواية في هذا الباب أكثر وأفشى من الاطلاع على سره، والظفر بمكنونه؛ فقال: هات ما يتعلق بالرواية. قلت: حكى لنا أبو سليمان في هذه الأيام أن ثيودسيوس ملك يونان كتب إلى كنتس الشاعر أن يزوده بما عنده من كتب فلسفية؛ فجمع ماله في عيبةٍ ضخمة، وارتحل قاصداً نحوه، فلقي في تلك البادية قوماً من قطاع الطريق، فطمعوا في ماله وهموا بقتله، فناشدهم الله ألا يقتلوه وأن يأخذوا ماله ويخلوه، فأبوا، فتحير ونظر يميناً وشمالاً يلتمس معيناً وناصراً فلم يجد، فرفع رأسه إلى السماء، ومد طرفه في الهواء، فرأى كراكي تطير في الجو محلقة، فصاح: أيتها الكراكي الطائرة، قد أعجزني المعين والناصر، فكوني الطالبة بدمي؛ والآخذة بثأري. فضحك اللصوص، وقال بعضهم لبعض: هذا أنقص الناس عقلاً، ومن لا عقل له لا جناح في قتله؛ ثم قتلوه وأخذوا ماله واقتسموه وعادوا إلى أماكنهم؛ فلما اتصل الحديث بأهل مدينته حزنوا وأعظموا ذلك، وتبعوا أثر قاتله واجتهدوا فلم يغنوا شيئاً ولم يقفوا على شيء؛ وحضر اليونانيون وأهل مدينته إلى هيكلهم لقراءة التسابيح والمذاكرة بالحكمة والعظة، وحضر الناس من كل قطر وأوب، وجاء القتلة واختلطوا بالجمع، وجلسوا عند بعض أساطين الهيكل، فهم على ذلك إذ مرت بهم كراكي تتناغى وتصيح، فرفع اللصوص أعينهم ووجوههم إلى الهواء ينظرون ما فيه فإذا كراكي تصيح وتطير، وتسد الجو؛ فتضاحكوا، وقال بعضهم لبعض: هؤلاء طالبو دم كنتس الجاهل - على طريق الاستهزاء - فسمع كلامهم بعض من كان قريباً منهم فأخبر السلطان فأخذهم وشدد عليهم، وطالبهم فأقروا بقتله، فقتلهم؛ فكانت الكراكي المطالبة بدمه، لو كانوا يعقلون أن الطالب لهم بالمرصاد.
وقال لنا أبو سليمان: إن كنتس وإن كان خاطب الكراكي فإنه أشار به إلى رب الكراكي وخالقها، ولم يطل الله دمه ولا سد عنه باب إجابته؛ فسبحانه كيف يهيىء الأسباب، ويفتح الأبواب، ويرفع الحجاب بعد الحجاب.
فقال: هذا عجب: قلت: قال لنا أبو سليمان: كل ما جهل سببه من ناحية الحس بالعادة، ومن ناحية الطبيعة بالإمكان، ومن ناحية النفس بالتهيئة، ومن ناحية العقل بالتجويز، ومن ناحية الإله بالتوفيق - فهو معجوبٌ منه، معجوزٌ عنه، مسلمٌ لمن له القدرة المحيطة، والمشيئة النافذة، والحكمة البالغة، والإحسان السابق.
ولقد حكى أبو الحسن الفرضي في أمر الاتفاق شيئاً ظريفاً عن بعض إخوانه قال: خرجنا إلى بعض المتنزهات ومعنا جرٌ نصيد به السماني، وكنا جماعة، فقال حدثٌ كان معنا - وكان أصغرنا سناً -: أنتم تصديون بجرٍ، وأنا أصيد بيدي؛ يقول ذلك على جهة المزح؛ فرمى بعد قليل فاتفق له أن أثار سماني، فأسرع إليه ونحن لا نعلم أنه أخذ شيئاً، فقلنا له على طريق العبث: احذر الخنزير - من غير أن نكون رأينا خنزيراً - فالتفت فزعاً وفر مولياً، فاتفق له أن رأى خنزيراً منه غير بعيد، فأقبل إلينا مسرعاً هارباً من الخنزير والسماني بيده وقد صاده.

وكنت في البادية في صفر سنة أربع وخمسين منصرفاً من الحج ومعي جماعةٌ من الصوفية، فلحقنا جهدٌ من عوز القوت وتعذر ما يمسك الروح في حديث طويل - إلا أنا وصلنا من زبالة - بالحيلة اللطيفة منا، والصنع الجميل من الله تعالى - إلى شيء من الدقيق؛ فانتشعت أنفسنا به، وغنمناه، ورأيناه نفحةً من نفحات الله تعالى الكريم؛ فجعلناه زادنا، وسرنا؛ فلما بلغنا المنزل قعدنا لنمارس ذلك الدقيق، ولقطنا البعر ودقاق الحطب، فلما أجمعنا على العجن والملك لم نجد الحراق - وكان عندنا أنه معنا، وأننا قد استظهرناه - فدخلتنا حيرة شديدة، وركبنا غمٌ غالب، وسففنا من ذلك الدقيق شيئاً، فما ساغ ولا قبلته الطبيعة، وبتنا ليلتنا طاوين ساهرين، قد علانا الكمد، وملكنا الوجوم والأسف؛ فقال بعضنا: هذا لما وجدنا الدقيق?! وأصبحنا وركبنا قد استرخت، وعيوننا قد غارت، وأحدنا لا يحدث صاحبه غماً وكرباً؛ وعدنا إلى ما كنا فيه قبل بزيادة حسرةٍ من النظر إلى الدقيق؛ وقال صاحبٌ لنا: نرمى بجراب الدقيق حتى نلقي حمله وثقله في طول هذا الطريق؛ فقلنا: ليس هذا بصواب، وما يضرنا أن يكون معنا، فلعلنا أن نرى ركباً أو نلقى حطباً. وكانت البادية خاليةً في ذلك الوقت، لرعبٍ لحق قوماً من بني كلاب من جهة أعدائهم، فلم يكن يجتاز بها في ذلك الوقت غريب. وبقينا كذلك إلى اليوم الثالث، ونحن نلاحق ونجاهد في المشي؛ فلما كان العصر من ذلك اليوم كنت أسير أمام القوم أجرئهم وأسألهم، وكنت كالحاطب لهم: إذا عثرنا بحراقٍ وظفرنا بفتيلة؛ فوجدوا خرقةً ملفوفة فيها حراق، فهللوا وكبروا، ورفعوا أصواتهم؛ فقلت كالمتعجب: ما الخبر? قالوا: البشرى؛ قلت: وما ذاك? قالوا: هذه خرقة ملئت حراقاً، فلا تسل عما دهانا من الفرح والاستبشار؛ وثاب إلينا من السرور والارتياح، وزال عنا من الانخزال والانكسار، وقعدنا في مكاننا ذلك، ولقطنا البعر، وأثرنا الوقود، وأججنا ناراً عظيمة، وملكنا الدقيق كله ملكةً واحدةً وكان أربعين رطلاً، وكان ذلك بلاغنا إلى القادسية؛ فلما دنونا منها تلقانا بشر من أهلها، وقالوا لنا: كيف سلمتم في هذه الطريق مع العوز والخوف? فقلنا: لطف الله يقرب كل بعيد، ويسهل كل شديد، ويصنع للضعيف حتى يتعجب القوي.
وليس أحدٌ من خلق الله يجحد هذا القول، وينكر هذا الفضل، ويرجع إلى دينٍ وثيقٍ أو واهٍ "إن الله لذو فضلٍ على الناس".
 وحدثني أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني القاضي صاحب المذهب قال: اصطحب رجلان في بعض الطرق مسافرين: مجوسيٌ من أهل الري، والآخر يهوديٌ من أرض جى؛ وكان المجوسي راكباً بغلة له عليها سفرة من الزاد والنفقة وغير ذلك، وهو يسير مرفهاً وادعاً، واليهودي يمشي بلا زادٍ ولا نفقة؛ فبينا هما يتحادثان إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك وعقيدتك يا فلان? قال اليهودي: أعتقد أن في هذه السماء إلهاً هو إله بني إسرائيل، وأنا أعبده وأقدسه وأضرع إليه، وأطلب فضل ما عنده من الرزق الواسع والعمر الطويل، مع صحة البدن، والسلامة من كل آفة، والنصرة على عدوي، وأسأله الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، فلا أعبأ بمن يخالفني، بل أعتقد أن من يخالفني دمه لي يحل، وحرام علي نصرته ونصيحته والرحمة به. ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك بمذهبي وعقيدتي وما اشتمل عليه ضميري، فخبرني أنت أيضاً عن شأنك وعقيدتك وما تدين به ربك? فقال المجوسي: أما عقيدتي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي وأبناء جنسي، ولا أريد لأحدٍ من عباد الله سوءاً، ولا أتمنى له ضراً، لا لموافقي، ولا لمخالفي. فقال اليهودي: وإن ظلمك وتعدى عليك? قال: نعم، لأني أعلم أن في هذه السماء إلهاً خبيراً عالماً حكيماً لا تخفى عليه خافيةٌ من شيء، وهو يجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. فقال اليهودي: يا فلان، لست أراك تنصر مذهبك وتحقق رأيك. قال المجوسي: كيف ذاك? قال: لأني من أبناء جنسك، وبشرٌ مثلك، وتراني أمشي جائعاً نصباً مجهوداً، وأنت راكبٌ وادعٌ مرفهٌ شبعان. فقال: صدقت، وماذا تبغي? قال: أطعمني من زادك، واحملني ساعةً، فقد كللت وضعفت. قال: نعم وكرامة. فنزل ومد من سفرته وأطعمه وأشبعه، ثم أركبه، ومشى ساعة يحدثه؛ فلما ملك اليهودي البغلة وعلم أن المجوسي قد أعيا، حرك البغلة وسبقه، وجعل المجوسي يمشي ولا يلحقه، فناداه: يا فلان، قف لي وانزل، فقد انحسرت وانبهرت. فقال اليهودي: ألم أخبرك عن مذهبي وخبرتني عن مذهبك، ونصرته وحققته? فأنا أريد أيضاً أن أحقق مذهبي، وأنصر رأيي واعتقادي. وجعل يحرك البغلة، والمجوسي يقفوه على ظلع وينادي: قف يا هذا واحملني، ولا تتركني في هذا الموضع فيأكلني السبع وأموت ضياعاً، وارحمني كما رحمتك. واليهودي لا يلوي على ندائه واستغاثته، حتى غاب عن بصره؛ فلما يئس المجوسي منه وأشفى على الهلكة، ذكر اعتقاده وما وصف به ربه، فرفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي قد علمت أني اعتقدت مذهباً ونصرته، ووصفتك بما أنت أهله، وقد سمعت وعلمت، فحقق عند هذا الباغي علي ما مجدتك به، ليعلم حقيقة ما قلت. فما مشى المجوسي إلا قليلاً حتى رأى اليهودي وقد رمت به البغلة، واندقت عنقه، وهي واقفةٌ ناحيةً منه تنتظر صاحبها؛ فلما أدرك المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهودي معالجاً لكرب الموت؛ فناداه اليهودي: يا فلان، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية أهلك جوعاً وعطشاً، وانصر مذهبك، وحقق اعتقادك. قال المجوسي: قد فعلت ذلك مرتين، ولكنك لم تفهم ما قلت لك ولم تعقل ما وصفت. فقال اليهودي: وكيف ذلك? قال: لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني في قولي، حتى حققته بفعلي، وذاك أني قلت: إن في هذه السماء إلهاً خبيراً عادلاً لا يخفي عليه شيء، وهو ولي جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. قال اليهودي: قد فهمت ما قلت، وعلمت ما وصفت. قال المجوسي: فما الذي منعك من أن تتعظ بما سمعت? قال اليهودي: اعتقادٌ نشأت عليه، ومذهبٌ تربيت به، وصار مألوفاً معتاداً كالجبلة بطول الدأب فيه، واستعمال أبنيته، اقتداءً بالآباء والأجداد والمعلمين من أهل ديني ومن أهل مذهبي، وقد صار ذلك كالأس الثابت، والأصل النابت؛ ويصعب ما هذا وصفه أن يترك ويرفض ويزال. فرحمه المجوسي، وحمله معه حتى وافى المدينة، وسلمه إلى أوليائه محطماً موجعاً، وحدث الناس بحديثه وقصته، فكانوا يتعجبون من شأنهما زماناً طويلاً.
وقال بعض الناس للمجوسي بعد: كيف رحمته بعد خيانته لك، وبعد إحسانك إليه? قال المجوسي: اعتذر بحاله التي نشأ فيها، ودأب عمره في اعتقادها، وسعى لها واعتادها؛ وعلمت أن هذا شديد الزوال عنه، وصدقته ورحمته، وهذا مني شكرٌ على صنع الله بي حين دعوته عندما ذهاني منه، وبالرحمة الأولى أعانني ربي، وبالرحمة الثانية شكرته على ما صنع بي.

هذا كله سردناه لسبب الأمر الذي يبدو من غير جنان، والعارض الذي يبرز من غير توهم.
وأبو سليمان يقول: الأمور مقسومةٌ على الحدود الطبيعية والقوى النفسية والبسائط العقلية والغرائب الإلهية؛ فبالواجب، ما كان ها هنا مألوفٌ له نسبةٌ إلى الطبيعة، ونادرٌ له نسبةٌ إلى النفس، وبديعٌ له نسبةٌ إلى العقل، وغريبٌ له نسبةٌ إلى الإله؛ والفلتات في الأحوال من هذا القبيل، أعني ما يتخلل هذه المراتب.
فقال له البخاري: أيقال لما يصدر عن الإله فلتة? قال: بحسب مصيره إلينا، ووصوله إلى عالمنا، لا بحسب صدوره عن الباري، فليس هناك هذا ولا ما يشبهه، لأن هذه السمات لحقت المركبات، من الأوائل المزدوجات، والثواني المكررات، والثوالث المحققات، والروابع المتممات، والخوامس المدبرات، والسوادس المضاعفات، والسوابع الظاهرات، والثوامن المعقبات، والتواسع العاليات، والعواشر الكاملات؛ وما بعد العواشر داخلٌ في المكررات.
قال له البخاري مستزيداً: أكان التوفيق من الاتفاق? فقال: هما يتوحدان من وجه، ويفترقان من وجه؛ فوجه توحدهما أن الاتفاق وليد التوفيق، والتوفيق غاية الاتفاق؛ ووجه افتراقهما أن الاتفاق يبرز إلى الحس، وأصحابه يشتركون في التعجب منه، والاستطراف له؛ والتوفيق يستتر عن الحس؛ ولهذا لا تسلك مساكله. وأما الوفاق والموافقة والتوفيق والاتفاق فمتلابسة المعاني؛ ولما لم يكن بين المعنى والمعنى مسافةٌ محصلةٌ حسب هذا في حيز هذا، وعد هذا في جملة هذا.
وقال - أبقاه الله وأدام أيامه -: ما اليمن والبركة? والفأل والطيرة وأضدادها? فكان الجواب: إن اليمن عبارةٌ عن شر يبشر به ويبتغي ويراد؛ ويقال: فلانٌ ميمون الناصية، وميسور الناصية؛ أي هو سببٌ ظاهرٌ في نيل مأمول وإدراك محبوب؛ واشتقاقه من اليمين، وهو القوة؛ ولذلك يقال لليسار: شمالٌ، لأنها أضعف منها، وتسمى أيضاً: الشومي. ويقال: يمن فلانٌ عليهم، وشؤم، وهو ميمونٌ ومشؤم؛ جعل الفعل على طريق ما لم يسم فاعله، لأنه شيءٌ موصولٌ به من غير إرادته واختياره. وإنما نزعوا إلى قولهم: فلان مشؤم ليكون الفعل واقعاً به - أعني المكروه - وإلا فهو شائمٌ في الأصل. ويقال: شأم فلانٌ قومه، وكذلك يمنهم؛ وكأنهما قوتان علويتان تصحبان مزاجين مختلفين، وإذا اعتيد منهما هذان العرضان اللذان يصدران عن هاتين القوتين العلويتين، قيل: فلان كذا، وفلانٌ كذا.
وأما البركة فهي النماء والزيادة والرفع، من حيث لا يوجد بالحس ظاهراً مكشوفاً يشار إليه، فإذا عهد من الشيء هذا المعنى خافياً عن الحس قيل: هذه بركة، واشتقاقها من البروك، وهو اللزوم والسعة؛ ومن ذلك: البركة. والبركة يوصف بها كل شيء، وليس لضدها اسمٌ مشهور، لذلك يقال: قليل البركة.
وأما الفأل ففسر بأنه جريان الذكر الجميل على اللسان معزولاً عن القصد، إما من القائل، وإما من السامع. وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة على أبي أيوب الأنصاري أبا أيوب يقول لغلامً له: يا سالم يا غانم. فقال لأبي بكر: "سلمت لنا الدار في غنم إن شاء الله". وهذا مشهورٌ بين الناس.
وضده الطيرة والإشعار. ويروى أنه نهي عن الطيرة، وكان يحب الفأل صلى الله عليه وسلم، وليس لهما عللٌ راتبة، ولا أسباب موجبة، ولا أوائل معروفة؛ ولهذا كره الإفراط في التطير والتعويل على الفأل، لأنهما أمران يصحان ويبطلان، والأقل منهما لا يميز من الأكثر؛ وللمزاج من الإنسان فيهما أثرٌ غالب، والعادة أيضاً تعين، والولوع يزيد، والتحفظ مما هذا شأنه شديد. ولقد غلب هذا حتى قيل: فلانٌ مدور الكعب، وفلانٌ مشئوم؛ وحتى تعدى هذا إلى الدابة والدار والعبد؛ وكل هذا ظهر في هذه الدار حتى لا يكون للعبد طمأنينة إلا بالله، ولا سكونٌ إلا مع الله، ولا مطلوبٌ إلا من الله؛ ولهذا - عز وجل - يطلع الخوف من ثنية الأمن، ويسوق الأمن من ناحية الخوف، ويبعث النصر وقد وقع اليأس، ويأتي بالفرج وقد اشتد البأس. وأفعال الله تعالى خفية المطالع، جلية المواقع، مطوية المنافع؛ لأنها تسري بين الغيب الإلهي؛ والعيان الإنسي، وكل ذلك ليصح التوكل عليه، والتسليم له، واللياذ به، ويعرج على كنف ملكه، ويتبوأ معان خلده، وينال ما عنده بطاعته وعبادته.

فقال الوزير - كبت الله أعداه، وبلغه مناه -: هذا كلامٌ ليس عليه كلام، أرى النعاس يخطب إلى عيني حاجته، وإذا شئت فاجمع لي فقراً من هذا الضرب الذي مر من حديث الطيرة والفأل والاتفاق.

الليلة الثامنة والعشرون

وعدت ليلةً أخرى وقرأت عليه أشياء من هذا الفن.
منها: عقد هشام بن عبد الملك لسعيد بن عمرو الجرشي أيام الترك، فقال سعيد: يا فتح، يا نصر، خذ اللواء. فقال هشام: أعمداً قلت هذا? قال: لا، ولكنهما غلاماي دعوتهما. قال هشام: هو الفتح والنصر إن شاء الله. وكان ذلك كذاك.
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعرض، فمر به حية بن نكاز، فقال: لا حاجة لنا في هذا حية وأبوه ينكز.
ورمى رجلٌ الجمار، فأصاب صلعة عمر بحصاةٍ فشجه. فقال رجل: أشعرت يا أمير المؤمنين لا يقوم عمر هذا المقام أبداً. فكان ذلك كذلك.
وخرج رجل ينظر الحسن بن علي فلقي رجلاً، فقال له: ما اسمك? قال: عقال. قال: ابن من? قال ابن عقيل. قال: من بني من? قال: من بني عقيل. قال عقلته عقلك الله.
هذا الجزء أيها الشيخ - أبقاك الله ما تمنيت البقاء - هو الجزء الثاني، والثالث يتلوه، والظن الجميل بك، يعدنا بالحسنى منك، وقد علمت الغرض في جمع هذا كله والتعب فيه، وأرجو ألا يخيب الأمل، ولا يبور العمل، وإن كان ذلك لا يخلو من بعض الخلل والزلل. فإذا أخذت بحكم الفضل الذي هو عادتك وديدنك مع الصغير والكبير، والقريب والبعيد، فاز قدحي، وصدق نوئي، وصح زجري وفألي. حرس الله نفسك، وصان نعمتك، وكبت كل عدوٍ لك.

الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الشيخ وصل الله قولك بالصواب، وفعلك بالتوفيق، وجعل أحوالك كلها منظومةً بالصلاح، راجعةً إلى حميد العاقبة، متألفةً بشوارد السرور، ووفر حظك من المدح والثناء، فإنهما ألذ من الشهد والسلوى، ومد في عمرك لكسب الخير، واستدامة النعمة بالشكر؛ وجعل تلذذك باصطناع المعروف، وعرفك عواقب الإحسان إلى المستحق وغير المستحق، حتى تكلف ببث الجميل، وتشغف بنشر الأيادي، وحتى تجد طعم الثناء، وتطرب عليه طرب النشوان على بديع الغناء. لا طرب البرداني على غناء علوة جارية ابن علويه في درب السلق إذا رفعت عقيرتها فغنت بأبيات السروى:

بالورد في وجنتيك من لطـمـك

 

ومن سقاك المدام لم ظلـمـك?

خلاك لا تستفيق مـن سـكـرٍ

 

توسع شتماً وجفـوة خـدمـك

معقرب الصدغ قد ثملت فـمـا

 

يمنع من لئم عاشقيك فـمـك?

تجر فضل الإزار منحرق النعلين

 

قد لـوث الـثـرى قـدمــك

أظل من حـيرةٍ ومـن دهـشٍ

 

أقول لما رأيت مبـتـسـمـك

بالله يا أقحـوان مـضـحـكـه

 

على قضيب العقيق من نظمك?

ولا طرب ابن فهم الصوفي على غناء "نهاية" جارية ابن المغني إذا اندفعت بشدوها:

أستودع الله في بغداد لي قمـراً

 

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودعته وبـودي لـو يودعـنـي

 

صفو الحياة وأنـي لا أودعـه

فإنه إذا سمع هذا منها ضرب بنفسه الأرض، وتمرغ في التراب وهاج وأزبد، وتعفر شعره؛ وهات من رجالك من يضبطه ويمسكه، ومن يجسر على الدنو منه، فإنه يعض بنابه، ويخمش بظفره، ويركل برجله ويخرق المرقعة قطعةً، ويلطم وجهه ألف لطمة في ساعة، ويخرج في العباءة كأنه عبد الرزاق المجنون صاحب الكيل في جيرانك بباب الطاق.
ولا طرب ابن غيلان في البزاز على ترجيعات بلور جارية ابن اليزيدي المؤلف بين الأكباد المحرقة، والمحسن إلى القلوب المتصدعة والعيون الباكية إذا غنت.

أعط الشبـاب نـصـيبـه

 

مادمت تعذر بالـشـبـاب

وانعـم بـأيام الـصـبـى

 

واخلع عذارك في التصابي

فإنه إذا سمع هذا منها انقلبت حماليق عينيه، وسقط مغشياً عليه، وهات الكافور وماء الورد، ومن يقرأ في أذنه آية الكرسي والمعوذتين، ويرقى بهيا شراهيا.
ولا طرب أبي الوزير الصوفي القاطن في دار القطن عند جامع المدينة على قلم القضيبية إذا تناوأت في استهلالها، وتضاجرت على ضجرتها، وتذكرت شجوها الذي قد أضناها وأنضاها، وسلبها منها وأنساها إياها. ثم اندفعت وغنت بصوتها المعروف بها.

أقول لها والصبح قـد لاح نـوره

 

كما لاح ضوء البارق المتـألـق

شبيهك قد وافى وحان افتراقـنـا

 

فهل لك في صوتٍ ورطلٍ مروق

فقالت حياتي في الذي قد ذكرتـه

 

وإن كنت قد نغصته بالـتـفـرق

ولا طرب الجراحي أبي الحسن مع قضائه في الكرخ وردائه المحشي، وكميه المفدرين ووجنتيه المتخلجتين، وكلامه الفخم، وإطراقه الدائم؛ فإنه يغمز بالحاجب إذا رأى مرطاً، وأمل أن يقبل خداً وقرطاً؛ على غناء شعلة:

لابد للمشتاق من ذكر الوطـن

 

واليأس والسلوة من بعد الحزن

وقيامته تقوم إذا سمعها ترجع في لحنها

لو أن ما تبتليني الـحـادثـات بـه

 

يلقى على الماء لم يشرب من الكدر

فهناك ترى شيبةً قد ابتلت بالدموع، وفؤاداً قد نزا إلى اللهاة، مع أسفٍ قد ثقب القلب، وأوهن الروح، وجاب الصخر، وأذاب الحديد، وهناك ترى والله أحداق الحاضرين باهتة، ودموعهم متحدرة، وشهيقهم قد علا رحمةً له، ورقةً عليه، ومساعدةً لحاله، وهذه صورةٌ إذا استولت على أهل مجلس وجدت لها عدوى لا تملك، وغايةً لا تدرك، لأنه قلما يخلو إنسانٌ من صبوة أو صبابة، أو حسرةٍ على فائت، أو فكرٍ في متمني، أو خوفٍ من قطيعة، أو رجاء لمنتظر، أو حزنٍ على حالٍ، وهذه أحوالٌ معروفة، والناس منها على جديلةٍ معهودة.
ولا طرب ابن غسان البصري المتطبب إذا سمع ابن الرفاء يغني:

وحياة من أهوى فإني لم أكن

 

أبداً لأحلف كاذباً بحياتـهـا

لأحالفن عواذلي في لذتـي

 

ولأسعدن أخي على لذاتـه

وابن غسان هذا مليح الأدب، وهو الذي يقول في ابن نصرٍ العامل - وقد عالجه من علة فلم يتفقده ولم يقض حقه -:

هب الشعراء تعطيهم رقاعاً

 

مزورةً كلاماً عـن كـلام

فلم صلة الطبيب تكون زوراً

 

وقد أهدى الشفاء من السقام

عجبت لمن نمته أرض لـؤم

 

وبخلٍ لم يعد من الـكـرام

نسبت إلى المساجة لا لشيءٍ

 

سوى نقصان لؤمك في اللئام

غنى بها أنه من أصبهان، وكان آخر حديث ابن غسان ما عرفته، فإن غرق نفسه في كرداب كلواذي، وذلك لأسباب تجمعت عليه من صفر اليد، وسوء الحال، وجربٍ أكل بدنه، وعشقٍ أحرق كبده على غلام الآمدي الحلاوي بباب الطاق، وحيرة عزب معها عقله، وخذله رأيه، وملكه حينه، ونسأل الله حسن العقبى بدرك المنى، وليس للإنسان من أمره شيء، وما هو آئضٌ إليه فهو مملوكٌ عليه، يصرفه فيما يصرف فيظن أنه أتى من قبله، ولعمري من غلط غلط، ومن غولط غالط، والكلام في هذا غاشٌ والإغراق فيه موسوس، والإعراض عنه أجلب للأنس، وما أحسن ما قال القائل:

إذا استعفيت من أسر الليالـي

 

تصرفني فأسري في خلاصي

ولولا طيش القلم وتسحب الخاطر، وشرود الرأي، ما عثرت بهذا الموضع ولا علقت بهذا الحبل، نعم.
ولا طرب ابن نباتة الشاعر على صوت الخاطف إذا غنت.

تلتهب الكف من تلهبهـا

 

وتحسر العين إن تقصاها

كأن ناراً بهـا مـحـرثةً

 

تهابها مرةً وتغشـاهـا

نأخذها تارةً وتـأخـذنـا

 

فنحن فرسانها وصرعاها

ولا طرب ابن العوذي إذا سمع غناء ترف الصابئة في صوتها، عند نشاطها ومرحها، وهواها حاضر، وطرفها إليه ناظر:

لب الهوى كلما دعـاكـا

 

ولاح في الحب من لحاكا

من لام في الحب أو نهاكا

 

فزده في غيك انهمـاكـا

إن لم تكن في الهوى كذاكا

 

نال لـذاتـه سـواكــا

ولا طرب المعلم غلام الحصري شيخ الصوفية إذا سمع ابن بهلولٍ يغني في رحبة المسجد بعد الجمعة وقد خف الزحام:

وقال لي العذول تسل عنهـا

 

فقلت له: أتدري ما تقـول?

هي النفس التي لابد منـهـا

 

فكيف أزول عنها أو أحول?

ولا طرب ابن الغازي على جارية العمى في مجلسها الغاص بنبلاء الناس بين السورين

يلحى، ولو أرقـه مـيعـاد

 

أو راعه الإعراض والإبعاد

أو هرة الأعداء والحـسـاد

 

أو سلقته الألسن الـحـداد

ما لام من ليس لـه فـؤاد

 

 

ولا طرب ابن صبر القاضي قبل القضاء على غناء درة جارية أبي بكر الجراحي في درب الزعفراني التي لاتقعد في السنة إلا في رجب، إذا غنت:

لست أنسى تلك الـزيارة لـمـا

 

طرقتنا وأقبـلـت تـتـثـنـى

طرقت ظبية الـرصـافة لـيلاً

 

فهي أحلى من جس عوداً وغنى

كم ليالٍ بتنـا نـلـذ ونـلـهـو

 

ونسقي شرابـنـا ونـغـنـى

هجرتنا فمـا إلـيهـا سـبـيلٌ

 

غير أنا نقول: كانـت وكـنـا

وإذا بلغت كانت وكنا رأيت الجيب مشقوقاً، والذيل مخروقاً، والدمع منهملا، والبال منخذلاً، ومكتوم السر في الهوى بادياً، ودليل العشق على صاحبه منادياً.
ولا طرب ابن حجاج الشاعر على غناء قنوة البصرية، وهي جارته وعشيقته، وله معها أحاديث، ومع زوجها أعاجيب؛ وهناك مكايدات، ورميٌ ومعايرات، وإفشاء نكات؛ إذا أنشدت:

يا ليتنيأحيا بقـربـهـمـو

 

فإذا فقدتهم انقضى عمري

ثم ثنت بصوتها الآخر:

هبيني امرأً إما بريئاً ظلمته

 

وإما مسيئاً تاب بعد فأعتبا

فكنت كذي داء تبغي لدائه

 

طبيباً فلما لم يجده تطببـا

ولا طرب ابن معروف قاضي القضاة على غناء علية إذا رجعت لحنها في حلقها الحلو الشجي بشعر ابن أبي ربيعة:

أنيري مكان البـدر إن أفـل الـبـدر

 

وقومي مقام الشمس ما استأخر الفجر

ففيك من الشمس المنـيرة نـورهـا

 

وليس لها منك المحاجر والـثـغـر

ولا طرب ابن إسحاق الطبري على صوت درة البصرية إذا غنت:

يا ذا الذي زار وما زارا

 

كأنه مقـتـبـسٌ نـارا

قام بباب الدار من زهوه

 

ما ضره لو دخل الدارا

لو دخل الدار فكلمـتـه

 

بحاجتي ما دخل النـارا

نفسي فداه اليوم من زائرٍ

 

ما حل حتى قيل قد سارا

ولا طرب ابن الأزرق الجرجرائي على غناء سندس جارية ابن يوسف صاحب ديوان السواد إذا تشاجت وتدللت، وتفتلت وتقتلت، وتكسرت وتيسرت، وقالت: أنا والله كسلانة مشغولة القلب بين أحلام أراها رديئةً، وبختٍ إذا استوى التوى، وأملٍ إذا ظهر عثر؛ ثم اندفعت وغنت:

مجلس صبين عمـيدين

 

ليسا من الحب بخلـوين

قد صيرا روحيهما واحداً

 

واقتسماه بين جسمـين

تنازعا كأساً علـى لـذةٍ

 

قد مزجاها بين دمعـين

الكأس لا تحسـن إلا إذا

 

أدرتها بين مـحـبـين

ولا طرب ابن سمعون الصوفي على ابن بهلول إذا أخذ القضيب وأوقع ببنانه الرخص، ثم زلزل الدنيا بصوته الناعم، وغنته الرخيمة، وإشارته الخالبة، وحركته المدغدغة، وظرفه البارع، ودماثته الحلوة، وغنى:

ولو طاب لي غرسٌ لطابت ثمـاره

 

ولو صح لي غيبي لصحت شهادتي

تزهدت في الدنيا وإني لـراغـبٌ

 

أرى رغبتي ممزوجةً بزهـادتـي

أيا نفس ما الدنيا بأهلٍ لـحـبـهـا

 

دعيها لأقوامٍ عـلـيهـا تـعـادت

ولا طرب ابن حيويه على غلام الأمراء إذا غنى:

قد أشهد الشارب المعذل لا

 

معروفه منكرٌ ولا حصر

في فتيةٍ لينى المـآزر لا

 

ينسون أخلاقهم إذا سكروا

وغلام الأمراء هو الذي يقول فيه القائل:

أبو العباس قد حج

 

وقد عاد وقد غنى

وقد علق عنـازاً

 

فهذا هم كما كنا

وأصحابنا يستملحون قوله هم ها هنا، ويرونه من العي الفصيح.
ولا طرب أبي سليمان المنطقي إذا سمع غناء هذا الصبي الموصلي النابغ الذ قد فتن الناس وملأ الدنيا عيارةً وخسارةً، وافتضح به أصحاب النسك والوقار، وأصناف الناس من الصغار والكبار، بوجهه الحسن، وثغره المبتسم، وحديثه الساحر، وطرفه الفاتر، وقده المديد، ولفظه الحلو، ودله الخلوب، وتمنعه المطمع، وإطماعه الممنع وتشكيكه في الوصل والهجر، وخلطه الإباء بالإجابة، ووقوفه بين لا ونعم. إن صرحت له كنى، وإن كنيت له صرح؛ يسرقك منك، ويردك عليك، يعرفك منكراً لك، وينكرك عارفاً بك؛ فحاله حالات، وهدايته ضلالات، وهو فتنة الحاضر والبادي، ومنية السائق والهادي؛ في صوته الذي هو من قلائده:

عرفت الذي بي فلا تلحني

 

فليس أخو الجهل كالعالم

وكنت أخوفه بـالـدعـا

 

وأخشى عليه من الماثـم

فلو كنت أبصرت مثلاً له

 

إذا لمت نفسي مع اللائم

فلما أقام على ظـلـمـه

 

تركت الدعاء على الظالم

ولا طرب ابن عبد الله البصري على إيقاع ابن العصبي إذا أوقع بقضيبه وغنى بصوته:

أنسيت الوصل إذ بت

 

نا على مرقـد ورد

واعتنقنا كـوشـاحٍ

 

وانتظمنا نظم عقـد

وتعطفنا كغصنـين

 

فقـدانـاً كـقــد

وبسبب هذا ونظائره عابه الواسطي، وقدح في دينه، وألصق به الريبة، واستحل في عرضه الغيبة، ولقبه بالمنفر عن المذهب، وقاطع الطريق على المسترشد.
ولا طرب ابن الوراق على روعة جارة ابن الرضي في الرصافة إذا غنت:

وحق محل ذكرك من لساني

 

وقلبي حين أخلو بالأمانـي

لقد أصبحت أغبط كل عينٍ

 

تعانيها فتسعد بـالـعـيان

ولا طرب السندواني على ابن الكرخي إذا غنى:

هجرتني ثم لا كلمـتـنـي أبـداً

 

إن كنت خنتك في حال من الحال

فلا انتجيت نجيا في خيانـتـكـم

 

ولا جرت خطرةٌ منه على بـال

فسوغيني المنى كيما أعيش بهـا

 

ثم احبسي البذل ما أطلقت آمالي

أو ابعثي تلفاً إن كنت قاتـلـتـي

 

إلي منك بإحـسـانٍ وإجـمـال

ولا طرب الحريري الشاهد على حلية جارية أبي عائذ الكرخي إذا أخذت في هزارها، واشتعلت بنارها وغنت:

قالت بثـينة لـمـا جـئت زائرهـا

 

سبحان خالقنا مـا كـان أوفـاكـا

وعدتنا موعداً تأتي لـنـا عـجـلاً

 

وقد مضى الحول عنا ما رأينـاكـا

إن كنت ذا غرضٍ أو كنت ذا مرضٍ

 

أو كنت ذا خلةٍ أخرى عذرنـاكـا

ولا طرب أبي سعيد الصائغ على جاريته ظلوم إذا قلبت لحنها إلى حلقها واستنزلته من الرأس، ثم أوقعت فغنت:

فيالك نظرةً أودت بعقلـي

 

وغادر سهمها مني جريحا

فليت مليكتي جادت بأخرى

 

وأعلم أنها تنكا القروحـا

فإما أن يكن بها شـفـائي

 

وإما أن أموت فأستريحـا

ولا طرب الزهري على خلوب جارية أبي أيوب القطان إذا أهلت واستهلت، ثم اندفعت وغنت:

إذا أردت سلواً كان نـاصـركـم

 

قلبي وما أنا من قلبي بمنتـصـر

فأكثروا أو أقلوا من إسـاءتـكـم

 

فكل ذلك محمولٌ على الـقـدر

وضعت خدي لأدنى من يطيف بكم

 

حتى احتقرت وما مثلي بمحتقـر

وأبو عبد الله المرزباني شيخنا إذا سمع هذا جن واستغاث، وشق الجيب وحولق وقال: يا قوم أما ترون إلى العباس بن الأحنف، ما يكفيه أن يفجر حتى يكفر? متى كانت القبائح والفضائح والعيوب والذنوب محمولةً على القدر? ومتى قدر الله هذه الأشياء وقد نهى عنها، ولو قدرها كان قد رضي بها، ولو رضي بها لما عاقب عليها، لعن الله الغزل إذا شيب بمجانة، والمجانة إذا قرنت بما يقدح في الديانة. ورأيت أبا صالح الهاشمي يقول له: هون عليك يا شيخ، فليس هذا كله على ما تظن، القدر يأتي على كل شيء، ويتعلق بكل شيء، ويجري بكل شيء، وهو سر الله المكتوم، كالعلم الذي يحيط بكل شيء؛ وكل ما جاز أن يحيط به علمٌ جاز أن يجري به قدر، وإذا جاز هذا جاز أن ينشره خبر، وما هذا التضايق والتحارج في هذا المكان، والشاعر يهزل ويجد؛ ويقرب ويبعد، ويصيب ويخطىء، ولا يؤاخذ بما يؤاخذ به الرجل الديان، والعالم ذو البيان.
ولا طرب ابن المهدي على جارية بنت خاقان المشهورة بعلوة إذا غنت:

أروع حين يأتيني الرسـول

 

وأكمد حين لا يأتي الرسول

أؤملكم وقد أيقـنـت أنـي

 

إلى تكذيب آمـالـي أؤول

ولا طرب أبي طاهر بن المقنعي المعدل على علوان غلام ابن عرس فإنه إذا حضر وألقى إزاره، وحل أزراره، وقال لأهل المجلس: اقترحوا واستفتحوا فإني ولدكم بل عبدكم لأخدمكم بغنائي، وأتقرب إليكم بولائي، وأساعدكم على رخصي وغلائي؛ من أرادني مرةً أردته مرات، ومن أحبني رياءً أحببته إخلاصاً، ومن بلغ بي بلغت به؛ لم أبخل عليكم بحسني وظرفي، ولم أنفس بهما عليكم، وإنما خلقت لكم، ولم أغاضبكم وأنا آملكم غداً إذا بقل وجهي، وتدلى سبالي، وولى جمالي، وتكسر خدي، وتعوج قدي، ما أصنع? حاجتي والله إليكم غداً أشد من حاجتكم إلي اليوم، لعن الله سوء الخلق، وعسر الطباع، وقلة الرعاية، واستسحان الغدر. فيمر في هذا وما أشبهه كلامٌ كثير، فلا يبقى من الجماعة أحدٌ إلا وينبض عرقه، ويهش فؤاده، ويذكو طعمه ويفكه قلبه، ويتحرك ساكنه، ويتدغدغ روحه، ويومىء إليه بقبلته، ويغمزه بطرفه، ويخصه بتحية، ويعده بعطية، ويقابله بمدحة، ويضمن له منحة، ويعوذه بلسانه، ويفضله على أقرانه، ويراه واحد أهل زمانه؛ فيرى ابن المقنعي وقد طار في الجو، وحلق في السكاك، ولقط بأنامله النجوم؛ وأقبل على الجماعة بفرح الهشاشة، ومرح البشاشة، فيقول: كيف ترون اختياري وأين فراستي من فراسة غيري، أبى الله لي إلا ما يزينني، ولا يشينني، ويزيد في جمالي، ولا ينقص من حالي؛ ويقر عيني ولبي، ويقصم ظهر عدوي؛ هات يا غلام ذلك الثوب الدبيقي وذلك البرد الشطوي، وذلك الفروج الرومي، وتلك السكة المطيبة، والبخور المدخر في الحقة، وهات الدينار الذي فيه مائة مثقالٍ أهداه لنا أمس أبو العلاء الصيرفي فإنه يكفيه لنفقة أسبوع؛ ما أحسن سكته، وأحلى نقشه! ما رأيت في حسن استدارته شبهاً، وعجل لنا يا غلام ما أدرك عند الطباخ، من الدجاج والفراخ؛ والبوارد والجوزيات وتزايين المائدة؛ وصل ذلك بشراه أقراطٍ وجبنٍ وزيتون من عند كبل البقال في الكرخ، وقطائف حبش، وفالوذج عمر، وفقاع زريق، ومخلط خراسان من عند أبي زنبور، ولو كنا نشرب لقلنا: وشراب صريفين من عند ابن سورين، ولكن إن إحببتم أن أحضر بسببكم ومن أجلكم فليس في الفتوة أن أمنعكم من أربكم بسبب ثقل روحي وقلة مساعدتي، لعن الله الشهادة، فقد حجتني عن كل شهوةٍ وإرادة؛ وما أعرف في العدالة، إلا فوت الطلبة والعلالة.
وما أحسن ما قال من قال:

ما العيش إلا في جنون الصبي

 

فإن تولى فجنـون الـمـدام

هذا كله يمر وما هو أشجى منه وأرق، وأعجب وأظرف، ثم يندفع علوان ويغنى في أبيات بشار:

ألا يا قوم خلوني وشانـي

 

فلست بتاركٍ حب الغواني

نهوني يا عبيدة عن هواكم

 

فلم أقبل مقالة من نهاني

فإن لم تسعفي فعدي ومني

 

خداعاً لا أموت على بيان

ولا طرب أبي سعيد الرقي على غناء مذكورة إذا اندفعت وغنت:

سررت بهجرك لما علمـت

 

بأن لقلبـك فـيه سـرورا

ولولا سرورك ما سـرنـي

 

ولا كان قلبي عليه صبورا

ولكن أرى كل ما سـاءنـي

 

إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا

ولا طرب ابن مياس على غناء حبابة جارية أبي تمام إذا غنت:

صددنـا كـأنـا لا مـودة بـينـنـا

 

على أن طرف العين لابد فـاضـح

ومد إلينا الكاشـحـون عـيونـهـم

 

فلم يبد منا ما حوتـه الـجـوانـح

وصافحت من لاقيت في البيت غيرها

 

وكل الهوى مني لمن لا اصـافـح

وحبابة هذه كانت تنوح أيضاً، وكانت في النوح واحدةً لا أخت لها، والناس بالعراق تهالكوا على نوحها، ولولا أني أكره ذكره لرقعت الحديث به. وقدم من شاش خراسان أبو مسلم - وكان في مرتبة الأمراء - فاشتراها بثلاثين ألف درهم معزية، وخرج بها إلى المشرق، فقيل: إنها لم تعش به إلا دون سنةٍ لكمدٍ لحقها، وهوىً لها ببغداد ماتت منه.
ورأيت لها أختاً يقال لها صبابة، وكانت في الحسن والجمال فوقها، وفي الصنعة والحذق دونها، وزلزلت هذه بغداد في وقتها، ولم يكن للناس غير حديثها، لنوادرها، وحاضر جوابها، وحدة مزاجها، وسرعة حركتها، بغير طيش ولا إفراط، وهذه شمائل إذا اتفقت في الجواري الصانعات المحسنات خلبن العقول، وخنسن القلوب، وسعرن الصدور، وعجلن بعشاقهن إلى القبور.

ولا طرب الكناني المقري الشيخ الصالح على غناء هذه في صوتها المعروف بها:

عهود الصبى هاجت لي اليوم لوعةً

 

وذكر سليمى حين لا ينفع الذكـر

بأرضٍ بها كان الهوى غير عازبٍ

 

لدينا وغض العيش مهتصرٌ نضر

كأن لم نعش يوماً بأجـراع بـيشةٍ

 

بأرضٍ بها أنشأ شبيبتنـا الـدهـر

بلى إن هذا الدهر فرق بـينـنـا

 

وأي جميعٍ لا يفـرقـه الـدهـر

ولا طرب غلام بابا على جارية أبي طلحة الشاهد في سوق العطش إذا غنت:

ليت شعري بك هل تع

 

لم أني لـك عـانـي

فلقد أسـررتـه مـن

 

ك وأطلعت الأمانـي

وتوهمتك فـي نـف

 

سي فناجاك لسانـي

فاجتمعنا وافتـرقـنـا

 

بالأماني في مـكـان

ولو ذكرت هذه الأطراب من المستمعين، والأغاني من الرجال والصبيان والجواري والحرائر - لطال وأمل، وزاحمت كل من صنف كتاباً في الأغاني والألحان، وعهدي بهذا الحديث سنة ستين وثلاثمائة.
وقد أحصينا - ونحن جماعةٌ في الكرخ - أربعمائةٍ وستين جاريةً في الجانبين، ومائةً وعشرين حرة، وخمسةً وتسعين من الصبيان البدور، يجمعون من الحذق والحسن والظرف والعشرة، هذا سوى من كنا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزته وحرسه ورقبائه، وسوى ما كنا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط في وقت، أو ثمل في حال، وخلع العذار في هوىً قد حالفه وأضناه، وترنم وأوقع، وهز رأسه، وصعد أنفاسه، وأطرب جلاسه، واستكتمهم حاله، وكشف عندهم حجابه، وادعى الثقة بهم، والاستنامة إلى حفاظهم.
ثم إني أرجع إلى منقطع الكلام في الصفحة الأولى من هذا الجزء الثالث وأصله بالدعاء الذي اسأل الله أن يتقبله فيك، ويحققه لك وبك، وأقول: وأبقاك لي خاصةً، فقد تعصبت لي غائباً وشاهداً، وتعممت بسببي سراً وجهراً، وبدأت بالتفضل، وعدت بالإفضال، وتظاهرت بالفضل؛ فإن استزدتك فللنهم الذي قلما يخلو منه بشر، وإن تظلمت فللدالة التي تغلط بها الخدم، وإن خاشنت فللثقة بحسن الإجاب، وإن غالطت فلعلمي بغالب الحلم وفرط الاحتمال، وما افترق الكرم والتغافل قط، وما افترق المجد والكيس قط، وليس إلا أن يظلم السيد نفسه لعبده في الحقوق اللازمة وغير اللازمة، ويعرض عن الحجة وإن كانت له؛ والناس يقولون: الحق مر، وأنا أقول: السؤدد مر، والرئاسة ثقيلة، والنزول تحت الغبن شديد؛ لكن ذلك كله منبت العز، ودليلٌ على صحة الأصل، وبابٌ إلى اكتساب الحمد، وإشادة الذكر، وإبعاد الصيت؛ ومكرم النفس بإهانة المال وبذل الجاه وإيثار التواضع أربح تجارةً، وأحمى حريماً، وأعز ناصراً من مهين النفس بصيانة المال وحبس الجاه واستعمال التكبر؛ هذا ما لا يشك فيه أحد وإن أباه طباعه، ولم يساعده اختياره، وكان في طينه يبس، وفي منبته شوك، وفي عرقه خور، وفي خلقه تيه.
وقد رأيت ناساً من عظماء أهل الفضل والمروءة عابوا مذهب الرجل الذي ماكس في شيء تافهٍ يسير اشتراه، قيل له: أنت تهب أضعاف هذا، فما هذا المكاس?! فقال: هذا عقلي أبخل به، وتلك مروءتي أجود بها.
وأكثر الناس الذين لم يغوروا في التجارب، ولا أنجدوا في الحقائق، يرون هذا حكمةً تامة، وفضيلةً شريفة.
فأما الذين ذكرتهم في أول الحديث فإنهم قالوا: لا تتم المروءة وصاحبها ينظر في الدقيق الحقير، ويعيد القول ويبدئه في الشيء النزر الذي لا مرد له ظاهر، ولا جدوى حاضرة.
وذكروا أيضاً أن العقل أشرف من أن يذال في مثل هذه الحال، ويستخدم على هذا الوجه، قالا: هذا وما هو في بابه بالكيس أشبه، والكيس يحمد في الصبيان، وهو من مبادىء اللؤم، وفوائح صدأ الخلق، وقد قال الأول:

وقد يتغابى المرء عن عظم مالـه

 

ومن تحت برديه المغيرة أو عمرو

ولذلك يقال للحيوان الذي لا ينطق: هو كيس.
هذا والله الصدق، فإني سمعت بمكة أعرابياً يقول: ما أكيس هذا القط?!  

قالوا: ولذلك لا يقال للشيخ المجرب والحكيم البليغ والأصيل في الشرف والمشهور بالزماتة والسكينة: كيس. والكيس هو حدة الحس في طلب المثالة ودفع الكريهة وبلوغ الشهوة. والحس بعيدٌ من العقل، والعالي في الحس كأنه يرتقي في وادي الحيوان الذي لا نطق له، والعالي في العقل كأنه مطمئنٌ في وادي الملك الذي لا حس لنقصه، ولكن لكماله، لأنه غني عنه، كما أن الحمار لم يعدم العقل لكماله، ولكن لنقصه ولما لم يرد من الحمار أن يكون إنساناً جبل على ما هو له وبه كاملٌ في نقصه، أي هو كاملٌ بما هو به حمار وناقص بما ليس هو به إنساناً؛ ولما لم يرد من الإنسان أن يكون حماراً حفظ عليه ما هو به إنسان، ودرج إلى كمال الملك الذي هو به شبيه؛ وهذا التدريج طريقه على الاختيار الجيد والتوفيق السابق.
وبعدت - جعلني الله فداك - عن منهج القول وسنن الحديث، وأطعت داعية الوسواس، وذهبت مع سانح الوهم؛ وقد قيل: الحديث ذو شجون.
وقد قال الأول:

ولما قضينا من منى كل حاجةٍ

 

ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننـا

 

وسالت بأعناق المطي الأباطح

فأرجع وأقول: قد أوصلت إليك الجزاين الأول والثاني على يد غلامك فائق؛ وهذا الجزء - وهو الثالث - قد والله نفثتقال: فيه كل ما كان في نفسي من جدٍ وهزل، وغثٍ وسمين، وشاحبٍ ونضير، وفكاهةٍ وطيب، وأدبٍ واحتجاج، واعتذارٍ واعتلال واستدلال، وأشياء من طريف الممالحة على ما رسم لي، وطلب مني؛ ولأنه آخر الكتاب ختمته برسالة وصلتها بكلامٍ في خاص أمري ستقف عليه، وتستأنف نظراً في حالي، يكون - إن شاء الله - كظني بك، ورجائي فيك؛ وفيه بعض العربدة لم أخرج منه إلى كفرانٍ لنعمة، ولا جحدٍ لإحسان، ولا سترٍ ليدٍ، ولا إنكارٍ لمعروف، ولا شكٍ في عناية؛ وإنما تكلمت على مذهب المدل المقل الذي يبعثه إقلاله على تجاوز قدرة بالدالة، ويريع به إدلاله عن حسن أدبه بفرط الثقة؛ ورب واثقٍ خجل؛ وبالله المعاذ من ذلك، وفي الحالين صاحب هذا المذهب لا يخلو من ولاء صحيح المعتقب، وعقيدةٍ كسبيكة الذهب؛ وأنت بكرم طباعك، وسعة باعك، تجبر نقصي، وتأسو ما غث من جراحي، وأمات اهتمامي؛ ومن كان إحسانك إليه مشكوراً، وتعذيرك عنده مستوراً، لخليقٌ أن يكون على بالك خاطراً، وبلسانك مذكوراً، والسلام.
وها أنا آخذ في نشر ما جرى على وجهه إلا ما اقتضى من الزيادة في الإبانة والتقريب، والشرح والتكشيف.

وقد جمع لك جميع ما شاهدته في هذه المدة الطويلة، ليكون حظك من الكرم والمجد موفوراً، ونصيبي من اهتمامك بأمري وجذبك بباعي وإنقاذك إياي من أسري تاماً، فظني واعدٌ بأنك تبلغ بي ما آمله فيك وتتجاوزه وتتطاول إلى ما فوقه، لأزداد عجباً مما خصك الله به، وأفردك فيه؛ وأتحدث على مر الأيام بغريبه، وأحث كل من أراه بعدك على سلوك طريقك في الخير، ولزوم منهاجك في الجميل، والدينونة بمذهبك المستقيم، وأكايد أصحابنا ببغداد؛ وأقول لهم: هل كان في حسبانكم أن يطلع عليكم من المشرق من يزيد ظرفه على ظرفكم، ويبعد بعلمه على علمكم، ويبرز هذا التبريز في كل شيء تفخرون به على غيركم، فأناظرهم فيك وبسببك، لا مناظرة الحنبليين مع الطبريين؛ وأتعصب لك، لا تعصب المفضليين والبرغوثيين؛ وأجادل من أجلك، لا جدل الزيديين مع الإماميين؛ وأدعي في فضائلك الظاهرة والباطنة دعوى أقوى من دعوى الشيعيين؛ وأضرب في ذلك كل مثل، وأستعين بكل سجع، وأروي كل خبر، وأنشد كل بيت، وأعبر كل رؤيا، وأقيم كل برهان، وأستشهد كل حاضرٍ وغائب، وأتأول كل مشكل وغامض، وأضيف إليك الآية بعد الآية، والمعجزة بعد المعجزة، وأنصلت لكل ضريبة، وأدعي كل غريبة؛ هذا ولا أخلط كلامي بالهزل، ولا أشيه دعواي بالمحال، ولا أبعد الشاهد، ولا أتعلق بالمستعجم، ولا أجنح إلى التلفيق والتلزيق؛ وكيف لا أفعل هذا ولي في قول الحق فيك مندوحة، وفي تقديم الصدق على غيره كفاية، وفي نشر المطوي من فضلك بلاغ? وإنما يميل إلى الكذب من قعد به الصدق، ويتيمم بالصعيد من فاته الماء، ويحلم بالمنى من عدم المتمنى في اليقظة؛ فأما أنت وقد ألبسك الله رداء الفضل، وأطلعك من منبتٍ كريم، ودرجك من بيتٍ ضخم، وآتاك الحكمة، وفتق لسانك بالبيان، وأترع صدرك بالعلم، وخلط أخلاقك بالدماثة، وشهرك بالكرم، وخفف عليك النهوض بكل ما يكسبك الشكر من القريب والبعيد، وبكل ما يدخر لك الأجر عند الصادر والوارد، حتى صرت كهفاً لأبناء الرجاء، ومفزعاً لبني الآمال؛ فبابك مغشيٌ مزور، وفناؤك منتاب وخوانك محضور، وعلمك مقتبس، وجاهك مبذول، وضيفك محدث، وكتبك مستعارة، وغداؤك حاضر، وعشاؤك معجل، ووجهك مبسوط، وعفوك محمود،وجدك مشكور، وكل أمرك قائمٌ على النهاية، وبالغٌ الغاية، والله يزيدك ويزيدنا بك، ولا يبتلينا بفقد ما ألفناه منك، بمنه وجوده.

الليلة التاسعة والعشرون

قال الوزير - أعز الله نصره، وأطاب ذكره، وأطار صيته - ليلة: أحب أن أسمع كلاماً في قول الله عز وجل: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن"، فإن هذا الإيجاز لم يعهد في كلام البشر.
فكان من الجواب: إن الإشارة في "الأول" إلى ما بدأ الله به من الإبداع والتصوير، والإبراز والتكوين؛ والإشارة في "الآخر" إلى المصير إليه في العاقبة على ما يجب في الحكمة من الإنشاء والتصريف، والإنعام والتعريف، والهداية والتوقيف. وقد بان بالاعتبار الصحيح أنه عز وجل لما كان محجباً عن الأبصار، ظهرت آثاره في صفحات العالم وأجزائه، وحواشيه وأثنائه، حتى يكون لسان الآثار داعياً إلى معرفته، ومعرفته طريقاً غلى قصده، وقصده سبباً للمكانة عنده والحظوة لديه. على أنه في احتجابه بارز، كما أنه في بروزه محتجب؛ وبيان هذا أن الحجاب من ناحية الحس، والبروز من ناحية العقل، فإذا طلب من جهة الحس وجد محجوباً، وإذا لحظ من جهة العقل وجد بارزاً، وهاتان الجهتان ليستا له تعالى، ولكنهما للإنسان الذي له الحس والعقل، فصار بهما كالناظر من مكانين؛ ومن نظر إلى شيءٍ واحدٍ من مكانين نسبته إلى المنظور إليه مفترقة.
 وإنما شق هذا الأمر على أكثر الناس واختلفوا فيه، لأنهم راموا تحقيق ما لا يحس بالحس، ولو راموا ذاك بالعقل المحض بغير شوبٍ من الحس، لكان المروم يسبق الرائم، والمطلوب يلوح قبالة الطالب من غير كٍ لابس، ولا ريبٍ موحش، لأنه ليس في العقل والمعقول شكٌ، وإنما الريب والشك والظن والتوهم كلها من علائق الحس وتوابع الخلقة، ولولا هذه العوارض لما اغبر وجه العقل، ولا علاه شحوب، ولبقي على نضرته وجماله وحسنه وبهجته. ولما كان الإنسان مفيض هذه الأعراض في الأول، صار مفيض هذه الأحوال في الثاني، فاستعار من العقل نوره في وصف الأشياء الجسمية جهلاً منه وخطأ، واستعار من ظلام الحس في وصف الأشياء الروحانية عجزاً منه ونقصاً، ولو وفق لوضع كل شيء موضعه ونسبه إلى شكله، ولم يرفع الوضيع إلى محل الرفيع، ولم يضع الرفيع في موضع الوضيع.
فلما بلغ الحديث هذا الحد، عجب الوزير وقال: ما أعذب هذا المورد! وما أعجب هذا المشهد! وما أبعد هذا المقصد! وما رأى لمصنفٍ من الموحدين متصرفاً في هذا النوع إلا لهذه العصابة الكريمة المخصوصة باليقظة.
وسأل عن جشم في اسم الرجل ما معناه? فكان من الجواب: إن أبا سعيد السيرافي الإمام ذكر عن ابن الأعرابي أنه يقال: رجلٌ عظيم الجشم. يعني وسطه، ومنه سمي جشم.
وقال: ما الحمحم? وما الخمخم? فقيل أما الحمحم فبقلٌ يهيج في اول الصيف وينبت فيؤكل في ذلك الوقت؛ وأما الخمخم فبقلٌ آخر خبيثٌ منتن الريح.
وقال: فأره المسك، أتقولها بالهمز? فكان من الجواب: حكاه ابن الأعرابي بالهمز.
قال: عارضا الرجل ما يعني بهما? قيل: قال أبو سعيد السيرافي: هما شعر خديه، ولو قلت لأمرد: امسح عارضيك كان خطأ.
وقال: سمعت اليوم في كلام ابن عبيد: لايثه، وظننت أنه أراد: لاوثه من اللوث لوث العمامة.
فقيل: بل يقال: لايثه إذا تشبه بالليث.
وقال: ما الشاكد? فقيل: المعطي من غير مكافأة.
قال: أو تهمز الكلمة? فقيل: إني لو لم أهمز لكان مفاعلةً من كفيت.
قال: والثانية? تكون من كفأت الإناء. فما معناه? قيل: قال أبو سعيد: كأنه قلب الحال إليه بالمثل.
قال: الذود، ما قدر عدده من الإبل? قكان من الجواب: أن ابن الأعربي قال: الذور ما بين الثلاثة إلى العشرة. وإذا بلغت العشرين أو قاربت فهي قطعةٌ وصبةٌ وفرقةٌ وصرمةٌ حتى تبلغ الثلاثين والأربعين. ثم هي حدرة وعكرة وعجرمة حتى تبلغ مائة. ثم هنيدة. فإذا بلغت مائتين فهي خطر. وكذلك الثلاثمائة. فإذا بلغت أربعمائة فهي عرجٌ إلى الألف، والجماعة عروج. فإذا كثرت عن الأربعين والخمسين فبلغت مائةً وزادت فهي جرجرو، وإنما سميت جرجوراً لجراجرها وأصواتها. وقد تستعير العرب بعض هذا فتجعله في بعض.
وقال: ما الفرق بين القبض والقبض? فقيل: القبض لعددٍ ما كان قليلاً ولا كثيراً؛ قال ابن الأعرابي: وأنشدني العامري لابن ميادة:

عطاءكم قبضٌ ويحفن غيركـم

 

وللحفن أغنى للفقير من القبض

وقال: القبض بأطراف الأصاعب، والقبض بالكف، والحفن بالكف والراحة إلى فوق مفتوحةٌ قليلاً. هذا لفظه.
وقال: الإل الذي هو العهد هل يجمع? فقيل: حكى ابن الأعرابي في جمعه، فقال: الإلٌ وألول.
وقال: آم الرجل ماذا? فقيل: هذا على وجوه؛ يقال: آم الرجل يؤوم أواماً من العطش؛ ويقال آم الرجل يؤوم إياما، وهو الدخان. وآم الرجل يئيم إذا بقي بغير حليلة، والأيم مستعملٌ في الرجل والمرأة.
قال: هذا نمط مفيد، ويجب أن يجمع منه جزءٌ أو جزآن ليسهل على الطرف المجال فيه، فإن الكتب الطوال مسئمة، وإذا تداخل اللطيف بالكثيف وما رق بما غلظ نبت النفس، ودب الملل والإنسان كسله من طينه، ونشاطه من نفسه، والطين أغلب من النفس.
فكان الجواب: السمع والطاعة للأمر المشرف.
قال: هات حديثاً يكون مقطعاً للوداع، فإن الليل قد عبس وجهه، وجنح كاهله، وأهدى إلى العين سنةً تسرق الذهن وتسبي الرأي.
فكان من الجواب أنه مر بي اليوم حديثٌ ما جرى منذ ليالٍ في فساد الناس وحؤول الزمان، وما دهم الخاص والعام في حديث الدين الذي هو العمود والدعامة في عمارة الدارين، وقد طال تعجبي منه، وصح عندي أن الداء في هذا قديم، والوجع فيه أليم.
قال: فهات فتشبيبك قد رغب شديداً، غرامك قد بعث جديداً.

فكان من ذلك الحديث أن محمد بن سلام قال فيما حدثنا به أبو السائب القاضي عتبة بن عبيد الله قال: حدثنا السكري أبو سعيد قال: قال محمد بن سلام: سمعت يونس يقول: فكرت في أمرٍ فاسمعوه. قلنا: هاته. قال: كل من أصبح على وجه الأرض من أهل النار إلا أمتنا هذه؛ والسلطان ومن يطيف به هلكى إلا قليلاً، فإذا قطعت هذه الطبقة حتى تبلغ الشام فأكلة رباً وباغيةٌ وشربة خمرٍ وباعتها إلا قليلاً، فإذا خلفت هذا الرمل حتى تأتي رمل يبرين وأعلام الروم فلا غسل من جنابة، ولا إسباغ وضوء، ولا إتمام صلاة، ولا علم بحدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً؛ فإذا صرت إلى الأمصار فأصحاب هذه الكراسي ليس منهم إلا ذئبٌ مشتغرٌ بذنبه، يختلك عن دينارك ودرهمك، يكذب، ويبخس في الميزان، ويطفف في المكيال، إلا قليلاً؛ فإذا صرت إلى أصحاب الغلات الذين كفوا المؤونة وأنعم عليهم وجدتهم يمسي أحدهم سكران ويصبح مخموراً، إلا قليلاً؛ ومعي والله منهم قطيعٌ في الدار، فإذا صرت إلى قومٍ لم ينعم عليهم بما أنعم على هؤلاء، وهم يشتهون ما يشتهي هؤلاء، فواحدٌ لص، وآخر طرار، وآخر مستقفٍ إلا قليلاً، فإذا صرت إلى أصحاب هذه السواري، فهذا يشهد على هذا بالكفر، وهذا يبرأ من هذا، والله لئن لم يعمنا الله برحمته إنها للفضيحة.
فقال الوزير: لقد شردت النوم عن عيني، وملأت قلبي عجباً، فإن الأمر لكما قال، فإذا كان هذا قوله في عصره، وشجرة الدين على نضارة أغصانها وخضرة أوراقها، وينع ثمارها، فما قوله - ترى - فينا لو لحقنا، وأدرك زماننا، إنا لله وإنا إليه راجعون.

الليلة الثلاثون

وقال الوزير - أدام الله أيامة - سراويل يذكر أم يؤنث، ويصرف أم لا? فكان الجواب: أن علي بن عيسى حدثنا عن شيخه ابن السرج قال: سألت المبرد فقلت: إذا كان الواحد في صيغة الجمع ما يصنع به في الصرف في مثل شعره هراميل وهذه سراويل وما أشبهه، فقال: ألحقه بالجمع فأمنعه الصرف، لأنه مثله وشبيهه.
قال: وسألت أحمد بن يحيى عن ذلك، فقال: أخبرنا سلمة عن الفراء قال: ألحقه بأحمد فامنعه الصرف في المعرفة، واصرفه في النكرة حتى يكون بين الواحد والجمع فرق.
وسأل فقال: ما واح المناخيب والمناجيب وما حكمهما? فكان من الجواب: واحد المناخيب منخاب، يمدح به ويذم، فإذا كان مدحاً فهو مأخوذ من النخب، وهو الاختيار، وإذا كان ذماً فهو مأخوذٌ من النخبة، وهي الاست. قال: وهكذا المنجاب يكون مدحاً وذماً، فإذا كان مدحاً فهو مأخوذٌ من الانتجاب، وهو الاختيار، وإذا كان ذماً فهو مأخوذٌ من النجب، وهو قشر الشجر.
قال: ما معنى قولهم: امرأةٌ عروبٌ? فكان من الجواب أن محمد بن يزيد قال - على ما حدثنا به أبو سعيد وابن السراج عنه - إنه من الأضداد، وهي المتحببة إلى زوجها؛ وهي الفاسدة، مأخوذٌ من قولهم: عربت معدته إذا فسدت.
وقال: الضهياء يمد ويقصر? فكان من الجواب أن ابن الأعرابي قال: الذي حصلته عن الأعراب أن الضهياء الممدودة هي التي لا تحيض، وأن المقصورة هي الياسمين، وجمع الأول ضهىٌ وجمع المقصور ضهايا.
قال: ما معنى المندلي المطير? فكان من الجواب: أن ابن الأعرابي قال: هو مقلوب المطري.
وقال: أنشدني غزلاً، فأنشدته ما حضر في الوقت لأعرابي:

أمر مجنباً عن بيت سلمى

 

ولم ألمم به وبه الغـلـيل

أمر مجنباً وهـواي فـيه

 

وطرفي عنه منكسرٌ كليل

وقلبي فيه مقتتلٌ فهل لـي

 

إلىقلبي وقاتله سـبـيل

وقال: أتحفظ الأبيات التي فيها:

تكفيه فلذة كبدٍ إن ألـم بـهـا

 

من الشواء ويكفي شربه الغمر

فأنشده ابن نباتة، وذاك لأني قلت: ما أحفظ إلا هذا البيت شاهداً، وهو لأعشى باهلة يرثي المنتشر:

إني أتتني لسان لا أسـر بـهـا

 

من علو لا عجبٌ منها ولا سخر

فبت مرتفعاً للـنـجـم أرقـبـه

 

حيران ذا حذر لو ينفع الحـذر

وجاشت النفس لما جاء جمعهـم

 

وراكبٌ جاء من تثليث معتمـر

يأتي على الناس لا يلوي على أحدٍ

 

حتى التقينا وكانت دوننا مضـر

نعيت من لا تغب الحي جفنـتـه

 

إذا الكواكب أخطا نوأها المطر

من ليس في خـيره شـرٌ يكـدره

 

على الصديق ولا في صفوه كـدر

طاوي المصير على العزاء منصلت

 

بالقوم لـيلة لا مـاءٌ ولا شـجـر

لا تنكر البازل الكوماء ضربـتـه

 

بالمشرفي إذا ما اجلوذ الـسـفـر

وتفزع الشول منه حين تبـصـره

 

حتى تقطع في أعناقها الـجـرر

لا يصعب الأمر إلا ريث يركـبـه

 

وكل أمرٍ سوى الفحشاء يأتـمـر

يكفيه حـزة فـلـذانٍ ألـم بـهـا

 

من الشواء ويكفي شربه الغـمـر

لا يتأرى لما في القـدر يرقـبـه

 

ولا يعض على شرسوفه الصفـر

لا يغمز الساق من أين ومن وصبٍ

 

ولا يزال أمام الـقـوم يقـتـفـر

مهفهفٌ أهضم الكشحين منخـرقٌ

 

عنه القميص بسير الليل محتـقـر

عشنا بذلك دهـراً ثـم فـارقـنـا

 

كذلك الرمح ذو النضلين ينكـسـر

لا تأمن الناس ممساه ومصبـحـه

 

من كل أوبٍقال: وإن لم يأت ينتظر

إما يصبـك عـدوٌ فـي مـنـاوأةٍ

 

يوماً فقد كنت تستعلي وتنتـصـر

لو لم تخنه نـفـيلٌ وهـي خـائنةٌ

 

ألم بالقوم وردٌ مـنـه أو صـدر

وراد حربٍ شهابٌ يستـضـاء بـه

 

كما يضيء سواد الطخية القـمـر

إما سلكت سبيلاً كنت سالـكـهـا

 

فاذهب فلا يبعدنك الله منـتـشـر

من ليس فيه إذا قاولـتـه رهـقٌ

 

وليس فيه إذا ياسـرتـه عـسـر

الليلة الواحدة والثلاثون

وجرى ليلةً حديث الرأي في الحرب والحزم والتيقظ وقلة الاستهانة بالخصم، فقال ابن عبيد الكاتب: أنا أستحسن كلاماً جرى أيام الأمين والمأمون، وذاك أن علي بن عيسى بن ماهان لما توجه إلى حرب طاهر بن الحسين من بغداد، سأل قوماً وردوا من الري عن طاهر، فقالوا: إنه مجدٌ. فقال: وما طاهرٌ? إنما هو شوكةٌ من أغصاني، وشرارةٌ من ناري؛ ثم قال لأصحابه: والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصفة إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، لأن السخال لا تقوى على النطاح، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسود، فإن يقم طاهرٌ بموضعه يكن أول معرض لظبات السيوف وأسنة الرماح. فقال يحيى بن عليٍ لعلي بن عيسى: أيها الأمير، إن العساكر لا تساس بالتواني، والحروب لا تدبر بالاغترار، وإن الشرارة الخفية ربما صارت ضراماً، والنهلة من السيل ربما صارت بحراً عظيماً.
فقال: إنما حجب علي بن عيسى عن وثيق الرأي هذا الاستحقار بالكلام، والاقتدار على اللفظ، ومن صدق فكره في طلب الرأي النافع، قل كلامه بالهذر الضائع.
وقال في هذه الليلة: ما رأيت من بقي بإحصاء وجوه فعيل ومواقعها.
فكان من الجواب: أن الأخفش قد ذكر عشرة أوجه، وهي أكثر ما قدر عليه، والتصفح قد دل على أربعين وجهاً وزيادة. قال: فما أغرب ما مر بك منها? فقيل: فعيلٌ بمعنى فعل. فقال: هذا والله غريب، فهات له شاهداً. فقيل: يقال مكانٌ دميثٌ ودمثٌ، ويقينٌ ويقنٌ، ورصيفٌ ورصفٌ؛ وللفرس العتيد للعدو: العتد؛ والنقيل من العدو: نقل؛ والخبيط من الورق: خبط؛ وللقديم: قدم؛ والبئر النزيح: نزح، واللجسم العميم: عمم.
وقال ابن الأعرابيك القفيل: الشوك اليابس، والجمع قفل. وقال أحمد بن يحيى: هو مني بعدٌ أي بعيد، والبعد يكون للجمع والواحد.
فعجب وقال: ينبغي أن يعني بهذه الوجوه كلها. فإن الزيادة على مثل الأخفش ظفرٌ حسن، وامتيازٌ في الغزارة جميل، وما تفاضلت درجات العلماء إلا بتصفح الأخير قول الأول واستيلائه على ما فاته.
وسأل - أباد الله عداه، وحقق مناه - وقال: هل يسلم على أهل الذمة? وهل يبدأون? فكان أبو البختري الداودي حاضراً - فحكى أن عمر بن عبد العزيز سئل عن هذا بعينه، فقال: يرد عليهم السلام، ولا يأس بأن يبدءوا، لقول الله عز وجل: "فاصفح عنهم وقل سلامٌ".

وحكي في معرض حديث أبي بكر قال: كتب مجنونٌ إلى مجنون: "بسم الله الرحمن الرحيم، حفظك الله، وأبقاك الله، كتبت إليك ودجلة تطغى، وسفن الموصل ها هي، وما يزداد الصبيان إلا شراً، ولا الحجارة إلا كثرة، فإياك والمرق فإنه شر طعامٍ في الدنيا، ولا تبت إلا وعند رأسك حجرٌ أو حجران، فإن الأخير يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ". وكتبت إليك لثلاث عشرة واربعين ليلة خلت من عاشوراء سنة الكمأة".
قال: وكتب مجنونٌ آخر: "أبقاك الله من النار وسوء الحساب، وتفديك نفسي موفقاً إن شاء الله".
قال: وكتب مجنون آخر إلى مجنونٍ مثله: وهب الله لي جميع المكاره فيك، كتابي إليك من الكوفة حقاً حقاً حقاً، أقلامي تخط، والموت عندنا كثير، إلا أنه سليم والحمد لله، أحببت ليعرفه إعلامكم ذلك إن شاء الله.
فضحك - أضحك الله سنه - حتى استلقى، وقال: ما الذي يبلغ بنا هذا الاستطراف إذا سمعنا بحديث المجانين? فقال ابن زرعة: لأن المجنون مشاركٌ للعاقل في الجنس، فغذا كان من العاقل ما يحسب أن يكون من المجنون كره ذلك له، وإذا كان من المجنون ما يعهد من العاقل تعجب منه، والعقل بين أصحابه ذور عرضٍ واسع، وبقدر ذلك يتفاضلون التفاضل الذي لا سبيل إلى حصره، وكذلك الجنون بين أهله ذو عرضٍ واسع، وبحسب ذلك يتفاوتون التفاوت الذي لا مطمع في تحصيله، وكما أنه يبدر من العاقل بعض ما لا يتوقع إلا من المجنون كذلك يبدر من المجنون بعض ما لا يتوقع إلا من العاقل، ولا يعتد بذلك ولا بهذا، أعني أن العاقل بذلك المقدار لا يرى مجنوناً، والمجنون بذلك المقدار لا يسمى عاقلاً، وإنما اجتمعا في النادر القليل، لاجتماعهما في الجنس الذي يعمهما، والنوع الذي يفصلهما، وفي الجملة الإنسان بما هو به حيوانٌ سبعٌ وحمار، وبما هو به نفسيٌ إنسان، وبما هو به عاقلٌ نبيٌ وملك؛ وهذه الأعراض - وإن تداخلت لانتظامها في طينة واحدة - فإنها تتميز بقوة العقل في الصورة المخلوطة إما مفارقة، وإما مواصلة. ومر له في هذا الموضع كلامٌ بليغٌ تامٌ مكشوف.
كمل الجزء الثاني من كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي حسب تجزئتنا والحمد لله رب العاليمن والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ويليه الجزء الثالث من هذا الكتبا وأوله: ثم ترامى الحديث إلى أمر المطعمين والطاعمين، الخ. نسأل الله المعونة وحسن التوفيق.
ثم ترامى الحديث إلى أمر المطعمين والطاعمين، والذين يهشون عند المائدة، والذين يعبسون ويجمون ويطرقون، والذين يصخبون ويلغطون، ويضجرون ويغتاظون.
فقال: أحب أن أسمع في هذا أكثر ما فيه، ويمر بي أعجبه، فإن في معرفة هذا الباب تهذيباً وإيقاظاً كثيراً.
فكان في الجواب: إن الناس قديماً وحديثاً قد خاضوا في هذا الفن خوضاً بعيداً، وما وقفوا منه عند حد، لأن الحديث عن الأخلاق المختلفة بالأمزجة المتباينة، والطبائع المتنائية لا يكاد ينتهي إلى غاية يكون فيها شفاءٌ للمستمع المستفيد و لا للرواية المفيد.
قال: قبل كل شيء أعلمونا يا أصحابنا: الحث على الأكل أحسن، أم الإمساك حتى يكون من الأكل ما يكون? فكان من الجواب: أن هذه المسئلة بعينها جرت بالأمس بالري عند ابن عباد فتنوهب الكلام فيها، وأفضى إلى أن الأولى الحث والتأنيس والبسط والطلاقة ولين اللفظ وقلة التحديق وإسجاء الطرف مع اللطف والدماثة، من غير دلالةٍ على تكلفٍ في ذلك فاضح ولا إمساكٍ عنه قادح.
وحكى ابن عباد في هذا الموضع ان بعض السلف قال: الطعام أهون من أن يحث على تناوله.
وقال الحسن بن عليك الطعام أجل من أن لا يحث على تناوله، ومذهب الحسن أحسن.
قال: ولقد حضرت مولد ناسٍ لا أظن بهم البخل فلم يحثوني ولم يبسطوني فقبضني ذلك، وكأن انقباضي كان بمعونتهم، وإن لم يكن بإرادتهم.
قال الوزير: هذه فائدة من هذا الرجل الذي يتهادى قوله، وتتراوى أخباره.
ثم حكيت له أن أسماء بن حارجة قال: ما صنعت طعاماً قط فدعوت عليه نفراً إلا كانوا أمن علي مني عليهم. فقال: زدنا من هذا الضرب ما كان، قلت: لو أذن لي في جمعه كان أولى؛ قال: لك ذلك فما يضرنا أن تطرب آذاننا بما تهوى نفوسنا.

فكان من الجواب أن الجاحظ قد أتى على جمهرة هذا الباب إلا ما شذ عنه مما لم يقع إليه، فإن العالم - وإن كان بارعاً - ليس يجوز أن يظن به أنه قد أحاط بكل باب، أو بالباب الواحد إلى آخره؛ على أنه حدث من عهد الجاحظ إلى وقتنا هذا أمورٌ وأمور، وهناتٌ وهناتٌ، وغرائب وعجائب، لأن الناس يكتسبون على رأس كل مائة سنةٍ عادةً جديدة، وخليقةً غير معهودةٍ، وبدء هذه المئين هو الوقت الذي فيه تنعقد شريعة، وتظهر نبوة، وتفشو أحكام، وتستقر سنن، وتؤلف أحوالٌ بعد فطامٍ شديد، وتلكؤٍ واقع؛ ثم على استنان ذلك يكون ما يكون.
وقال ميمون بن مهران: من ضاف البخيل صامت دابته، واستغنى عن الكنيف، وأمن التخمة.
وقال حامد اللفاف المتزهد: المرائي إذا ضاف إنساناً حدثه بسخاوة إبراهيم، وإذا ضافه إنسانٌ حدثه بزهد عيسى بن مريم.
وقال مالك بن دينار: دخلنا على ابن سيرين فقال: ما أدري ما أطعمكم? ثم قدم إلنيا شهدة.
وقال الأعمش: كان خيثمة يصنع الخبيص ثم يقول: كلوا فوالله ما صنع إلا من أجلكم.
وقال بكر بن عبد الله المزني: أحق الناس بلطمةٍ من إذا دعي إلى طعامٍ ذهب بآخر معه، وأحقهم بلطمتين من إذا قيل له: اجلس ها هنا قال: بل ها هنا؛ وأحق الناس بثلاث لطمات من إذا قيل له: كل، قال: ما بال صاحب البيت لا يأكل معنا.
وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: أربع لا ينبغي لشريف أن يأنف منهن وإن كان أميراً: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه، وخدمة الضيف بنفسه إكراماً له.
وقال حاتم الأصم: كان يقال العجلة من الشيطان إلا في خمس، فإنها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إطعام الضيف إذا حل، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا حل ووجب، والتوبة من الذنب إذا وقع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: :ليلة الضيف حقٌ واجبٌ على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو أحق به إن شاء أخذ، وإن شاء ترك".
وجاءت امرأة إلى الليث بن سعد وفي يدها قدح، فسألت عسلاً وقالت: زوجي مريض؛ فأمر لها براوية عسل؛ فقالوا: يا أبا الحرث: إنما تسأل قدحاً. قال: سألت قدرها ونعطيها على قدرنا.
خرج ابن المبارك يوماً إلى أصحابه، فقال لهم: نزل بنا ضيفٌ اليوم فقال: اتخذوا لي فالوذجاً؛ فسرنا ذلك منه.
وقال الحسن في الرجل يدخل بيت أخيه فيرى السلة فيها الفاكهة: لابأس أن يأكل من غير أن يستأذنه.
وقال ابن عمر: أهديت لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شاةٌ فقال: أخي فلانٌ أحوج إليها، وبعث بها إليه، فلم يزل يبعث بها واحدٌ بعد واحد حتى تداولها تسعة أبيات، ورجعت إلى الأول، فنزلت الآية: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ".
قال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له ظهرٌ فليعد على من لا ظهر له؛ ومن كان له زادٌ فليعد على من لا زاد له، حتى رأينا أنه لا حق لأحدٍ منا في الفضل".
وسئل ابن عمر. ما حق المسلم على المسلم? قال: ألا يشبع ويجوع، وألا يلبس ويعرى، وأن يواسيه ببيضائه وصفرائه.
وكان ابن أبي بكرة ينفق على جيرانه أربعين داراً سوى سائر نفقاته، وكان يبعث إليهم بالأضاحي والكسوة في الأعياد، وكان يعتق في كل يوم عيدٍ مائة مملوك.
وكان حماد بن أبي سليمان يفطر كل ليلةٍ من شهر رمضان خمسين إنساناً، وإذا كان يوم الفطر كساهم ثوباً ثوباً وأعطاهم مائة مائة.
وقال الشاعر:

أراك تؤمل حسن الثـنـاء

 

ولم يرزق الله ذاك البخيلا

وكيف يسود أخو بـطـنةٍ

 

يمن كثيراً ويعطي قلـيلا

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تجافوا عن ذنب السخي، فإن الله يأخذ بيده كلما عثر".
وقال عليه السلام: "من أدى الزكاة، وقرة الضيف، وآوى في النائبة، فقد وقي شح نفسه".
وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: أفٍ للبخل، ولو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان ثوباً ما لبسته، ولو كان سراجاً ما استضأت به.
وقال الأصمعي: قال بعض العرب: ليست الفتوة الفسق ولا الفجور، ولا شرب الخمور، وإنما الفتوة طعامٌ موضوع، وصنيع مصنوع، ومكانٌ مرفوع، ولسانٌ معسول، ونائل مبذول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف.

وقال أبو حازم المدني: أسعد الناس بالخلق الحسن صاحبه، نفسه منه في راحة، ثم زوجته، ثم ولده، حتى إن فرسه ليصهل إذا سمع صوته، وكلبه يشرشر بذنبه إذا رآه وقطه يدخل تحت مائدته، وإن السيىء الخلق لأشقى الناس، نفسه منه في بلاء، ثم زوجته، ثم ولده، ثم خدمه، وإ،ه ليدخل وهم في سرور فيتفرقون فرقاً منه، وإن دابته لتحيد عنه إذا رأته، مما ترى منه، وكلبه ينزو على الجدار، وقطه يفر منه.
وكان على باب ابن كيسان مكتوب: ادخل وكل.
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول في بكائها على النبي صلى الله عليه وسلم: بأبي من لم ينم على الوثير، ولم يشبع من خبز الشعير.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يخلق وعاءً ملىء شراً من بطنٍ، فإن كان لابد فاجعلوا ثلثاً للطعام، وثلثاً للشراب، وثلثاً للريح".
قال الشاعر:

ليسوا يبالون إذا أصبـحـوا

 

شبعى بطاناً حق من ضيعوا

ولا يبـالـون بـمـولاهـم

 

والكلب في اموالهم يرتـع

وحكى لنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بجرجان إمام الدنيا قال: رأيت أبا خليفة المفضل بن الحباب، وقد دعي إلى وليمةٍ فرأى الصحاف توضع وترفع، فقال: أللحسن والمنظر دعينا، أم للأكل والمخبر? فقيل: بل للأكل والمخبر، قال: فاتركوا الصحفة يبلغ قعرها.
وكان سليمان بن ثوابة ضخم الخوان، كثير الطعام، وافر الرغيف، وكان معجباً بإجادة الألوان، واتخاذ البدائع والطرائف والغرائب على مائدته؛ وكانت له ضروبٌ من الحلوى لا تعرف إلا به، وكان خبزه الذي يوضع على المائدة الرغيف من مكوك دقيق، ولذلك قال أبو فرعون العدوي:

ما الناس إلا نـبـطٌ وخـوزان

 

ككهمسٍ أو عمر بن عمـران

ضاق جرابي عن رغيف سلمان

 

أبا حمار في حر أم قحطـان

وأير بغلٍ في است أم عدنـان

 

 

....

 

 

وعشق رجلٌ جاريةً رومية كانت لقوم ذوي يسار، فكتب إليها يوماً: جعلت فداك، عندي اليوم أصحابي، وقد اشتهيت سكباجةً بقرية فأحب أن توجهي إلينا بما يعمنا ويكفينا منها، ودستجةً من نبيذٍ لنتغذى ونشرب على ذكرك، فلما وصلت الرقعة وجهت إليه بما طلب؛ ثم كتب إليها يوماً آخر: فدتك نفسي، إخواني مجتمعون عندي، وقد اشتهيت قليةً جزورية فوجهي بها إلي وما يكفينا من النبيذ والنقل، ليعرفوا منزلتي عندك، فوجهت إليه بكل ما سأل؛ ثم كتب إليها يوماً آخر: جعلت فداك، قد اشتهيت أنا وأصحابي رءوساً سماناً، فأحب أن توجهي إلينا بما يكفينا، ومن النبيذ بما يروينا؛ فكتبت الجارية عند ذلك: إني رأيت الحب يكون في القلب، وحبك هذا ما تجاوز المعدة. وكتبت أسفل الرقعة:

عذيري من حبيبٍ جـا

 

ءنا في زمن الـشـده

وكان الحب في القلـب

 

فصار الحب في المعده

وقال جرير:

ولا يذبحون الشاة إلا بميسرٍ

 

كثيرٌ تناجيها لئامٌ قدورهـا

وقالت عادية بنت فرعة الزبيرية في ابنها دوس:

تشبه دوس نفـراً كـرامـا

كانوا الذرى والأنف والسناما

كانوا لمن خالطهـم إدامـا

كالسمن لما سغبل الطعامـا

يقال سغبل رأسه بالدهن وسغسغه ورواه وأمرعه.
قال الواقدي: قيل لأم أيوب: أي الطعام كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد عرفتم ذلك بمقامه عندكم? فقالت: ما رأيته أمر بطعامٍ يصنع له بعينه، ولا رأيناه أتى بطعام فعابه قط. وقد أخبرني أبو أيوب أنه تعشى عنده ليلةً من قصعة أرسل بها سعد بن عبادة فيها طفيشل فرأيته ينهك تلك القصعة ما لم ينهك غيرها، فرجع إلي فأخبرني، فكنا نعملها له. وكنا نعمل له الهريسة، وكانت تعجبه، وكان يحضر عشاءه من خمسة إلى ستةٍ إلى عشرة كما يكون الطعام في القلة والكثرة.
وكان أسعد بن زرارة يعمل له هريسة ليلةً وليلةً لا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها؛ أجاءت قصعة أسعد أم لا? فيقال: نعم، فيقول: هلموها؛ فنعرف بذلك أنها تعجبه.
 

قدم صهيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء ومعه أبو بكرٍ وعمر، بين أيديهم رطبٌ قد جاءهم به كلثوم بن الهدم أمهات جراذبن وصهيبٌ قد رمد في الطريق، وأصابته مجاعةٌ شديدة، فوقع في الرطب؛ قال صهيب: فجعلت آكل، فقال عمر: يا رسول الله، ألا ترى إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمد? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتأكل الرطب وأنت رمد?" فقال صهيب: أنا آكل بشق عيني الصحيحة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الأعشى:

لو أطعموا المن والسلوى مكانهم

 

ما أبصر الناس طعماً فيهم نجعا

وقال الكميت:

وما استنزلت في غيرنا قدر جارنا

 

ولا ثفيت إلا بنا حين تنـصـب

يقول إذا جاورنا جارٌ لم نكلفه أن يطبخ من عنده، ويكون ما يطبخه من عندنا بما نعطيه من اللحم لينصب قدره. ويقال للحيس سويطة. وقال: الرغيغة لبن يطبخ. وقال: هي العصيدة، ثم الحريرة ثم النجبرة، ثم الحسو. واللوقة: الرطب بالسمن، والسليقة: الذرة تدق وتصلح باللبن، والرصيعة: البر يدق بالفهر ويبل ويطبخ بشيء من السمن، والوجيئة: التمر يوجأ ثم يؤكل باللبن.
وقال أعرابي: ليس من الألبان أحلى من لبن الخلفة.
والنخبسة والقطبية يخلط لبن إبلٍ بلبن غنم.
وقال أعرابي: الحمد لله الذي أغنانا باللبن عما سواه. ويقال أكل خبزاً قفاراً وعفاراً وعفيراً: لا شيء معه وعليه العفار والدمار وسوء الدار؛ وأكل خبزاً جبيزاً أي فطيراً يابساً. وجاء بتمر فضٍ وفضاً وفذٍ وحثٍ: لا يلزق بعضه ببعض.
قال أبو الحسن الطوسي: أخبرني هشام قال: دخل علي فرجٌ الرخجي وقد تغديت واتكأت، فقال: يا أبا عبد الله: إنما تحسن الأكل والاتكاء.
قال: فتركت الأكل عنده أياماً، وبلغه ذلك، فبعث إلي: إن كنت لا تأكل طعامنا فليس لنا فيك حاجة. قال: فأكلت شيئاً ثم أتيته فلم يعتذر مما كان.
قال أبو الحسن: أخبرني الفراء قال: العرب تسمى السكباجة الصعفصة. وأنشد:

أبو مالكٍ يعتادنا في الظهائر

 

يجوء فيلقي رحله عند عامر

أبو مالك: الجوع، هكذا تقول العرب ويجىء ويجوء لغتان.
وقال الآخر:

رأيت الغواني إذ نزلت جفونني

 

أبا مالكٍ إني أظـنـك دائبـا

أبو مالك ها هنا الشيب.
قال أبو الحسن: أخبرني الثوري عن أبي عبيدة في الحديث الذي يروى عن عمر بن الخطاب أنه رأى في روث فرسه حبة شعير، فقال: لأجعلن لك في غرز النقيع ما يشغلك عن شعير المسلمين. قال: والنقيع: موضع بالمدينة أحماه عمر بن الخطاب لخيل المسلمين، خلاف البقيع بالباء.
قال الطوسي: العرب تقول: أيدي الرجال أعناقها، أي من كان أطول يداً على المائدة تناول فأكل، الهاء ترجع على الإبل، أي أيدي الرجال أعناق الإبل، أي من طال نال.
قال الأصمعي: سألت بعض الأكلة فيمن كان يقدم على ميسري الناس كيف تصنع إذا جهدتك الكظة - والعرب تقول: إذا كنت بطناً فعدك زمناً -? قال: آخذ روثاً حاراً وأعصره وأشرب ماءه، فاختلف عنه مراراً، فلا ألبث أن يلحق بطني بظهري فأشتهي الطعام.
قال ابن الأعرابي: قال الكلابي: هو يندف الطعام إذا أكله بيده، ويلقم الحسو، واللقم بالشفة، والندف: الأكل باليد. وقال الزبيري: يندف.
وأنشد ابن الأعرابي:

ويظل ضيف بني عبادة فيهم

 

متضمراً وبطونهم كـتـم

أي ممتلئة. والتضمر: الهزال والنحافة، كالنخل المصمر، أي الذي قد ذوت جذوعه. قال الشنبوذي في قول الله تعالى: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا". قال: الذين يثردون ويأكل غيرهم. قال أبو الحسن: كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفاً كأنها طلعةٌ، في ذراعٍ كأنها جمارة، فلا تقع عينها على أكلةٍ نفيسةٍ إلا خصتني بها، فزوجتها، وصار يجلس معي على المائدة ابنٌ لي، فيبرز لي كفاً كأنها كرنافة، في ذراعٍ كأنها كربة، فوالله إن تسبق عيني إلى لقمةٍ طيبةٍ إلا سبقت يده إليها.
وقال أعرابيٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إذا بلغتني ناقتي أن أنحرها وآكل من كبدها. قال: "بئسما جازيتها".
أضل أعرابيٌ بعيراً له، فطلبه، فرأى على باب الأمير بختياً، فأخذه وقال: هذا بعيري، فقال: إنك أضللت بعيراً وهذا بختي. فقال: لما أكل علف الأمير تبخت. فضحك منه وتركه يعيد قوله ويعجبه.

الكدبة: غلظ اللحم وتراكمه، ومنه قول هشامٍ لسالم - وقد رآه فأعجبه جسمه -: ما رأيت ذا كدنةٍ أحسن منك، فما طعامك? قال: الخبز والزيت. قال: أما تأجمه? قال: إذا أجمته تركته حتى أشتهيه، ثم خرج وقد أصاب في جسمه برصاً. فقال لقمني الأحوال بعينه، فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه.
وقال عبد الأعلى القاص: الفقير مرقته سلقة، وغذاؤه علقة، وخبزته فلقة، وسمكته شلقة، أي كثيرة الشوك.
قال رجاء بن سلمة: الأكل في السوق حماقة.
قيل لذؤيب بن عمرو: إنك مفلسٌ لا تقدر على قرصٍ ولا جمعٍ ولا حفاةل، وبيتك عامرٌ بالفأر.
قال علي بن عيسى: الطلاق الثلاث البتة إن كان يمنعهم من التحول عنه إلا أنهم يسرقون أطعمة الناس يأكلونها في بيته لأمنهم فيه، لأنه لا هر هناك ولا أحد يأخذ شيئاً ولا يؤذون، وإن لهم لمسقاةً مملوءةً ماءً كلما جفت سكب لهم فيها ماءٌ.
جعل الخبر عن الفأر على التلميح، كالخبر عن قومٍ عقلاء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الخبز فإن الله أكرمه وسخر له بركات السموات والأرض".
وقال آخر:

كأن صوت سحبها الممتاح

 

سعال شيخٍ من بني الجلاح

يقول من بعد السعـا آح

 

 

قال الأصمعي: الرجيع: الشواء يسخن ثانيةً. والنقيعة ما يحرزه رئيس القوم من الغنيمة قبل أن تقسم والجمع نقائع. وقال: أنشدني عيسى بن عمر لمعاوية بن صعصعة:

مثل الذرى لحبت عرائكها

 

لحب الشفار نقائع النهب

وقال مهلهل:

إنا لنضرب بالسيوف رءوسهم

 

ضرب القدار نقيعة القـدام

القدار: الجزار والقدار: الملك أيضاً. والقدام: رؤساء الجيوش، والواحد قادم.
وقال معن بن أوس يصف هدير قدرٍ:

إذا التطمت أمواجها فكـأنـهـا

 

عوائد دهمٌ في المـحـلة قـيل

إذا ما انتحاها المرملون رأيتهـا

 

لوشك قراها وهي بالجزل تشعل

سمعت لها لغطاً إذا ما تغطمطت

 

كهدر الجمال رزماً حين تجفـل

وقال آخر:

إذا كان فصد العرق والعرق ناضبٌ

 

وكشط سنام الحي عيشاً ومغنـمـا

وكان عتيق القـد خـير شـوائهـم

 

وصار غبوق الخود ماءً محمـمـا

عقرت لهم دهماً مقـاحـيد جـلةً

 

وعادت بقايا البرك نهباً مقسـمـا

قال: وإذا كان القحط فصدوا الإبل وعالجوا ذلك الدم بشيء من العلاج لها كما يصنع الترك، فإنها تجعله في المصران، ثم تشويه أو تطبخه، فيؤكل كما تؤكل النقانق وما أشبه ذلك.
وأما قوله: والعرق ناضبٌ، فإنما يعني قلة الدم لهزال البعير، وكذلك جميع الحيوان، وأكثر ما يكون دماً إذا كان بين المهزول والسمين.
وقالت أم هشام السلولية: ما ذكر الناس مذكوراً خيراً من الإبل وأجدى على أحدٍ بخيرٍ؛ هكذا روي.
وقال الأندلسي: إن حملت أثقلت، وإن مشت أبعدت، وإن حلبت أروت، وإن نحرت أشبعت.
قال أبو الحسن الهيثم، عن عبد العزيز بن يسار قال: قدمت يا جميري بخمس سفائف دقيق، وذاك في زمن مصعب وهو معسكرٌ بها فلقيني عكرمة بن ربعي الشيباني فقال: بكم أخذتها? قلت: بتسعين ألفاً. قال: فإني أعطيك مائةً وخمسين ألفاً على أن تؤخرني. فدفعتهن إليه، وما في المعسكر يومئذ دقيق. قال: فجاء بنو تيم الله فأخذوا ذلك الدقيق، فجعل كل قومٍ يعجنون على حيالهم، ثم جاءوا إلى رهوةٍ من الأرض فحفروها، ثم جعلوا فيها الحشيش، ثم طرحوا ذلك العجين فيها، ثم أقبلوا فأخذوا فرساً وديقاً ... فخلوا عنه، ثم أقبلوا وهو يتبعهم حتى انتهوا إلى الحفيرة، فدفعوا الفرس الوديق فيها، وتبعها الفرس، وتنادى الفريقان: إن فرس حوشب وقع في حفيرة عكرمة فما أخرجوه إلا بالعمد. قال: فغلبه عكرمة.
قال شاعر:

لا أشتم الضيف إلا أن أقول له:

 

أباتك الله في أبيات عـمـار

أباتك الله في أبيات مـعـتـزٍ

 

عن المكارم لا عفٍ ولا قاري

جلد الندى زاهدٍ في كل مكرمةٍ

 

كأنما ضيفه في ملة الـنـار

وقال آخر:

وهو إذا قيل له: ويهاً كل

 

فإنه مواشكٌ مستعجـل

وهو إذا قيل له: ويهاً فل

 

فإنه أحج به أن ينكـل

 قيل لصوفي: ما حد الشبع? قال: لا حد له، ولو أراد الله أن يؤكل بحدٍ لبين كما بين جميع الحدود. وكيف يكون للأكل حد، والأكلة مختلفو الطباع والمزاج والعارض والعادة، وحكمة الله ظاهرة في إخفاء حد الشبع حتى يأكل من شاء على ما شاء كما شاء.
وقيل لصوفيٍ: ما حد الشبع? فقال: ما نشط على أداء الفرائض، وثبط عن إقامة النوافل.
وقيل لمتكلم: ما حد الشبع? فقال: حده أن يجلب النوم، ويضجر القوم، ويبعث على اللوم.
وقيل لطفيلي: ما حد الشبع? قال: أن يؤكل على أنه آخر الزاد، ويؤتى على الجل والدق.
وقيل لأعرابي: ما حد الشبع? قال: أما عندكم يا حاضرة فلا أدري؛ وأما عندنا في البادية فما وجدت العين، وامتدت إليه اليد، ودار عليه الضرس وأساغه الحلق، وانتفخ به البطن، واستدارت عليه الحوايا، واستغاثت منه المعدة، وتقوست منه الأضلاع، والتوت عليه المصارين، وخيف منه الموت.
وقيل لطبيب: ما حد الشبع? قال: ما عدل الطبيعة، وحفظ المزاج وأبقى الشهوة لما بعد.
وقيل لقصار: ما حد الشبع? قال: أن تثب إلى الجفنة كأنك سرحان وتأكل وأنت غضبان، وتمضغ كأنك شيطان، وتبلغ كأنك هيمان، وتدع وأنت سكران، وتستلقي كأنك أوان.
وقيل لحمال: ما حد الشبع? قال: أن تأكل ما رأيت بعشر يديك غير عائفٍ ولا متقززٍ، ولا كارهٍ ولا متعزز.
وقيل لملاح: ما حد الشبع? قال: حد السكر. قيل: فما حد السكر? قال: ألا تعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض، ولا النافلة من الفرض، من شدة النهس والكسر والقطع والقرض. قيل له فإن السكر محرم، فلم جعلت الشبع مثله? قال: صدقتم، هما سكران: أحد السكرين موصوفٌ بالعيب والخسار، والآخر معروفٌ بالسكينة والوقار. قيل له: أما تخاف الهيضة? قال: إنما تصيب الهيضة من لا يسمي الله عند أكله، ولا يشكره على النعمة فيه. فأما من ذكر الله وشكره فإنه يهضم ويستمرىء ويقوم إلى الزيادة.
وقيل لبخيل: ما حد الشبع? قال: الشبع حرامٌ كله، وإنما أحل الله من الأكل ما نفى الخوى، وسكن الصداع، وأمسك الرمق، وحال بين الإنسان وبين المرح، وهل هلك الناس في الدين والدنيا إلا بالشبع ولاتضلع والبطنة والاحتشاء، والله لو كان للناس إمامٌ لو كل بكل عشرةٍ منهم من يحفظ عليهم عادة الصحة، وحالة العدالة، حتى يزول التعدي، ويفشو الخير.
وقيل لجندي: ما حد الشبع? قال: ما شد العضد، وأحمى الظهر، وأدر الوريد، وزاد في الشجاعة.
وقيل لزاهد: ما حد الشبع? قال: ما لم يحل بينك وبين صوم النهار وقيام الليل. وإذا شكا إليك جائعٌ عرفت صدقه لإحساسك به.
وقيل لمدني: ما حد الشبع? فقال: لا عهد لي به، فكيف أصف ما لا أعرف? وقيل ليمني: ما حد الشبع? قال: أن يحشى حتى يخشى.
وقيل لتركي: ما حد الشبع? قال: أن تأكل حتى تدنو من الموت.
وقيل سمويه القاص: من أفضل الشهداء? قال: من مات بالتخمة، ودفن على الهيضة.
قيل لسمرقندي: ما حد الشبع? قال: إذا جحظت عيناك، وبكم لسانك، وثقلت حركتك، وارجحن بدنك، وزال عقلك، فأنت في أوائل الشبع. قيل له: إذا كان هذا أوله، فما آخره? قال: أن تنشق نصفين.
قيل لهندي: ما حد الشبع? قال: المسئلة عن هذا كالمحال، لأن الشبع من الأرز النقي الأبيض، الكبار الحب، المطبوخ باللبن والحليب، المغروف على الجام البلور، المدوف بالسكر الفائق، مخالفٌ للشبع من السمك المملوح وخبز الذرة، وعلى هذا يختلف الأمر في الشبع. فقيل له: فدع هذا، إلى متى ينبغي أن يأكل الإنسان? قال: إلى أن يقع له أنه إن أراد لقمة زهقت نفسه إلى النار.
قيل لمكارٍ: ما حد الشبع? قال: والله ما أدري، ولكن أحب أن آكل ما مشى حماري من المنزل إلى المنزل.
قيل لجمال: ما حد الشبع? قال: أنا أواصل الأكل فما أعرف الحد، ولو كنت أنتهي لوصفت الحال فيه، أعني أني ساعةً ألت الدقيق، وساعة أمل الملة، وساعةً أثرد، وساعةً آكل وساعةً أشرب لبن اللقاح؛ فليس لي فراغ فأدري أني بلغت من الشبع، إلا أنني أعلم في الجملة أن الجوع عذابٌ وأن الأكل رحمة، وأن الرحمة كلما كانت أكثر، كان العبد إلى الله أقرب، والله عنه أرضى.

قال الوزير: لما بلغت هذا الموضع من الجزء - وكنت أقرأ عليه -: ما أحسن ما اجتمع من هذه الأحاديث! هل بقي منها شيء? قلت: بقي منها جزء آخر. قال: دعه لليلةٍ أخرى وهات ملحة الوداع. قلت: قيل لصوفيٍ في جامع المدينة: ما تشتهي? قال: مائدةً روحاء عليها جفنةٌ رحاء، فيها ثريدةٌ صفراء، وقدرٌ حمراء بيضاء.
قال: أبيت الآن ألا تودع إلا بمثل ما تقدم? وانصرفت.

الليلة الثانية والثلاثون

ثم حضرت فقرأت ما بقي من هذا الفن.
قال رجلٌ من فزارة:

تنبح أحياناً وأحـيانـاً تـهـر

 

وتتمطى ساعةً وتـقـدحـر

تعدو على الضيف بعودٍ منكسر

 

يسقط عنها ثوبهـا وتـأتـزر

لو نحرت في بيتها عشر جزر

 

لأصبحت من لحمهن تعتـذر

بحلفٍ سحٍ ودمعٍ منـهـمـر

 

يفر من قاتلـهـا ولا تـفـر

المقدحر: المتهيىء للسباب.
وقال أبو دلامة الأسدي:

قد يشبع الضيف الذي لا يشبع

 

من الهبيد والحـراد تـسـع

ثم يقول ارضوا بهذا أو دعوا

 

 

وقال آخر:

حتى إذا أضحى تدري واكتحل

 

لجارتيه ثم ولـى فـنـشـل

ذرق الأنـــوقـــــين

 

القـرنـبـي والـجـعـل

وقال آخر:

إذا أتوه بـطـعـامٍ وأكـل

 

بات يعشى وحده ألفي جعل

وقال أبو النجم:

تدني من الجدول مثل الجدول

 

أجوف في غلصمةٍ كالمرجل

تسمع للماء كصوت المسحل

 

بين وريديها وبين الجحـفـل

يلقيه من طرقٍ أتتها من عل

 

قذف لها جوفٍ وشدقٍ أهدل

كأن صوت جرعها المستعجل

 

جندلةٌ دهدهتها في جـنـدل

وقال آخر:

يقول للطاهي المطري في العمل

 

ضهب لنا إن الشـواء لا يمـل

بالشحم إما قد أجمـنـاه بـخـل

 

عجل لنا من ذا وألحق بالـبـدل

وأنشد ابن الأعرابي:

أعددت للضيف ولـلـرفـيق

 

والجار والصاحب والصديق

وللعيال الدردق الـلـصـوق

 

حمراء من معز أبي مرزوق

تلحس خد الحالب الـرفـيق

 

بلين المس قـلـيل الـريق

كأن صوت شخبها الفـتـيق

 

فحيح ضبٍ حربٍ حـنـيق

في جحرٍ ضاق أشد الضيق

 

 

وأنشد أيضاً:

هل لك في مقراة قيلٍ نىء

 

وشكوةٍ باردة النـسـىء

تخرج لحم الرجل الضوي

 

حتى تراه ناهد الـثـدي

وأنشد ابن حبيب:

نعم لقوح الصبية الأصاغـر

 

شروبهم من حلبٍ وحـازر

حتى يروحوا سقط المـآزر

 

وضع الفقاح نشز الخواصر

وأنشد الآمدي:

كأن في فيه حراباً شـرعـا

 

زرقاً تقض البدن المدرعـا

لو عض ركناً وصفاً تصدعا

 

 

وقال محمد بن بشير:

لقل عاراً إذا ضيفٌ تضـيفـنـي

 

ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي

فضل المقل إذ أعطاه مصطـبـراً

 

ومكثرٍ في الغنى سيان في الجود

لا يعدم السائلون الخير أفـعـلـه

 

إما نوالي وإما حسـن مـردودي

قال الأعرابي: نعم الغداء السويق، إن أكلته على الجوع عصم، وإن أكلته على الشبع هضم.
وقال العوامي - وكان زواراً لإخوانه في منازلهم -: العبوس بوس، والبشر بشرى، والحاجة تفتق الحيلة، والحيلة تشحذ الطبيعة.
ورأيت الحنبلوني ينشد ابن آدم - وكان موسراً بخيلاً -:

وما لامرىء طول الخلود وإنما

 

يخلده حسن الثناء فـيخـلـد

فلا تدخر زاداً فتصحب ملجـأً

 

إليه وكله اليوم يخلفه الـغـد

وحكى لنا ابن أسادة قال: كان عندنا - يعني بأصفهان - رجلٌ أعمى يطوف ويسأل، فأعطاه مرةً إنسانٌ رغيفاً، فدعا له وقال: أحسن الله إليك، وبارك عليك، وجزاك خيراً، ورد غربتك. فقال له الرجل: ولم ذكرت الغربة في دعائك، وما علمك بالغربة? فقال: الآن لي ها هنا عشرون سنة ما ناولني أحدٌ رغيفاً صحيحاً.
وقال آخر:

يرى جارهم فيهم نحيفاً وضيفهم

 

يجوع وقد باتوا ملاء المذاخر

وقال الكروسي:

ولا يستوي الاثنان للضيف: آنسٌ

 

كريمٌ، وزاوٍ بين عينيه قاطـب

وأنشد:  

طعامهم فوضى فضى في رحالهم

 

ولا يحسنون السـر إلا تـنـاديا

وأنشد آخر:

يمان ولا يمون وكان شيخاً

 

شديد اللقم هلقاماً بطينـا

العرب تقول: إذا شبعت الدقيقة لحست الجليلة.
قال ابن سلام: كان يخبز في مطبخ سليمان - عليه السلام - في كل يومٍ ستمائة كرٍ حنطة، ويذبح له في كل غداةٍ ستة آلاف ثور وعشرون شاةً، وكان يطعم الناس ويجلس على مائدته بجانبه اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ويقول لنفسه: مسكينٌ بين مساكين.
ولما ورد تهامة وافى الحرم وذبح للبيت طول مقامه بمكة كل يومٍ خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة. وقال لمن حضر: إن هذا المكان سيخرج منه نبيٌ صفته كذا وكذا.
وقال أعرابي:

وإذا خشيت من الفؤاد لـجـاجةً

 

فاضرب عليه بجرعةٍ من رائب

وروى هشيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كرم المرء أن يطيب زاده في السفر.
وقال ابن الأعرابي: يقال: جاء فلانٌ ولقد لغط رباطه من الجوع والعطش.
وأنشد:

ربا الجوع في أونيه حتى كأنه

 

جنيبٌ به إن الجنيب جنـيب

أي جاع حتى كأنه يمشي في جانب متعقفاً.
وقال أيضاً: إن من شؤم الضيف أن يغيب عن عشاء الحي، أي لا يدركه، فيريد إذا جاءهم أن يتكلفوا له عشاءً على حدة.
وأنشد:

حياك ربك واصطبحت ثريدةً

 

وإدامها رزٌ وأنت تـدبـل

واللقمة واللقمة إذا جمعتا من الثريد والعصائد يقال لهما دبلة، ومنه سميت الدبيلة، وهي الورم الذي يخرج بالناس. وأنشد:

أقول لما ابتركوا جنوحـا

 

بقصعةٍ قد طفحت تطفيحا

دبل أبا الجوزاء أو تطيحا

 

 

وقال الفرزدق:

فدبلت أمثال الأثافي كـأنـهـا

 

رءوس أعادٍ قطعت يوم مجمع

وقال سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطيبوا الطعام فإنه أنفى للسخط، وأجلب للشكر، وأرضى للصاحب".
قال بشار:

يغص إذا نال الطعام بذكـركـم

 

ويشرق من وجدٍ بكم حين يشرب

المسعور: الجائع. قال هميان بن قحافة:

لاقى صحافاً بطناً مسعورا

وقال شاعر:

يمشي من البطنة مشي الأبزخ

البزخ: دخول البطن وخروج الثنة أسفل السرة.
وقال آخر:

أغر كمصباح الدجنة يتـقـي

 

شذى الزاد حتى تستفاد أطايبه

شداه: طيبه.
وقال أعرابي: بنو فلان لا يبزرون ولا يقدرون.
وقال الثوري: بطنوا غداءكم بشربة.
وقال الشاعر:

لا يستوي الصوتان حين تجـاوبـا

 

صوت الكريب وصوت ذئبٍ مقفر

الكريب: الشوبق وهو المحور والمسطح.
وقال الشاعر:

إذا جاء باغي الخير قلنا بشاشةً

 

له بوجوهٍ كالدنانير: مرحبـا

وأهلا فلا ممنوع خير تـريده

 

ولا أنت تخشى عندنا أن نؤوبا

قال الشعبي: استسقيت على خوان قتيبة، فقال: ما أسقيك? فقلت: الهين الوجد، العزيز الفقد، فقال: يا غلام، اسقه الماء.
مر مسكينٌ بأبي الأسود ليلاً وهو ينادي: أنا جائع! فأدخله وأطعمه حتى شبع، ثم قال له: انصرف إلى أهلك، وأتبعه غلاماً وقال له: إن سمعته يسأل فاردده إلي. فلما جاوزه المسكين سأل كعادته، فتشبث به الغلام ورده إلى أبي الأسود. فقال: ألم تشبع? فقال: بلى. قال: فما سؤالك? ثم أمر به فحبس في بيتٍ وأغلق عليه الباب، وقال: لا تروع مسلماً سائر الليلة ولا تكذب. فلما أصبح خلى سبيله، وقال: لو أطعنا السؤال صرنا مثلهم.
وسمع دابةً له تعتلف في جوف الليل، فقال: إني لأراك تسهرين في مالي والناس نيام، والله لا تصبحين عندي. وباعها.
وأبو الأسود يعد في الشعراء والتابعين والمحدثين والبخلاء والمفاليج والنحويين والقضاة والعرج والمعلمين.
وقال الشاعر:

أنفق أبا عمـرٍو ولا تـعـذرا

 

وكل من المال وأطعم من عرا

لا ينفع الدرهم إلا مـدبـرا

 

 

كان مسلم بن قتيبة لا يجلس لحوائج الناس حتى يشبع من الطعام الطيب، ويروي من الماء البارد، ويقول: إن الجائع ضيق الصدر، فقير النفس، والشبعان واسع الصدر، غني النفس.
وقال أعرابي:

هلكت هريئةً وهلكت جوعاً

 

وخرق معدتي شوك القتاد

وحبة حنظل ولباب قطـنٍ

 

وتنومٌ ينظم بـطـن وادي

وقال الفرزدق:  

وإن أبا الكرشاء ليس بسارقٍ

 

ولكنه ما يسرق القوم يأكل

ولديك الجن:

إذا لم يكن في البيت ملحٌ مـطـيبٌ

 

وخلٌ وزيتٌ حـول حـب دقـيق

فرأس ابن أمي في حرام ابن خالتي

 

ورأس عدوي في حر أم صديقـي

وقال آخر:

وما جيرةٌ إلا كليب بـن وائلٍ

 

ليالي تحمى عزةً منبت البقل

وقال مسعر بن مكدم لرقبة بن مصلة: أراك طفيلياً. قال: يا أبا محمد، كل من ترى طفيليٌ إلا أنهم يتكاتمون.
وقال شاعر:

قومٌ إذا آنسوا ضيفاً فلم يجـدوا

 

إلا دم الرأس صبوه على الباب

قال المفجع: الرأس الرئيس.
اشتد بأبي فرعون الشاشي الحال فكتب إلى بعض القضاة بالبصرة:

يا قاضي البصرة ذا الوجه الأغر

 

إليك أشكو ما مضى وما غبـر

عفا زمانٌ وشتاءٌ قـد حـضـر

 

إن أبا عمرة في بيتي انجحـر

يضرب بالدف وإن شـاء زمـر

 

فاطرده عني بدقيق ينـتـظـر

فأجابه إلى ما سأل.
ويقال: وقف أعرابيٌ على حلقة الحسن البصري رحمة الله عليه، فقال: رحم الله من أعطى من سعة، وواسى من كفاف، وآثر من قلة. فقال الحسن: ما أبقى أحداً إلا سأله.
وقال ابن حبيب: يقال أحمق من الضبع، وذلك أنها وجدت تودية في غدير، فجعلت تشرب الماء وتقول: يا حبذا طعم اللبن حتى انشق بطنها فماتت. والتودية: العود يشد على رأس الخلف لئلا يرضع الفصيل أمه.
دعا رجل آخر فقال له: هذه تكسب الزيارة وإن لم تسعد، ولعل تقصيراً أنفع فيما أحب بلوغه من برك. فقال صاحبه: حرصك على كرامتي يكفيك مؤونة التكلف لي.
قيل لأعرابي: لو كنت خليفةً كيف كنت تصنع? قال: كنت أستكفي شريف كل قومٍ ناحيته، ثم أخلو بالمطبخ فآمر الطهاة فيعظمون الثريدة ويكثرون العراق، فابدأ فآكل لقماً، ثم آذن للناس، فأي ضياعٍ يكون بعد هذا?! وقال أعرابي لابن عم له: والله ما جفانكم بعظام، ولا أجسامكم بوسام، ولا بدت لكم نار، ولا طولبتم بثار.
وقيل لأعرابي: لم قالت الحاضرة للعبد: باعك الله في الأعراب? قال: لأنا نعري جلده، ونطيل كده، ونجيع كبده.
وقال طفيلي: إذا حدثت على المائدة فلا تزد في الجواب على نعم، فإنك تكون بها مؤانساً لصاحبك، ومسيغاً للقمتك، ومقبلاً على شأنك.
وقيل لأعرابي: أي شيء أحد? قال: كبدٌ جائعة، تلقى إلى أمعاء ضالعة.
وقيل لآخر: أي شيء أحد? قال ضرس جائع، يلقى إلى معي ضالع.
وقال آخر:

أحب أن أصطاد ضباً سحبـلا

 

وورلاً يرتاد رمـلاً أرمـلا

قالت سليمى لا أحب الجوز لا

 

ولا أحب السمكات مـأكـلا

الجوزل: فرخ الحمام. والورل: دابة. أرمل: صفةٌ للورل. وإذا كان كذلك كان أسمن له، وهو يسفد فيهزل.
ويقال: أقبح هزيلين: المرأة والفرس، وأطيب غثٍ أكل غث الإبل، وأطيب الإبل لحماً ما أكل السعدان، وأطيب الغنم لبناً ما أكل الحربث.
ويقال: أهون مظلومٍ سقاءٌ مروب، وهو الذي يسقى منه قبل أن يمخض وتخرج زبدته.
ويقال: سقانا ظليمة وطبه، وقد ظلمت أوطب القوم.
وقال الشاعر:

وصاحب صدقٍ لم تنلني شكاتـه

 

ظلمت وفي ظلمي له عامداً أجر

يعني وطب لبن.
وكان الحسن البصري إذا طبخ اللحم قال: هلموا إلى طعام الأحرار.
قال سفيان الثوري: إني لألقى الرجل فيقول لي مرحباً فيلين له قلبي، فكيف بمن أطأ بساطه، وآكل ثريده، وأزدرد عصيده?.
حكى أبو زيد: قد هجا غرثى: إذا ذهب، وقد أهجأ طعامكم غرثى: إذا قطعه.
قال الشاعر:

فأخزاهم ربـي ودل عـلـيهـم

 

وأطعمهم من مطعمٍ غير مهجي

قال: ويقال بأرت بؤرةً فأنا أبارها، إذا حفرت حفيرةً يطبخ فيها وهي الإرة. ويقال: أرت إرةً فأنا أثرها وأراً.
وقال حسان:

تخال قدور الصاد حول بيوتنا

 

قنابل دهماً في المباءة صيما

قال أبو عبيدة: كان الأصمعي بخيلاً، وكان يجمع أحاديث البخلاء ويوصي بها ولده ويتحدث بها.
وكان أبو عبيدة إذا ذكر الأصمعي أنشد:

عظم الطعام بعينه فكأنه

 

هو نفسه للآكلين طعام

ويقال: أسأرت، إذا أبقيت من الطعام والشراب أو غيرهما، والاسم السؤر وجماعته الأسآر. ويقال: فأدت الخبزة في الملة أفادها إذا خبزتها فيها. والمفأد: الحديدة التي يخبز بها ويشوى. ويقال: تملأت من الأكل والشراب تملوا، إذا شبعت منهما وامتلأت. ويقال: لفأت اللحم عن العظم لفأً إذا جلفت اللحم عن العظم. واللفيئة هي البضعة التي لا عظم فيها نحو النحضة والهبرة والوذرة.
وأنشد يعقوب:

سقى الله الغضا وخبوت قومٍ

 

متى كانت تكون لهم ديارا

أناسٌ لا ينادي الضيف فيهم

 

ولا يقرون آنيةً صـغـارا

قال الأصمعي: قال ابن هبيرة: تعجيل الغداء يزيد في المروءة، ويطيب النكهة، ويعين على قضاء الحاجة.
قال بعض العرب: أطيب مضغة أكلها الناس صيحانيةٌ مصلبة.
ويقال: آكل الدواب، برذونةٌ رغوث وهي التي يرضعها ولدها.
قال أبو الحارث حميد: ما رأيت شيئاً أشبه بالقمر ليلة البدر من قدرٍ سقيت اللبن كثيرة السكر.
وقال الشاعر:

وإني لأستحيي رفيقـي أن يرى

 

مكان يدي من جانب الزاد أقرعا

ضم عثمان بن رواح السفر ورفيقاً له، فقال له الرفيق: امض إلى السوق فاشتر لنا لحماً. قال: والله ما أقدر. قال: فمضى الرفيق واشترى اللحم ثم قال لعثمان: قم الآن فاطبخ القدر. قال: والله ما أقدر. فطبخها الرقيق. ثم قال: قم الآن فاثرد. قال: والله إني لأعجز عن ذلك. فثرد الرفيق. ثم قال: قم الآن فكل. فقال: والله لقد استحييت من كثرة خلافي عليك، ولولا ذلك ما فعلت.
قال يونس: أتيت ابن سيرين فدعوت الجارية، فسمعته يقول: قولي إنه نائم. فقلت: معي خبيص. فقال: مكانك حتى أخرج إليك.
قال أردشير: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر بن عبد الله: هلاك الرجل أن يحتقر ما في بيته أن يقدمه إلى ضيفه، وهلاك الضيف أن يحتقر ما قدم إليه.
وقال الشاعر:

يا ذاهباً في داره جـاثـياً

 

بغير معنىً وبـلا فـائده

قد جن أضيافك من جوعهم

 

فاقرأ عليهم سورة المائده

وقال ابن بدر:

ونحن نبذل عند القحط ما أكلوا

 

من السديف إذا لم يؤنس القزع

وننحر الكوم عبطاً في أرومتنا

 

للنازلين إذا ما استنزلوا شبعوا

وقال آخر:

أطعمني بـيضةً ونـاولـنـي

 

من بعد ما ذقت فقده قـدحـا

وقال أي الأصوات تسئلنـي?

 

يزيد، إني أراك مقـتـرحـا

فقلت صوت المقلي وجـردقةً

 

إن خاب ذا الاقتراح أو صلحا

فقطب الوجه وانثنى غضـبـاً

 

وكان سكران طافحاً فصحـا

فقلت: إني مزحت، قال: كـذا

 

رأيت حراً بمثل ذا مزحـا?

قال ابن حبيب: كان الرجل إذا اشتد عليه الشتاء تنحى ونزل وحده لئلا ينزل به ضيفٌ فيكون صقعاً مستحباً.
وهذا ضد قول زهير:

بسط البيوت لكي تكون مطيةً

 

من حيث توضع جفنة استرفد

فإذا كان الشتاء انحاز الناس من الجدب والجهد، وإذا أخصبوا أغاروا للثأر لا للسؤال.
وقال الشاعر في عبيد الله بن عباس:

ففي السنة الجدباء أطعمت حامضاً

 

وحلواً وشحماً تامكاً وسـنـامـا

وقال مجاهدٌ في قول الله عز وجل: "وأعتدت لهن متكئاً"، أي طعاماً، يقال: اتكأنا عند فلانٍ، أي طعمنا.
ذكر الأصمعي أن أعرابياً خرج في سفر ومعه جماعة، فأرمل بعضهم من الزاد، وحضر وقت الغذاء وجعل بعضهم ينتظر بعضاً بالغداء، فلما أبطأ ذلك عليهم عمد بعضهم إلى زاده فألقاه بين يدي القوم، فأقبلوا يأكلون، وجلس صاحب الزاد بعيداً للتوفير عليهم، فصاح به أعرابي: يا سؤدداه! وهل شرفٌ أفضل من إطعام الطعام والإيثار به في وقت الحاجة إليه? لقد آثرت في مخمصةٍ ويوم مسغبة، وتفردت بمكرمة قعد عنها من أرى من نظرائك، فلا زالت نعم الله عليك غاديةً ورائحة.
وفي مثله يقول حاتمٌ الطائي:

أكلف يدي من أن تنال أكفـهـم

 

إذا ما مددناها وحاجاتنا مـعـا

وإني لأستحيي رفيقـي أن يرى

 

مكان يدي من جانب الزاد أقرعا

قال: المخمصة: المجاعة. والخمص: الجوع.
قال شاعرٌ يذم رجلاً:  

يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعةً

 

يبت قلبه من قلة الهم مبـهـمـا

وقال المرقش الأكبر:

إن يخصبوا يغنوا بخصبهم

 

أو يجدبوا فجدوبهم ألـم

وكتب بعضهم إلى أخٍ له: إن رأيت أن تروي ظمأ أخيك بقربك، وتبرد غليله بطلعتك، وتؤنس وحشته بأنسك، وتجلو غشاء ناظره بوجهك، وتزين مجلسه بجمال حضورك، وتجعل غداءك عنده في منزلك الذي هو فيه ساكن، وتممت له السرور بك باقي يومك، مؤثراً له على شغلك، فعلت - إن شاء الله -.
وقال الشاعر:

وكأن هدر دمائهم في دورهم

 

لغط القبيل على خوان زياد

قال بعض الخطباء: العجب من ذي جدةٍ منعمٍ عليه يطوي جاره جوعاً وقراً، وأفرخه شعثٌ جردٌ من الريش، وهو مبطانٌ محتشٍ من حلوه وحامضه، مكتنٌ في كنه ودفئه، مزينٌ له شهوةٌ عن أداء الذي عليه لجاره وقريبه وذي حلةٍ بطرٍ رفةٍ كيف يأمن سلباً مفاجئاً? أما لو وجه بعض فضله إلى ذي حاجةٍ إليه كان مستديماً لما أولى، مستزيداً مما أوتي.
قال الشاعر:

وإذا تأمل شخص ضيفٍ مقبلٍ

 

متسربلٍ سربال محلٍ أغبـر

أوما إلى الكوماء هذا طارقٌ

 

نحرتني الأعداء إن لم تنحري

وفي هذه الأبيات ما يستحسن:

كم قد ولدتم من كـريمٍ مـاجـدٍ

 

دامي الأظافر أو غمامٍ ممطـر

سدكت أنامله ققـائم مـرهـفٍ

 

وبنشر عـائدةٍ وذروة مـنـبـر

يلقي السيوف بوجهه وبنـحـره

 

ويقيم هامته مقام الـمـغـفـر

ويقول للطرف: اصطبر لشبا القنا

 

فعقرت ركن المجد إن لم تعقر

وقال آخر:

وقـال وقـدم كـشـكـية

 

فكل شبعاً إنها في النهـايه

تطفي المرار وتنفي الخمار

 

وما بعدها في النهايات غايه

ولا تتوقع أخيراً بـحـبـك

 

ففي أول المستطاب الكفايه

وقال آخر:

كأنـمـا فـوه إذا تـمـددا

 

للقم أخلاق جرابٍ أسـودا

كأنه مخترصٌ بـد جـودا

 

جاني جرادٍ في وعاء مقلدا

وصاحبٍ صاحبت غير أبعدا

 

تراه بين الحربتين مسنـدا

الحربة: الغرارة.
وقال جابر بن قبيصة: ما رأيت أحلم جليساً، ولا أفضل رفيقاً، ولا أشبه سريرةً بعلانية، من زياد.
وقال جابر أيضاً: شهدت قوماً ورأيتهم بعيني، فما رأيت أقرأ لكتاب الله، ولا أفقه في دين الله، من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وما رأيت رجلاً أعطى من صلب ماله في غير ولائه، من طلحة بن عبيد الله. وما رأيت رجلاً أسود من معاوية. وما رأيت رجلاً أنصع ظرفاً، ولا أحضر جواباً، ولا أكثر صواباً، من عمرو بن العاص. وما رأيت رجلاً المعرفة عنده أنفع منها عند غيره، من المغيرة بن شعبة.
ويقال: ما كان الطعام مريئاً ولقد مرأ، وما كان الرجل مريئاً وقد مرؤ.
وقال لنا القطان أبو منصور رئيس أهل قزوين: الرجل من أرض أردبيل إذا دخل بلداً يسأل فيقول: كيف الخبز والمبرز، ولا يسأل عن غيرهما. فقيل له: لم ذلك? فقال: يأخذ الخبز والمبرز ويأكل ويسلح إلى الصباح.
قال الشاعر:

وما تنسنا الأيام لا ننس جوعنـا

 

بدار بني بدر وطول التـلـدد

ظللنا كأنا بينهم أهـل مـأتـمٍ

 

على ميتٍ مستودعٍ بطن ملحد

يحدث بعضٌ بعضنا عن مصابه

 

ويأمر بعضٌ بعضنا بالتجـلـد

وقال آخر:

دعوني فإني قد تـغـديت آنـفـاً

 

فإن مس كفي خبزكم فاقطعوا يدي

وقال آخر يصف دار قوم:

الجوع داخلها واللوح خارجها

 

وليس يقربها خبزٌ ولا مـاء

قال الهلالي: أتى رجلٌ أبا هريرة فقال: إني كنت صائماً فدخلت بيت أبي فوجدت طعاماً، فنسيت فأكلت. قال: الله أطعمك. قال: ثم دخلت بيتاً آخر فوجدت أهله قد حلبوا لقحتهم فسقوني، فنسيت فشربت. فقال: يا بني هون عليك فإنك قلما اعتدت الصيام.
وقال الشاعر:

وجدت وعدك زوراً في مـزورةٍ

 

ذكرت مبتدئاً إحكام طـاهـيهـا

فلا شفى الله من يرجو الشفاء بها

 

ولا علت كف ملق كفه فـيهـا

فاحبس رسولك عني أن يجىء بها

 

فقد حبست رسولي عن تقاضيها

قال مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله، أنت سيدنا، وأنت أطولنا علينا طولاً، وأنت الجفنة الغراء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا بقولكم ولا يستفزنكم الشيطان فإنما أنا عبد الله ورسوله".
وقال آخر:

وأحمر مبيض الزجـاج كـأنـه

 

رداء عروسٍ مشربٌ بخـلـوق

له في الحشا برد الوصال وطعمه

 

وإن كان يلقاه بـلـون حـريق

كأن بياض اللوز في جنـبـاتـه

 

كواكب درٍ في سماء عـقـيق

قال يونس: أشد طعامٍ ضراً ما كان من عامٍ إلى عام، وهو اللبأ الذي لا يوجد إلا في الولادة كل عامٍ وإن كان مزبداً.
حكى يونس: أشد طعامٍ ضراً ما كان من عامٍ إلى عام، وهو اللبأ الذي لا يوجد إلا في الولادة كل عامٍ وإن كان مزبداً.
حكى يونس: التنافيط، أن ينزع شعر الجلد ثم يلقى في النار ثم يؤكل، وذلك في الجدب.
وقال الشاعر:

جاورت شيبان فاحلولي جوارهم

 

إن الكرام خيار الناس للجـار

وكتب ابن دينار إلى صديق له: وكتبت تفضلاً منك تعتذر من تأخرك عن قضاء حق زيارتي بقصور يديك عن برٍ يشبهني ويشبهك؛ فأما ما يشبهني في هذا الوقت فرغيفٌ وسكرجة كامخٍ حريف يثقب اللسان بحرافته.
وكان ابن أبي البغل إذا أنشد: أروني من يقوم لكم مقامي يقول: لو شهدت قائله لقلت: كلب الحارس يقوم مقامك. هذه قصةٌ في حضور ما يشبهني، فأما ما يشبهك فمتعذر كما قيل:

ومطلب مثلي إن أردت عسير

وقال رجل لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما أعددت في كنانتي سهماً غيرك. فقال: لا تعدني في كنانتك فوالله لو قمت فيها لطلتها، ولو جلست فيها لخرقتها. ولئن انتظرت بي ما يشبهك طال الانتظار، والعامة تتمثل - على خساسة لفظها -: "إذا أردت ألا تزوج ابنتك فغال بمهرها". وأملي فيك على الأحوال بعيد، وظني فيك جميل، ولست أخشى فيما لي عندك الفوت فأعجله، وهل يلقم الكلب إلا الحجر.
العرب تقول: لئيمٌ جبان.
وقال أعرابي: لا يكن بطن أحدكم عليه مغرماً، ليكسره بالتميرة والكسيرة والبقيلة والعليكة.
قال ابن الأعرابي: الفرزدق، الرغيف الواسع.
قيل لابن القرية: تكلم. فقال: لا أحب الخبز إلا يابساً. أراد لا أحب أن أتكلم إلا بعد الارتثاء.
وروى أبو عبيدة في تفسير بيت الأعشى في ديوانه:

إذا ما هم جلسوا بالعشي

 

فأحلام عادٍ وأيدي هضم

قال: شبههم بأنسال عاد، وهم ثمانية ذوو أحلامٍ وسؤدد: مالك - وهو سيد الثمانية - وعمار وطفيل، وشمر، وقرزعة، وحممة، ونئض، ودفيف؛ وهم الذين بعث لقمان بن عادٍ جاريةً بعسٍ من لبن، فقال لها: ايتي الحي فادفعيه إلى سيدهم لا تسألي عنه. فأتت الجارية الحي، فرأتهم مختلفين بين عاملٍ ولاعب، وثمانيةً على رءوسهم الطير وقاراً؛ ورأت جاريةً من الحي، فأخبرتها بما قال لقمان؛ قالت: هؤلاء سادة الحي، وسأصف لك كل واحدٍ منهم، فادفعي العس إلى من شئت. أما هذا فعمار، أخاذٌ ودار، لا تخمد له نار، المعشبات عقار "المعشبة: التي تسمن على شحمٍ قديم"، وأما هذا فحممة، غداؤه كل يوم ناقةٌ سنمة، وبقرةٌ شحمة، ورشاةٌ كدمة. وأما هذا فقرزعة، إذا لقي جائعاً أشبعه، وإذا لقي قرناً جعجعه وقد خاب جيشٌ لا يغزو معه. وأما هذا فطفيل، غضبه حين يغضب ويل، ورضاه حين يرضى سيل، ولم تحمل مثله على ظهرها إبلٌ ولا خيل، وأما هذا فشمر، ليس في أهله بالشحيح للقتر، ولا المسرف البطر، ولا يخدع الحي إذا اؤتمر.
وأما هذا فدفيف، قاري الضيف، ومغمد السيف، ومعيل الشتاء والصيف وأما هذا فنئضٌ، أسنت الحي فمرض، فعدل مرضه عندهم إسناتهم، أي قحطهم، فقاموا عليه فأوسعهم دقيقاً ولحماً غريضاً، ومسكاً رميضاً، وكساهم ثياباً بيضاً؛ وأما هذا فما لك، حاميتنا إذا غزونا، ولطعم ولداننا إذا شتونا، ودافع كل كريهةٍ إذا عدت علينا. فدفعت العس إلى مالكٍ، فكان سيدهم.
بشرت امرأةٌ زوجها بأن ابنها منه قد اتغر، فقال: أتبشرينني بعدو الخبز؛ اذهبي إلى أهلك.
قال الشاعر:

من يشتري مني أبا زين

 

بكر بن نطاحٍ بفلسـين

كأنما الآكل من خبـزه

 

يقلع منه شحمة العين

وأنشد غليم من بني دبير:  

يابن الكرام حسبـاً ونـائلا

 

حقاً أقول لا أقول باطـلا

إليك أشكو الدهر والزلازلا

 

وكل عامٍ نقح الحـمـائلا

التنقيح: القشر، أي قشروا حمائل سيوفهم فباعوها لشدة زمانهم.
وأنشد:

سلا أم عبادٍ إذا الريح أعصفت

 

وجلل أطراف الرعان قتامهـا

وجفت بقايا الطرق إلا نضـيةً

 

يصد الأشافي والمواسي سنامها

وضم إلي الليل منـزل رفـقةٍ

 

ترامت بهم طخياء داجٍ ظلامها

تكاد الصبا تهتزهم من ثيابـهـم

 

شديداً بأرياط الرجال اعتصامها

لقد علمت أني مفيدٌ ومتـلـفٌ

 

ومطعم أيامٍ يحب طعـامـهـا

وقال آخر:

إن بني غاضرة الكرامـا

 

إن يقم الضيف بهم أعواما

يكن قراه اللحم والسنامـا

 

أو يصبح الدهر لهم غلاما

يكن ظريفاً وجهه كراما

 

 

وقال سماعة بن أشول:

رأت إبلاً لابني عبيدٍ تمنعـت

 

من الحق لم تورك بحقٍ إيالها

فقالت ألاببألا تغدو لقاحك هكذا

 

فقلت أبت ضيفانها وعيالهـا

فما حلبت إلا الثلاثة والثـنـى

 

ولا قيلت إلا قريباً مقالـهـا

وأنشد أبو الجراح:

أرى الخلان قد صرموا وصالي

 

وأضحوا لا سـلام ولا كـلام

وما أذنبت مـن ذنـبٍ إلـيهـم

 

سوى خف المنائح والـسـوام

وقال آخر:

خرقٌ إذا وقع المطي من الوجا

 

لم يطو دون دقيقه ذو المزود

حتى تـؤوب بـه قـلـيلا....

 

حمد الرفيق نداك أو لم يحمـد

وقال آخر:

تزودت إذ أقبلت نحوك غـادياً

 

إليك ونحو النـاس لا أتـزود

أراني إذا ما جئت أطلب نائلاً

 

نظرت إلى وجهي كأنك أرمد

ويقال: أزواد الركب من قريشٍ أبو أمية بن المغيرة، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، ومسافر بن أبي عمرو بن أيمة عم عقبة كانوا إذا سافروا خرج معهم الناس فلم يتخذوا زاداً، ولم يوقدوا ناراً كانو يكفونهم.
وقال الشاعر:

وبالبدو جودٌ لا يزال كأنـه

 

ركامٌ بأطراف الإكام يمور

وقال آخر:

والناس إن شبعت بطونهم

 

فغيرهم من ذاك لا يشبع

وقال آخر:

دورٌ تحاكي الجنان حسناً

 

لكن سكانها خـسـاس

متى أرى الجند ساكنيها

 

وفي دهاليزهـا يداس

وقال آخر:

لولا مخافة ضعفي عن ذوي رحمي

 

وحال معتصمٍ بي مـن ذوي عـدم

وحاجة الأخ تبدو لي فأنجـحـهـا

 

لم أثن في عملٍ كفي على قلمـي

وقال آخر:

وأوثر ضيفي حين لا يوجد القرى

 

بقوتي أحبـوه وأرقـد طـاويا

وما استكثرت نفسي لباذل وجهه

 

نوالاً وإن كان النـوال حـياتـيا

وقال المبرد: البطن: الذي لا يهمه إلا بطنه. والرغيب: الشديد الأكل. والمنهوم: الذي تمتلىء بطنه ولا تنتهي نفسه.
وأنشد ابن الأعرابي:

وإن قرى أهل النبـاج أرانـبٌ

 

وإن جاء بعد الريث فهو قلـيل

إذا صد مثغورٌ وأعرض معرضٌ

 

فيومٌ على أهل النبـاج طـويل

وقال آخر:

يمينك فيها الخصب والناس جوعٌ

 

وقد شملتهم حرجـفٌ ودبـور

وقال آخر:

ألقت قوائمها خساً وترنمت

 

طرباً كما يترنم السكران

يعني قدراً. وقوائمها، يعني الأثافي. وخسا: فرد.
وأنشد:

بئس عذاب العزب المرموع

 

حوأبةٌ تنقض بالضـلـوع

الرماع: داء. وحوأبة: دلوٌ كبيرة. والحوب والحوب: الإثم.
والحيبة: الحال. والحوباء: النفس.
العرب تقول: ماءٌ لا تبن معه ولا غيره. خبزٌ قفار: لا أدم معه. وسويقٌ جافٌ هو الذي لم يلت بسمنٍ ولا زيتٍ. وحنظلٌ مبسل، وهو أن يؤكل وحده.
قال الراجز:

بئس الطعام الحنظل المبسل

 

ياجع منه كبدي وأكسـل

ويبجع أيضاً.
وقال أبو الجراح: المبسل يحرق الكبد. والمبكل: أن يؤكل بتمرٍ أو غيره، يقال بكلوه لنا، أي اخلطوه. قال: وعندنا طعامٌ يقال له: الخولع وهو أن يؤخذ الحنظل فينقع مراتٍ حتى تخرج مرارته، ثم يخلط معه تمرٌ ودقيق فيكون طعاماً طيباً. وقال: الخليطة والنخيسة والقطيبة: أن يحلب ابن الضأن على لبن المعزى، والمعزى على لبن الضأن، أو حلب النوق على لبن الغنم.
قال:

اسقني وابرد غليلي

ملىء الرجل: سمن بعد هزال.
قيل لطفيل العرائس: كم اثنين في اثنين? قال: أربعة أرغفة.
وقيل له: حكي أن العرب تقول نحن العرب أقرى الناس للضيف، فقال: إن هذا النصب على المدح.
وقال العماني:

من كل جلفٍ لم يكن مـرمـا

 

جعدٍ يرى منه التصنع ريثمـا

لم يتجشأ من طعـامٍ بـشـمـا

 

.......

ولم يبت من قترةٍ مـوصـمـاً

 

يغمز صدغيه ويشكو الأعظما

إذا جاع بـطـنـه تـحـزمـا

 

لم يشرب الماء ولم يخش الظما

يكفيه من قارضةٍ ما يمـمـا

 

 

وخلةٍ منه إذا ما أعيما

 

أصاب منه مشرباً ومطعـمـا

لا يعقر الشارف إلا محـرمـا

 

ولا يعاف بصلاً وسلـجـمـا

يوماً ولم يفغر لبطـيخٍ فـمـا

 

فهو صحيحٌ لا يخاف سقـمـا

أسود كالمحراث يدعي شجعمـا

 

صمحمحٌ من طول ما تأثـمـا

لم يبل يوماً سورةً من العمـى

 

ولم يحج المسجد المـكـرمـا

ولم يزر حطيمـه وزمـزمـا

 

ولا تراه يطلب التـفـهـمـا

لو لم يرب مسلماً ما أسـلـمـا

 

ما عبد اثنان جميعاً صـنـمـا

عاتٍ يرى ضرب الرجال مغنما

 

إذا رأى مصدقاً تـجـهـمـا

وهز في الكف وأبدى المعصما

 

هراوتين نـبـعةً وسـلـمـا

يترك ما رام رفـاتـاً رمـمـا

 

وإن رأى إمـرةً تـزعـمـا

لم يعطه شيئاً وإن تـزعـمـا

 

وإن قرا عهداً له منمـنـمـا

هان عليه شق ما قـد رقـمـا

 

وأن يدق طينه المـخـتـمـا

صمصامه ماضٍ إذا ما صممـا

 

إذا اعترته عزةٌ ثم انـتـمـى

في ثروة الحي إذا مـا يمـمـا

 

ظل يرى حكماً عليه مبـرمـا

أن يظلم الناس وألا يظلـمـا

 

 

وقال آخر:

ما كان ينكر في ندى مجـاشـعٍ

 

أكل الخزير ولا ارتضاع الفيشل

وقال آخر:

بلادٌ كأن الجوع يطلب أهـلـهـا

 

بذحلٍ إذا ما الضيف صرت جنادبه

وقال آخر:

كرية لا يطعم الـكـريا

 

بالليل إلا جرجراً مقلـيا

محترقاً نصفاً ونصفاً نيا

 

 

وقال الأصمعي: قال الهيثم بن جراد - وذم قوماً -: والله ما أنتم آل فلاةٍ فتعصمكم، ولا أنتم آل ريفٍ فتأكلون. فقيل: لو زدت? فقال: ما بعد هذا شيء.
قال: وما أشبه هذا الجواب بقول عقيل بن علفة حين قيل له: لم لا تطيل الهجاء? قال: يكفيك من القلادة ما أحاط العنق.
وقيل لابن عمر: لو دعوت الله بدعوات? فقال: اللهم عافنا وارحمنا وارزقنا. فقيل له: لو زدتنا? فقال: نعوذ باله من الإسهاب.
قال شاعر:

إذا أغلق الباب الكريم من القرى

 

فليس على باب الفرزدق حاجب

فتىً يشتري حسن الثناء بمـالـه

 

إذا اغبر من برد الشتاء الكواكب

قال: وكل لحمٍ وخبزٍ أنضج دفيناً فهو مليل، وما كان في تنور فهو شواء؛ وما كان في قدرٍ فهو حميل.
قال الأحنف لعمر بن الخطاب: إن إخواننا من أهل الكوفة والشام نزلوا في مقلة الجمل وحولاء الناقة من أنهارٍ متفجرة، وثمارٍ متدلية، ونزلنا بسبخةٍ نشاشة يأتينا ماءنا في مثل حلقوم النعامة أو مرىء الحمل، فإما أن تشق لنا نهراً، وإما أن ترفعنا إليك.
قال جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج.
والعرب تقول: أكرموا الإبل إلا في بيتٍ يبنى، أو دمٍ يفدى، أو عزبٍ يتزوج، أو حمل حمالة.
وقال معاوية لأعرابي: ما تجارتك? قال: أبيع الإبل، قال: أما علمت أن أفواهها حرب، وجلودها جرب، وبعرها حطب، وتأكل الذهب.
وقال خالد بن صفوان: الإبل للبعد، والبغال للثقل، والبراذين للجمال والدعة، والحمير للحوائج، والخيل للكر والفر.
وقال آخر:

يقذفن في الأعناق والغلاصم

 

قذف الجلاميد بكف الراجم

يريد بالأعناق الحلوق.
وقال آخر:

نغار إذا ما الروع أبدى عن البرى

 

ونقرى عبيط اللحم والماء جامس

وقال آخر:  

تلك المكارم لا ناقٌ مـصـرمةٌ

 

ترعى الفلاة ولا قعبٌ من اللبن

وقال أبو الصلت:

تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ

 

شيباً بماءٍ فعادا بعد أبـوالا

ووصف بعض البلغاء التجار فقال: لا يوجد الأدب إلا عند الخاصة والسلطان ومدبريه، وأما أصحاب الأسواق فإنا لا نعدم من أحدهم خلقاً دقيقاً وديناً رقيقاً، وحرصاً مسرفاً، وأدباً مختلفاً، ودناءة معلومة، ومروءة معدومة وإلغاء اللفيف، ومجاذبةً على الطفيف، يبلغ أحدهم غاية المدح والذم في علقٍ واحد في يوم واحد مع رجل واحد، إذا اشتراه منه أو باعه إياه، إن بايعك مرابحةً وخبر بالأثمان، قوي الأيمان على البهتان، وإن قلدته الوزن أعنت لسان الميزان، ليأخذ برجحانٍ أو يعطى بنقصان؛ وإن كان لك قبله حقٌ لواه محتجاً في ذلك بسنة السوفيين، يرضى لك ما لا يرضى لنفسه، ويأخذ منك بنقدٍ ويعطيك بغيره، ولا يرى أن عليه من الحق في المبايعة مثل ما له؛ إن استنصحته غشك، وإن سألته كذبك، وإن صدقته حربك متمردهم صاعقةٌ على المعاملين، وصاحب سمتهم نقمةٌ على المسترسلين؛ قد تعاطوا المنكر حتى عرف، وتناكروا المعروف حتى نسي، يتمسكون من الملة بما أصلح البضائع، وينهون عنها كلما عادت بالوضائع؛ يسر أحدهم بحيلةٍ يرزقها لسلعةٍ ينفقها، وغيلةٍ لمسلمٍ يحميه الإسلام، فإذا أحكم حيلته وغيلته غدا قادراً على حرده، فغر وضر، وآب إلى منزله بحطام قد جمعه مغتبطاً بما أباح من دينه وانتهك من حرمة أخيه، يعد الذي كان منه حذقاً بالتكسب، ورفقاً بالمطلب، وعلماً بالتجارة وتقدماً في الصناعة.
فلما بلغت قراءتي هذا الموضع قال الوزير: إن كان هذا الواصف عنى العامة بهذا القول فقد دخل في وصفه الخاصة أيضاً، فوالله ما أسمع ولا أرى هذه الأخلاق إلا شائعة في أصناف الناس من الجند والكتاب والتناء والصالحين وأهل العلم؛ لقد حال الزمان إلى أمرٍ لا يأتي عليه النعت، ولا تستوعبه الأخبار، وما عجبي إلا من الزيادة على مر الساعات، ولو وقف لعله كان يرجى بعض ما قد وقع اليأس منه؛ واعترض القنوط دونه.
فقال ابن زرعة وكان حاضراً: هذا لأن الزمان من قبل كان ذا لبوس من الدين رائع، وذا يدٍ من السياسة بسيطة، فأخلق اللبوس وبلي، بل تمزق وفني، وضعفت اليد بل شلت وقطعت، ولا سبيل إلى سياسة دينية لأسبابٍ لا تتفق إلا بعلل فلكية، وأمور سماوية، فحينئذ يكون انقياد الأمور الجانحة لها، في مقابلة حران الأمور الجامحة عنها، وذلك منتظر في وقته، وتمنى ذلك قبل إبانه وسواس النفس، وخور الطباع، والناس أهدافٌ لأغراض الزمان ومقلبون بحوادث الدهور، ولا فكاك لهم من المكاره، ولا اعتلاق لهم بالمحاب إلا بالدواعي والصوارف التي لا سبيل لهم إلى تحويل هذه إلى هذه، ولا إلى تبديل هذه بهذه، واختيارهم للتوجه إلى محبوبهم أو الإعراض عن مكروههم ضعيفٌ طفيف، ولولا ذلك لكانت الحسرات تزول في وقت ما يراد، والغبطة تملك بإدراك ما يتمنى، وهذا شأوٌ محكومٌ به بقوة النفس، غير مستيقظٍ إليه بقوة الحس.
فقال الوزير: أحسنت يا أبا عليٍ في هذا الوصف، وإن نفثك ليدل على أكثر من ذلك، ولو كان البال ظافراً بنعمة، والصدر فارغاً من كربة، لكنا نبلغ من هذا الحديث مبلغاً نشفي به غليلنا قائلين ونشفي به مستمعين، ولكني قاعدٌ معكم وكأني غائب، بل أنا غائبٌ من غير كاف التشبيه، والله ما أملك تصرفي ولا فكري في أمري، أرى واحداً في فتل حبل، وآخر في حفر بئر، وآخر في نصب فخ، وآخر في تمزيق عرض، وآخر في اختلاق كذب، وآخر في صدع ملتئم، وآخر في عقد، وآخر في نفث سحر، وناري مع صاحبي رماد، وريحه على عاصفة، ونسيمي بيني وبينه سموم، ونصيبي منه هموم وغموم، وإني أحدثكم بشيء تعلمون به صدقي في شكواي، وتقفون منه على تفسخي تحت بلواي، ولولا أني أطفىء بالحديث لهباً قد تضرم صدري به ناراً، واحتشى فؤادي منه أواراً؛ لما تحدثت به، ولو استطعت طيه لما نبست بحرفٍ منه، ولكن كتماني للحديث أنقب لحجاب القلب من العتلة لسور القصر.
دخلت منذ أيام فوصلت إلى المجلس، فقال لي قد أعدت الخلعة فالبسها على الطائر الأسعد، فقلت أفعل، وفي تذكرتي أشياء لابد من ذكرها وعرضها. فقال: هات، فقلت: يتقدم بكذا وكذا، ويفعل كذا وكذا. فقال: عندي جميع ذلك، أمض هذا كله، واصنع فيه ما ترى، وما فوق يدك يد، ولا عليك لأحدٍ اعتراض؛ فانقلبت عن المجلس إلى زاويةٍ في الحجرة، وفيها تحدرت دموعي، وعلا شهيقي، وتوالى نشيجي، حتى كدت أفتضح فدنا مني بعض خدمي من ثقاتي، فقال: ما هذا? الناس وقوفٌ ينتظرون بروزك بالخلعة المباركة والتشريف الميمون، وأنت في نوحٍ وندم?! فقلت: تنح عني ساعةً حتى أطفىء نار صدري، وإنما كان ذلك العارض لأني كنت عرضت على صاحبي تذكرةً مشتملةً على أشياء مختلفة، فأمضاها كلها، ولم يناظرني في شيء منها، ولا زادني شيئاً فيها، ولا ناظرني عليها، ولعلي قد بلوته بها، وأخفيت مغزاي في ضمنها، فخيل إلي بهذه الحال أن غيري يقف موقفي، فيقول في قولاً مزخرفاً، وينسب إلي أمراً مؤلفاً، فيمضي ذلك أيضاً له كما أمضاه لي، فوجدتني بهذا الفكر الذي قد فتق لي هذا النوع من الأمر كراقمٍ على صفحة ماء، أو كقابضٍ في جوٍ على قطعةٍ من هواء؛ أو كمن ينفخ في غير فحم، أو يلعب في قيد، ولقد صدق الأول حيث قال:

وإن امرأً دنياه اكبر همـه

 

لمستمسكٌ منها بحبل غرور

غير أني أذكر لكم ما عن لي من هذا الأمر.
اعلموا أني ظننت أن مانظمه الماضي - رحمه الله - وأصلحه، وبناه وقومه، ونسجه ونوقه لا يستحيل في ثلاثين سنةً ولا خمسين سنة؛ وأن الحال تدوم على ذلك المنهاج، وتستمر على ذلك السياج، ونكون قد أخذنا بطريق من السعادة، وبلغنا لأنفسنا بعض ما كنا نسلط عليه التمني من الإرادة فنجمع بين علو المرتبة، وشرف الرياسة، ونيل اللذة، وإدراك السرور، واصطناع العرف، وكسب الثناء، ونشر الذكر، وبعد الصيت، فعاد ذلك كله بالضد، وحال إلى الخلاف، ووقف على الفكر المضني، والخوف المقلق، واليأس الحي، والرجاء الميت؛ وما أحسن ما قال القائل:

أظمتني الدنيا فلما جـئتـهـا

 

مستسقياً مطرت علي مصائبا

فقال له ابن زرعة: إن الأمور كلها بيد الله، ولا يستنجز الخير إلا منه، ولا يستدفع الشر إلا به، فسله جميل الصنع وحسن النية وانو الخير، وبث الإحسان، وكل أعداءك إلى ربك الذي إذا عرف صدقك وتوكلك عليه فلل حدهم، وغفر خدهم، وسيح الفرات إلى جمرتهم حتى يطفئها، وسلط الأرضة على أبدانهم حتى تقرضها، وشغلهم بأنفسهم، وخالف بين كلمتهم، وصدع شمل جميعهم، وردهم إليك صاغرين ضارعين، وعرضهم عليك خاضعين، وما ذلك على الله بعزيز، وإن الله مع المحسنين على المسيئين.
قال: والله لقد وجدت روحاً كثيراً بما قلت لكم وما سمعت منكم، وأرجو أن الله يعين المظلوم، ويهين الظالم. قد تمطى الليل، وتغورت النجوم، وحن البدن إلى الترفه؛ فإذا شئتم. فانصرفنا متعجبين.

الليلة الثالثة والثلاثون

عدنا إلى ما كنا فيه من حديث الممالحة - وكان قد استزادني - فكتبت له هذه الورقات وقرأتها بين يديه، فقال كلاماً كثيراً عند كل ما مر مما يكون صلة لذلك الحديث، خزلته طلباً للتخفيف.

قال حماد الراوية: عن قتادة قال زيادٌ لغيلان بن خرشة: أحب أن تحدثني عن العرب وجهدها وضنك عيشها لنحمد الله على النعمة التي أصبحنا بها. فقال غيلان: حدثني عمي قال: توالت على العرب سنون سبعٌ في الجاهلية حصت كل شيء، فخرجت على بكرٍ لي في العرب، فمكثت سبعاً لا أذوق فيهن شيئاً غلا ما ينال بعيري من حشرات الأرض حتى دنوت إلى حواء عظيم، فإذا ببيتٍ جحيشٍ عن الحي، فملت إليه، فخرجت إلي امرأةٌ طوالة حسانة، فقالت: من? قلت: طارق ليلٍ يلتمس القرى. فقالت: لو كان عندنا شيءٌ آثرناك به، والدال على الخير كفاعله، جس هذه البيوت فانظر إلى أعظمها، فإن يك في شيء منها خيرٌ ففيه. ففعلت حتى دنوت إليه، فرحب بي صاحبه وقال: من? قلت: طارق ليلٍ يلتمس القرى. فقال: يا فلان، فأجابه، فقال: هل عندك من طعام? قال: لا، قال: فوالله ما وقر في أذني شيءٌ كان أشد علي منه. فقال: هل عندك من شراب? قال: لا، ثم تأوه وقال: قد أبقينا في ضرع فلانة شيئاً لطارقٍ إن طرق، قال: فأت به، فأتى العطن فابتعثها، فحدثني عمي أنه شهد فتح أصفهان وتستر ومهرجان قذق وكور الأهواز وفارس، وجاهد عند السلطان وكثر ماله وولده، قال: فما سمعت شيئاً قط كان ألذ إلي من شخب تلك الناقة في تلك العلبة، حتى إذا ملأها ففاضت من جوانبها وارتفعت عليها رغوةٌ كجمة الشيخ أقبل بها نحوي فعثر بعودٍ أو حجر، فسقطت العلبة من يده، فحدثني أنه أصيب بأبيه وأمه وولده وأهل بيته، فما أصيب بمصيبة أعظم عليه من ذهاب العلبة؛ فلما رآني كذلك رب البيت خرج شاهراً سيفه، فبعث الإبل ثم نظر إلى أعظمها سناماً، على ظهرها مثل رأس الرجل الصعل، فكشف عن فوهته ثم أوقد ناراً، واجتب سنامها، ودفع إلي مدية وقال: يا عبد اللهن، اصطل واجتمل فجعلت أهوي بالبضعة إلى النار، فإذا بلغت إناها أكلتها، ثم مسحت ما في يدي من إهالتها على جلدي، وكان قد قحل على عظمي حتى كأنه شنٌ، ثم شربت ماءً وخررت مغشياً علي، فما أفقت إلى السحر.
فقطع زيادٌ الحديث وقال: لا عليك أن تخبرنا بأكثر من هذا، فمن المنزول به. قلت: عامر بن الطفيل. قال: أبو علي? قلت: أبو علي.
واستعادني الوزير أداه الله علوه هذا الحديث مرتين وأكثر المتعجب، وقال: صدق القائل في العرب: منعوا الطعام وأعطوا الكلام.
تغدى أبو العيناء عند ابن مكرم، فقدم إليه عرافاً، فلما جسه قال: قدركم هذه قد طبخت بشطرنج?.
وقدم إليه يوماً قدراً فوجدها كثيرة العظام، فقال: هذه قدرٌ أم قبر? وأكل عنده أبو العيناء يوماً، فسقي ثلاث شربات باردة، ثم طلب الرابعة فسقي شربةً حارة، فقال: لعل مزملتكم تعتريها حمى الربع.
قال سلمة: بقي أبو المقام ببغداد وكنا نأتيه ونسمع منه، فجاءنا بجفنة فيها جواذب فجعل أصحابنا يأكلون، ثم أتاهم بسفودٍ فيه يرابيع فسلتها في الجفنة، فعلم القوم أنهم قد دهوا، فجعلوا يستقيئون ما أكلوا.
وقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، لي جارتان بأيتهما أبدأ? قال: "بأدناهما باباً منك".
وقال حكيم: ينبغي ألا يعطى البخيل أكثر من قوته، ليحكم عليه بمثل ما حكم به على نفسه.
وقال الشاعر:

أفلح من كانت له قوصرة

 

يأكل منها كل يومٍ مـره

أفلح من كانت له مزخه

 

يزخها ثم ينام الفـخـه

أفلح من كانت له دوخله

 

يأكل منها كل يومٍ ملـه

أفلح من كانت له هرشفه

 

ونشفةٌ يملأ منها كـفـه

أفلح من كانت له كرديده

 

يأكل منها وهو ثانٍ جيده

وقال أبو فرعون الشاشي يخاطب الحجاج:

يا خير ركبٍ سلكوا طريقا

 

ويمموا مكة والعـقـيقـا

وأطعموا ذا الكعك والسويقا

 

والخشكنان اليابس الرقيقا

وقال آخر:

رأيت الجوع يطرده رغـيفٌ

 

وملء الكف من ماء الفرات

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر".
قبل مزبدٌ جاريةً بخراء، فقال لها: أظنك تعشيت بكرش، أو احتشيت صحناً؛ فقالت: ما أكلت إلا خردلاً. قال: قد ذهب النصف الثاني وبقي ما قبله.
قال شاعر:

وباتوا يعشون القطيعاء ضيفهم

 

وعندهم البرني في جللٍ دسمٍ

وقال آخر:  

وما أطعمونا الأوتكي من سماحةٍ

 

ولا منعوا البرني إلا من البخل

سمعت الحجاجي يقول: كل الخبز أو السمك، فإن أكل أحدهما كان مطيعاً؛ فإذا نفيت فقلت: لا تأكل الخبز والسمك؛ فإن أكل أحدهما لم يعصك؛ وإذا قلت: لا تأكل الخبز أو السمك، لم يكن له أن يأكل أحدهما لأن التقدير في النفي لا تأكل أحدهما، والتقدير في الإيجاب ائت أيهما شئت؛ فهذه خاصية أو. السويق: الجشيش، لأنه رض وكسر. المجشة: رحى صغيرةٌ يجش بها. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الشبرم عند أسماء بنت عميس فقال: حارٌ حارٌ، وأمر بالسنا.
ويقال: أكل البطيخ مجفرة، أي يقطع ماء النكاح.
ويقال: فلانٌ عظيم المجرأش أي الوسط، فرسٌ مجرئش الجنبين واجرأشت الإبل، إذا بطنت، وإبلق مجرئشة أي بطان؛ ويقال: كثأة قدركم، وهي ما ارتفع منها عند الغلي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس قال: سمعته يقول: "ليس بمؤمنٍ من بات شبعان ريان وجاره جائعٌ طاوٍ".
قال عمر: مدمن اللحم كمدمن الخمر.
وقال لقيط بن زرارة يذم أصحابه يوم جبلة:

إن الشواء والنشيل والرغـف

 

والقينة الحسناء والكأس الأنف

للـضـاربـين الــهـــام

 

والـخـيل قـــطـــف

قيل لدبٍ: لم تفقر رجلاً في ليلةٍ من كثرة ما تأكل من عنبه? فقال: لا تلمني، فإن بين يدي أربعة أشهرٍ أنجحر فيها فلا أتلمظ إلا بالهواء.
قال ابن الأعرابي: إذا أقدح الرجل مرةً بعد مرةٍ فأطعم لحمه المساكين سمي متمماً، وبه سمي ابن نويرة، ومن ذلك قول النابغة:

إني أتمم أيساري وأمـنـحـهـم

 

مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما

الثرتم من فتات الطعام، ويقال الترتم أيضاً ما فضل من الطعام في الإناء، ويقال: طعامٌ ذو نزل. والمليح والملح: السمن، يقال: تملحت الجارية وتجملت إذا سمنت.
وقال أبو الطمحان القيني:

وإني لأرجو ملحها في بطونكـم

 

وما كشطت من جلد اشعث اغبرا

هكذا سمعت. ويقال: سمن حتى كأنه خرس، والخرس: الدن بعينه. وفي المثل: إن آخر الخرس لدردى أي آخر الدن دردى.
وأنشد:

حبذا الصـيف حـبـذا مـن أوان

 

وزمـانٍ يفـوق كـل زمــان

زمن الخمر والمساور والـجـش

 

ن وورد الخـلاف والـريحـان

زمنٌ كانـت الـمـضـائر فـيه

 

بلحوم الـجـداء والـحـمـلان

وصدور الدجاج بالخل والـمـرى

 

ونثـر الـسـذاب والأنـجـذان

وسمانٌ من الفـراريج تـغـلـي

 

بعصير الأعـنـاب والـرمـان

وشوا الـوزة الـلـذيذة والـقـا

 

رص بين الحـلـيب والألـبـان

ونقي السويق بالسـكـر الـمـن

 

خول في الثلج في الزجاج اليماني

وقـلالٌ تـحـط مـن بـكـراتٍ

 

مروياتٌ غلائل الـعـطـشـان

واعترض حديث العلم، فأنشد ابن عبيدٍ الكاتب لسابقٍ الزبيري قوله:

العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه

 

كما يجلى سواد الظلمة القـمـر

وقال أيضاً:

إذا ما لم يكن لك حسن فهمٍ

 

أسأت إجابةً وأسأت فهما

آخر:

العلم ينعش أقواماً فينقعهـم

 

كالغيث يدرك عيداناً فيحييها

فقال الوزير: عندي في صحيفة حفظ الصبا: العلم سراجٌ يجلي الظلمة، وضياءٌ يكشف العمى.
التذلل مكروهٌ إلا في استفادته، والحرص مذمومٌ إلا في طلبه، والحسد منهيٌ عنه إلا عليه.
ثم عاد الحديث إلى الممالحة: حدثني مطهر بن أحمد الكاتب عن ابن قرارة العطار قال: اجتمع ذات يومٍ عندي على المائدة أبو علي بن مقلة وأبو عبد الله اليزيدي، وكان ابن مقلة يفضل الهريسة، وكان اليزيدي يفضل الجوذابة، وكان كل واحد منهما يصف النوع الذي يقول به ويؤثره، فقال اليزيدي: الهريسة طعام السوقيين والسفلة، وليست الجوذابة بهذه الصفة؛ فقال لي ابن مقلة: ما اسم الجوذابة بالفارسية? فقلت جوزاب، فقال: ضم الكاف. وفهمت ما أراد، فقلت: نسأل الله العافية، والله لقد عافتها نفسي، وسكت اليزيدي.
 قال يزيد بن ربيع: الكبا بطعام الصعاليك، والماء والملح طعام الأعراب، والهرائس والرءوس طعام السلاطين، والشواء طعام الدعار، والخل والزيت طعام أمثالنا.
وحدثني ابن ضبعون الصوفي قال: قال لي أبو عمر الشاري صاحب الخليفة: انهض بنا حتى نتغدى، فإن عندي مصوصاً وهلاماً وبقية مطجنة، وشيئاً من الباذنجان البوراني البائت المخر. قلت: هذه كلها تزايين المائدة، فأين الأدم? كان عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بكثر أكل الجوذاب ولا يؤثر عليه شيئاً، وكان يقول: يشد العضدين، ويقوي الساعدين، ويجلو الناظرين، ويزيد في سمع الأذنين، ويحمر الوجنتين، ويزيد في المني، وهو طعام شهي، فأي شيء بقي? وبلغ المنصور وصفه هذا، فقال: بحقٍ ما وصفه، ولا نقبل أكله.
وقال وكيع بن الجراح: التمتين على المائدة خيرٌ من زيادة لونين، وكمال المائدة كثرة الخبز، والسميذ الأبيض أحلى من الأصفر.
وكان يحيى بن أكثر يحب الجوذاب، فبلغه أن رجلاً ممن يحضر عنده يعيب الجوذاب، فقال يحيى: إن ثبت عندي هذا توقفت عن شهادته، وحكمت عليه بضعف الحس وقلة التمييز، فبلغ الرجل ذلك، فاحترس، فقال له يحيى يوماً: ما قولك في الجوذاب? فقال: أشرف مأكلٍ وأطيبه، سهل المدخل، لذيذ المطعم، جيد الغذا، قليل الأذى. قال: أصبت، هكذا أريدك.
أبو صالحٍ عن ابن عباس قال: ما من داخلٍ إلا وله حيرةٌ، فابدءوه بالسلام، وما من مدعو إلا وله حشمة، فابدءوه باليمين.
قال حمدان: قلت لجاريةٍ اردت شراءها - وكانت ناعمة البدن رطبةً شطبة غضة بضة -: ما كان غذاؤك عند مولاك? قالت: المبطن. قلت: وما المبطن? قالت: الأرز الريان من اللبن، بالفالوذج الريان من العسل، والخبيصة الريانة من الدهن والسكر والزعفران. قلت: حق لك.
وقال ابن الجصاص الصوفي: دخلت على أحمد بن روحٍ الاهوازي فقال: ما تقول في صحفة أرزٍ مطبوخ، فيها نهرٌ من سمن، على حافاتها كثبانٌ من السكر المنخول، فدمعت عيني. فقال: مالك? قلت: أبكي شوقاً إليه، جعلنا الله وإياك من الواردين عليه بالغواصة والردادتين. فقال لي: ما الغواصة والردادتان? قلت: الغواصة الإبهام، والردادتان: السبابة والوسطى. فقال: أحسنت، بارك الله عليك.
شكا رجلٌ إلى عمر الجوع فقال: أكذك وأنت تنث نث الحميت? أي ترشح كما يرشح الزق.
وقال ابن سكرة:

أطمعني في خروفكم خرفـي

 

فجئت مستعجـلاً ولـم أقـف

وجئت أرجو أطرافه فـغـدت

 

في طرفٍ والسماك في طرف

وحذروني مـن ذكـر رزتـه

 

يا حر صدري لها ويا لهفـي

عاينـتـه والـذي يفـصـلـه

 

والقلب مني على شفا جـرف

ما حل بي منك عند منصرفـي

 

ما كنت إلا فريسة الـتـلـف

ويقال: القانع غنيٌ وإن جاع وعري، والحريص فقير وإن ملك الدنيا.
قيل لإبراهيم الخليل - عليه السلام -: بأي شيء اتخذك الله خليلاً? قال: بأني ما خيرت بين أمرين إلا اخترت الذي لله، وما اهتممت لما تكفل لي به، وما تغديت وما تعشيت إلا مع ضيف.
واعترض حديثٌ فقال: أنشدني بيتي ابن غسان البصري في حديث بختيار، يعني عز الدولة، فأنشدته:

أقام على الأهواز ستين ليلةً

 

يدبر أمر الملك حتى تدمرا

يدبر أمراً كان أوله عمـىً

 

وأوسطه ثكلاً وآخره خرا

فقال: ما أعجب الأمور التي تأتي بها لدهور! عد إلى قراءتك، فعدت وقرأت.
روي في الحديث: لا تأكلوا ذروة الثربد، فإن البركة فيها.
وقال أعرابي: اللبن أحد اللحمين، وملك العجين أحد الريعين، والمرقة أحد اللحمين، والبلاغة أحد السبفين والتمني أحد السكرين.
أراد مزبد أضحيةً فلم يجدها، فأخذ ديكاً ليضحي به، فوجه إليه جيرانه شاةً شاةً حتى اجتمع عنده سبع شياه، فقال ديكي أفضل عند الله من إسحاق لأنه فدي بكبش، وديكي بسبعة.
الكتل: اللحم، والعيمة: شهوة اللبن، والقرم: شهوة اللحم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يرق قلبه فليكثر من أكل البلس". قيل: هو التين.
وقال أعرابي:

يمن علي بالتزويج شيخـي

 

وفي التزويج لي همٌ وشغل

وكنت من الهموم رخي بال

 

فحل من الهموم علي ثقل

فقلت له: مننت بغير مـنٍ

 

ومالك بالذي اسديت فضل

أعزاب العشيرة لو علمتم

 

بحالي حين لي بيتٌ وأهل

علمتم أنكم في حال عيشٍ

 

رخيٍ ماله يا قوم عـدل

قال إسحاق الموصلي: أملي بعض الفقهاء بالكوفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كره السمر إلا في الفقه، يريد كثرة السمر إلا في الفقه.
قيل لميسرة الرأس: ما أكثر ما أكلت? قال: مائة رغيفٍ بكيلجة ملح؛ فقيل هذا أكلك في بيتك? قال: آكل في بيتي رغيفين، وأحتشي إلى الليل فشل الخيل.
تناول الفضل بن العباس تفاحةً فأكلها، فقيل: ويحك، تأكل التحيات? فقال: والصلوات والطيبات.
يقال: الطعمة: الكسب. ويقال: جئت بالطعمة. والطعم: الطعام: والطعم: الذوق. وهذه الأرض طعمةٌ لك وطعمة.
قال إسحاق: كنت يوماً عند أحمد بن يوسف الكاتب، فدخل أحمد بن أبي خالد الكاتب ونحن في الغناء، فقال: والله ما أجد شيئاً مما أنتم فيه. قال إسحاق: فهان علي وخف في عيني، فقلت له كالمستهزىء به، جعلت فداك، قصدت إلى أرق شيء خلقه الله وألينه على الأذن والقلب، وأظهره للسرور والفرح، وأنفاه للهم والحزن، وما ليس للجوارح منه مؤونةٌ غليظة، وإنما يقرع السمع وهو منه على مسافة، فتطرب له النفس، فذممته!? ولكنه كان يقال: لا يجتمع في رجل شهوة كل لذة، وبعد، فإن شهوة كل رجلٍ على قدر تركيبه ومزاجه. قال: أجل، أما أنا فالطعام الرقيق أعجب إلي من الغناء. فقلت: إي والله ولحم البقر والجواميس والتيوس الجبلية بالبازنجان المبزر أيضاً تقدمه? فقال: الغناء مختلفٌ فيه، وقد كرهه قوم. قلت فالمختلف فيه أطلقه لنا حتى تجمعوا على تحريمه، أعلمت - جعلت فداك - أن الأوائل كانت تقول: من سمع الغناء على حقيقته مات. فقال: اللهم لا تسمعناه على الحقيقة إذاً فنموت. فاستظرفته في هذه اللفظة، وقدموا إليه الطعام فشغل عن ذم الغناء.
قال سعيد بن أبي عروة: نزل الحجاج في طريق مكة، فقال لحاجبه: انظر أعرابياً يتغدى معي، وأسأله عن بعض الأمر، فنظر الحاجب إلى أعرابيٍ بين شملتين، فقال: أجب الأمير، فأتاه، فقال له الحجاج: إذن فتغد معي. فقال: إنه دعاني من هو أولى منك فأجبته. قال: ومن هو? قال: الله عز وجل دعاني إلى الصوم فصمت، قال: أفي هذا اليوم الحار? قال: نعم، صمته ليومٍ هو أشد منه حراً. قال: فأفطر وصم غداً. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إلي. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه? قال: إنه طعام طيب. قال: إنك لم تطيبه ولا الخباز؛ ولكن العافية طيبته، ولم يفطر، وخرج من عنده.
قال أعرابي: هذا الطعام مطيبةٌ للنفس، محسنةٌ للجسم.
قال أبو حاتم: حدثنا الأصمعي قال: قال أبو طفيلة الحرمازي: قال أعرابيٌ: ضفت رجلاً فأتاني بخبزٍ من برٍ كأنه مناقير النغران، وأتانا بتمرٍ كأعناق الورلان، يوحل فيه الضرس.
وقال آخر: ونظر إلى رجلٍ يأكل بالعين والفم واليد والرأس والرجل: لو سألته عن اسمه لما ذكره، ولو طلع ولده الغائب عليه ما عرفه:

يلعب بالخمسة في قصعةٍ

 

لعب أخي الشطرنج بالشاه

قال ابن الأعرابي: كان المحسن الضبي شرهاً على الطعام، وكان دميماً، فقال له زياد ذات يوم: كم عيالك? قال: تسع بنات.. قال: فأين هن منك. فقال: أنا أحسن منهن وهن آكل مني؛ فضحك. وقال: جاز ما سألت لهن. وأمر له بأربعة آلاف درهم فقال:

إذا كنت مرتاد الرجال لنفعـهـم

 

فنـاد زياداً أو أخــاً لـــزياد

يجبك امرؤٌ يعطي على الحمد ماله

 

إذا ضن بالمعروف كـل جـواد

وقال سنان بن أبي حارثة:

ثمة أطعم زادي غير مـدخـرٍ

 

أهل المحلة من جارٍ ومن جادي

قد يعلم القوم إذ طال اغترابهـم

 

وأرملوا الزاد أني منفـدٌ زادي

وقال السفاح بن بكر:

والمالىء الشيزي لأضيافه

 

كأنها أعضاد حوضٍ بقاع

لا يخرج الأضياف من بيته

 

إلا وهم منه رواءٌ شبـاع

أورد أعرابيٌ إبله، فأبى أهل الماء أن يجيزوه، وقالوا: إبلك كثيرة، فإن أوردت فشرطٌ أن تقف بعيداً عن الماء وتسقي ما جاءك منها، ولا تحاجز بها؛ قال: أفعل، وأنشأ يقول:

رب طبيخ مرجلٍ مـلـهـوج

 

يسلته القوم ولـمـا ينـضـج

حش بشيء من ضرام العرفج

 

 

فانقضت الإبل كلها على الماء فشربت.
قال الشاعر:  

شرب النبيذ على الطعام قليلة

 

فيه الشفاء وصحة الأبـدان

وإذا شربت كثيره فكـثـيره

 

مزج عليك ركائب الشيطان

فتكون بين الضاحكين كبومةٍ

 

عمياء بين جماعة الغربـان

فاحذر بجهدك أن ترى كجنيبةٍ

 

بعد العشاء تقاد بـالأرسـان

قال حمزة المصنف في بعض كتبه: قال النبي صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي: أن اتخذ لنا سوراً، أي طعاماً كطعام الوليمة، وهي فارسية.
قال شيخنا أبو سعيد السيرافي: أخطأ هذا المتأول، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم: أن سلمان اتخذ لنا خندقاً يوم الأحزاب، لأنه حض على ذلك، وليس ذا من ذاك إلا باللفظ.
وقال جعيفر ان الموسوس في وصف عصيدة:

وماء عصيدة حمراء تـحـكـي

 

إذا أبصرتها مـاء الـخـلـوق

تزل عن اللهاة تـمـر سـهـلاً

 

وتجري في العظام وفي العروق

قال الحسن بن سهل: أشياء تذهب هباء، دينٌ بلا عقل، ومالٌ بلا بذل وعشقٌ بلا وصل. فقال حميد: بقي عليه مائدةٌ بلا نقل، ولحسةٌ بلا فضل.
قيل لصوفي: ما حد الشبع? قال: الموت.
وقيل لآخر: ما حد الشبع? قال آكل حتى يقع علي السبات فأنام على وجهي، وتتجافى أطرافي عن الأرض.
وقيل لآخر: ما حد الشبع? قال: أن أدخل إصبعي في حلقي فيصل إلى الطعام.
قال يعقوب: أصبحت خالفاً: لا أشتهي الطعام. وخلوف البطن تغيره.
ويقال: مغسني بطني، وهو المغس، ورجل ممغوس.
ويقال: غمزني بطني وملكني.
والعامة تقول: كل ما في القدر تخرجه المغرفة، ورجل مقرضبٌ وقراضب وقرضاب إذا كان أكولاً، وكذلك السيف واللص، قال الشاعر:

وليس يرد النفس عن شهواتهـا

 

من القوم إلا كل ماضي العزائم

ومر ابن عامرٍ على عامر بن عبد القيس وهو يأكل بقلاً بملح، فقال: لقد رضيت باليسير. فقال: أرضي مني باليسير من رضي بالدنيا عوضاً عن الآخرة.
قال عبد الملك بن مروان: لا تستاكن إلا عرضاً، ولا تأكلن إلا عضاً ولا تشربن إلا مصاً، ولا تركبن إلا نصاً، ولا تعقدن إلا وصاً.
ويقال: ماءٌ قراح؛ وخبزٌ قفار: لا أدم معه، وسويقٌ جافٌ، ولبنٌ صريح: لم يخالطه شيء.
وقال سعيد بن سلمة: شيئان لا تشبع منهما ببغداد: السمك والرطب.
قال أعرابي: أكلت فرسكة وعلى خوخة، فجاء غلام حزورٌ فنظر حرني.
الفرسكة: الخوخة المقددة. والخوخة: القميص الأخضر بطن بفروٍ.
والحرة: الأذن.
قيل لحاتم الأصم: بم رزقت الحكمة? قال: بخلاوة البطن، وسخاوة النفس، ومكابدة الليل.
وقال شقيق البلخي: العبادة حرفة، وحانوتها الخلوة، وآلتها الجوع.
قال لقمان: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وقال عمر: لولا القيامة لشاركناكم في لين عشيكم.
وقال بعض العرب: أقلل طعامك تحمد منامك.
قال يحيى بن معاد: الشبع يكنى بالكفر.
وقال غيره: الجوع يكنى بالرحمة.
وقال أعرابي:

تحيز مني خـيفةً أن أضـيفـهـا

 

كما انحازت الأفعى مخافة ضارب

وذكر المهلب اللحم فقال إذا التقى الوارد والغابر فتوقع الفساد.

الليلة الرابعة والثلاثون

وقال الوزير في بعض الليالي: قد والله ضاق صدري بالغيظ لما يبلغني عن العامة من خوضها في حديثنا، وذكرها أمورنا، وتتبعها لأسرارنا، وتنقيرها عن مكنون أحوالنا، ومكتوم شأننا، وما أدري ما أصنع بها، وإني لأهم في الوقت بعد الوقت بقطع ألسنةٍ وأيدٍ وأرجلٍ وتنكيلٍ شديدٍ، لعل ذلك يطرح الهيبة ويحسم المادة، ويقطع هذه العادة، لحاهم الله، ما لهم لا يقبلون على شؤونهم المهمة، ومعايشهم النافعة، وفرائضهم الواجبة? ولم ينقبون عما ليس لهم، ويرجفون بما لا يجدي عليهم، ولو حققوا ما يقولون ما كان لهم فيه عائدةٌ ولا فائدة؛ وإني لأعجب من لهجهم وشغفهم بهذا الخلق حتى كأنه من الفرائض المحتومة، والوظائف الملزومة؛ وقد تكرر منا الزجر، وشاع الوعيد، وفشا الإنكار بين الصغار والكبار، ولقد تعايى علي هذا الأمر وأغلق دوني بابه، وتكاثف علي حجابه، والله المستعان.

فقلت: أيها الوزير، عندي في هذا جوابان: أحدهما ما سمعت من شيخنا أبي سليمان، وهو من تفوق في الفضل والحكمة والتجربة ومحبة هذه الدولة والشفقة عليها من كل هبة ودبة؛ والآخر مما سمعته من شيخ صوفيٍ، والجوابين فائدتان عظيمتان، ولكن الجملة خشناء، وفيها بعض الغلظة، والحق مر، ومن توخى الحق احتمل مرارته.
قال: فاذكر الجوابين وإن كانا غليظين، فليس ينتفع بالدواء إلا بالصبر على بشاعته، وصدود الطبع عن كراهته.
قلت: أما أبو سليمان، فإنه قال في هذه الأيام: ليس ينبغي لمن كان الله عز وجل جعله سائس الناس: عامتهم وخاصتهم، وعالمهم وجاهلهم، وضعيفهم وقويهم، وراجحهم وشائلهم، أن يضجر مما يبلغه عنهم أو عن واحد منهم لأسباب كثيرة، منها: أن عقله فوق عقولهم، وحلمه أفضل من حلومهم، وصبره أتم من صبرهم؛ ومنها أنهم إنما جعلوا تحت قدرته، ونيطوا بتدبيره، واختبروا بتصريفهم على أمره ونهيه، ليقوم بحق الله تعالى فيهم، ويصبر على جهل جاهلهم، ويكون عماد حاله معهم الرفق بهم، والقيام بمصالحهم، ومنها أن العلاقة التي بين السلطان وبين الرعية قوية، لأنها إلهيةٌ، وهي أوشج من الرحم التي تكون بين الوالد والولد، والملك والدٌ كبير، كما أن الوالد ملكٌ صغير، وما يجب على الوالد في سياسة ولده من الرفق به، والحنو عليه، والرقة له، واجتلاب المنفعة إليه، أكثر مما يجب على الولد في طاعة والده، وذلك أن الولد غرٌ، وقريب العهد بالكون، وجاهلٌ بالحال، وعارٍ من التجربة، كذلك الرعية الشبيهة بالولد، وكذلك الملك الشبيه بالوالد؛ ومما يزيد هذا المعنى كشفاً، ويكسبه لطفاً، أن الملك لا يكون ملكاً إلا بالرعية، كما أن الرعية لا تكون رعيةً إلا بالملك، وهذا من الأحوال المتضايفة، والأسماء المتناصفة؛ وبسبب هذه العلاقة المحكمة والوصلة الوشيجة، ما لهجت العامة بتعرف حال سائسها، والناظر في أمرها، والمالك لزمامها، حتى تكون على بيانٍ من رفاهة عيشها، وطيب حياتها، ودرور مواردها، بالأمن الفاشي بينها، والعدل الفائض عليها، والخير المجلوب إليها، وهذا أمرٌ جارٍ على نظام الطبيعة، ومندوبٌ إليه أيضاً في أحكام الشريعة.
قال: ولو قالت الرعية لسلطانها: لم لا نخوض في حديثك، ولا نبحث عن غيب أمرك، ولم لا نسأل عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك? ولم لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك، ومصالحنا متعلقةٌ بك، وخيراتنا متوقعةٌ من جهتك، ومسرتنا ملحوظةٌ بتدبيرك، ومساءتنا مصروفة باهتماك، وتظلمنا مرفوعٌ بعزك، ورفاهيتنا حاصلةٌ بحسن نظرك وجميل اعتقادك، وشائع رحمتك، وبليغ اجتهادك، ما كان جواب سلطانها وسائسها? أما كان عليه أن يعلم أن الرعية مصيبةٌ في دعواها التي بها استطالت، بلى والله، الحق معترفٌ به وإن شغب الشاغب، وأعنت المعنت.
قال: ولو قالت الرعية أيضاً: ولم لا تبحث عن أمرك? ولم لا تسمع كل غثٍ وسمين منا! وقد ملكت نواصينا، وسكنت ديارنا، وصادرتنا على أموالنا، وحلت بيننا وبين ضياعنا، وقاسمتنا مواريثنا، وأنسيتنا رفاغة العيش، وطيب الحياة، وطمأنينة القلب، فطرقنا مخوفة، ومساكننا منزولة، وضياعنا مقطعة، ونعمنا مسلوبة، وحريمنا مستباح، ونقدنا زائف، وخراجنا مضاعف، ومعاملتنا سيئة، وجندينا متغطرس، وشرطينا منحرف، ومساجدنا خربة، ووفوفها منتهبة، ومارستاناتنا خاوية، وأعداؤنا مستكلبة، وعيوننا سخينة، وصدورنا مغيظة، وبليتنا متصلة، وفرحنا معدوم؛ ما كان الجواب أيضاً عما قالت وعما لم تقل، هيبةً لك، وخوفاً على أنفسها من سطوتك وصولتك?  

وحكى لنا في عرض هذا الكلام أنه رفع إلى الخليفة المعتضد أن طائفةً من الناس يجتمعون بباب الطاق ويجلسون في دكان شيخ تبان، ويخوضون في الفضول والأراجيف وفنونٍ من الأحاديث، وفيهم قومٌ سراة وتناء وأهل بيوتاتٍ سوى من يسترق السمع منهم من خاصة الناس، وقد تفاقم فسادهم وإفسادهم، فلما عرف الخليفة ذلك ضاق ذرعاً، وحرج صدراً، وامتلأ غيظاً، ودعا بعبيد الله بن سليمان، ورمى بالرفيعة إليه، وقال: انظر فيها وتفهمها. ففعل، وشاهد من تربد وجه المعتضد ما أزعج ساكن صدره، وشرد آلف صبره، وقال: قد فهمت يا أمير المؤمنين. قال: فما الدواء? قال: تتقدم بأخذهم وصلب بعضهم وإحراق بعضهم وتغريق بعضهم، فإن العقوبة إذا اختلفت، كان الهول أشد، والهيبة أفشا، والزجر أنجع، والعامة أخوف. فقال المعتضد - وكان أعقل من الوزير -: والله لقد بردت لهيب غضبي بفورتك هذه، ونقلتني إلى اللين بعد الغلظة، وحططت علي الرفق، من حيث أشرت بالخرق، وما علمت أنك تستجيز هذا في دينك وهديك ومروءتك، ولو أمرتك ببعض ما رأيت بعقلك وحزمك لكان من حسن المؤازرة ومبذول النصيحة والنظر للرعية الضعيفة الجاهلة أن تسألني الكف عن الجهل، وتبعثني على الحلم، وتحبب إلى الصفح وترغبني في فضلٍ الإغضاء على هذه الأشياء. وقد ساءني جهلك بحدود العقاب وبما تقابل به هذه الجرائر، وبما يكون كفأً للذنوب، ولقد عصيت الله بهذا الرأي ودللت على قسوة القلب وقلة الرحمة ويبس الطينة ورقة الديانة، أما تعلم أن الرعية وديعة الله عند سلطانها? وأن الله يسائله عنها كيف سستها? ولعله لا يسألها عنه، وإن سألها فليؤكد الحجة عليه منها؛ ألا تدري أن أحداً من الرعية لا يقول ما يقول إلا لظلمٍ لحقه أو لحق جاره، وداهيةٍ نالته أو نالت صاحباً له? وكيف نقول لهم: كونوا صالحين أتقياء مقبلين على معايشكم، غير خائضين في حديثنا، ولا سائلين عن أمرنا، والعرب تقول في كلامها: غلبنا السلطان فلبس فروتنا، وأكل خضرتنا، وحنق المملوك على المالك معروف، وإنما يحتمل السيد على صروف تكاليفه، ومكاره تصاريفه، إذا كان العيش في كنفه رافعاً، والأمل فيه قوياً، والصدر عليه بارداً، والقلب معه ساكناً، أتظن أن العمل بالجهل ينفع، والعذر به يسع، لا والله ما الرأي ما رأيت، ولا الصواب ما ذكرت، وجه صاحبك وليكن ذا خبرةٍ ورفق، ومعروفاً بخيرٍ وصدقٍ، حتى يعرف حال هذه الطائفة، ويقف على شأن كل واحدٍ منها في معاشه، وقدر ما هو متقلبٌ فيه ومنقلبٌ إليه، فمن كان منهم يصلح للعمل فعلقه به، ومن كان سيىء الحال فصله من بيت المال بما يعيد نضرة حاله، ويفيده طمأنينة باله؛ ومن لم يكن من هذا الرهط، وهو غنيٌ مكفيٌ، وإنما يخرجه إلى دكان هذا التبان البطر والزهو، فادع به، وانصحه، ولاطفه، وقل له: إن لفظك مسموع، وكلامك مرفوع؛ ومتى وقف أمير المؤمنين على كنه ذلك منك لم تجدك إلا في عرضة المقابر، فاستأنف لنفسك سيرةً تسلم بها من سلطانك، وتحمد عليها عند إخوانك، وإياك أن تجعل نفسك عظةً لغيرك بعدما كان غيرك عظةً لك؛ ولولا أن الأخذ بالجزيرة الأولى مخالفٌ للسيرة المثلى، لكان هذا الذي تسمعه ما تراه، وما تراه تود أنك لو سمعته قبل أن تراه. فإنك يا عبيد الله إذا فعلت ذلك فقد بالغت في العقوبة، وملكت طرفي المصلحة، وقمت على سواء السياسة، ونجوت من الحوب والمأثم في العاقبة.
قال: وفارق الوزير حضرة الخليفة، وعمل بما أمر به على الوجه اللطيف، فعادت الحال ترف بالسلامة العامة، والعافية التامة؛ فتقدم إلى الشيخ التبان برفع حال من يقعد عنده حتى يواسي إن كان محتاجاً، ويصرف إن كان متعطلاً، وينصح إن كان متعقلاً.
فقال الوزير: ما سمعت مثل هذا قط، وما ظننت أن الخطب في مثل هذا يبلغ هذا القدر؛ فهات الجواب الآخر الذي حفظته عن الصوفي. فقلت: إن كان هذا كافياً فإن ذلك فضل.
فقال: هكذا هو، وإن فيما مر لكفاية، وما يزيد على الكفاية، ولكن الزيادة من العلم داعيةٌ إلى الزيادة من العمل، والزيادة من العمل جالبة الانتفاع بالعلم، والانتفاع بالعلم دليلٌ على سعادة الإنسان، وسعادة الإنسان مقسومةٌ على اقتباس العلم والتماس العمل، حتى يكون بأحدهما زارعاً، وبالآخر حاصداً، وبأحدهما تاجراً، وبالآخر رابحاً.

فوصلت الحديث وقلت: حدثني شيخ من الصوفية في هذه الأيام قال: كنت بنيسابور سنة سبعين وثلثمائة، وقد اشتعلت خراسان بالفتنة، وتبلبلت دولة آل سامان بالجور وطول المدة، فلجأ محمد بن إبراهيم صاحب الجيش إلى قايين، وهي حصنه ومعقله، وورد أبو العباس صاحب جيش آل سامان نيسابور بعدةٍ عظيمة، وعدةٍ عميمة، وزينةٍ فاخرة، وهيئةٍ باهرة، وغلا السعر، وأخيفت السبل، وكثر الإرجاف، وساءت الظنون، وضجت العامة، والتمس الرأي، وانقطع الأمل، ونبح كلبٌ كلبٌ من كل زاوية، وزأر كل أسد من كل أجمة، وضج كل ثعلبٍ من كل تلعة.

قال: وكنا جماعةً غرباء نأوي إلى دويرة الصوفية لا نبرحها، فتارةً نقرأ، وتارةً نصلي، وتارةً ننام، وتارةً نهذي، والجوع يعمل عمله، ويخوض في حديث آل سامان، والوارد من جهتهم إلى هذا المكان، ولا قدرة لنا على السياحة لانسداد الطرق، وتخطف الناس للناس، وشمول الخوف، وغلبة الرعب، وكان البلد يتقد ناراً بالسؤال والتعرف والإرجاف بالصدق والكذب، وما يقال بالهوى والعصبية؛ فضاقت صدورنا، وخبثت سرائرنا واستولى علينا الوسواس، وقلنا ليلةً: ما ترون يا صحابنا ما دفعنا إليه من هذه الأحوال الكريهة، كأنا والله أصحاب نعمٍ وأرباب ضياعٍ نخاف عليها الغارة والنهب، وما علينا من ولاية زيدٍ وعزل عمرو، وهلاك بكر، ونجاة بشر، نحن قوم قد رضينا في هذه الدنيا العسيرة، ولهذه الحياة القصيرة، بكسرةٍ يابسة، وخرقةٍ بالية، وزاويةٍ من المسجد مع العافية من بلايا طلاب الدنيا. فما هذا الذي يعترينا من هذه الأحاديث التي ليس لنا فيها ناقةٌ ولا جمل، ولا حظٌ ولا أمل، قوموا بنا غداً حتى نزور أبا زكرياء الزاهد، ونظل نهارنا عنده لاهين عما نحن فيه، ساكنين معه، مقتدين به؛ فاتفق رأينا على ذلك، فغدونا وصرنا إلى أبي زكرياء الزاهد، فلما دخلنا رحب بنا، وفرح بزيارتنا، وقال: ما أشوقني إليكم، وما ألهفني عليكم! الحمد لله الذي جمعني وإياكم في مقامٍ واحد، حدثوني ما الذي سمعتم، وماذا بلغكم من حديث الناس، وأمر هؤلاءؤ السلاطين? فرجوا عني؛ وقولوا لي ما عندكم، فلا تكتموني شيئاً فمالي والله مرعىً في هذه الأيام إلا ما اتصل بحديثهم، واقترن بخبرهم، فلما ورد علينا من هذا الزاهد العابد ما ورد، دهشنا واستوحشنا، وقلنا في أنفسنا انظروا من أي شيء هربنا، وبأي شيء علقنا، وبأي داهيةٍ دهينا. قال: فخففنا الحديث وانسللنا، فلما خرجنا قلنا: أرأيتم ما بلينا به، وما وقعنا عليه? "إن هذا لهو البلاء المبين". ميلوا بنا إلى أبي عمرو الزاهد فله فضلٌ وعبادة وعلمٌ وتفردٌ في صومعته حتى نقيم عنده إلى آخر النهار، فقد نبا بنا المكان الأول، وبطل قصدنا فيما عزمنا عليه من العمل، فمشينا إلى أبي عمرو الزاهد واستأذنا، فأذن لنا، ووصلنا إليه فسر بحضورنا، وهش لرؤيتنا، وابتهج بقصدنا، وأعظم زيارتنا، ثم قال: يا أصحابنا ما عندكم من حديث الناس? فقد والله طال عطشي إلى شيء أسمعه، ولم يدخل علي اليوم أحدٌ فأستخبره، وإن أذني لدى الباب لأسمع قرعة أو أعرف حادثة، فهاتوا ما معكم وما عندكم، وقصوا علي القصة بفصها ونصها، ودعوا التورية والكناية، واذكروا الغث والثمين، فإن الحديث هكذا يطيب، ولولا العظم ما طاب اللحم، ولولا النوى ما حلا التمر، ولولا القشر لم يوجد اللب، فعجبنا من هذا الزاهد الثاني أكثر من عجبنا من الزاهد الأول، وخاطفناه الحديث، وودعناه، وخرجنا، وأقبل بعضنا على بعضٍ يقول: أرأيتم أظرف من أمرنا وأغرب من شأننا? انظروا من أي شيء كان تعريجنا "إن هذا لشيءٌ عجاب" وتلددنا وتبلدنا وقلنا يا أصحابنا: انطلقوا إلى أبي الحسن الضرير، وإن كان مضربه بعيداً فإنا لا نجد سكوننا إلا معه، ولا نظفر بضالتنا إلا عنده، لزهده وعبادته وتوحده وشغله بنفسه مع زمانته في بصره، وورعه، وقلة فكره في الدنيا وأهلها؛ وطوينا الأرض إليه، ودخلنا عليه، وجلسنا حواليه في مسجده، ولما سمع بنا أقبل على كل واحد منا يلمسه بيده ويرحب به، ويدعو له ويقرب، فلما انتهى أقبل علينا وقال: أمن السماء نزلتم علي? والله لكأني قد وجدت بكم مأمولي، وأحرزت غاية سولي، قولوا لي غير محتشمين: ما عندكم من أحاديث الناس? وما عزم عليه هذا الوارد? وما يقال في أمر ذلك الهارب إلى قايين، وما الشائع من الأخبار? وما الذي يتهامس به ناس دون ناس? وما يقع في هواجسكم ويستبق إلى نفوسكم? فإنكم برد الآفاق، وجوالة الأرض، ولقاطة الكلام، ويتساقط إليكم من الأقطار ما يتعذر على عظماء الملوك وكبراء الناس: فورد علينا من هذا الإنسان ما أنسى الأول والثاني، ومما زاد في عجبنا أنا كنا نعده في طبقةٍ فوق طبقات جميع الناس فخففنا الحديث معه، وودعناه، وخنسنا من عنده، وطفقنا نتلاوم على زيارتنا لهؤلاء القوم لما رأينا منهم، وظهر لنا من حالهم، وازدريناهم، وانقلبنا متوجهين إلى دويرتنا التي غدونا منها مستطرقين كالين، فلقينا في الطريق شيخاً من الحكماء يقال له أبو  الحسن العامري، وله كتابٌ في التصوف قد شحنه بعلمنا وإشارتنا، وكان من الجوالين الذين نقبوا في البلاد واطلعوا على أسرار الله في العباد؛ فقال لنا: من أين درجتم؛ ومن قصدتم. فأجلسناه في مسجد، وعصبنا حوله، وفصصنا عليه قصتنا من أولها إلى آخرها، ولم نحذف منها حرفاً. فقال لنا: في طي هذه الحال الطارئة غيبٌ لا تقفون عليه، وسرٌ لا تهتدون إليه، وإنما غركم ظنكم بالزهاد، وقلتم لا ينبغي أن يكون الخبر عنهم كالخبر عن العامة، لأنهم الخاصة، ومن الخاصة خاصة الخاصة، لأنهم بالله يلوذون، وإياه يعبدون، وعليه يتوكلون، وإليه يرجعون، ومن أجله يتهالكون، وبه يتمالكون. العامري، وله كتابٌ في التصوف قد شحنه بعلمنا وإشارتنا، وكان من الجوالين الذين نقبوا في البلاد واطلعوا على أسرار الله في العباد؛ فقال لنا: من أين درجتم؛ ومن قصدتم. فأجلسناه في مسجد، وعصبنا حوله، وفصصنا عليه قصتنا من أولها إلى آخرها، ولم نحذف منها حرفاً. فقال لنا: في طي هذه الحال الطارئة غيبٌ لا تقفون عليه، وسرٌ لا تهتدون إليه، وإنما غركم ظنكم بالزهاد، وقلتم لا ينبغي أن يكون الخبر عنهم كالخبر عن العامة، لأنهم الخاصة، ومن الخاصة خاصة الخاصة، لأنهم بالله يلوذون، وإياه يعبدون، وعليه يتوكلون، وإليه يرجعون، ومن أجله يتهالكون، وبه يتمالكون.
قلنا له: فإن رأيت يا معلم الخير أن تكشف عها هذا الغطاء، وترفع هذا الستر، وتعرفنا منه ما وهب الله لك من هذا الغيب، لنكون شاكرين، نكون من المشكورين. فقال: نعم، أما العامة فإنها تلهج بحديث كبرائها ساستها لما ترجو من رخاء العيش وطيب الحياة وسعة المال ودرور المنافع واتصال لجلب ونفاق السوق وتضاعف الربح؛ فأما هذه الطائفة العارفة بالله، العاملة لله، فإنها مولعةٌ أيضاً بحديث الأمراء، والجبابرة العظماء، لتقف على تصاريف قدرة الله فيهم، وجريان أحكامه عليهم، ونفوذ مشيئته في محابهم ومكارههم في حال النغمة عليهم، والانتقام منهم، ألا ترونه قال جل ثناؤه: "حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون"، وبهذا الاعتبار يستنبطون خوافي حكمته، ويطلعون على تتابع نعمته وغرائب نقمته، وها هنا يعلمون أن كل ملكٍ سوى ملك الله زائل، وكل نعيمٍ غير نعيم الجنة حائل، ويصير هذا كله سبباً قوياً لهم في الضرع إلى الله، واللياذ بالله، والخشوع له، والتوكل على الله، وينبعثون به من حران الإباء، إلى انقياد الإجابة، ويتنبهون من رقدة الغفلة، ويكتحلون باليقظة من سنة السهو والبطالة، ويجدون في أخذ العتاد، واكتساب الزاد إلى المعاد، ويعملون في الخلاص من هذا المكان الحرج بالمكاره، المحفوف بالزايا، الذي لم يفلح فيه أحدٌ إلا بعد أن هدمه وثلمه، وهرب منه، ورحل عنه إلى محلٍ لا داء فيه ولا غائلة؛ ساكنه خالد، ومقيمه مطمئن، والفائز به منعم، والواصل إليه مكرم، وبين الخاصة والعامة في هذه الحال وفي غيرها فرق يضح لمن رفع الله طرفه إليه، وفتح باب السر فيه عليه، وقد يتشابه الرجلان في فعل، وأحدهما مذموم، والآخر محمود، وقد رأينا مصلياً إلى القبلة وقلبه معلق بإخلاص العبادة، وآخر إلى جانبه أيضاً يصلي إلى القبلة وقلبه في طر ما في كم الآخر، فلا تنظروا من كل شيء إلى ظاهره إلا بعد أن تصلوا بنظركم إلى باطنه، فإن الباطن إذا واطأ الظاهر كان توحداً، وإذا خالفه إلى الحق كان وحدةً، وإذا خالفه إلى الباطل كان ضلالةً، وهذه المقامات مرتبةٌ لأصحابها، وموقوفةٌ على أربابها؛ ليس لغير أهلها فيها نفسٌ، ولا لغير مستحقها منها قبس.
قال الشيخ الصوفي: فوالله ما زال ذلك الحكيم يحشو آذاننا بهذه وما اشبهها، ويملأ صدورنا بما عنده حتى سررنا وانصرفنا إلى متعشانا وقد استفدنا على يأسٍ منا فائدةً عظيمة لو تمنيناها بالغرم الثقيل والسعي الطويل لكان الربح معنا، والزيادة في أيدينا.
فلما سمع الوزير هذا عجب وقال: لا أدري: أكلام أبي سليمان في ذلك الاحتجاج أبلغ، أم الحكاية عن المعتضد أشفى، أم رواية الشيخ الصوفي أطرف، وما علمت أن في البحث عن سر الإرجاف هذه اللطيفة الخفية، وهذه الحجة الجلية، وكنت أرى أن الصوفية لا يرجعون إلى ركنٍ من العلم، ونصيبٍ من الحكمة، وأنهم إنما يهذون بما لا يعلمون، وأن بناء أمرهم على اللعب واللهو والمجون.

فقلت: لو جمع كلام أئمتهم وأعلامهم لزاد على عشرة آلاف ورقة عمن نقف عليه في هذه البقاع المتقاربة، سوى ما عند قومٍ آخرين لا نسمع بهم، ولا يبلغنا خبرهم. قال: فاذكر لي جماعةً منهم. قلت: الجنيد بن محمد الصوفي البغدادي العالم، والحارث بن أسد المحاسبي، ورويم، وأبو سعيد الخراز، وعمرو بن عثمان المكي، وأبو يزيد البسطامي، والفتح الموصلي، وهو الذي سمع وهو يقول: إلى متى ترددني في سكك الموصل، أما آن للحبيب أن يلقى حبيبه? فمات بعد جمعة.
فقال: هذا عجب. ولقد مر في هذا الفن ما كان فوق حسباني وأكثر مما كان في ظني، وكم من شيء حقيرٍ يطلع منه على أمرٍ كبير.
وقال: أنشدني شيئاً؛ فأنشدته قول الشاعر:

رجعت على السفيه بفضل حلمي

 

وكان تحلمي عنـه لـجـامـا

وظن بي السفاه فلـم يجـدنـي

 

أسافهه وقلـت لـه: سـلامـا

فقـام يجـر رجـلـيه ذلــيلاً

 

وقد كسب المذلة والـمـلامـا

وفضل الحلم أبلغ فـي سـفـيهٍ

 

وأحرى أن ينال به انتـقـامـا

فقال: ما أعجب أمر العرب، تأمر بالحلم مرةً، والصبر والكظم مرة، وتحث بعد ذلك على الانتصاف وأخذ الثأر، وتذم السفه وقمع العدو! وهكذا شأنها في جميع الأخلاق؛ أعني أنها ربما حضت على القناعة والصبر والرضا بالميسور، وربما خالفت هذا، فأخذت تذكر أن ذلك فسالةٌ ونقصان همةٍ ولين عريكةٍ ومهانة نفس؛ وكذلك أيضاً تحث على البسالة والإقدام والانتصار والحمية والجسارة؛ وربما عدلت إلى أضداد هذه الأخلاق والسجايا والضرائب والأحوال؛ في أوقاتٍ يحسن فيها بعضها، ويقبح بعضها، ويعذر صاحبها في بعضها، ويلام في بعضها؛ وذلك لأن الطبائع مختلفة، والغرائز متعادية، فهذا يمدح البخل في عرض الحزم، وهذا يحمد الاقتصاد في جملة الاحتياط، وهذا يذم الشجاعة في عرض طلب السلامة؛ وليس في جميع الأخلاق شيءٌ يحسن في كل زمانٍ وفي كل مكانٍ، ومع كل إنسان، بل لكل ذلك وقتٌ وحينٌ وأوان.
قال: ولعمري إن القيام بحقائق هذه الأشياء وحدودها صعبٌ، لأنها لا توجد إلا متلابسةً ومتداخلةً، وتخليص كل واحدٍ منها بحده وحقيقته ووزنه مما يفوت ذرع الإنسان الضعيف المنة، المنتثر الطينة.
قال: ومنه أن الحكيم قال للإسكندر: أيها الملك أرد حياتك لرجالك، ولا ترد رجالك لحياتك؛ ولو قلب عليه قالبٌ فقال: لا، ولكن أرد رجالك لحياتك، ولا ترد حياتك لرجالك، لكان الفضل واقعاً، والدعوى قائمة.
وكان يحكى عن أعرابي حديثٌ مضحكٌ: قيل لأعرابي: أتريد أن تصلب في مصلحة الأمة? فقال: لا، ولكني أحب أن تصلب الأمة في مصلحتي.
قال: وليس يجوز أن يكون الناس مختلفين في ظاهرهم بالصور والحلي حتى يعرف بها زيدٌ من عمرو، وبكرٌ من خالد، ولا يختلفون في باطنهم حتى يكون هذا مطبوعاً على الشح وإن مدح الجود، وهذا مجبولاً على الجبن وإن تشيع للشجاعة؛ وليس يجوز في الحكمة أن يكثروا ولا يختلفوا، وليس يجوز أيضاً أن يضم الجنس والنوع ولا يأتفلوا؛ وكل ما أساغته الحكمة أبرزته القدرة، وكل ما جادت به القدرة شهدت له الحكمة؛ فسبحان من له هذا التدبير اللطيف، وهذا العز الغالب، وهذا السر الخافي، وهذه العلانية البادية، وهذا الفعل المحكم، وهذا النعت المستعظم.
وحكيت أيضاً في شيء جرى، قال حكماء فارس: قد جربنا الملوك، فإذا ملكنا السمح الجواد جادت علينا السماء والأرض، وإذا ملكنا البخيل بخلت علينا السماء والأرض.
قال أبو سليمان: هذا إذا صح فهو شاهد الفيض الإلهي المتصل بالملك السمح، ونضوبه عن الملك البخيل، لأن الملك إلهٌ بشري.
وقال مرةً: ما التمني? - وقد كان جرى ما اقتضى السؤال عنه -.
فقلت: أحفظ نصاً لبعض الحكماء: إن التمني فضل حركة النفس. فقال: جوابٌ رشيق وإن كان فقيراً إلى البسط.
فقال: هات من حديث يونان شيئاً آخر، فقلت: أرسطوطاليس: لو كنا نطل العلم لنبلغ غايته كنا قد بدأنا العلم بنقيضه، ولكنا نطلبه لننقص كل يومٍ من الجهل، ونزداد كل يومٍ من العلم.
قال: حدثني بشيء فيه جوابٌ حاضر، وللبديهة فيه توقدٌ ظاهر.
فحدثت أن رجلاً أتى الزهري فسأله أن يحدثه ويروي له؛ فأبى عليه، فقال له الرجل: إن الله لم يأخذ الميثاق على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ الميثاق على العلماء أن يعلموا؛ فقال: صدقت، وحدثه.

وحدثنا القاضي أبو حامد المروروذي؛ قال: وقف سائلٌ من هؤلاء الأنكاد علينا في جامع البصرة وفي المجلس ابن عبدلٍ المنصوري، وابن معروف، وأبو تمام الزينبي، فسأل وألح؛ فقلت له من بين الجماعة - وقد ضجرت من إلحاحه وصفاقة وجهه -: يا هذا: نزلت بوادٍ غير ذي زرع. قال: صدقت، ولكن يجبى إليه ثمرات كل شيء. فضحكت الجماعة، ووهبنا له دراهم.
ومن الجواب الحاضر المسكت الذي حز الكبد ونقب الفؤاد ما جرى لأبي الحسين البتي مع الشريف محمد بن عمر، فإن ابن عمر قال للبتي: أنت والله شمامةٌ ولكنها مسمومة. فقال البتي على النفس: لكنك أيها الشريف شمامةٌ مشمومةٌ، عطرت الأرض بها، وسارت البرد بذكرها.
وقال نصر بن سيارٍ بخراسان لأعرابي: هل أتخمت قط. قال: أما من طعامك وطعام أبيك فلا. فيقال: إن نصراً حم من هذا الجواب أياماً؛ وقال: ليتني خرست ولم أفه بسؤال هذا الشيطان.
وجرى حديث الذكور والإناث، فقال الوزير، قد شرف الله الإناث بتقديم ذكرهن في قوله عز وجل: "يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور". فقلت: في هذا نظر؛ فقال: ما هو: قلت قدم الإناث - كما قلت - ولكن نكر، وأخر الذكور ولكن عرف، والتعريف بالتأخير أشرف من النكرة بالتقديم. ثم قال: هذا حسن. قلت: ولم يترك هذا أيضاً حتى قال: "أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً" فجمع الجنسين بالتنكير مع تقديم الذكران، فقال: هذا مستوفى.
وقال: ما معنى كأسٌ أنف? فكان من الجواب أن يعقوب قال: يقال كأسٌ أنف، أي لم يشرب منها قبل ذلك؛ وكذلك يقال: روضةٌ أنف، إذا لم يكن رعاها أحد.
وقال لقيط:

إن الشواء والنشيل والرغـف

 

والقينة الحسناء والكأس الأنف

للـطـاعـنـين الـخــيل

 

والـخـيل قـــطـــف

قال: ما النشيل? فإن الشواء والرغف معروفان. قلت: ما ضمته القدر من اللحم وغيره، لأنه ينشل ويغرف؛ فقال: هذا بابٌ إن ألححنا عليه جوع.
قال: ما تحفظ في حديث الأكل? قلت: الأكل والذم.
ومن مليحه ما حضرني. قيل لجميز: ما تشتهي? قال: بسيسٌ مقليٌ بين غليان قدور، على رائحة شواء، بجنب خبيص. فضحك - أضحك الله سنه بالفرح والسرور. وانتظام الأحوال واتساق الأمور -. وقال: هات حديثاً نخرج به مما كنا فيه. فقلت: كتب سعد بن أبي وقاص إلى رستم صاحب الأعاجم: إسلامكم أحب إلينا من غنائمكم؛ وقتالكم أحب إلينا من صلحكم. فبعث إليه رستم: أنتم كالذباب إذ نظر إلى العسل فقال: من يوصلني إليه بدرهمين، فإذا نشب فيه قال: من يخرجني منه بأربعة، وأنت طامع، والطمع سيرديك. فأجابه سعد: أنتم قومٌ تحادون الله وتعاندون أنفسكم، لأنكم قد علمتم أن الله يريد أن يحول الملك عنكم إلى غيركم، وقد أخبركم بذلك حكماؤكم وعلماؤكم، وتقرر ذلك عندكم، وأنت دائماً تدفعون القضاء بنحوركم، وتتلقون عقابه بصدوركم، هذه جرأةٌ منكم وجهلٌ فيكم، ولو نظرتم لأبصرتم، ولو أبصرتم لسلمتم، فإن الله غالبٌ على أمره، ولما كان الله معكم كانت علينا ريحكم، والآن لما صار الله معنا صارت ريحنا عليكم، فانجوا بأنفسكم، واغتنموا أرواحكم، وإلا فاصبروا لحر السلاح وألم الجراح، وخزي الافتضاح، والسلام.
كتب حذيفة إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن العرب قد تغيرت ألوانها ولحومها. فكتب عمر إلى سعد: ارتد للعرب منزلاً مراحاً. فارتاد لهم الكوفة، وهي بقعةٌ حصباء، ورملةٌ حمراء، فقال سعد: اللهم رب السماء وما أظلت، والأرض وما أقلت، والريح وما ذرت، بارك لنا في هذه الكوفة.
وسمع عمر منشداً ينشد:

ما ساسنا مثلك يابن الخطاب

 

أبر بالأقصى وبالأصحاب

بعد النبي صاحب الكتاب

 

 

فنخسه عمرو وقال: أين أبو بكر ويلك.
قال عمر وهو بمكة: لقد كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظاً يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت ليس بيني وبين الله أحدٌ، ثم تمثل:

لا شيء مما ترى تبقي بشاشتـه

 

يبقى الإله ويودي المال والولد

لم تغن عن هرمزٍ يوماً خزائنه

 

والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا

ولا سليمان إذ تسري الرياح به

 

والإنس والجن فيما كلفوا عبـد

أين الملوك التي كانت نوافلهـا

 

من كل أوبٍ إليها راكبٌ يفـد

حوضٌ هنالك مورودٌ بلا كذبٍ

 

لابد من وردنا يوماً كما وردوا

وقال عمر: خير الدواب الحديد الفؤاد، الصحيح الأوتاد.
وقال عمر: كانت العرب أسداً في جزيرتها يأكل بعضها بعضاً، فلما جمعهم الله بمحمد لم يقم لهم شيء.
رأى رستم في النوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ سلاح فارس وختم عليه ودفعه إلى عمر، فارتاع رستم من ذلك وأيقن أنه هالك.
وقال: أنشدني شيئاً، فأنشدته لبعض آل أبي طالب:

ولست بمذعنٍ يوماً مطيعـاً

 

إلى من لست آمن أن يجورا

ولكني متى ما أخش مـنـه

 

أحالف صارماً عضباً ثؤورا

وأنزل كـل رابـيةٍ بـراحٍ

 

أكون على الأمير بها أميرا

وأنشدني لعبد الله بن الزبير، ولقد تمثل به:

إني لمن نبعةٍ صمٍ مكـاسـرهـا

 

إذا تقادحت القصباء والـعـشـر

ولا ألين لغير الـحـق أتـبـعـه

 

حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

وحدثته أن المأمون قال: قليل السفه يمحو كثير الحلم، وأدنى الانتصار يخرج من فضل الاغتفار، وعلى طالب المعروف المعذرة عند الامتناع، والشكر عند الاصطناع، وعلى المطلوب إليه تعجيل الموعود، والإسعاف بالموجود.
فقال: من أفضل هؤلاء? يعني بني العباس. فكان الجواب أن المنصور أنقدهم، والمأمون أمجدهم، والمعتصم أنجدهم، والمعتضد أقصدهم. فقال: كذلك هو. وقال: فالباقون? قلت ليس فيهم بعد هؤلاء من يوحد بالذكر، لأنه في نقصه وزيادته مشاكلٌ لغيره. فقال: لله درك.

الليلة الخامسة والثلاثون

وقال ليلةً: ما الفرق بين الإرادة والاختيار? فكان من الجواب أن كل مرادٍ مختار، وليس كل مختارٍ مراداً، لأن الإنسان يختار شرب الدواء الكريه وضرب الولد النجيب وهو لا يريد، ويختار طرح متاعه في البحر إذا ألجىء وهو لا يريد، وهما وإن كانا انفعالين فأحدهما - وهو الاختيار - لا يحدث إلا عن جولان وتنقيرٍ وتمييز، والآخر - وهو الإرادة - يفجأ ويبغت وربما حمل على طلب المراد بالكره الشديد؛ وفي عرض الاختيار سعةٌ للتمكن، وليس ذلك في عرض الإرادة. والعرب تستعمل الإراغة في موضع الإرادة، والأول من راغ يروغ، والثاني من راد يرود، والهمزة مجتلبةٌ للتعدي.
قال: فما الفرق بين المحبة والشهوة? فكان الجواب أن الشهوة ألصق بالطبيعة، والمحبة أصدر عن النفس الفاضلة، وهما انفعالان، إلا أن أحد الانفعالين أشد تأثراً، وهو انفعال الشهوة، وأنه يقال: شهي وأشهى، ويقال في الآخر: حب وأحب، ويتداخلان كثيراً بالاستعمال، لأن اللغة جاريةٌ على التوسع، كما هي جاريةٌ على التضيق، ومن ناحية التضيق فزع إلى التحديد والتشديد، ومن ناحية التوسع جري على الاقتدار والاختيار، وفي عرض هذين بلاءٌ آخر، لأنه بين الإيجاز والإطناب، وبين الكناية والتصريح، وبين الإنجاز والإبطاء. فقال: هذا باب.
ثم ناولني رقعةً بخطه فيها مطالب نفيسةٌ تأتي على علمٍ عظيم، وقال: باحث عنها أبا سليمان وأبا الخير ومن تعلم أن مجاراته فائدةً من عالمٍ كبير، ومتعلمٍ صغير، فقد يوجد عند الفقير بعض ما لا يوجد عند الغني، ولا تحقر أحداً فاه بكلمةٍ من العلم، أو أطاف بجانبٍ م الحكمة، أو حكم بحالٍ من الفضل؛ فالنفوس معادن، وحصل ذلك كله وحرره في شيء وجئني به، وكان في الرقعة: ما النفس? وما كمالها? وما الذي استفادت في هذا المكان? وبأي شيء باينت الروح? وما الروح? وما صفته? وما منفعته? وما المانع من أن تكون النفس جسماً أو عرضاً أو هماً? وهل تبقى? وإن كانت تبقى فهل تعلم ما كان الإنسان فيه ها هنا? وما الإنسان? وما حده? وهل الحد هو الحقيقة، أم بينهما بون? وما الطبيعة؛ وهلا أغنى الروح عن النفس، أو هلا أغنت النفس عن الروح? وهلا كفت الطبيعة? وما العقل? وما أنحاؤه? وما صنيعه? وهل يعقل العقل? وهل تتنفس النفس! وما مرتبته أعني العقل عند الإله? وهل ينفعل? وهل يفعل? وإن كان ينفعل ويفعل فقسط الفعل فيه أكثر من قسط الانفعال? وما المعاد المشار إليه? أهو للإنسان? أم لنفسه? أم لهما? وما الفرق بين الأنفس، أعني نفس عمرو وزيدٍ وبكرٍ وخالد? ثم ما الفرق بين أنفس أصناف الحيوان? وهل الملك حيوان? فقد علمت أنه يقال له: حيٌ، وهل فيه حياة? وعلى أي وجهٍ يقال: إن الله عز وجل حيٌ والملك حي والإنسان حي والفرس حي? وهل يقال: الطبيعة حية، والنفس حية، العقل حي? فإن هذا وما أشبهه شاغلٌ لقلبي، وجاثمٌ في صدري، ومعترضٌ بين نفسي وفكري؛ وما أحب أن أبوح به لكل أحدٍ، وقد بينته في هذه الرقعة، فإن أحببت أن تعرضها على أبي سليمان فافعل، ولكن لا تدع خطي عنده، بل انسخه له، وحصل ما يجيبك به، ويصدع لك بحقيقته، ولخصه، ورنه بلفظك السهل، وإفصاحك البين، وإن وجب أن تباحث غيره فافعل؛ فهذا هذا؛ وإن كان الرجوع فيه إلى الكتب الموضوعة من أجله كافياً، فليس ذلك مثل البحث عنه باللسان، وأخذ الجواب عنه بالبيان، والكتاب موات، ونصيب الناظر فيه منزور، وليس كذلك المذاكرة والمناظرة والمواتاة، فإن ما ينال من هذه أغض وأطرأ، وأهنأ وأمرأ، واجعل هذه الخدمة مقدمةً على كل مهمٍ لك، فإني ناظرك، طامعاً في الجواب المقنع الشافي.
فعرضتها كما رسم على أبي سليمان وقرأتها عليه، وتمهلت في إيرادها بحضرته، فلما فهمها ووقف عليه عجب وقال: هذه مسائل المتحكمين، وطلبات المدلين، واقتراحات المقتدرين، ومنية الأولين والآخرين.
قلت: هو كما قلت أيها الشيخ، ولابد من جوابٍ يعرض عليه يأتي على بعض مآرب النفس، وإن لم يأت على قاصية ما في المطلوب، فقال كلاماً كثيراً واسعاً أنا أحكيه على وجهه من طريق المعنى، وإن انحرفت عن أعيان لفظه، وأسباب نظمه، فإن ذلك لم يكن إملاءً ولا نسخاً، وأجتهد أن ألزم متن المراد، وسمت المقصود - إن شاء الله - عز وجل.
قال: أما قوله: ما النفس، فإن التحديد يعوز، والرسم لا يشفي، والوصف مقصرٌ عن الغاية، لأنها لايس لها جنسٌ ولا فصل فينشأ الحد بهما ومنهما؛ والاسم الشائع - أعني النفس - أخلص إلى المطلوب، وأحضر للمقصود من التحديد، ولهذا ما اختلف الناس قديماً وحديثاً في حدها؛ فقال قائل: النفس مزاج الأركان. وقال قائل: النفس تألف الأسطقسات؛ وقال قائل: النفس عرضٌ محركٌ بذاته. وقال قائل: النفس هوائية. وقال قائل: النفس روح حارة. وقال قائل: النفس طبيعةٌ دائمة الحركة. وقال قائل: النفس تمامٌ لجسمٍ طبيعيٍ ذي حياة. وقال قائل: النفس جوهرٌ ليس بجسمٍ محركٌ للبدن. وعلى هذا؛ ولعل آخرين يقولون في تحديدها ونعتها أقوالاً أخر، لأن الملحوظ بسيط، والمدروك بعيد، والناظرين كثيرون، والباحثين مختلفون، والكثرة فاتحة الاختلاف، والاختلاف جالبٌ للحيرة، والحيرة خانقةٌ للإنسان، والإنسان ضعيف الأسر، محدود الجملة، محصور التفصيل، مقصور السعي، مملوك الأول والآخر، غشاؤه كثيف، وباعه قصير، وفائته أكثر من مدركه، ودعواه أحضر من برهانه، وخطؤه أكثر من صوابه، وسؤاله أظهر من جوابه، فعلى هذا كله الاعتراف بها - أعني بالنفس وبوجدانها - أسهل من الفحص عن كنهها وبرهانها.

قال: وإنما صعب هذا لأن الإنسان يريد أن يرعف النفس وهو لا يعرف النفس إلا بالنفس، وهو محجوبٌ عن نفسه بنفسه؛ وإذا كان الأمر على هذا فالأمر أن كل من كانت نفسه أصفى، ونوره أشع، ونظره أعلى، وفكره أثقب، ولحظه أبعد، كان من الشك أنجى، وعن الشبهة أنأى، وإلى اليقين أقرب؛ والإنسان ذو أشياء كثيرةٍ، من جملتها نفسه، فلكثرة ما هو به كثيرٌ يعجز عن إدراك ما هو به واحدٌ، أي إنسان، وكيف لا يكون هذا النعت حقاً، وهذا المقول صدقاً، وهو مركبٌ في مربك، والنفس مبسوطة، وإنما فيه جزءٌ يسير ونصيبٌ قليل من ذلك البسيط، فكيف يدرك بجزء منها كلها وبقليل منها جميعها؛ هذا متعذرٌ إن لم يكن محالاً، وبعيدٌ إن لم يكن معدوماً؛ ويكفي أن تعلم أن النفس قوةٌ إلهية واسطة بين الطبيعة المصرفة للأسطقسات والعناصر المتهيئة، وبين العقل المنير لها، الطالع عليها، الشائع فيها، المحيط بها؛ وكما أن الإنسان ذو طبيعة لآثارهما الظاهرة في بدنه كذلك هو ذو نفس، لآثارها الظاهرة في آرائه وأبحاثه، ومطالبه ومآربه؛ وكذلك هو ذو عقلٍ لتمييزه وتصفحه، واختباره وفحصه واستنباطه، ويقينه وشكه، وعلمه وظنه، وفهمه ورويته وبديهته وذكره، وذهنه وحفظه وفكره، وحكمته وثقته وطمأنينته؛ وكذلك هو ذو اعترافٍ بالأحد الذي لا سبيل إلى جحده، والبراء من هويته، وكيف يجد أثر الجحد، أو يحس بلمسةٍ من الشك? وسنخه ينبو عن ذلك، وفطرته تأباه، ولهذا النبو والإباء يفزع إليه، ويتوكل عليه، ويطلب الفرج من عنده، ويلتمس الخير من لدنه، فانظر إلى هذه السلسلة الوثيقة التي لا يفصمها شيءٌ لا في زمانٍ ولا في مكانٍ، ولا في يقظةٍ ولا في منامٍ؛ فهذا هذا? وفيه مقنع.
وأما فعل النفس، فقد وضح أنه إثارة العلم من مظانه؛ واستخلاصه من العقل بشهادته، مع إفاضاتٍ لها أخر، وإنالاتٍ منها جليلة عند الإنسان، بها ينال ما يكمل به، وبكماله يجد السعادة، وبسعادته ينجو من شقوته.
وأما قوله: ما الذي استفادت في هذا المكان، فإنها أفادت وما استفادت، إلا أن تجعل إفادتها للقابل منها استفادةً لها؛ وفي هذا تجوزٌ ظاهر، ولا يقال للشمس إذا طلعت على بسيط الأرض والعالم: ما الذي استفادت. ولكن يقال: ما الذي أفادت: فيعلم حينئذٍ بالعيان أنها أفادت أشياء كثيرة، صوراً مختلفة، ومنافع جمةً بالقصد الأول؛ وأما القصد الثاني فأضداد هذه، وهذا القصد مفروضٌ باللفظ ليكون معيناً على تبليغ الحكمة إلى أهلها.
وأما قوله: بأي شيء باينت النفس الروح فهو ظاهر، وذلك أن الروح جسمٌ يضعف ويقوى، ويصلح ويفسد، وهو واسطةٌ من البدن والنفس، وبه تفيض النفس قواها على البدن، وقد يحس ويتحرك، ويلذ ويتألم؛ والنفس شيءٌ بسيطٌ عالي الرتبة، بعيدٌ عن الفساد، منزه عن الاستحالة.
وأما المانع أن تكون النفس جسماً فللبساطة التي وجدت للنفس ولم توجد للجسم، وبيان هذا أن كل نعت أطلق على الجسم نزهت عنه النفس، وكل نعت أطلق على النفس نبا عنه الجسم؛ فذاك كان المانع من ذلك، وقد أتت مذاكرةٌ في النفس منذ ليالٍ بشرحٍ مغنٍ، وبيانٍ تام، إلا أن هذا المكان أحوج إلى الإلمام، ولم يأت على ما في النفس. وإذا بطل أن تكون النفس جسماً فهي بألا تكون عرضاً أقمن وأخلق، لأنه لا قوام للعرض بنفسه.
وأما قوله: وهل تبقى? فكيف لا تبقى وهي مبسوطةٌ لا يدخل عليها ضد، ولا يدب إليها فساد، ولا يصل إلى شيء منها بلى، والإنسان إنما يبلى ويفسد ويخلق ويبطل ويموت ويفقد، لأنه يفارق النفس، والنفس تفارق ماذا حتى تكون في حكم الإنسان بشكله? ولو كانت كذلك كانت لعمري تموت وتبلى، فأما والإنسان بها كان حياً وجب ألا يكون حكمها حكم الإنسان.
وأما قوله: أو هما، فقد بان أن النفس متى لم تكن جسماً، ولا عرضاً على حدةٍ أنها لا تكون أيضاً بهما نفساً، لأن البينونة التي منعت في الأول هي التي تمنع في الثاني، وليست النفس والعرض كالخل والسكر حتى إذا جمع بينهما كان كل منهما شيء آخر، لأن الجسم والجسم إذا اختلطا كان منهما شيءٌ ما، له قوامٌ ما، وإن ذلك القوام مستلٌ منهما، وليس كذلك البسيط وغير البسيط، فهذا هذا.
وأما قوله: وهل تفنى، فقد بان أنها تبقى ولا تفنى، وليس يطرأ عليها ما يفنيها، لبساطتها وبعدها من التركيب العجيب المعرض للتحلل.

وأما قوله: وهل تعلم ما كان فيه الإنسان ها هنا، فإن هذا بعيد من الحق لأنها قد وصلت إلى معدن الكرامة وجنة الخلد، فلا حاجة بها إلى علم العالم السفلي الذي لا ثبات له ولا صورة، لغلبة الحيلولة عليه، وتذكر الحيلولة حيلولة، وذلك دليل النقص، واعتراض الألم، ولو أن إنساناً نقل من كرب حبسٍ ضيقٍ إلى روض بستان ناضر بهيج مونق، ثم تذكر ما كان فيه في حال ما هو عليه لكان ذلك مؤذياً لنفسه، وكارباً لقلبه، وقادحاً في روحه، وآخذاً من حبوره وغبطته، ومدخلاً للتنغيص عليه في نشوته.
وأما قوله: وما الإنسان، فالإنسان هو الشيء المنظوم بتدبير الطبيعة للمادة المخصوصة بالصور البشرية، المؤيد بنور العقل من قبل الإله؛ وهذا وصفٌ يأتي على القول الشائع عن الأولين إنه حيٌ ناطقٌ مائتٌ أي حيٌ من قبل الحس والحركة، ناطقٌ من قبل الفكر والتمييز، مائتٌ من قبل السيلان والاستحالة، فمن حيث هو حيٌ شريك الحيوان الذي هو جنسه، ومن حيث هو مائتٌ هو شريك ما يتبدل ويتحلل، ومن حيث هو ناطقٌ هو إنسانٌ عاقلٌ حصيف، ومن حيث يبلغ إلى مشاكهة الملك بقوة الاختيار البشري، والنور الإلهي، أعني ينعت في حياته هذه التي وهبت له بدءاً، بصحة العقيدة وصلاح العمل وصدق القول - هو ملك، فإن لم يكن ملكاً فهو جامع لصفاته، ومالكٌ لحليته، ولما كان جنسه مشتملاً على التفاوت الطويل العريض، كان نوعه مشتملاً على التفاوت الطويل العريض؛ ومن كان نوعه كذك كانت آحاده كذلك، وكما أن الجنس يرتقي إلى نوعٍ كامل، كذلك النوع يرتقي إلى شخص كامل.
وأما قوله: هل الحد هو الحقيقة أو بينهما بون، فإن الحد راجعٌ إلى واضعه ومتقصيه بدلالة أنه يضعه ويفصله، ويخلصه ويسويه ويصلحه. فأما الحقيقة فهي الشيء وبها هو ما هو، حده صاحبه أم لم يحده، رسمه قاصده أم لم يرسمه، فملحوظ الحقيقة عين الشيء وموضوع الحد ليس هو عين الشيء.
وأما قوله: وما الطبيعة فهي أيضاً قوةٌ نفسية، فإن قلت عقليةٌ لم تبعد، وإن قلت إلهيةٌ لم تبعد، وهي التي تسري في أثناء هذا العالم محركةً ومسكنة، ومجددةً ومبلية، ومنشئةً ومبيدة، ومحييةً ومميتة، وتصاريفها ظاهرةٌ للحسائس، وهي آخر الخلفاء في هذا العالم، وهي بالمواد أعلق، والمواد لها أعشق؛ وليس لها ترقي النفس في الثاني إلى عالم الروح، لأنه لا كون هناك ولا فساد، فلو رقيت إلى هنالك لبقيت عاطلة، وليس كذلك النفس، فإن لها في عالمها البهجة والغبطة، والحبور والسرور، والدوام والخلود والخلافة الإلهية، وهذا هناك في مقابلة ما كان لها ها هنا من الفضائل التي لا يأتي عليها إحصاء، ولا يحصلها استقصاء.
وأما قوله: وهلا أغنى الروح عن النفس، فهو يغني عنها، ولكن في جنس الحيوان الذي لم يكمل فيكون إنساناً. فأما في الإنسان فلا، لأن الإنسان بالنفس هو إنسانٌ لا بالروح، وإنما هو بالروح حيٌ فحسب.
وأما قوله: وهلا أغنت النفس عن الروح، فإن الروح كالآلة للنفس حتى ينفذ تدبيرها بوساطته في صاحب الروح، وليس ذلك لعجز النفس، ولكن لعجز ما ينفذ فيه التدبير، وإذا حقق هذا الرمز لم يكن هناك عجز لأنه نظامٌ موجودٌ على هذه الصورة، وصورةٌ قائمةٌ على هذا النظام، فليس لأحد أن يعلل ذلك بلم ولا بكيف إلا من طريق الإقناع.
وأما قوله: هلا كفت الطبيعة. فقد كفت في مواضعها التي لها الولاية عليها من قبل النفس، كما كفت النفس في الأشياء التي لها عليها الولاية من قبل العقل، كما كفي العقل في الأمور التي له الولاية عليها من قبل الإله؛ وإن كان مجموع هذا راجعاً إلى الإله، فإنه في التفصيل محفوظ الحدود على أربابها؛ وهذا كالملك الذي له في بلاده جماعةٌ فيصدرون عن رأيه، وينتهون إلى أمره، ويتوخون في كل ما يعقدونه ويحلونه، وينقضونه ويبرمونه، ما يرجع إلى وفاقه، وكل ذلك منه وله وبأمره، وقد كفاه أولئك القوم ذلك كله.
فإن قال قائلٌ: فكيف مثلت سياسةً إلهيةً بسياسةٍ بشرية، وأني هذه من تلك?  

فالجواب أن البشر المسكين لم يجد هذه السياسة من تلقاء نفسه، ولا بما هو به مهينٌ ضعيف عاجزٌ مسكين؛ بل بما فاض عليه من تلك القوى وتلك الصور، فهو إذا أبرز شيئاً أبرز على مثال تلك، لأنه قد أعطى القالب، فقد سهل عليه أن يفرغ فيه، ووهب له الطابع، فهو يختم به؛ وهيىء على ذلك فهو يجري عليه، وهذا سوقٌ إلهي وإن كان الانسياق بشرياً، ونظمٌ ربويٌ وإن كان الانتظام إنسياً؛ وفي الجملة إحدى السياستين، أعني البشرية هي ظلٌ للأخرى، أعني الإلهية، والسفليات منقادةٌ منفعلةٌ للعلويات، والعلويات مستولياتٌ على السفليات، بحق العدل وما هو مقتضاها، ولأن هذه فواعل، أعني العلويات، وتلك قوابل، أعني المنفعلات، ووجب ذلك لأن الصورة في الفاعل أغلب، والهيولى في القابل أغلب، والعالمان متواصلان، والسياستان متماثلتان، والسيرتان متعادلتان، والتدبيران متقابلان، ولكن التبدير إذا نفذ في السفلي يسمى بشرياً، وإذا نفذ في العلوي يسمى إلهياً، وإن كان في التحقيق إلهيين، وإنما اختلفا بحسب الصدور والورود، والفصول والوصول، والشخوص والبلوغ؛ والعادة جارية بأن يشبه الإنسان شيئاً من الأشثياء بالشمس والقمر، ولا يشبه الشمس والقمر بشيء آخر، لأن للأعلى النعت الأول، وللأسفل النعت الأرذل؛ فهذا كما ترى.
وأما قوله: وما العقل، وما أنحاؤه، وما صنيعه? فإن الجواب عن هذا لو وقع في خلد كثير، لكان محمولاً على التقصير، وكذلك فيما تقدم؛ ولكن هذا مكان قد اقترح فيه الإيجاز والتقريب، وهذان لا يكونان إلا بحذف الزوائد المفيدة، وإلا بتفريق العلائق الموضحة. وبعد، فالعقل أيضاً قوةٌ إلهية أبسط من الطبيعة، كما أن الطبيعة قوة إلهية ابسط من الأسطقسات، وكما أن الأسطقسات أبسط من المركبات؛ وعلى هذا حتى تنتهي المركبات إلى مركب في الغاية، كما بلغت المبسوطات إلى مبسوطٍ في النهاية؛ فالتقى الطرفان على ما يقال له: كل، فلم يكن بعد ذلك مطلبٌ لا في هذا الطرف ولا في هذا الطرف؛ والعقل هو خليفة الله، وهو القابل للفيض الخالص الذي لا شوب فيه ولا قذى؛ وإن قيل: هو نورٌ في الغاية لم يكن ببعيد، وإن قيل بأن اسمه مغنٍ عن نعته لم يكن بمنكر؛ وإنما عجزنا عن تحديد هذه البسائط لأنا حاولنا عند علمها أن تكون في صورة المركبات أو قريبة منها، وأن تصير لنا أصناماً نتمثلها ونوكل بها؛ وهذا منا تعجرفٌ مردودٌ علينا، وخطأٌ يلزمنا الاعتذار منه إلى كل من أحس به منا؛ وينبغي أن نتوب إلى الله في كل وقتٍ من وصفه بما لا يليق به، ومن طرح الوهم على شيء قد حجبه عن معارفنا، ورفعه عن عقولنا، وقصرنا على حدودنا اللازمة لنا، وأشكالنا المشتملة علينا؛ هذا حديث العقل إذا لحظ في ذروته.
فأما إذا فحص عن آثاره في حضيضه فإنه تمييزٌ وتحصيلٌ وتصفحٌ وحكم وتصويبٌ وتخطئة، وإجازةٌ وإيجابٌ وإباحة؛ وإياك أيها السامع أن يكون مفهومك من هذه الأسماء والأفعال والحروف أشياء متمايزة فتجعل شيئاً واحداً أشياء، ومن كثر الواحد فهو أشد خطأً ممن وحد الكثير، لأن تكثير الواحد انحطاطٌ إلى المركز؛ وتوحيد الكثير استعلاءٌ إلى المحيط، بل يجب أن يكون محصولك منها شيئاً واحداً لم تصل إليه إلا بترادف هذه الكلمات، وتصاحب هذه الصفات.

وأما أنحاؤه، فعلى قدر ما يقال: فلان عاقل وفلانٌ أعقل من فلان، وفلانٌ في عقله لوثة، وفلانٌ ليس بعاقل؛ وأصحاب العقل أنصباؤهم منه مختلفة بالقلة والكثرة، والصفاء والكدر، والإنارة والظلمة، واللطافة والكثافة، والخفة والحصافة، كما تجدهم مختلفين في الصور والألوان والخلق بالطول والقصر، والحسن والقبح، والاعتدال والانحراف، والرد والقبول، إلا أن هذا القبيل يدرك بالحس، ويشهد بالعيان، ويعاين بالحضور، وذلك القبيل محجوبٌ عن هذا كله، فلم يجز أن تكون الإحاطة بتفاوت ما غاب عنا في وزن الإحاطة بتفاوت ما حضر، فإنهما ما تباينا ليأتلفا، بل ليختلفا، وهذا التفاوت معترفٌ به إذا اعتبر من خارج، وذلك أنك تجد أصحاب المال أيضاً يتباينون في مقادير ما يملكون من المال، ولا يتفقون على مقدارٍ واحدٍ منه عند جماعتهم، ولا يتفقون على نوعٍ واحدٍ أيضاً من أعيان المال، لأن هذا يملك الصامت، وذاك يملك الناطق، وهذا يمارس القز، وهذا يمارس الصوف، وهذا ينظر في الصرف، وهذا يبيع الحيوان، وكلٌ منهم صاحب مالٍ ومباشرٌ له؛ وعلى هذا المثال احتذى أهل العقل في مطالبهم، فصار هذا يملك بعقله غير ما يملك الآخر، أعني أن هذا ينظر في الهندسة، وهذا في الطب، وهذا في النحو، وهذا في الفقه؛ والعبارة تمنع من إشباع هذا المعنى، وحصر هذا الفن، فعلى هذا أنحاؤه، وإنها لكثيرة إن لم تكن بلا نهاية.
وأما صنيعه، فهو الحكم بقبول الشيء ورده، وتحسينه وتقبيحه، إذا كان المعروض عليه على جهته غير مموه ولا مغشوش، ولا مشتبه فيه ولا ملبوس، فإن كان مموهاً اختلف حكمه، لأن العقل يرى الباطل حقاً في وقت، ويرى الحق باطلاً في وقت، معاذ الله من هذا، ذلك للحس المنقوص، والذهن الملبوس، لأن العارض موه معروضه على العقل، فحكم له بما يستحقه، إلا أن يكون العارض لم يشعر بذلك التمويه، ولم يفطن لذلك الغش، فحينئذ يهديه العقل ويرشده، ويفتح عليه، وينصح له.
وأما قوله: وهل يعقل العقل، فإن الأولى أن يقال: العاقل يقعل بالعقل معقوله، ألا ترى أنه يقال: السراج أضاء البيت، ويبعد أن يقال: أضاء نفسه، لأنه مضيىءٌ بنفسه، فليس به فقرٌ إلى أن يضيء نفسه، وإنما أضاء غيره... ولو عقل العقل لعقل بالعقل، وهذا إذا استمر كان مردوداً، ونحن إذا قلنا: عقل العاقل معقوله، فإنما نصفه بأنه انفعل انفعال كمالٍ، والعقل يرى من هذا الانفعال ألا يتوخى أنه يعقل الإله الذي هو به ما هو، فإنه يجوز أن يضر به انفعالٌ لائقٌ به يكون عبارةً عن شوقه إليه، وكماله به، واقتباسه منه، وهذا صراطٌ حديد، والواطىء عليه على خطر شديد، والوقوف دونه أصدع بالحجة، وأوضح للعذر، لأن الإنسان خوارٌ بالطبع، وإن كان جسوراً بالنفس.
وأما قوله: وهل تتنفس النفس، فإن أريد بذلك النفس النامية والحيوانية فهو قريب، وأما الناطقة فإن ذلك يبعد منها لأن ذلك التنفس استمداد شيء به يكون الشيء حياً أو كالحي؛ والناطقة غنيةٌ عن ذلك.
فإن قيل: فهل تقتبس من العقل وتستمد? قيل: هذا لا يسمى تنفساً، وليس اللفظ يبعده عن الحقيقة تأويلٌ في الوضع؛ ولا وجهٌ في الاعتمال وإدخال العويص في المكان الذي يحتاج فيه إلى رفع اللبس وزوال الإشكال، مداجاةً في العلم وخيانةً للحكمة وجنايةً على المستنصح.
وأما مرتبته عند الإله فقد وضح بأنه كالشمس تطلع فتحيي، وتضيء فتنفع.
فإن قيل: فالعقل أيضاً هكذا، قيل: العقل أيضاً شمسٌ أخرى، ولكنها تطلع على النفس التي ليست حاويةً لجدارٍ وسطح، وبرٍ وبحر، وجبلٍ وسهل، لأنه لما كان العقل أشرق من النفس - لأنه مستخلفٌ للنفس، والنفس خليفته - كان إشراقه ألطف، ومنافعه في إشراقه أشرف، وأيضاً فإن الشمس تجدها بالحس لها غروبٌ وطلوع، وتجلٍ وكسوفٌ، وليس كذلك العقل، لأن إشراقه دائم، ونوره منتشر، وطلوعه سرمد، وكسوفه معدوم، وتجليه غير متوقف.
فإن قيل: نرى العقل يعزب عن الإنسان في وقتٍ ويثوب إليه في وقت. فالجواب أن الوصف الذي كنا ننعت به ونصدع ببيانه لم يكن لعقل زيد وعمرو، وبكرٍ وخالد، لأن ذلك ينعت بالطلوع والغروب، وبالحضور والغيوب، لأنه ها هنا مضافٌ ومنحازٌ، أو كالمنحاز، وليس كذلك هو، فإنه هناك على بهجته التامة، وسلطانه القاهر، وملكوته الأفيح، وبسيطه الفائق، وفضائه العريض.
 وأما قوله: وهل ينفعل، فقد مر الكلام عليه في طي ما مر، وليس للتكرار وجه، ولا في التطويل عذر.
وأما قوله: فقسط الفعل أكثر، أم قسط الانفعال، فإن هذا يلحظ من وجهين، إذا لحظ قبوله من فيض الإله فقسط الانفعال أظهر، وإذا لحظ فيضه على النفس فقسط الفعل فيه أكثر، لأنه بجوده على غيره يشاركه من جاد عليه بجوده، وهذا لطيفٌ جداً.
وأما قوله: وما المعاد، فما أسهل مطالبة السائل بهذا الأمر الصعب الهائل الذي كل أمرٍ متعلقٌ به، وكل رجاء حائمٌ حوله، وكل طمعٍ متوجهٌ إليه، وكل شيء مقصورٌ عليه، وكل إنسانٍ به يهيم، وكل مصرحٍ عنه يصرح، وكل كانٍ عنه يكني، وكل مترنم به يحدو، وكل لحنٍ إليه يشير، وكل سامعٍ إليه يطرب، ونرجع فنقول - على العي والبيان، وعلى الزحف والعدوان: - إن عود النفس إنما هو تخليتها للبدن إذا حان وقت التخلية، إما لأن البدن غير محتملٍ لمادة الحياة، وإما لأن النفس قد أزمعت أمراً آخر، ولا يتم لها ذلك إلا بتخلية هذا؛ وإما لهما.
فإن قال قائل: فما نصيب الإنسان من عود النفس الذي هو تخليتها للبدن وخروجها عنه، وترك استعمالها له. فالجواب من طريق التمثيل، والرضا بالرأي الأصوب، والحكم الأجلى أن يقال: لو قيل لرجلٍ من عرض الناس وافرٍ أو ناقص: إنك إذا فارقت هذا العالم بقيت عينك الباصرة، وأذنك السامعة، هل ترى ذلك نعمةً عليك، وإحساناً إليك، فإن عينك إذا بقيت أبصرت العالم بعدك كما كنت تبصره وهي معك، بل تبصر أحسن من ذاك الإبصار، لأنها كانت معك ترمد بسببك، وتعشى من أجلك، وربما عرض لها سوءٌ بسوء تدبيرك، أو باتفاق رديء عليك، ومن عشىً أو عمىً وخفش وعمش وعورٍ وآفاتٍ كثيرة، وهي آمنةٌ بعدك من هذه الأعراض المكروهة، والأحوال الداهية، فإنا نعلم حقاً وعياناً أنه يقول: قد رضيت بل أتمنى هذا، ومن لي به، أي إن إعطيت هذا فمن مني أسمع وأبصر، وإذا كنت أكره الدنيا في حياتي إذا فقدتهما فكيف لا أحب الدنيا إذا وجدتهما، فإن كان هذا التمثيل واقعاً، وهذا التقريب نافعاً، والحق في تضاعيفه واضحاً، فليكن ذلك مطرداً في بقاء نفس الإنسان التي بها كان إنساناً، وبها كان ينعم في هذا العالم، وبها كان يعلم ويعرف ويحكم ويصيب، ويجد لذة اللذيذ من ناحية العقل والحس، وبها كان يتمنى البقاء والدوام والخلود، وإنما استحال ذلك التمني من أجل كونه وفساده اللذين لم يكن بدٌ من انتهائهما إلى الفناء الذي هو مفارقة النفس الجسد وتخليتها للبدن، ونسبة نفس الإنسان إلى الإنسان أوكد وألصق من نسبة العين إليه، ألا ترى أنه بالنفس إنسانٌ، وبالبدن حافظٌ لشكل الإنسان؛ فإذا كان للإنسان في هذا التمثيل فائدةٌ متمناة، وحالةٌ محبوبةٌ هنيئة، أعني في بقاء العين والأذن حتى يبصر بإحداهما هذا العالم المحشو بالآفات، ويسمع بالأخرى ما يجري فيه من ضروب الاستحالات، فبالحري أن يكون رضاه ببقاء النفس في محل الروح والأمن، ومقام الكرامة والسكينة على حال الخلود والطمأنينة، إن هذا لعجيب؛ وأعجب من هذا العجيب عقلٌ لا يعلق به، وروحٌ لا يهش لسماعه، ونفسٌ لا تجد حلاوته، وصدرٌ لا يتصدع طرباً عليه، والتياحاً إليه، فإن من لم يشعر بهذه الفائدة، ولم يحمد الله على هذه النعمة، لعازب الرأي، ضعيف العقل، خفيف المثقال، رديء الاختيار، قليل الحصافة، سيء النظر؛ حيوانٌ خسيس، في مسك إنسان رئيس؛ فقد بان - على مذهب التقريب - ما المعاد المشار إليه، وما الإنسان منه، وما لنفسه به.
وأما قوله: وما الفرق بين الأنفس، أي نفس زيدٍ وعمرو وبكرٍ وخالد، وما الفرق أيضاً بين أنفس أصناف الحيوان، فإنما الفرق بين هذه الأنفس بقدر قسط كل واحدٍ منهم منها، وهذه الأقساط إذا اجتمعت تفاوتت، وإذا تفاوتت كانت منها نفسٌ باقيةٌ حيةٌ، ونفسٌ فانيةٌ ميتةٌ، ألا ترى الشمس كيف تطلع على هذه المواضع المختلفة بالعلو والسفل، وبالتعريج والاستقامة، والأشكال الكثيرة، فيقول كل إنسان: مشرقتي أطيب من مشرقة فلان، وما أشبه هذا الكلام، وطلوع الشمس على جميعها طلوعٌ واحد، ولكن حظوظ البقاع منها مختلفة؛ فليس بمنكر أن تكون نفس زيدٍ أنجى من الكدر، وأخلص من الآفة، وأوصل إلى السعادة؛ ونفس بكرٍ على خلاف ذلك، ومراتب هذه الأنفس موقوفة على الإضافات الحاصلة لها بأصحابها، والأنصباء المذخورة لها باكتسابها.

فأما أنفس أصناف الحيوان كالفرس والحمار فإنها أنفسٌ ناقصةٌ غير كاملة، وهي ضعيفة، لأنها لم تجد إلا الإحساس والحركات، لم يشع فيها نور النفس الشريفة، ولم ينبث فيها شعاع العقل الكريم؛ فوجب من هذا الوجه أن تكون تابعةً لأبدانها، جاريةً على فسادها وبطلانها، لأن الحكمة انتهت إلى ذلك الحد في كونها حشواً لهذا العالم وزينةً ومنافع ومبالغ إلى غاياتٍ وأغراض.
وأما قوله: وهل الملك حيوان، فقد علمت أنه يقال له حي، وهذا وقفٌ على الأسماء الجارية، والعادات القائمة، وكأن الحيوان إنما شاع في غير الملك لما فيه من الحس والحركة والاهتداء والتصرف على ما لاق بجنسه ونوعه وشخصه؛ فأما ما يعلو وينزه عن الصفات فلم يطلق عليه حيوانٌ، ولكن يقال: حيٌ لأنه أقرب الأسماء إلى المعنى المشار إليه، وبهذا التقريب قيل أيضاً لله: إنه حيٌ، وأنت إذا حددت الحي أو الحياة لم تقدر على أن تصف الله جل وعلا بشيءٍ من ذلك.. وفي الجملة ما كان أدخل في البساطة كان أخرج من التركيب، وكل ما كان أخرج من البساطة كان أدخل في التركيب.
فأما المركب الذي ليس له من البسيط إلا النصيب النزر، وإلا طيف الخيال، فاسمه واضح والإشارة إليه سهلة، والعيان له مدرك، لأنه محاطٌ بحدوده في طوله وعرضه وعمقه.
وأما المركب البسيط الذي ليس له من التركيب إلا النصيب اليسير، فاسمه غامض، والإشارة إليه عسرة، والعيان عنه مكفوف؛ وهذا بابٌ إذا حفظ فهم منه شيءٌ كثيرٌ مما يقع فيه الغلط من الإنسان بفكره الردىء؛ وينفع أيضاً نفعاً بيناً في التغالط العارض بين المتناظرين على جهة التنافس والتناصف.
قال أبو سليمان: من حرس هذا الثغر أمن من جميع الأعداء، ومن أهمله كانت جنايته على نفسه بيده أعظم من جناية عدوه الثائر من ثغره.
وأما قوله: على أي وجهٍ يقال لله حيٌ والملك حيٌ والفرس حيٌ، فقد دخل الجواب عنه في ضمن ما تشقق القول به، وتحقق المعنى عليه في حديث المركب والبسيط؛ ونزيدها هنا حرفاً يكون رديفاً لما تقدم، فنقول: أما الإنسان فإنه يقال له: حيٌ بسبب الحس والحركة وما يتبعهما مما هو كمال الحي، وكذلك الفرس وما أشبهه. وأما الملك فلما كان ما يستحقه ببساطته معدوماً عندنا، لم نقدر على شيء نصفه به إلا ما نصف به أنفسنا بيننا، ولو كنا في عالم الملك لعلنا كنا ندري بأي شيء ينبغي أن ينعت ويسمى ويذكر ويحكى، فإن من كان منا في بلاد الصين فإنه يسمى الإنسان والفرس والحمار والبقر بها بتعالمٍ أهلها بينهم، وإن كان هو معوزاً على ما ترى في الملك، أعني تسميته الحي، ونعته بالحياة، فالله الذي لا سبيل للعقل أن يدركه أو يحيط به أو يجده وجداناً أولى وأحرى أن يمسك عنه عجزاً واستخذءً، وتضاؤلاً واستعفاءً، إلا بما وقع الإذن به من جهة صاحب الدين الذي هو مالك أزمة العقول ومرشدها إلى السعادات، وواقفها عند الحدود، وزاجرها عن التخطي إلى ما لا يجوز. فعلى هذا قد وضح أن الصمت في هذا المكان أعود على صاحبه من النطق، لأن الصمت عن المجهول أنفع من الجهل بالمعلوم، والتظاهر بالعجز في موضعه كالاستطالة بالقدرة في موضعها، وليس للخلق من هذا الواحد الأحد إلا الإنية والهوية، فأما كيف ولم وما هو فإنها طائرةٌ في الرياح كما تسمع وترى.
ولما حررت هذه الجملة وحملتها إلى الوزير وقرأتها عليه قال لي: هذا والله جهد المقل، وفي غليلي بقيةٌ من اللهب.
قلت: أيها الوزير، قال أبو سليمان: سنقول لك كلاماً لا يكون فيه كل الرضا، فقل له عند ذلك: إنك سألت عن العالم بأسره، فلا طاقة لأحدٍ أن يعرض عليك العالم بأسره، ولولا عجلة رسولك في المطالبة، وإدلاله بالإلحاح، وقوله: المراد التقريب والإيجاز، لا التطويل والإسهاب، لكان النسج على غير هذا المنول، والعمل على غير هذا الوشي. قال: ومن المعالم التي ليس لها ناظر، ولا بها خابر، أن السائل يحض على التلخيص المفهوم، ولعل ذلك يزيد الشيء إغلاقاً، فإذا امتثل ما يرسم قال: ما شفاني القول؛ وإن زيد على ذلك قال: غرق المراد في حواشي التكثير؛ فليس للعالم تخلصٌ من استزادة المتعلم، ولا عند المتعلم شكرٌ على مبذول جهد العالم، وهذا أمرٌ قد تقدمت الاستغاثة منه على مر الدهور، والأولى فيما لا حيلة فيه الرضا بالميسور منه.

قال: وإن أطال الله أيام هذه الدولة، وحرس على هذه الجماعة القليلة النعمة، استأنفنا نظراً أبلغ من هذا النظر، ببيانٍ أشفى من هذا البيان، وطريق أوضح من هذا الطريق - إن شاء الله.
قال الوزير: والله ما قلت قولي ذاك، لأن هذا الكلام سهلٌ، وهذا المتناول قريب، وهذا المرمى كثب، كلا، وإني لأظن بل أحق أنه ليس في بضائع أصحابنا الذين حولي من يدرك هذه المعاني على هذه الصفة إذا قرئت عليه، فكيف من يفزع في شرحها وتهذيبها إليه.
ثم تمطى وقال: وانعاساه، واضعف منتاه؛ ثم فارقت المجلس.

الليلة السادسة والثلاثون

وقال - دامت أيامه - كيف تقول عند مهل الشهر شيئاً آخر من لفظه? فكان من الجواب: حكى العالم: عند هلول الشهر ومستهله وهله وإهلاله واستهلاله.
قال: ورأيت الحاتمي يقول: عشر كلماتٍ جاءت وعينها عينٌ ولامها واوٌ، ولم أوثر شرحه لها لثقل روحه، ومغالاته بنفسه، وكأنه لا علم إلا عنده، ولا فائدة إلا هي معه، فهل في حفظك هذه الكلمات? قلت: لا إله إلا الله، اليوم ذكر الأندلسي هذه الكلمات وعدها، وقد حفظتها، فقال: هات يا مبارك؛ فكان الجواب: منها البعو، وهو الجناية، والجعو، وهو الطين، والدعو، مصدر دعا دعواً، والسعو: الشمع، والشعو: هو انتفاش الشعر، والصعو: الرجل الضعيف، وهو أيضاً طائرٌ أصغر من العصفور، والقعو: من البكرة، واللعو: الحريص. والذئب في بعض اللغات، والمعو: الجني من الرطب، والنعو: الشق في مشفر البعير.
قال: هذا حسن، لو أتى به الحاتمي للوى شدقه، وقال: تنح فقد جاء الأسد وغلب الطوفان وخرج الدجال وطلعت الشمس من المغرب، ما بال أصحابنا تعتريهم هذه الخيلاء، ويغلب عليهم النقص، ويستمكن منهم الشيطان.
قلت: قال أبو سليمان: كل من غلب عليه حفظ اللفظ وتصريفه وأمثلته وأشكاله بعد من معاني اللفظ؛ والمعاني صوغ العقل، واللفظ صوغ اللسان، ومن بعد من المعاني قل نصيبه من العقل، ومن قل نصيبه من العقل كثر نصيبه من الحمق، ومن كثر نصيبه من الحمق خفي عليه قبح الذكر.

الليلة السابعة والثلاثون

وقال الوزير ليلةً: ما أحوج الجبان إلى أن يسمع أحاديث الشجعان! وما أشد انتفاع الضيق النفس باستماع أخبار الكرام، لأن الأخلاق في الخلق أعراض، والأعراض منها لازمٌ ومنها لاصق.
قال: وكان عيسى بن زرعة سرد على سنة سبعين، ليالي كانت الأشغال خفيفة، والسياسة بالماضي - نور الله قبره وضريحه - عامة، والنظر بالحسنى شاملاً - أشياء في الخلق أتى بها على عمود ما كان في نفسي، وذلك أنه ذكر العقل والحمق، والعلم والجهل، والحلم والسخف، والقناعة والشره، والحياء والقحة، والرحمة والقسوة، والأمانة والخيانة، والتيقظ والغفلة، والتقى والفجور، والجرأة والجبن، والتواضع والكبر، والوفاء والغدر، والنصيحة والغش، والصدق والكذب، والسخاء والبخل، والأناة والبطش، والعدل والجور، والنشاط والكسل، والنسك والفتك، والحقد والصفح، وينبغي أن تزور عيسى وتذكر له هذه الجملة، وتبعثه على إعادة حدودها، وإشباع القول فيها، مع إيجازٍ لا يكون به مدخلٌ للخلل، ولا تقصيرٌ عن إيصال الآخر بالأول.
فلقيت عيسى وعرفته الحديث، وأملي ما رسمته في هذا الجزء، وعرضته على أبي سليمان، فرضيه بعض الرضا، ولم يسخط كل السخط، وقال: تحديد الأخلاق لا يصح إلا بضربٍ من التجوز والتسمح، وذلك أنها متلابسة تلابساً، ومتداخلةٌ تداخلاً، والشيء لا يتميز عن غيره إلا ببينونةٍ واقعةٍ تظهر للحس اللطيف، أو تتضح للعقل الشريف.
ثم قال: ألا ترى أن الفكر مشوبٌ بالروية، والظن مخلوطٌ بالوهم، والذكر معنيٌ بالتخيل، والبديهة جانحةٌ إلى الحس، والاستنباط موصوفٌ بالغوص، وما هذا المعنى الذي ميز التواضع من شوب الضعة، أو خلص علو الهمة من شوب الكبر، أو فرز عزة النفس من نقص العجب، أو أبان الحلم عن بعض الضعف?! هذا بالقول ربما سهل وانقاد، ولكن بالعقل ربما عز واعتاص، والأخلاق والخلق مختلطة، فمنها ما اختلاطه قويٌ شديد، ومنها ما اختلاطه ضعيفٌ سهلٌ، ومنها ما اختلاطه نصفٌ بين اللين والشدة، وهذه ينفع العلاج في بعضها، وينبو العلاج عن بعضها؛ والحزم يقضي بألا يتهاون بما يقبل العلاج لأجل ما لا يقبل العلاج.

قال: وهذا أيضاً يختلف بحسب المزاج والمزاج، والإنسان والإنسان، ألا ترى أنك لو رمت تحويل البخيل من العرب إلى الجود كان أسهل عليك من تحويل البخيل من الروم إلى الجود، والطمع في جبان الترك أن يتحول شجاعاً أقوى من الطمع في جبان الكرد أن يصير بطلاً.
قال: ومع هذا فوصف الأخلاق بالحدود - وإن كان على ما قدمناه - نافعٌ جداً، وإضمارها في النفس مثمرٌ أبداً، فهذا هذا.
وأما ما قال أبو عليٍ فإنه هذا.
قيل: ما الحلم? قال ضبط الفكر بكف الغضب.
وقال شيخنا أبو سعيد السيرافي: اعتباره من ناحية الاسم تعطيلٌ لطبعه وذلك أن الحلم شريك التحلم، فكان الحليم الذي يعد فيمن يحلم في عرض الحليم الذي لا يعاج عليه ولا يكترث له. قال: والتحلم نافعٌ أيضاً وهو أحمد من التحالم، لأن الثاني أقرب إلى التأني، كما أن الأول أقرب إلى الحقيقة.
وقيل لعيسى: ما العدل? فقال: القسط القائم على التساوي.
وحكى جالينوس قال: إن الناس لشدة حبههم لأنفسهم يظنون أن لهم ما يحبون، فمن أجل ذلك وقعوا في العجب؛ فينبغي أن تكون محبتك لنفسك حقيقية، ويتم ذلك لك إذا أنت صيرت نفسك على الحال التي يرى من يرى أنك عليها.
وقال: المعجب يحب نفسه أكثر مما يحق لها؛ وما أحسن بالإنسان أن يحب نفسه، ولكن بالعدل، فإن أراد أن يحبها جداً فيجب أن يجعلها من أهل المحبة، ثم يحبها من بعد.
قيل: فما الحسد? قال: شدة الأسى على شيء يكون لغيره.
قيل: فما الكآبة? قال: إفراط الحزن.
قال أبو سليمان: الحزن والغم والهم والأسى والجزع والخور من شجرة واحدة ومن تعاطى وصف أغصان شجرة طال عليه، ولم يحظ بطائل، ويكفي أن نعرف شجرة التفاح من شجرة المشمش، وشجرة الكمثرى من شجرة السفرجل؛ فإن عواقب المعارف نكرات، كما أن فواتح المعارف جهالات.
قيل: فما الشجاعة? قال: الإقدام في موضع الفرصة من جميع الأمور.
قال أبو سليمان: الشجاعة إذا كانت نطقية كانت فرصتها تعاطي الحكمة والدءوب في بلوغ الغاية، وبذل القوة في نيل البغية؛ وإذا كانت غضبيةً كانت فرصتها شفاء الغيظ إما من مستحق، وإما من غير مستحق، وإذا كانت شهويةً كانت فرصتها التحلي بالعفة التامة، أعني في الخلوة والحفل.
قال لنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني الشيخ الصالح: العفة واسطة بين المقارفة والعصمة، والعصمة واسطةٌ بين البشرية والملكية.
وحكى عيسى بن زرعة في هذا الموضع - عند تدافع الحديث - أن موريس قال: إني لأعجب من ناسٍ يقولون: كان ينبغي أن يكون الناس على رأي واحد، ومنهاج واحد، وهذا ما لا يستقيم ولا يقع به نظام.
قال: وهب أن يكون الناس وكل واحدٍ منهم ملكاً يأمر وينهى ويستمع له ويطاع، فمن كان المأمور المؤتمر، والمنهى المنتهى؛ والعاقل الحصيف يعلم أنه لابد من التفاوت الذي به يكون التصالح، كالعالم والمتعلم، والآمر والمأمور والصانع والمصنوع له.
ثم قال عيسى: من توابع الأخلاق المذمومة الغضب والكذب والجهل والجور والدناءة.
قال أبو سليمان: أما الغضب فلا يكون مذموماً إلا إذا أعمل في غير أوانه، وعلى غير ما يأذن الناموس الحق به؛ وأما الكذب ففيه أيضاً مصالح، كما أن الصدق ربما أفضى إلى كثير من المفاسد - وإن كان الصدق قد فاز بالوصف الأحسن، والكذب قد وصف بالنعت الأقبح - فكم كذبٍ نجى من شر، وكم صدقٍ أوقع في هوة، وبقي الآن أن نعرف الصدق مع أوانه ومكانه، فيؤتى به أو ينهى عنه، وكذلك الكذب على حذوه ومثاله.
قال: وأما الجهل والجور والدناءة فإنها أثافي الرذائل، فينبغي أن ينتفي منها جملةً وتفصيلاً، ولا يسلك أحدٌ إلى شيء منها سبيلاً فإنها أعدام؛ - هكذا قال -؛ والعدم كريه ومهروبٌ منه، والوجود على أنقص النعوت وأتم وأشرف من العدم على أزيد الصفات، وإن كان لا زيادة في العدم إلا من طريق الوهم العارض ما يصح وما لا يصح.
قيل: فما العجب? قال وزن النفس بأكثر من مثقالها.
وقال أيضاً: العجب هو النظر في النفس بعين ترى القبيح جميلاً.

ويقال: المعجب يدعي أن ما ينبغي أن يعجب منه قد حصل له من غير أن يكون كذلك؛ فأما إذا كان ذلك حاصلاً فالعجب ليس بعجبٍ إلا من طريق الاسم، وإلا فهو في الحقيقة إحساسٌ بالفضل المعشوق، وشعورٌ بالكمال الموموق، واستدعاءٌ للزيادة مما صار به هكذا، واستعدادٌ لقبول الفيض من معدنه بالاختيار الثاني والاعتياد الأول.
قيل: فما الوفاء? قلا قضاء حقٍ واجب، وإيجاب حقٍ غير واجب، مع رقةٍ أنسية، وحفيظةٍ مرعية.
قيل: فما الرغبة? قال: حركةٌ تكون من شهوةٍ يرجى بها منفعة.
قال أبو سليمان: الرغبة إذا كانت نطقية كانت مبعثةً على التحلي بالفضائل، وإذا كانت سبعيةً أو بهيميةً كانت ملهجةً بمواقعة أضدادها من الرذائل.
وقيل: ما المهنة? فقال: حركةٌ يتعاطاها الإنسان بلا حفزٍ ولا استكراه. قال علي بن عيسى: المهنة صناعة، ولكنها إلى الذل أقرب، وفي الضعة أدخل، والصناعة مهنة، ولكنها ترتفع عن توابع المهنة، وفي الصناعات ما يتصل به الذل أيضاً، ولكن ذلٌ ليس من جهة حقيقة الصناعة؛ ولكن من جهة العرض الذي بين الصناعة والصناعة، والمرتبة والمرتبة.
قيل: فما العادة? قال: حالٌ يأخذ بها المرء نفسه من غير أن تكون مسنونةً يجري عليها مجرى ماهو مألوفٌ طبيعي.
قال أبو سليمان: كأن هذا الاسم ليس يخلص إلا لمن أتى شيئاً مراراً، فأما في أول ذلك فليس له هذا النعت، وإنما يصير مألوفاً بالتكرار، ولهذا ما صيغت الكلمة من عاد يعود واعتاد يعتاد.
وأما قوله: طبيعي، فعلى وجه التشبيه، لأن الطبيعي أشد رسوخاً وأثبت عرقاً، وأبعد من الانتقاض؛ فأما العادة فكل ذلك جائزٌ عليها، وغير مأمون من الوقوع فيه.
قيل: كم الحركات? قال: ستة أضعاف، أولها حركة الانتقال، وهي ضربان: إما حركة الجسم بكله من مكان إلى مكان، وإما حركته بأجزائه كالفلك والرحى، والثاني حركة الكون، والثاث حركة الفساد، والرابع حركة الربو، والخامس حركة النقض والبلى، والسادس حركة الاستحالة، وهي ضربان: أما في الجسم فمثل اللون، وأما في النفس فمثل الغضب والرضا، والعلم والجهل.
والنقلة مكانية، والكون والفساد جوهريان، والاستحالة هيئية، والنمو والاضمحلال مكانيان.
قال الكندي: وها هنا حركةٌ أخرى، وهي حركة الإبداع، إلا أن بينها وبين حركة الكون فرقاً، لأن هذه لا من موضوع، وحركة الكون من فساد جوهرٍ قبله بحدوثه، ولذلك قيل: إن الكون خروجٌ من حالٍ خسيسةٍ إلى حال نفيسة.
قال أبو سليمان: حركة الإبداع عبارةٌ بسيطة لا يجب أن يفهم منها معنىً مركب. قال: وإنما قلت هذا لأن اللفظ نظير اللفظ في أغلب الأمر وليس المعنى نظير المعنى في أغلب الأمر، واللفظ كله من وادٍ واحد في التركب بلغة كل أمة، والمعاني تختلف في البساطة على قدر العقل والعقل، والعاقل والعاقل، وإنما حركة الإبداع مشارٌ بها إلى مقوم الأشياء بلا كلفة فاعل، ولا معاناة صانع، وإنها بدت بالمبدع من المبدع للمبدع لا على أن الباء ألصقت به شيئاً، ولا على أن من فصلت منه شيئاً، ولا على أن اللام أضافت إليه شيئاً، فإن هذه العلامات والأمارات كلها موجودةٌ في الأشياء التي تعلقت بالإبداع، فلم يجز أن ينعت بها المبدع، ولو جاز هذا لكان داخلاً فيها، وموجوداً بها، وهذا بعيدٌ جداً. فلما جل عن هذه الصفات بالتحقيق في الاختيار وصف بها بالاستعارة على الاضطرار، لأنه لابد لنا من أن نذكره ونصفه وندعوه ونعبده ونقصده ونرجوه ونخافه ونعرفه وننحوه ونطلب ما عنده ونواجهه ونكافحه؛ وهذه نعمةٌ منه علينا، ولطفٌ منه بنا، وحكمةٌ بينه وبيننا وإلا كانت العصمة تنبتر، والطمع ينقطع، والأمل يضعف، والرجاء يخيب، والأركان تتخلخل، والجود والكرم والحكمة والقدرة والجبروت والملكوت تأبى ذلك؛ فصارت هذه الأسماء والصفات سلالم لنا إليه، لا حقائق يجوز أن يظن به شيءٌ منها، على سبيل السياج الممدود، والمنهاج المحدود.
 سقت كلام عيسى في تصنيف الحركات من أجل هذه الفقرة التي كانت محفوظةً في حركة الإبداع، فإني قد وجدت للقوم في هذا الباب حيرةً عارضة أو راكدةً، لا يستطيعون التقصي عنها، ولا يقدرون على البراءة منها، للضلال الذي قد لزمهم، والأصنام التي قد تربعت في نفوسهم، والأمثلة التي قد خالطت عقولهم، والأفياء التي استصحبوها من إحساسهم؛ والقائل هذا ينبغي أن يتحرى ويتلبث حتى يعرى من هذه الأشياء ويتريث؛ فحينئذ أضمن له أن يصح توحيده، ويتم تجريده، وإلى التوحيد تنتهي الفلسفة بأجزائها الكثيرة، وأبوابها المختلفة، وطرقها المتشعبة.
وأنا أعوذ بالله من صناعةٍ لا تحقق التوحيد ولا تدل على الواحد ولا تدعو إلى عبادته، والاعتراف بوحدانيته، والقيام بحقوقه، والمصير إلى كنفه، والصبر على قضائه، والتسليم لأمره؛ ووجدت أرباب هذه الصناعات، أعني الهندسة والطب والحساب والموسيقى والمنطق والتنجيم معرضين عن تجشم هذه الغايات، بل وجدتهم تاركين الإلمام بهذه الحانات، وهذه آفةٌ نسأل الله السلامة منها، والعافية من عواقبها؛ والسلام.
قيل: ما التمام? قال: بلوغ الشيء الحد الذي ما فوقه إفراط، وما دونه تقصير.
قال أبو سليمان: التمام أليق بالمحسوسات، والكمال أليق بالأشياء المعقولة.
قال: وليست هذه الفتيا مني جازمة، ولا عن العرب العاربة مروية، ولكن إذا لحظنا المعاني مختلفة، طلبنا لها أسماءً مختلفة، ليكون ذلك معونةً لنا في تحديد الأشياء أو في وصف الأشياء من طريق الإقناع الكاف للجدل والتهمة، أو من طريق البرهان الساطع بالحجة، الرافع للشبهة، أو من طريق التقليد الجاري على السنن والعادة.
قال: ولهذا إذا قيل: ما أتم قامته! كان أحسن، وإذا قيل: ما أكمل نفسه! كان أجمل.
قيل له: هل يتساوى الكون والفساد فيبقى الشيء على ما هو به? فقال: أما على الحقيقة فلا؛ ولكن على السعة، لأن الكون متصل بالفساد، إلا أنهما يخفيان في مبادئهما حتى إذا امتد الآنان فصار آناً واحداً فحينئذٍ بان الكون من الفساد، وبان الفساد من الكون، وهذا بالاعتبار الحسي؛ فأما العقل فيرتفع عن هذا، لأنه يعلم حقيقة الشيء على ما هو عليه، ولا يقبل من الحس حكماً، ولا يحتكم إليه أبداً.
وإنما الحس عاملٌ من عمال العقل. والعامل يجور مرةً ويعدل مرة، فأما الذي هذا هو عامله فهو الذي يتعقبه، فإن وجده جائراً أبطل قضاءه، وإن وجد عادلاً أمضى حكمه، ومتى استشير الحس في قضايا العقل فقد وضع الشيء في غير موضعه، ومتى استشير العقل في أحكام الحس فقد وضع الشيء في موضعه.
قيل: فما الصورة? قال: التي بها يخرج الجوهر إلى الظهور عند اعتقاب الصور إياه.
قال أبو سليمان: هذه الفتيا جزافية، الصور أصناف: إلهيةٌ وعقلية، وفلكيةٌ وطبيعيةٌ، وأسطقسية وصناعية، ونفسيةٌ ولفظية، وبسيطةٌ ومركبةٌ، وممزوجةٌ وصافيةٌ، ويقظيةٌ ونوميةٌ، وغائبيةٌ وشاهدية.
ثم اندفع فقال: أما الصورة الإلهية - وهي أعلاها في الرتبة والحقيقة. وهي أبعد منا في التحصيل إلا بمعونة الله تعالى - فلا طريق إلى وصفها وتحديدها إلا على التقريب، وذلك أن البساطة تغلب عليها، إلا أنها مع ذلك ترسم بأن يقال: هي التي تجلت بالوحدة، وثبتت بالدوام، ودامت بالوجود.
وأما الصورة العقلية فهي شقيقة تلك، إلا أنها دونها لا بالانحطاط الحسي، ولكن بالمرتبة اللفظية، وليس بين الصورتين فصلٌ إلا من ناحية النعت، وإلا فالوحدة شائعةٌ وغالبةٌ وشاملة، لكن الصورة الإلهية تلحظ لحظاً، ولا يلفظ بوصفها لفظاً، لمشاكهتها الصورة النفسية، فإذا كان كذلك أمكن أن ترسم فيقال: هي التي تهدي إلى العاقل ثلجاً في الحكم، وثقةً بالقضاء، وطمأنينة للعاقبة، وجزماً بالأمر، ودحوضاً للباطل، وبهجةً للحق ونوراً للصدق.
والفرق بين الصورة الإلهية والصورة العقلية أن الصورة الإلهية ترد عليك وتأخذ منك، والصورة العقلية تصل إليك فتعطيك، فالأولى بقهرٍ وقدرة، والثانية برفقٍ ولطافة؛ وتلك تحجبك عن لم وكيف، وهذه تفتح عليك لم وكيف، وتلك لا تنحي ولا تطلب، وهذه يسعى إليها، ويسأل عنها وتوجد، وأنوار الصورة الإلهية بروقٌ تمر، وأنوار الصورة العقلية شموسٌ تستنير؛ وتلك إذا حصلت لك بالخصوصية لا نصيب لأحدٍ منها، وهذه إذا حصلت لك فأنت وغيرك شرعٌ فيها؛ وتلك للصون والحفظ، وهذه للبذل والإفاضة.

وأما الصورة الفلكية فداخلةٌ تحت الرسم بالعرض، وللوهم فيها أثرٌ كثير، ولأنها مأخوذةٌ من الجسم الأعظم صارت مشاكهتها مقسومةً بين البسيط الذي لا تركيب فيه البتة، وبين المركب الذي لا يخلو من التركيب البتة؛ ولهذا صار تأثير الفلك في المتحركات عنه أشد من تأثر الفلك عن المحرك له، وكأنه أول محركٍ متحرك؛ وليس هكذا ما علا عنه.
والفلك بما هو جسمٌ منقوص الصورة، وبما هو دائم الحركة شريف الجوهر.
وأما الصورة الطبيعية فتعلقها بالمادة القابلة لآثارها بحسب استعدادها لها، فلذلك ما هي مزحزحة عن الدرجة العليا، وعشقها للقابل منها أشد من عشقها للمفيض عليها، ولهذا أيضاً كانت منافعها ممزوجة، ومضارها بحتة، وهي تجمع بين الحكمة والبله، وبين الجيد والرديء، ولو سألنها لم أنت ضارةٌ نافعة? لقالت: بعدت، فلما بعدت صوبت وصعدت.
وسمعت أبا النفيس يقول في وصف الطبيعة كلاماً له رونقٌ في النفس وأنا أصل هذه الجملة به.
قال: أيتها الطبيعة، ما الذي أقول لك، وبأي شيء أؤاخذك، وكيف أوجه العتب عليك?! فإنك قد جمعت أموراً منكرة، وأحوالاً عسرة، لا يفي نظامك فيها بانتثارك عليها، ولك بوادر ضارة، وغوائل خفيةٌ تبدو منك، وتغور فيك، وترجع إليك، حتى إذا قلنا في بعضها: إنك حكيمة، قلنا في بعضها: إنك سفيهة، فالبله منك مخلوطٌ باليقظة، والاستقامة فيك عائدةٌ بالاعوجاج، وفيك فظائع ونزائع، وقوارع وبدائع، لأن حركاتك تستن مرةً استناناً تعشقين عليه، وتحبين من أجله، وتزيغ أخرى زيغاً تمقتين عليه، وتبغضين بسببه، وربما كانت حركتك نقصاً للبناء المحكم والصورة الرائعة، والنظام البهي، وربما كانت بناءً للمنتقض، وتجديداً للبالي وإصلاحاً للفاسد، حتى كأنك عابثةٌ بلا قصد، عائثةٌ على عمد، وعلى جميع صفاتك من الواصفين لك لم يعلم من ظن، ولا رأى من تخيل، ولا بعد لفظٌ من تأويل، ولا حال معنىً عن توهم، ولا أسفر حقٌ عن باطل، ولا تميز بيانٌ عن تمويه، ولا وضح نصحٌ من غش، ولا سلم ظاهرٌ من تناقض، ولا خلت دعوى من معارض، فلهذا وأشباهه واجهتك بخطابي، وعرضت عليك ما في نفسي، فبالذي أنت به قائمة، وبالذي أنت به موجودة، وبالذي أنت له منقلبة، وإليه منساقة، إلا خبرتني عنك، وشفيت غليلي منك، ونعت لي غيب شأنك، وجعلت الخبر عنك كعيانك، وإنما ضرعت إليك هذا الضرع، وعرضت عليك هذا الوجع، لأنك جارتي وصاحبتي، وليس بيني وبين حجاب إلا ما هو عدوٌ منك أو مني، أعني بما هو منك لطف سحرك، وخفاء سرك، وأعني بما هو مني ما أعجز عن استبانته واستيضاحه إلا بقوة الإله الذي هو سببٌ لحركتك في أفانين تصرفك، وأعاجيب عدلك وتحيفك.
وكان إذا بلغ هذا الحد وما شاكله أخذ في كلامٍ كالجواب على طريق التأنيس والتسلية والاستراحة، وهذا بالواجب، لأن الإنسان بسبب أغراضه المجهولة، وعوارضه الفاجئة الباغتة من الغيب والشهادة يفتقر افتقاراً شديداً إلى هذه النعوت التي تقدم ذكرها؛ وهذا كالداء والدواء! وليس لأحد أن يتهكم فيقول: هلا ارتفع الداء أصلاً فيستغني عن الدواء جملة، وهلا وقع الدواء أبداً على الداء ونفاه وصرفه. فإن هذا كلامٌ مدخول، من عقل كليل، ولعمري إن من جهل القسمة الإلهية في الأزل بحسب شهادة العقل لعب به الوسواس في هذه المواضع، وظن أن الأمر لو كان بخلاف ما هو عليه كان أولى وأتم وأوثق وأحكم. يا ويحه! من أين يوجب هذا الحكم? وبأي شيء يثبت هذا القضاء? وكيف يثق بهذا الوهم?  

وكان يقول أيضاً إن الطبيعة تقول: أنا قوةٌ من قوى البارىء، موكلةٌ بهذه الأجسام المسخرة حتى أتصرف فيها بغاية ما عندي من النقش والتصوير والإصلاح والإفساد الذين لولاهما لم يكن لي أثرٌ في شيء، ولا لشيء أثرٌ مني، وكان وجودي وعدمي سواءً، وحضوري وغيابي واحداً، ولو بطلت بطل ببطلاني ما أنا به؛ وهذا زائفٌ من القول، وخطلٌ من الرأي، وتحكمٌ من الظان؛ ولو احتمل إيراد كل ما كان يتنفس به هذا الشيخ في حال نشاطه وانقباضه، لكان ذلك مراداً فسيحاً، ومشرعاً واسعاً، ولكن ذلك متعذرٌ لعجزي عن الوفاء به، ولأن هذه الرسالة تتقلص عنه، وإنما أجول في هذه الأكناف لكلفي بالحكمة كيف دارت العبارة بها، وأمكنت الإشارة إليها، لا على التقصي لها وبلوغ الغاية منها، ومن يقدر على ذلك? ومن يحدث نفسه بذلك? العالم أبعد غوراً وأعلى قلةً وأثقل وزناً وأحد غرباً وألطف أعراضاً وأكثف أجراماً وأعجب تركيباً وأغرب بساطةً من أن يأتي عليه إنسانٌ واحد، وكل من كان في مسكه، وإن بلغ الغاية في دقة الذهن وحسن البيان وبلاغة اللفظ، واستنباط الغامض في حاضره وغائبه؛ هذا ما لا يتوهمه العقل.
وأنا أعوذ بالله من هذه الدعوى، وأسأله أن يلهمنمي الشكر على ما فتح وشرح، وهدى إليه ومنح، وأطلع عليه وندح، فإن الشكر قرعٌ لباب المزيد، والمزيد باعثٌ على الشكر الجديد، والشكر - وإن خلص بالعرفان، وجرى بضروب البيان على اللسان - فإنه يقصر عن تواتر النعمة بعد النعمة، وتظاهر الفائدة بعد الفائدة.
وأما الصورة الأسطقسية، فهي لائحةٌ لكل ذي حسٍ بالتناظم الموجود فيها، والتباين الآخذ بنصيبه منها، ولها انقسامٌ إلى آحادها، أعني أن صورة الماء مباينةٌ لصورة الهواء، وكذلك صورة الأرض مخالفةٌ لصورة النار، فتحديديها بما يقررها مع غوصها في كل أسطقسٍ شديد، واللفظ لا يصفو، والمراد لا ينماز.
وأما الصورة الصناعية فهي أبين من ذلك، لأنها مع غوصها في مادتها بارزةٌ للبصر والسمع ولجميع الإحساس، كصورة السرير والكرسي والباب والخاتم وما أشبه ذلك.
وأما الصورة النفسية فهي راجعةٌ إلى العلم والمعرفة وتوابعهما فيما يحققهما أو يخدمهما وهي شقيقةٌ للصورة العقلية بالحق.
وأما الصورة البسيطة فلاختلاف مرانب البسيط ما يعز رسمها إلا بالإيماء إليها، فإن الحق هذا الإيماء سامعه فذاك، وإلا فلا طمع في عبارةٍ شافيةٍ عنها.
وأما الصورة المركبة فهي باديةٌ للحس بآثار الطبيعة في مادتها، وباديةٌ أيضاً للنفس بآثار العقل في سيحه عليها، وكما أن بين البسيط والبسيط فرقاً يكاد البسيط يكون به مركباً، كذلك بين المركب والمركب فرقٌ يكاد المركب يكون به بسيطاً؛ وهذه جملةٌ تفسيرها معوز.
وأما الصورة الممزوجة فهي أخت الصورة المركبة، وكذلك الصورة الصافية أخت الصورة البسيطة، وليس هذا تمايزاً في اللفظ واللفظ، إذ كانتا متصاحبتين ولم تكونا متعاندتين.
وأما الصورة اليقظية فهي مجموعةٌ من الإحساس، لجريانها على وجدان المشاعر كلها، وما لها وبها.
وأما الصورة النومية فهي أيضاً متميزةٌ عن أختها، أعني اليقظية، لأنها إغضاء عينٍ وفتح عينٍ، أعني أن النائم قد حيل بينه وبين مثالات الإحساس وعوارض الكون والفساد، وفتح عليه بابٌ إلى وجدان شيء آخر يجري كظل الشخص من الشخص، فإن كان ذلك من وادي الطبيعة أومأ إلى آثار الأخلاط، وإن كان من وادي النفس أومأ إلى نصب التماثيل، وإن كان من وادي العقل صرح بحقائق الغيب في عالم الشهادة إما بالتقريب وإما بالتهذيب أعني إما بوقوعه عقيب ذلك، وإما بعد مهلة.
وأما الصورة الغائبية والشاهدية فقد اتصل الكلام في شرحها بما تقدم من حديث الصورة اليقظية والنومية، والعبارة عن الشاهد مقصورةٌ على وجدان المشاعر، والعبارة عن الغائب مقصورةٌ على ما تغلق على المشاعر، وفي الغائب شاهدٌ هو الملحوظ من الغائب، وفي الشاهد غائبٌ هو المبحوث عنه في الشاهد، فالشاهد غائبٌ بوجه، والغائب شاهدٌ بوجه، حتى إذا استجمعا لك كنت بهما في شعارهما. والإلهيون من الفلاسفة هم الذين جمعوا بين هذين النعتين، وعلوا هاتين الذروتين، فتوحدوا عند ذلك بخصائصهم، وانسلخوا عن نقائصهم، فلو قلت: ما هؤلاء بشرٌ كنت صادقاً.
ولقد أحسن الذي قال في وصف العصابة حيث وصف فقال:

فينا وفيك طـبـيعةٌ أرضـيةٌ

 

تهوي بنا أبداً لـشـر قـرار

لكنها مقـسـورةٌ مـأسـورةٌ

 

مغلوبة السلطان في الأحرار

فجسومهم من أجلها تهوي بهم

 

ونفوسهم تسمو سمو الـنـار

لولا منازعة الجسوم نفوسهـم

 

نفذت بسورتها من الأقطـار

عرفوا لروح الله فيه فضل ما

 

قد آثروا من صالـح الآثـار

فتنزهوا وتكرموا وتعظـمـوا

 

عن لؤم طبع الطين والأحجار

نزعوا إلى البحر الذي منه أتت

 

أرواحهم وسموا عن الأغوار

وهذا وصفٌ بليغٌ بالإضافة إلى القوم.
فأما ما وراء هذا فهناك خبر ثقةٍ بما قرر وقال: وأما الصورة اللفظية فهي مسموعةٌ بالآلة التي هي الأذن، فإن كانت عجماء فلها حكم، وإن كانت ناطقةً فلها حكم، وعلى الحالين فهي بين مراتب ثلاث: إما أن يكون المراد بها تحسين الإفهام، وإما أن يكون المراد بها تحقيق الإفهام، وعلى الجميع فهي موقوفةٌ على خاص ما لها في بروزها من نفس القائل، ووصولها إلى نفس السامع؛ ولهذه الصورة بعد هذا كله مرتبةٌ أخرى إذا مازجها اللحن والإيقاع بصناعة الموسيقار، فإنها حينئذ تعطي أموراً ظريفة، أعني أنها تلذ الإحساس، وتلهب الأنفاس، وتستدعي الكاس والطاس، وتروح الطبع، وتنعم البال، وتذكر بالعالم المشوق إليه، المتلهف عليه.
هذا منتهى كلامه على ما علقه الحفظ، ولقنه الذهن؛ ولو كان مأخوذاً عنه بالإملاء لكان أقوم وأحكم، ولكن السرد باللسان، لا يأتي على جميع الإمكان في كل مكان، فهذا هذا.
قال الوزير: هذا بابٌ في غاية الإيفاء والاستيفاء، ومن يتحكك بالاعتراض عليه فقد صغى، وأبدى صفحته بالبهت، ودل من عقله على الدخل، ومن أخلاقه على الخلل؛ لقد وهب الله لهذا الرجل مقاماً عالياً، ولا عجب فإنه معوض بهذا عما فاته.
وقال: أنشدني في الخمر شيئاً غريباً، فأنشدته:

ومـورد الـوجـنـات يخ

 

طر حين يخطر في مورد

يسقيك من جفن اللـجـين

 

إذا سقاك دموع عسـجـد

حتى تظن الشـمـس تـن

 

زل أو تظن الأرض تصعد

فإذا سـقـاك بـعـينــه

 

وبفيه ثم سـقـاك بـالـيد

حياك بـالـياقـوت تــح

 

ت الدر من فوق الزبرجد

قال: أحسنت والله؛ هات زيادةً: فقلت:

وعذراء ترغو حين يضربها الفحـل

 

كذا البكر تنزو حين يفتضها البعـل

تدير عيوناً في جـفـونٍ كـأنـمـا

 

حماليقها بيضٌ وأحداقهـا نـجـل

كأن حباب الـمـاء حـول إنـائهـا

 

شذورٌ ودرٌ ليس بينهمـا فـصـل

توهمتها في كأسـهـا فـكـأنـمـا

 

توهمت شيئاً ليس يدركه العـقـل

إذا اشتبكت رجلاي من سورة الكرى

 

درجت إليها مثل ما يدرج الطفـل

وأنشدت لآخر:

وكم عائبٍ للخمر لو أن أمه

 

تبول مداماً لم يزل يستبيلها

ولآخر:

خليلي لومان على الخمر أو دعـا

 

فلن تجدا عندي على اللوم مطمعا

وشبا سنا نارٍ لـعـل نـديمـنـا

 

بنجران أن يلقي سناها فيتبـعـا

فما راعنا إذ أوقدت فـوق ربـوةٍ

 

من الأرض إلا راكبان قد أوضعا

فهشا إلينا ثم قـالا: ألا انـعـمـا

 

مساءً فقلنا: دام ذاك لنـا مـعـا

وأنشدت لآخر:

سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا

 

جبال شمامٍ ما سقوني لغنـت

وأنشدت أيضاً:

الكأس لا تدري ولا الخمـر

 

من أي شيء عجل السكر

أسكرني من قبل شربي لها

 

من دأبه الإعراض والهجر

قلت له والخمر في كأسـه

 

كأنها فـي كـفـه بـدر

أنت لعمري الخمر يا سيدي

 

ليس الذي سقيتني الخمـر

آخر:

تركت النبيذ لأهل النبيذ

 

فخار لي الله في تركه

وقد كنت قدماً به معجباً

 

أروح وأغدو إلى سفكه

فقال: قد جرى هذا أيضاً على التمام. اختم مجلسنا بدعاء الصوفية.

فقلت: سمعت ابن سمعون يدعو في الجامع في آخر مجلسه ويقول: اللهم اجعل قولنا موصولاً بالعمل، وعملنا محققاً للأمل، ولا تضايقنا فيما نتحول به، ونتقلب لك فيه، وكنف علينا بسترك، وسوغنا برك، وألهمنا شكرك، وخفف على أفواهنا ذكرك، واخصصنا بعد ذلك بما هو أليق بذلك؛ اللهم اسمع واستجب وقرب. وانصرفت.

الليلة الثامنة والثلاثون

وجرى ليلةً بحضرة الوزير - أعلى الله كلمته، وأدام غبطته، ووالى نعمته - أحق من دعي له، وأشرف من بوهي به، وأكمل من شوهد في عصره - حديث ابن يوسف وما هو عليه من غثاثته ورثاثته، وعيارته وخساسته.
فقلت له: عندي حديثٌ، ولاشك أن الوزير مطلعٌ عليه، عارفٌ به.
قال: ماذاك? قلت: حدثني أبو علي الحسن بن عليٍ القاضي التنوخي قال: كنت في الصحبة إلى همذان سنة تسعٍ وستين، وكنا جماعةً وفينا ابن حرنبار أبو محمد، وكان في جنبه ابن يوسف، فاتفق أن عضد الدولة - برد الله مضجعه - قال لابن شاهويه: سر إلى ابن حرنبار وقل له: ينبغي أن تسير إلى البصرة، وإنا نجعل لك فيها معونة، فقد طال مقامك عندنا، وتوالى تبرمنا بك، وتبرمك بنا، وليس لك بحضرتنا ما تحبه وتقترحه، والسلامة لك في بعدك عنا قبل أن يفضي ذلك إلى تغيرنا. وكلاماً في هذا النوع.
قال: ونفذ أبو بكر ومعه آخر من المجلس يشهد التبليغ والأداء، ويسمع الجواب والابتداء - على رسمٍ كان معهوداً في مثل هذا الباب - فلقي ابن حرنبار وشافهه بالرسالة على التمام؛ فقال أبو محمد لما سمع: الأمر للملك، ولا خلاف عليه؛ ولعمري إن الناس بجدودهم ينالون حظوظهم، وبحظوظهم يستديمون جدودهم؛ ولو وفقت ما كان عجيباً، فقد نال من هو أنقص مني، وبلغ المنى من أنا أشرف منه، ولكن المقادير غالبة، وليس للإنسان عنها مرتحل؛ وقد قيل: من ساور الدهر غلب، ولكن أيها الشيخ لي حاجة: أحب أن تبلغ الملك كلمةً عني. قال: هاتها؛ قال: تقول له: أنا صائرٌ إلى ما رسمت، وممتثلٌ ما أمرت، بعد أن تقضي لي وطراً في نفسي، قد تقطع عليه نفسي، وذاك أن تتقدم فيقام عبد العزيز بن يوسف بين اثنين فيصفعانه مائتين، ويقولان له: إذا لم تبذل جاهك لمتلهف، ولا عندك فرجٌ لمكروب، ولا برٌ لضعيف، ولا عطاءٌ لسائل، ولا جائزةٌ لشاعر، ولا مرعىً لمنتجع، ولا مأوىً لضيف، فلم تخاطب بسيدنا، وتقبل لك اليد، ويقام لك إذا طلعت?? قال ابن شاهويه: فقبل أن لقيت الملك أفصح له الذي كان معي مشرفاً علي. فلما دخلت الدار عرف، فقال: علي به، فحضرته وابن يوسف قاعدٌ بين يديه على رسمه. فقال لي: هات الجواب عما نفذت فيه؛ فقلت: الجواب عندك، فقال: ما أعجب هذا! أنت حملت الرسالة وأطالب غيرك بالجواب? قال: فتلويت حياءً من ابن يوسف، فقال: هات يا هذا الحديث بفصه، فوالله لا أقنع إلا به، ما هذا التواني والتكاسل، فكرهت اللجاج، فسردته على وجهه، ولم أغادر منه حرفاً، وابن يوسف يتقدد في إهابه، ويتغير وجهه عند كل لفظةٍ تمر به، فأقبل عليه الملك وقال: كيف ترى يا أبا القاسم الكيس? فقال: يا مولانا، إنما أنا أقضي الحاجة بك، فإذا لم تقضها كيف أكون? فإن الحوائج كلها إليك.
قال: صدقت، أنا لا أقضي حاجةً لك، لأنك لا تقصد بها وجه الله، ولا تبغي بها مكرمة، ولا تحفظ بها مروءة، وإنما ترتشي عليها، وتصانع بها، وتجعلني باباً من أبواب تجارتك وأرباحك، ولو كنت أعلم أنك تقضي حاجةً لله أو لمكرمةٍ أو لرحمة ورقةٍ لكان ذلك سهلاً علي، وخفيفاً عندي، لكنك معروف المذهب في الطمع والحيلة، وجر النار إلى قرصك، وشرهك في جيع أحوالك؛ وليس الذنب لك، ولكن لمن رآك إنساناً وأنت كلبٌ.
وصدق - صدق الله قوله - فإنه كان أخس خلق الله، وأنتن الناس، وأقذر الناس، لا منظر ولا مخبر.
وكانت أمة مغنيةً من أهل البيضاء، وأبوه من أسقاط الناس، ونشأ مع أشكاله، وكان في مكتب الربضي على أحوالٍ فاحشة، وورق زماناً، ثم إن الزمان نوه به، ونبه عليه، ومثل هذا يكون، والأيام ظهورٌ وبطون؛ وكما يسقط الفاضل إذا عانده الجد، كذلك يرتفع الساقط إذا ساعده الجد فهذا هذا؛ فقال: ما كان هذا الحديث عندي، وإنه لمن الغريب.
ثم قال: كيف خبرك في الفتنة التي عرضت وانتشرت، وتفاقمت وتعاظمت? فكان من الجواب: خبر من شهد أولها، وغرق في وسطها، ونجا في آخرها.
 

قال: حدثني فإن في روايته وسماعه تبصرةً وتعجباً، وزيادةً في التجربة.
وقد قيل: تجارب المتقدمين، مرايا المتأخرين، كما يبصر فيها ما كان، يتبصر بها فيما سيكون، والشاعر قد قال:

والدهر آخره شبهٌ بأوله

 

ناسٌ كناسٍ وأيامٌ كأيام

وليس من حادثةٍ ماضيةٍ إلا وهي تعرفك الخطأ والصواب منها لتكون على أهبةٍ في أخذك وتركك، وإقدامك ونكولك، وقبضك وبسطك، وهذا وإن كان لا يقي كل الوقاية، فإنه لا يلقى في التهلكة كل الإلقاء.
كان أول هذه الحادثة الفظيعة البشعة التي حيرت العقول وولهت الألباب، وسافر عنها التوفيق، واستولى عليها الخذلان، وعدمت فيه البصائر، شيءٌ كلا شيء، وإذا أراد الله تعالى ذكره أن يعظم صغيراً فعل، وإذا شاء أن يصغر عظيماً قدر، له الخلق والأمر، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا صارف لقدره؛ وقدرة الإنسان محدودة، واستطاعته متناهية، واختياره قصير، وطاقته معروفة؛ وكل ما جاوز هذا الحد وهذا التناهي فهو الذي يجري على الإنسان شاء أو أبى، كره أو رضي، وها هنا يفزع إلى الله من نازل المكروه، وحادث المحذور.
وذاك أن الروم تهايجت على المسلمين، فسارت إلى نصيبين بجمعٍ عظيم زائدٍ على ما عهد على مر السنين، وكان هذا في آخر سنة اثنتين وستين، فخاف الناس بالموصل وما حولها، وأخذوا في الانحدار على رعبٍ قذف في قلوبهم، ليكون سبباً لما صار إليه الأمر؛ وماج الناس بمدينة السلام واضطربوا، وتقسم هذا الموج والاضطراب بين الخاصة والعامة؛ وصارت العامة طائفتين، طائفة ترق للدين ولما دهم المسلمين، وتستعظم ذلك فرقاً مما ينتهي إليه، بعد ما يؤتى عليه؛ وطائفةً وجدت فرصتها في العيث والفساد، والنهب والغارة بوساطة التعصب للمذهب.
وافترقت الخاصة أيضاً فرقتين: فرقةً أحبت أن تكون للناس حميةٌ للإسلام، ونهوضٌ إلى الغزو، وانبعاثٌ في نصرة المسلمين، إذ قد أضرب السلطان عن هذا الحديث، لانهماكه في القصف والعزف، وإعراضه عن المصالح الدينية، والخيرات السياسية؛ وطائفةً اختارت السكون والإقبال على ما هو أحسم لمادة الوثوب والهيج، وأقطع لشغب الشاغب، وأقمع لخلاف المتهم؛ فإن الاختلاف إذا عرض خفي موضع الاتفاق، والتبس الأمر على الصغار والكبار؛ وبمثل هذا فتحت البلاد، وملكت الحصون، وأزيلت النعم، وأريقت الدماء، وهتكت المحارم، وأبيدت الأمم؛ ونعوذ بالله من غضب الله ومما قرب من سخط الله؛ وإذا أراد الله أمراً كثر بواعثه، وفرق نوابثه.

ولما اشتعلت النائرة، واشتغلت الثائرة، صاح الناس: النفير النفير، وإسلاماه، وامحمداه، واصوماه، واصلاتاه، واحجاه، واغزواه، واأسراه، في أيدي الروم والطغاة. وكان عز الدول قد خرج في ذلك الأوان إلى الكوفة للصيد، ولأغراضٍ غير ذلك؛ فاجتمع الناس عند الشيوخ والأماثل والوجوه والأشراف والعلماء، وكانت النية بعد حسنة، وللناس في ظل السلطان مبيتٌ ومقيل، يستعذبون ورده، ويستسهلون صدره، عجوا، وضجوا، وقالوا: الله الله، انظروا في أمر الضعفاء وأحوال الفقراء؛ واغضبوا لله ولدينه؛ فإن هذا الأمر إذا تفاقم تعدى ضعفاءنا إلى أقويائنا، وبطل رأي كبرائنا في تدبير صغرائنا؛ والتدارك واجب، وهو الإسلام، إن لم نذب عنه غلب الكفر، وهو الأمن والسكون إن لم يحفظا، فهو الخوف والبلاء وذهاب الحرث والنسل، وفضيحة الولد والأهل. فسكن المشايخ منهم، وطيبوا أنفسهم، وقووا منتهم ووعدوهم أن يرتئوا فيه متفقين، ويجتمعوا عليه مجتهدين، ويستخيروا الله ضارعين؛ وانصرف الناس عنهم، واجتمع القوم: أبو تمام الزينبي، ومحمد بن صالح بن شيبان، وابن معروف القاضي، وابن غسان القاضي، وابن مكرم - وكان من كبار الشهود في سوق يحيى- وابن أيوب القطان العدل وأبو بكر الرازي الفقيه، وعلي بن عيسى والعوامي صاحب الزبيري، وابن رباطٍ شيخ الكرخ، ونائب الشيعة ولسان الجماعة، وابن آدم التاجر، والسالوسي أبو محمد، وغيرهم ممن يطول ذكرهم؛ وتشاوروا وتفاوضوا، وقلبوا الأمر، وشعبوا القول؛ وصوبوا وصعدوا، وقربوا وبعدوا والتأم لهم من ذلك أن تخرج طائفةٌ وراء الأمير بختيار إلى الكوفة وتلقاه وتعرفه ما قد شمل مدينة السلام من الاهتمام؛ وأن الخوف قد غلبهم، وأن الذعر قد ملكهم؛ وأنهم يقولون: لو كان لنا خليفةٌ أو أميرٌ أو ناظرٌ سائسٌ لم يفض الأمر إلى هذه الشناعة؛ وأن أمير المؤمنين المطيع لله إنما ولاه ما وراء بابه ليتيقظ في ليله، متفكراً في مصالح الرعايا، وينفذ في نهاره آمراً وناهياً ما يعود بمراشد الدين، ومنافع الدانين والقاصين وإلا فلا طاعة؛ وكلاماً على هذا الطابع، وفي هذا النسج؛ فاتفق جماعٌ على صريمة الرأي في الحركة إلى الكوفة، منهم أبو كعب الأنصاري، وأبو الحسن مدرة القوم، وعلي بن عيسى، والعوامي، وابن حسان القاضي صاحب الوقوف، وأبو أحمد الجرجاني القاضي البليغ، وابن سيارٍ القاضي أبو بكر، وأبو بكر الرازي. وأما جعل، فإنه ذكر ما به من وجع النقرس، واستعفى.
وأما أبو سعيد السيرافي، فإنه ذكر ضعفاً وسناً، وقال: أنا أعين في هذه النائبة بإقامة رجلٍ جلدٍ مزاح العلة بالفرس والسلاح، وقعد الجم الغفير، وسارت الجماعة إلى الكوفة، ولحقت عز الدولة في التصيد، وانتظرته؛ فلما عاد قامت في وجهه واستأذنت في الوصول إليه على خلوةٍ وسكون بال وقلة شغل؛ فلم يلتفت إليهم، ولا عاج عليهم - وكان وافر الحظ من سوء الأدب، قليل التحاشي من أهل الفضل والحكمة - ثم قيل له: إن القوم وردوا في مهمٍ لا يجوز التغافل عنه، والإمساك دونه، فأذن لهم بين المغرب والعتمة، فجلسوا بحضرته كما اتفق من غير ترتيب، فقال: تكلموا.
فقال أبو الوفاء المهندس لأبي بكر الرازي: تكلم أيها الشيخ، فإنك رضا الجماعة، ومقنع العصابة.

فقال أبو بكر: الحمد لله الذي لا موهبة إلا منه، ولا بلوى إلا بقضائه، لا مفزع إلا إليه، ولا يسر إلا فيما يسره، ولا مصلحة إلا فيما قدره؛ له الحكم وإليه المصير، وصلى الله على سيدنا محمد رسوله المبعوث، إلى الوارث والموروث؛ أما بعد، فإن الله تعالى قد حض على الجهاد، وأمر بإعزاز الدين، والذب عن الحريم والإسلام والمسلمين في الدهر الصالح، والزمان المطمئن؛ فكيف إذا اضطرب الحبل وانتكثت مريرته، وأبرز مصونه، وعري حريمه بالاستباحة؛ وينل جانبه بالضيم، وضعضع مناره بالرغم، وقصد ركنه بالهدم، وأنت أيها المولى من وراء سدة أمير المؤمنين المطيع لله، والحامل لأعباء مهماته، والناهض بأثقال نوائبه وأحداثه؛ والمفزع إليك، والمعول عليك، فإن كان منك جدٌ وتشميرٌ فما أقرب الفرج مما قد أظل وأزعج، وإن كان منك توانٍ وتقصيرٍ فما أصعبه من خطب? وما أبعده من شعب!! وقد جئناك نحقق عندك ما بلغك من توسط هذه الطاغية أطراف الموصل وما والاها، وأن الناس قد جلوا عن أوطانهم، وفتنوا في أديانهم وضعفوا عن حقيقة إيمانهم؛ للرعب الذي أذهلهم، والخوف الذي وهلهم؛ وإنما هم بين أطفالٍ صغار، ونساء ضعاف، وشيوخٍ قد أخذ الزمان منهم، فهم أرضٌ لكل واطىء، ونهبٌ لكل يد؛ وشباب لا يقفون لعدوهم لقلة سلاحهم، وسوء تأتيهم في القراع والدفاع؛ ونحن نسئلك أن تتوخى في أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما يزلفك عنده، ويكون لك في ذلك ذخرٌ من شفاعته وبحتيار مطرق.
ثم اندفع علي بن عيسى فقال: أيها الأمير، إن الصغير يتدارك قبل أن يكبر، فكيف يجوز ألا يستقبل بالجد والاجتهاد وهو قد عسا وكبر. والله إن بنا إلا أن يظن أهل الجبل وأذربيجان وخراسان أنه ليس لنا ذابٌ عن حريمنا، ولا ناصرٌ لديننا، ولا حافظٌ لبيضتنا، ولا مفرجٌ لكربتنا، ولا من يهمه شيءٌ من أمورنا، فالله الله، لا تجرن علينا شماتتهم بنا، وخذ بأيدينا بقوتك، وحسن نيتك، وحميد طويتك، وعزك وسلطانك، وأوليائك وأعوانك، واكتب قبل هذا إلى عدة الدولة بما يبعثه على حفظ أطرافه، وحراسة أكنافه، مع استطلاع الرأي من جهتك، ومطالعة أمير المؤمنين برأيك ومشورتك.
ثم رفع الأنصاري رأسه وقال: ليس في تكرير الكلام - أطال الله بقاء الأمير - فائدةٌ كبيرة، ولئن كان الإيجاز في هاذ الباب لا يكفي، فالإطناب فيه أيضاً لا يغني، والله لو نهضت بنا ونحن أحراضٌ كما ترى لا نقلب مخصرة بكف، ولا نرمي دحروجةً بيد، ولا نعرف سلاحاً إلا بالاسم، لنهضنا وسرنا تحت رايتك، وتصرفنا بين أمرك ونهيك، وفديناك بأرواحنا ضناً بك، وبعثنا على مثل ذلك أحداثنا وأولادنا اللذين ربيناهم بنعمتك، وخرجناهم في أيامك، وادخرناهم للنوازل إذا قامت، والحوادث إذا ترامت، فإن كان في المال قلةٌ فخذ من موسرنا وممن له فضل في حاله، فإنه يفرج عنه طاعةً لك، وطمعاً فيما عند الله من الثواب.
وقال العوامي: والله ما سميت للدولة عزاً، إلا لأن الله تعالى قد ذخرك للمسلمين كنزاً، وجعل لهم على يديك وبتدبيرك راحةً وفوزاً، ولم يعرضك لهذه الفادحة إلا ليخصك بانفراجها على يدك ويبقي لك بها ذكراً يطبق الأرض ويبلغ أمراء خراسان ومصر والحجاز واليمن فيصيبهم الحسد على ما هيأ الله لك منها.
ونظر بختيار إلى ابن حسان القاضي - وكان منبسطاً معه لقديم خدمته - فقال: أيها القاضي، أنت لا تقول شيئاً? قال: أيها الأمير، وما القول وعندك هؤلاء العلماء، والمصاقع الألباء؛ وإن سراجي لا يزدهر في شمسهم، وإن سحابتي لا تبل على بلالهم: وقد قالوا فأنعموا، وجروا فأمعنوا، وليس قدامهم إمام، ولا وراءهم إمام؛ لكني أقول: ما جشمنا إليك هذه الكلف إلا لتنظر على ضعف أركاننا، وعلو أسناننا وقلة أعواننا، لأنا رأيناك أهلاً للنظر في أمرنا، والاهتمام بحالنا، وبما يعود نفعه على صغيرنا وكبيرنا.

فقال عز الدولة: ما زوى عني ما طرق هذه البلاد، ولقد أشرفت عليه، وفكرت فيه، وما أحببت تجشم هذه الطائفة على هذا الوجه. وما أعجبني هذا التقريع من الصغير والكبير، وما كان يجوز لي أن أنعس على هذه الكارثة، وأنعم بالعيش معها، ولعمري إن الغفلة علينا أغلب، والسهو فينا أعمل، ولكن فيما ركبتموه مني تهجينٌ شديد، وتوبيخٌ فاحشٌ، وإن هذا المجلس لمما يتهادى حديثه بالزائد والناقص، والحسن والقبيح، وإنكم لتظنون أنكم مظلومون بسلطاني عليكم، وولايتي لأموركم؛ كلا، ولكن كما تكونون يولى علكيم؛ هكذا قول صاحب الشريعة فينا وفيكم؛ والله لو لم تكونوا أشباهي لما وليتكم، ولولا أني كواحدٍ منكم، لما جعلت قيماً عليكم؛ ولو خلا كل واحد منا بعيب نفسه لعلم أنه لا يسعه وعظ غيره، وتهجين سلطنه؛ أيظن هذا الشيخ أبو بكر الرازي أنني غير عالمٍ بنفاقه، ولا عارفٍ بما يشتمل عليه من خيره وشره؛ يلقاني بوجهٍ صلب، ولسانٍ هدار يرى من نفسه أنه الحسن البصري يعظ الحجاج بن يوسف، أو واصل بن عطاء يأمر بالمعروف، أو ابن السماك يرهب الفجار؛ هذا قبيح، ولو سكت عن هذا لكان عياً وعجزاً؛ جزى الله أبا عبد الله شيخنا خيراً حين جلس، وكذلك أحسن الله عنا مكافأة أبي سعيدٍ السيرافي، فإنه لو علم أن فيم مساعدتك رشداً لما توقف؛ وأما أنت يا أبا الحسن - يريد علي بن عيسى - فوحق أبي إني لأحب لقاءك، وأوثر قربك، ولولا ما يبلغني من ملازمتك لمجلسك، وتدريسك لمختلفتك، وإكبابك على كتابك في القرآن، لغلبتك على زمانك، ولاستكثرت مما قل حظي منه في هذه الحال التي أنا مدفوعٌ إليها، فإنها وازعةٌ على هو النفس، وطاعة الشيطان، ومنازعة الأكفاء، وجمع المال، وأخذه من حيث يجب أو لا يجب، وتفرقته فيمن يستحق ومن لا يستحق، وإلى الله أفزع في قليل أمري وكثيره، إذا شئتم.
قال لي أبو الوفاء - وهو الذي شرح لي المجلس من أوله إلى آخره -: لقد شاهدت من عز الدولة في ذلك المجلس المنصور في جده وشهامته، وثبات قلبه وقوة لسانه، مع بححٍ لذيذٍ ولثغةٍ حلوة.
قال: ولقد قلت له بعد ذلك: أيها الأمير، ما ظننت أنك إذا خلعت رداءك ونزعت حذاءك تقول ذلك المقال، وتجول ذلك المجال، وتنال ذلك المنال، لقد انصرف ذلك الرهط على هيبةٍ لك شديدة، وتعظيمٍ بالغ، ولقد تداولوا لفظك، وتتبعوا معانيك، وتشاحوا على نظمك، وقالوا: ما ينبغي لأحدٍ أن يسيء ظنه بأحدٍ إلا بعد الخبرة والعيان، وإلا بعد الشهادة والبيان؛ أهذا يقال له متخلف أو ناقص? لله دره من شخص! ولله أبوه من فتىً مدره! ولما بلغ هذا المجلس الذين قعدوا عن المسير إليه - أعني عز الدولة - حمدوا الله تعالى، وعلموا أن الخيرة كانت قرينة اختيارهم.
قال الوزير: قرأت ما دونه الصابي أبو إسحاق في التاجي فما وجدت هذا الحديث فيه. قلت: لعله لم يقع إليه، أو لعله لم ير التطويل به، أو لعله لم يستخف ذكر عز الدولة على هذا الوجه. قال: هذا ممكن؛ فهل سمعت في أيام الفتنة بغريبة? قلت: كل ما كنا فيه كان غريباً بديعاً، عجيباً شنيعاً، حصل لنا من العيارين قواد، وأشهرهم ابن كبرويه، وأبو الدود، وأبو الذباب، وأسود الزبد، وأبو الأرضة، وأبو النوابح، وشنت الغارة، واتصل النهب، وتوالى الحريق حتى لم يصل إلينا الماء من دجلة، أعني الكرخ.
فمن غريب ما جرى أن أسود الزبد كان عبداً يأوي إلى قنطرة الزبد ويلتقط النوى ويستطعم من حضر ذلك المكان بلهوٍ ولعب، وهو عريان لا يتوارى إلا بخرقة، ولا يؤبه له، ولا يبالي به، ومضى على هذا دهر، فلما حلت النفرة أعني لما وقعت الفتنة، وفشا الهرج والمرج، ورأى هذا الأسود من هو أضعف منه قد أخذ السيف وأعمله، طلب سيفاً وشحذه، ونهب وأغار وسلب، وظهر منه شيطانٌ في مسك إنسان، وصبح وجهه، وعذب لفظه، وحسن جسمه، وعشق وعشق، والأيام تأتي بالغرائب والعجائب، وكان الحسن البصري يقول في مواعظه: المعتبر كثير، والمعتبر قليل. فلما دعي قائداً وأطاعه رجالٌ وأعطاهم وفرق فيهم، وطلب الرآسة عليهم، صار جانبه لا يرام، وحماه لا يضام.

فمما ظهر من حسن خلقه - مع شره ولعنته، وسفكه للدم، وهتكه للحرمة، وركوبه للفاحشة، وتمرده على ربه القادر، ومالكه القاهر - أنه اشترى جاريةً كانت في النخاسين عند الموصلي بألف دينار، وكانت حسناء جميلة، فلما حصلت عنده حاول منها حاجته، فامتنعت عليه، فقال لها: ما تكرهين مني? قالت: أكرهك كما أنت. فقال لها: فما تحبين? قالت: أن تبيعني، قال لها: أو خيرٌ من ذلك أعتقك وأهب لك ألف دينار? قالت: نعم، فأعتقها وأعطاها ألف دينار بحضرة القاضي ابن الدقاق عند مسجد ابن رغبان فعجب الناس من نفسه وهمته وسماحته، ومن صبره على كلامها، وترك مكافأتها على كراهتها، فلو قتلها ما كان أتى ما ليس من فعله في مثلها.
قال الوزير: هذا والله طريف، فما كان آخر أمره? قلت: ومتى سلمت? جاءت النهابة إلى بين السورين وشنوا الغارة واكتسحوا ما وجدوا في منزلي من ذهب وثيابٍ وأثاث، وما كنت ذخرته من تراث العمر؛ وجردوا السكاكين على الجارية في الدار يطالبونها بالمال، فانشقت مرارتها، ودفنت في يومها، وأمسيت وما أملك مع الشيطان فجرة، ولا مع الغراب نقرة.
أيها الشيخ - وفقك الله في جميع أحوالك، وكان لك في كل مقالك وفعالك - إنما نثرت بالقلم ما لاق به؛ فأما الحديث الذي كان يجري بيني وبين الوزير فكان على قدر الحال والوقت والواجب؛ والاتساع يتبع القلم ما لا يتبع اللسان، والروية تتبع الخط ما لا تتبع العبارة، ولما كان قصدي فيما أعرضه عليك، وألقيه إليك، أن يبقى الحديث بعدي وبعدك، لم أجد بداً من تنميقٍ يزدان به الحديث، وإصلاحٍ يحسن معه المغزى، وتكلفٍ يبلغ بالمراد الغاية، فليقم العذر عندك على هذا الوصف، حتى يزول العتب، ويستحق الحمد والشكر.

الليلة التاسعة والثلاثون

وقال الوزير ليلة: يعجبني الجواب الحاضر، واللفظ النادر، والإشارة الحلوة، والحركة الرضية، والنغمة المتوسطة، لا نازلةً إلى قعر الحلق، ولا طافحةً على الشفة.
فكان من الجواب: اقتراح الشيء على الكمال سهل، ولكن وجدانه على ذلك صعب، لأن التمني صفو النفس الحسية، ونيل المتمني في الفرصة المحشوة بالحيلولة.
وقد قال المدائني: أحسن الجواب ما كان حاضراً مع إصابة المعنى وإيجاز اللفظ وبلوغ الحجة.
وقال أبو سليمان شارحاً لهذا: أما حضور الجواب فليكون الظفر عند الحاجة، وأما إيجاز اللفظ فيكون صافياً من الحشو، وأما بلوغ الحجة فليكون حسماً للمعاوضة.
قال: ما أحسن ما وشح هذه الفقرة بهذه الشذرة! وحكى المدائني قال: قال مسلمة بن عبد المكل: ما من شيء يؤتاه العبد بعد الإيمان بالله أحب إلي من جوابٍ حاضر، فإن الجواب إذا تعقب لم يكن له وقع.
وحكى المدائني بإسناده عن عبد الرحمن بن حوشب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن الأهتم التيمي: أخبرني عن الزبرقان بن بدر، فقال: مطاعٌ في أدنيه، شديد العارضة، مانعٌ لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر من هذا، ولكنه حسدني، فقال عمرو: أما والله يا رسول الله إنه لزمر المروءة، ضيق العطن، لئيم الخال، أحمق الوالد، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى، ولقد رضيت فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلت أسوأ ما علمت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكماً".
وقال أبو سليمان: السحر بالقول الأعم والرسم المفيد على أربعة أضرب: سحرٌ عقلي، وهو ما بدر من الكلام المشتمل على غريب المعنى في أي فن كان؛ وسحرٌ طبيعي، وهو ما يظهر من آثار الطبيعة في العناصر المتهيئة والمواد المستجيبة، وسحرٌ صناعي، وهو ما يوجد بخفة الحركات المباشرة، وتصريفها في الوجوه الخفية عن الأبصار المحدقة، وسحرٌ إلهي وهو ما يبدو من الأنفس الكريمة الطاهرة باللفظ مرة، وبالفعل مرة. وعرض كل واحدٍ من هذه الضروب واسع، وكل حذقٍ ومهارةٍ وبلوغ قاصيةٍ في كل أمر هو سحرٌ، وصاحبه ساحرٌ.
وقال المدائني: نظر ثابت بن عبد الله بن الزبير إلى أهل الشام فشتمهم، فقال له سعيد بن عثمان بن عفان، أتشتمهم لأنهم قتلوا أباك? فقال: صدقت، ولكن المهاجرين والأنصار قتلوا أباك. وقال عبد الملك بن مروان لثابت بن عبد الله بن الزبير: أبوك كان أعلم بك حين شتمك، فقال: يا أمير المؤمنين، أتدري لم كان يشتمني? إني نهيته أن يقاتل بأهل مكة وأهل المدينة، فإن الله لا ينصره بهما، وقلت له، أما أهل مكة فأخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخافوه، ثم جاؤا إلى المدينة فأخرجهم منها وشردهم.
فعرض بالحكم بن أبي العاص - وهو جد عبد الملك - وكان النبي صلى الله عليه وسلم نفاه.
وأما أهل المدينة فخذلوا عثمان حتى قتل بينهم، لم يروا أن يدفعوا عنه. فقال له عبد الملك: لحاك الله.
وقال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لمعاوية: أما والله لو كنت بمكة لعلمت، فقال معاوية: كنت أكون ابن أبي سفيان ينشق عني الأبطح، وكنت أنت ابن خالد منزلك أجياد، أعلاه مدرة، وأسفله عذرة.
وقال المدائني: قال ابن الضحاك بن قيس الفهري لهشام بن عبد الملك قبل أن يملك - وهو يومئذ غلامٌ شابٌ - يابن الخلائف، لم تطيل شعرك وقميصك? قال أكره أن أكون كما قال الشاعر:

قصير القميص فاحشٌ عند بيته

 

وشر غراسٍ في قريشٍ مركبا

قال: وهذا الشعر لأبي خالدٍ مروان بن الحكم، هجا به الضحاك ابن قيس.
وحكى أيضاً، قال: مر عطاء بن أبي صيفي بعبد الرحمن بن حسان ابن ثابتٍ وعطاءٌ على فرسٍ له؛ فقال له عبد الرحمن: يا عطاء، لو وجدت زمام زق الخمر خالياً ما كنت تصنع به? قال: كنت آتي به دور بني النجار فأعرفه فإنه ضالةٌ من ضوالهم، فإن عرفوه وإلا فهو لك لم يعدك، ولكن أخبرني أي جديك أكبر، أفريعة أم ثابت? قال: لا أدري. قال: فلم يعنيك ما كان في كنائن الرجال وأنت لا تدري أي جديك أكبر? بل فريعة أكبر من ثابت، وقد تزوجها قبله أربعةٌ كلهم يلقاها بمثل ذراع البكر، ثم يطلقها عن قلى? فقال لها نسوةٌ من قومها: والله يا فريعة إنك لجميلة، فما بال أزواجك يطلقونك? قالت: يريدون الضيق ضيق الله عليهم.
وحكى أيضاً قال: قال أبو السفر: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير إذ رفع بين مكة والمدينة قبر أبي سعيد بن العاص، فقال أبو بكر: لعن الله صاحب هذا القبر، فإنه كان يكذب الله ورسوله، فقال خالد بن أسيد - وهو في القوم -: لا بل لعن الله أبا قحافة فإنه كان لا يقري الضيف، ولا يمنع الضيم، ولا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا سبني المشركون فعموهم بالسب، ولا تسبوا الأموات فإن سب الأموات يغضب الأحياء?".
قال محمد بن عمارة: فذاكرت بهذا الحديث رجلاً من أصحاب الحديث من ولد سعيد بن العاص، فعرفه، فقال: فيه زيادة ليست عندكم، قلت: وما هي? فقال: قال خالد بن أسيد: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما يسرني أنه في أعلى عليين وأن أبا قحافة ولده. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: "لا تسبوا الأموات فإن سبهم يغضب الأحياء".
وحكى قال: رمى عمر بن هبيرة الفزاري إلى عرام بن شتير بخاتمٍ له فضة - وقد زوج - فعقد عليه عرام سيراً ورده إلى ابن هبيرة. أراد ابن هبيرة قول الشاعر:

لقد زرقت عيناك يابن ملعـنٍ

 

كما كل ضبيٍ من اللؤم أزرق

وعرض له عرام بقول ابن دارة:

لا تأمنن فزارياً خلوت بـه

 

على قلوصك واكتبها بأسيار

وقال المدائني: وكان ابن هبيرة يساير هلال بن مكمل النميري، فتقدمت بغلة النميري بغلة ابن هبيرة. فقال: غض من بغلتك. فالتفت إليه النميري فقال: أصلح الله الأمير، إنها مكتوبة، وإنما أراد ابن هبيرة:

فغـض الـطـرف

 

فغض الطرف إنك من نمير

 

فلا كعباً بلغة ولا كلابا

وأراد النميري قول سالم بن دارة:

لا تأمنن فزارياً خلوت بـه

 

على قلوصك واكتبها بأسيار

وقال الوليد العنبري: مرت امرأةٌ من بني نمير على مجلسٍ لهم، فقال رجل منهم: أيتها الرسحاء. فقالت المرأة: يا بني نمير، والله ما أطعتم الله ولا أطعتم الشاعر، قال الله عز وجل: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم".
وقال الشاعر:

فغض الطرف إنك من نميرٍ

 

فلا كعباً بلغت ولا كلابـا

وقال: مر الفرزدق بخالد بن صفوان بن الأهتم، فقال له خالد: يا أبا فراس، ما أنت الذي لما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن، فقال له الفرزدق: ولا أنت الذي قالت الفتاة لأبيها فيه: "يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين".
قال: ودخل يزيد بن مسلم على سليمان بن عبد الملك، وكان مصفراً نحيفاً، فقال سليمان: على رجلٍ أجرك رسنك وسلطك على المسلمين لعنة الله. فقال: يا أمير المؤمنين إنك رأيتني والأمر عني مدبرٌ، فلو رأيتني وهو علي مقبلٌ لا ستعظمت مني يومئذٍ ما استصغرت اليوم. قال: فأين الحجاج? قال: يجيء يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه حيث شئت.
وقال عباد بن زياد: كنت عند عبد الملك بن مروان إذ أتاه أبو يوسف حاجبه، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه بثينة. قال: أبثينة جميل? قال: نعم، قال أدخلها، فدخلت امرأةٌ أدماء طويلةٌ يعلم أنها كانت جميلة، فقال له يا أبا يوسف ألق لها كرسياً، فألقاه لها، فقال لها عبد الملك، ويحك ما رجا منك جميل، قالت: الذي رجت منك الأمة حين ولتك أمرها.
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: إن رهطاً من الأنصار دخلوا على معاوية، فقال: يا معشر الأنصار، قريشٌ خيرٌ لكم منكم لهم، فإن يكن ذلك لقتلى أحد، فقد قتلتم يوم بدرٍ مثلهم؛ وإن يكن لإمرةٍ فوالله ما جعلتم لي إلى صلتكم سبيلاً؛ خذلتم عثمان يوم الدار، وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وصليتم بالأمر يوم صفين. فتكلم رجلٌ منهم، فقال: يا أمير المؤمنين، أما قولك إن يكون لقتلى أحد فإن قتيلنا شهيد وحينا تائق، وأما ذكرك الإمرة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر عليه. وأما قولك إنا خذلنا عثمان، فإن الأمر في عثمان إلى قتلته؛ وأما قولك إنا قتلنا أنصاره يوم الجمل فذلك ما لا نعتذر منه، وأما قولك إنا صلينا بالأمر يوم صفين، فإنما كنا مع رجل لم نأله خبراً، فإن لمتنا فرب ملومٍ لا ذنب له.
ثم قام هو وأصحابه يجر ثوبه مغضباً، فقال معاوية: ردوهم، فردوا فترضاهم حتى رضوا، ثم انصرفوا. وأقبل معاوية على رهطٍ من قريشٍ، فقال: والله ما فرغ من منطقه حتى ضاق بي مجلسي.
قال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: دخل قيس بن سعد بن عبادة مع قومٍ من الأنصار على معاوية. فقال معاوية: يا معشر الأنصار، لم تطلبون ما قبلي، فوالله لقد كنتم قليلاً معي، كثيراً علي، ولقد قتلتم جندي يوم صفين حتى رأيت المنايا تلظى في أسنتكم، وهجوتموني بأشد من وخز الأشافي حتى إذا أقام الله ما حاولتم ميله، قلتم: ارع فينا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ هيهات، أبى الحقين العذرة، فقال قيس: نطلب ما قبلك بالإسلام الكافي به الله لا سواه، لا بما تمت به إليك الأحزاب، وأما عداؤنا لك فلو شئت كففنا عنك؛ وأما هجاؤنا إياك فقولٌ يزول باطله، ويثبت حقه، وأما قتلنا جندك يوم صفين فإنا كنا مع رجل نرى أن طاعته طاعة الله؛ وأما استقامة الأمر لك فعلى كرهٍ منا كان منا، وأما وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فمن آمن به رعاها؛ وأما قولك أبي الحقين العذرة، فليس دون الله يدٌ تحجزك؛ فشأنك. فقام معاوية فدخل، وخرج قيسٌ ومن كان معه.
وقال محمد بن خالد القرشي: دخل زفر بن الحارث الكلابي على عبد الملك بن مروان وعنده خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وأمية بن عبد الله بن خالد، فقال زفر: لو كان لعبد الله سخاء مصعب وكان لمصعب عبادة عبد الله لكانا ما شاء المتمني. فقال عبد الملك: ما كان سخاء مصعب إلا لعباً، ولا كانت عبادة عبد الله إلا عبثاً، ولكن لو كان للضحاك ابن قيسٍ مثل رجال مروان لكانت قيس أرباباً بالشام، فقال زفر: لو كانت لمروان صحبة الضحاك لكان؛ فقال عبد الملك، والله ما أحب له مثل صحبته ومصرعه، فقال خالد: لولا أن أمير المؤمنين لايبصر مرعىً لما تركناك والكلام. فقال زفر: اربعا على أنفسكما ودعانا وخليفتنا واسحبا ذيولكما على خيانة خراسان وسجستان والبصرة.
وقال المدائني: غاب مولىً للزبير عن المدينة حيناً، فقال له رجل من قريش لما رجع: أما والله لقد أتيت قوماً يبغضون طلعتك، وفارقت قوماً لا يحبون رجعتك. قال المولى: فلا أنعم الله ممن قدمت عليه عيناً، ولا أخلف الله على من فارقت بخير.

قال المدائني: كان مرثد بن حوشب عند سليمان بن عبد الملك، فجرى بينه وبين أبيه كلامٌ حتى تسابا، فقال له أبوه: والله ما أنت بابني، قال: والله لأنا أشبه منك بأبيك، ولأنت كنت أغير على أمي من أبيك على أمك. فقال له سليمان: قاتلك الله، إنك لابنه.
وساب مرثد أخاه ثمامة، فقال له ثمامة: يا حلقي، فقال له مرثد: يا خبيث، أتسابني مسابة الصبيان، فوالله إنك لابني، ولقد غلبني حوشب على أمك، وقد ألقحتها بك.
وقال ابن عياش المنتوف لأبي شاكر بن هشام بن عبد الملك: لو قصرت قميصك، قال له: ما يضرك من طوله. قال: تدوسه في الطين، قال وما ينفعك من دوسه.
وقال: كان على تبالة رجل من قريش؛ فقال لرجل من باهلة، من الذي يقول:

إن كنت ترجو أن تنال غنـيمةً

 

في دور باهلة بن يعفر فارحل

قومٌ قتـيبة أمـهـم وأبـوهـم

 

لولا قتيبة أصبحوا في مجهـل

فقال الباهلي: ما أدري غير أني أظنه الذي يقول:

يا شدةً ما شددنا غـير كـاذبةٍ

 

على سخينة لولا الليل والحرم

قال: وتكلم ابن ظبيان التيمي يوماً فأكثر، فقال له مالك بن مسمع، إيهاً أبا مطر، فإن للقوم في الكلام نصيباً، فقال: والله ما إليك جئت، ولو أن بكر بن وائل اجتمعت في بيت بقالٍ لأتيتهم. فقال له مالك، إنما أ،ت سهمٌ من سهام كنانتي. فقال ابن ظبيان: أنا سهمٌ من سهام كنانتك? فوالله لو قمت فيها لطلتها،ولو قعدت فيها لخرقتها، وايم الله ما أراك تنتهي حتى أرميك بسهمٍ لم يرش، تذبل به شفتاك، ويجف له ريقك.
وقال رجلٌ للأحنف: بأي شيء سدت تميماً? فوالله ما أنت بأجودهم ولا أشجعهم ولا أجملهم ولا أشرفهم، قال: بخلاف ما أنت فيه. قال: وما خلاف ما أنا فيه? قال: تركي ما لا يعنيني من أمور الناس كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
ووفد عليم بن خالد الهجيمي على هشامٍ وعنده الأبرش الكلبي، فقال له الأبرش الكلبي: يا أخا بني الهجيم، من القائل.

لو يسمعون بأكلةٍ أو شربةٍ

 

بعمان أصبح جمعهم بعمان

ألكم يقوله? قال: نعم، لنا يقوله، ولكنكم يا معشر كلبٍ تعبرون النساء وتجزون الشاء، وتكدرون العطاء، وتؤخرون العشاء، وتبيعون الماء.
فضحك هشام، فلما خرجا قال الأبرش: يا أخا بني الهجيم، أما كانت عندك بقية? قال: بلى، لو كان عندك بقية.
قدمت امرأةٌ زوجها إلى زياد تنازعه، وقد كانت سنه أعلى من سنها فجعلت تعيب زوجها وتقع فيه، فقال زوجها: أيها الأمير، إن شر شطري المرأة آخرها، وخير شطري الرجل آخره. المرأة إذا كبرت عقمت رحمها، وحد لسانها، وساء خلقها، وإن الرجل إذا كبرت سنه استحكم رأيه، وكثر حلمه وقل جهله.
وقال أعشى همدان لامرأته: إنك لسلسة الثقبة، سريعة الوثبة، حديدة الركبة، فقالت: والله إنك لسريع الإراقة، بطيء الإفاقة، قليل الطاقة، فطلقها، وقال:

تقادم عهـدك أم الـجـلال

 

وطاشت نبالك عند النضال

وقد بت حبلك فاستـيقـنـي

 

بأني طرحتك ذات الشمـال

وأن لا رجوع فلا تكـذبـي

 

ن ماحنت النيب إثر الفصال

قال الغلابي عن غيره: قال رجل لامرأته: أما إنك ما علمت لسئولٌ منعة، جزوعٌ هلعة، تمشين الدفقى وتقعدين الهبنقعة، فقالت: أما والله إن كان زادي منك لهدية، وإن كانت حظتي منك لحذية، فإنك لابن خبيثة يهودية.

وقال المدائني: قبض كسرى أرضاً لرجل من الدهاقين، وأقطعها البحرجان، فقدم صاحب الأرض متظلماً، فأقام بباب كسرى، فركب كسرى يوماً، فقعد له الرجل على طريقه يكلمه، فلما حاذاه شد عليه حتى صك بصدره ركبته، ووضع يده على فخذه؛ فوقف له كسرى وكلمه، فقال له: أرضٌ كانت لأجدادي ورثتها من آبائي قبضتها فأقطعتها البحرجان? ارددها علي، فقال له كسرى: مذ كم هذه الأرض في أيدي أجدادك وآبائك? فذكر دهراً طويلاً، فقال له كسرى: والله لقد أكلتموها دهراً طويلاً، فما عليك في أن تدعها في يد البحرجان عاريةً سنياتٍ يستمتع بها ثم يردها عليك، فقال: أيها الملك، قد علمت حسن بلاء بهرام جور في طاعتكم، أهل البيت، وما كفاكم من حد عدوكم، ودفعه عنكم كيد الترك وحسن بلاء آبائه قبل ذلك في طاعة آبائك، فما كان عليك لو أعرته ملكك سنياتٍ يستمتع به ثم يرده إليك? فقال كسرى: يا بحرجان، أنت رميتني بهذا السهم، اردد عليه أرضه فردها.
قال رجل من القحاطنة لرجل من أبناء الأعاجم: ما يقول الشعر منكم إلا من كانت أمه زنى بها رجلٌ منا فنزع إلينا. فقال له الثنوي: وكذلك كل من لم يقل الشعر منكم، فإنما زنى بأمه رجلٌ منا فحملت به، فنزع إلينا، فمن ثم لم يقل الشعر.
وقال رجلٌ من العرب لرجلٍ من أبناء العجم: رأيت في النوم كأني دخلت الجنة فلم أر فيها ثنوياً. فقال له الثنوي: أصعدت الغرف? قال: لا. قال: فمن ثم لم ترهم، هم في الغرف.
قال ابن عياش: ما قطعني إلا رجلٌ من قريشٍ من آل أبي معيط، وكان ماجناً شارب خمرٍ، وذاك أني وقفت على بيان التبان الذي أتى به ابن هبيرة الفزاري فأمر بصلبه، فقال لي: ما وقوفك ها هنا يا أبا الجراح? قلت: أنظر إلى هذا الشقي الذي يقول: إنه نبي؛ قال: وما أتى به في نبوته? قلت: بتحليل الخمر والزنا - وأنا أعرض به - فقال: لا، والله لا يقبل ذلك منه حتى يبرىء الأكمه والأبرص.
قال المدائني: ابن عياش أبرص.
وقال: دخل أبو الأسود الدؤلي على عبيد الله بن زيادٍ، فقال له ابن زياد - وهو يهزأ به - أمسيت يا أبا الأسود العشية جميلاً فلو علقت تميمةً تنفي بها عنك العين? فعرف أنه يهزأ به فقال: أصلح الله الأمير -

أفنى الشباب الذي فارقت بهجته

 

مر الجديدين من آتٍ ومنطلق

لم يتركا لي في طول اختلافهما

 

شيئاً تخاف عليه لدغة الحـدق

وقال المدائني: وقع بين العريان بن الهيثم النخعي وبين بلال بن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري كلامٌ بين يدي خالد بن عبد الله القصري وخالدٌ يومئذٍ على العراق - وكان متحاملاً على بلال، وكان العريان على شرطة خالد - فقال العريان لبلال: إني والله ما أنا بأبيض الراحتين، ولا منتشر المنخرين، ولا أروح القدمين، ولا محدد الأسنان، ولا جعدٍ قطط، فقال بلال: يا عريان أتعنيني بهذا? قال: لا والله، ولكن كلامٌ يتلو بعضه بعضاً. فقال بلال: يا عريان، أتريد أن تشتم أبا بردة وأشتم أباك، وتشتم أبا موسى وأشتم جدك، هذا والله ما لا يكون، فقال العريان: إني والله ما أجعل أبا موسى فداء الأسود، ولا أبا بردة فداء الهيثم، فمثلي ومثلك في ذلك كما قال مسكينٌ الدارمي:

أنا مسكينٌ لمن أنـكـرنـي

 

ولمن يعرفني جد نـطـق

لا أبيع الناس عرضي إنني

 

لو أبيع الناس عرضي لنفق

قال المدائني: جرى بين وكيع بن الجراح وبين رجل من أصحابه كلامٌ في معاوية واختلفا، فقال الرجل لوكيع: ألم يبلغك أن رسول الل صلى الله عليه وسلم لعن أبا سفيان ومعاوية وعتبة فقال: "لعن الله الراكب والقائد والسائق"، فقال وكيع: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما عبدٍ دعوت عليه فاجعل ذلك له أو عليه رحمةً"؛ فقال الرجل: أفيسرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن والديك فكان ذلك لهما رحمةً. فلم يحر له جواباً.
تكلم صعصعة عند معاوية فعرق، فقال: وبهرك القول يا صعصعة? فقال: إن الجياد نضاحةٌ بالماء.
هكذا قال لنا السيرافي، وقد قرأت عليه هذه الفقر كلها، وإنما جمعتها للوزير بعد إحكامها وروايتها.
قال علي بن عبد الله: شهدت الحجاج خارجاً من عند عبد الملك بن مروان، فقال له خالد بن يزيد بن معاوية: إلى متى تقتل أهل العراق يا أبا محمد! فقال: إلى أن يكفوا عن قولهم في أبيك: إنه كان يشرب الخمر.
 قال المدائني: أسرت مزينة حسان بن ثابتٍ - وكان قد هجاهم - فقال:

مزينة لا يرى فيها خطيب

 

ولا فلجٌ يطاف به خضيب

أناسٌ تهلك الأحساب فيهم

 

يرون التيس يعدله الحبيب

فأتتهم الخزرج يفتدونه؛ فقالوا: نفاديه بتيس؛ فغضبوا وقاموا؛ فقال لهم حسان: يا إخوتي خذوا أخاكم وادفعوا إليهم أخاهم.
وقال المدائني: فرق عمر بن الخطاب بين منظور بن أبان وبين امرأته - وكان خلف عليها بعد أبيه - فتزوجها طلحة بن عبد الله، فلقيه منظور، فقال له: كيف وجدت سورى? فقال: كما وجدت سور أبيك. فأفحمه.
وقال حاطب بن أبي بلتعة: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية، فأتيته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابلغته رسالته؛ فضحك ثم قال: كتب إلي صاحبك أن أتبعه على دينه، فما يمنعه إن كان نبياً أن يدعو الله أن يسلط علي البحر فيغرقني فيكتفي مؤونتي ويأخذ ملكي? قلت: فما صنع عيسى إذ أخذته اليهود فربطوه في حبل وحلقوا وسط رأسه، وجعلوا عليه إكليل شوك، وحملوا خشبته التي صلبوه عليها على عنقه، ثم أخرجوه وهو يبكي حتى نصبوه على الخشبة، ثم طعنوه حياً بحربة حتى مات؛ هذا على زعمكم، فما منعه أن يأسل الله فينجيه ويهلكهم فيكفى مؤونتهم ويظهر هو وأصحابه عليهم? وما منع يحيى بن زكريا حين سألت امرأة الملك الملك أن يقتله فقتله، وبعث برأسه إليها حتى وضع بين يديها، أن يسأل الله تعالى أن ينجيه ويهلك الناس? فأقبل على جلسائه وقال: إنه والله لحكيمٌ إلا من عند الحكماء.
قال المدائني: أبطأ علي رجلٍ من أصحاب الجنيد بن عبد الرحمن ما قبله - وهو على خراسان - وكان يقال للرجل: زامل بن عمرٍو من بني أسد بن خزيمة، فدخل على الجنيد يوماً فقال: أصلح الله الأمير، قد طال انتظاري، فإن رأى الأمير أن يضرب لي موعداً أصير إليه فعل. فقال: موعدك الحشر؛ فخرج زاملٌ متوجهاً إلى أهله؛ ودخل على الجنيد بعد ذلك رجلٌ من أصحابه فقال: أصلح الله الأمير.

أرحني بخير منك إن كنت فاعلاً

 

وإلا فميعادٌ كمـيعـاد زامـل

قال: وما فعل زامل? قال: لحق بأهله. فأبرد الجنيد في أثره بريداً وبعث يعهده إلى الكورة التي يدرك بها، فأدرك بنيسابور، فنزلها.
وامتدح رجلٌ الحسن بن علي بشعرٍ، فأمر له بشيء؛ فقيل: أتعطي على كلام الشيطان? فقال: أبتغي الخير لنفي الشر.
قال المدائني: أتى العبداني حماد بن أبي حنيفة وقد ملأ عينه كحلاً قد ظهر من محاجر عينه، وعند حمادٍ جماعةٌ. فقال له حماد: كأنك امرأة نفساء. قال: لا، ولكني ثكلى. قال: على من? قال: على أبي حنيفة.
وقال مروان بن الحكم ليحيى: إن ابنتك تشكو تزويجك وتزعم أنه يبول في دثاره. قال: فهو يبول منها فيما هو أعظم من دثاره.
وقال معاوية: هذا عقيلٌ عمه أبو لهب. فقال عقيل: هذا معاوية عمته حمالة الحطب.
قال: ودخل معن بن زائدة على أبي جعفرٍ فقارب في خطوه، فقال أبو جعفر: كبرت سنك يا معن. قال: في طاعتك. قال: وإنك لجلد. قال: على أعدائك. قال: إن فيك لبقية. قال: هي لك يا أمير المؤمنين.
قال المنصور لسفيان بن معاوية المهلبي، ما أسرع الناس إلى قومك? قال سفيان:

إن العرانين تلقاه محسـدةً

 

ولن ترى للئام الناس حسادا

فقال: صدقت.
قال المدائني: حضر قومٌ من قريش مجلس معاوية وفيهم عمرو بن العاص وعبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ فقال عمرو: احمدوا الله يا معشر قريش إذ جعل والي أموركم من يغضي على القذى، ويتصامم عن العوراء، ويجر ذيله على الخدائع. قال عبد الله بن صفوان: لو لم يكن هذا لمشينا إليه الضراء، ودببنا له الخمر، وقلبنا له ظهر المجن، ورجونا أن يقوم بأمرنا من لا يطعمك مال مصر.
 وقال معاوية: يا معشر قريش، حتى متى لا تنصفون من أنفسكم? فقال عبد الرحمن بن الحارث: إن عمراً وذوي عمرٍو أفسدوك علينا وأفسدونا عليك، ما كان لو أغضيت على هذه? فقال: إن عمراً لي ناصح، قال أطعمنا مما أطعمته، ثم خذنا بمثل نصيحته، إنك يا معاوية تضرب عوام قريشٍ بأياديك في خواصها كأنك ترى أن كرامها جاروك دون لئامها، وايم الله: إنك لتفرغ من إناء فعم في إناء ضخم، ولكأنك بالحرب قد حل عقالها ثم لا تنظرك. فقال معاوية: يابن أخي ما أحوج أهلك إليك. ثم أنشد معاوية:

أغر رجالاً من قريشٍ تشايعوا

 

على سفهٍ، منا الحيا والتكرم?

وقال المدائني: كان عروة بن الزبير عند عبد الملك بن مروان يحدثه - وعند الحجاج بن يوسف - فقال له عروة في بعض حديثه: قال أبو بكر - يعني عبد الله بن الزبير - فقال الحجاج: أعند أمير المؤمنين تكنى ذلك الفاسق? لا أم لك. فقال عروة: ألي تقول هذا لا أم لك وأنا ابن عجائز الجنة خديجة وصفية وأسماء وعائشة، بل لا أم لك أنت يابن المستفرمة بعجم زبيب الطائف.
وقال: لما صنع هشام بن عبد الملك بغيلان الواعظ ما صنع، قال له رجلٌ: ما ظلمك الله ولا سلط عليك أمير المؤمنين إلا وأنت مستحق؛ فقال غيلان: قاتلك الله، إنك جاهلٌ بأصحاب الأخدود.
قال عمرو بن العاص: أعجبتني كلمةٌ من أمةٍ؛ قلت لها ومعها طبق: ما عليه يا جارية? قالت: فلم غطيناه إذاً? وقع ابن الزبير في معاوية، ثم دخل عليه فأخبره معاوية ببعضه، فقال: أنى علمت ذلك? فقال معاوية: أما علمت أن ظن الحكيم كهانة.
وقيل لعمر بن عبد العزيز: ما تقول في عليٍ وعثمان وفي حرب الجمل وصفين? قال: تلك دماءٌ كف الله يدي عنها، فأنا أكره أن أغمس لساني فيها.
وقال: طلق أبو الخندف امرأته أم الخندف، فقالت له: يا أبا الخندف طلقتني بعد خمسين سنة، فقال: مالك عندي ذنبٌ غيره.
وقال: لقي جريرٌ الأخطل فقال: يا مالك، ما فعلت خنازيرك! قال: كثيرةٌ في مرجٍ أفيح، فإن شئت قريناك منها، ثم قال الأخطل: يا أبا حزرة ما فعلت أعنازك? قال كثيرةٌ في وادٍ أروح، فإن شئت أنزيناك على بعضها.
وقال الشعبي: ذكر عمرو بن العاص علياً فقال: فيه دعابةً، فبلغ ذلك علياً فقال: زعم أن النابغة أنى تلعابةٌ تمراحةٌ ذو دعابةٍ أعافس وأمارس؛ هيهات، يمنع من العفاس والمراس ذكر الموت وخوف البعث والحساب ومن كان له قلبٌ ففي هذا عن هذا له واعظ وزاجر، أما وشر القول الكذب - إنه ليعد فيحلف، ويحدث فيكذب، فإذا كان يوم البأس فإنه زاجرٌ وآمرٌ ما لم تأخذ السيوف بهام الرجال، فإذا كان ذاك فأعظم مكيدته في نفسه أن يمنح القوم استه.
قال المدائني: بعث المفضل الضبي إلى رجل بأضحية، ثم لقيه فقال: كيف كانت أضحيتك? فقال: قليلة الدم. وأراد قول الشاعر:

ولو ذبح الضبي بالسيف لم تجد

 

من اللؤم للضبي لحماً ولا دما

وقال المدائني: مر عقيل بن أبي طالب على أخيه علي بن أبي طالب ومعه تيسٌ، فقال له علي: إن أحد ثلاثتنا أحمق. فقال عقيل: أما أنا وتيسي فلا.
وكلم عامر بن عبد قيسٍ حمران يوماً في المسجد. فقال له حمران: لا أكثر الله فينا مثلك. فقال عامر: لكن: أكثر الله فينا مثلك، فقال له القوم: يا عامر، يقول لك حمران ما لا تقول مثله? فقال: نعم يكسحون طرقنا، ويحوكون ثيابنا، ويخرزون خفافنا. فقيل له: ما كنا نرى أنك تعرف مثل هذا، قال: ما أكثر ما نعرف مما لا تظنون بنا.
وقال: مر جرير بن عطية على الأحوص وهو على بغلٍ، فأدلى البغل فقال الأحوص: بغلك يا أبا حزرة على خمس قوائم. قال جرير: والخامسة أحب إليك.
ومر جريرٌ بالأحوص وهو يفسق بامرأة وينشد:

يقر بعيني ما يقر بـعـينـهـا

 

وأحسن شيء ما به العين قرت

فقال له جرير: فإنه يقر بعينها أن تقعد على مثل ذراع البكر، أفتراك تفعل ذلك? فقال الوزير: من رأيت من الكبار كان يحفظ هذا الفن وله فيه غزارةٌ وانبعاثٌ وجسارةٌ على الإيراد. قلت: ابن عباد على هذا، ويبلغ من قوته أنه يفتعل أشياء شبيهةً بهذا الضرب على من حضر، فقال: الكذب لا خير فيه، ولا حلاوة لراويه، ولا قبول عند سامعيه.

وقال: أرسل بلال بن أبي بردة إلى أبي علقمة فأتاه، فقال: أتدري لأي شيء أرسلت إليك? قال: نعم، لتصنع بي خيراً. قال: أخطأت ولكن لأسىء بك. فقال: أما إذ قلت ذاك لقد حكم المسلمون حكمين، فسخر أحدهما بالآخر. فقال الوزير: أيقال سخر به! فكان الجواب أن أبا زيد حكاه، وصاحب التصنيف قد رواه؛ وسخر منه أيضاً كلامٌ، وإنما يقال هو أفصح، لأنه في كتاب الله عز وجل، وإلا فكلاهما جائز.
وقال حمزة بن بيض الحنفي للفرزدق: يا أبا فراس، أيما أحب إليك أن تسبق الخير أم يسبقك! قال: ما أريد أن أسبقه ولا أن يسبقني، بل نكون معاً. ولكن حدثني أيما أحب إليك: أن تدخل منزلك فتجد رجلاً على حرامك، أو تجدها قابضةً على قمد الرجل. فأفحمه.
فلما قرأت الجزء في ضروب الجواب المفحم. قال: ما أفتح هذا النوع من الكلام لأبواب البديهة! وأبعثه لرواقد الذهن! وما يتفاضل الناس عندي بشيء أحسن من هذه الكلمات الفوائق الروائق، ما أحسن ما جمعت وأتيت به.

الليلة الأربعون

وقال مرة أخرى: حدثني عن اعتقادك في أبي تمامٍ والبحتري، فكان الجواب: إن هذا الباب مختلفٌ فيه، ولا سبيل إلى رفعه، وقد سبق هذا من الناس في الفرزدق وجريرٍ ومن قبلهما في زهير والنابغة حتى تكلم على ذلك الصدر الأول، مع علو مراتبهم في الدين والعقل والبيان، لكن حدثنا أبو محمد العروضي عن أبي العباس المبرد قال: سألني عبيد الله بن سليمان عن أبي تمام والبحتري؛ فقلت: أبو تمام يعلو علواً رفيعاً، ويسقط سقوطاً قبيحاً، والبحتري أحسن الرجلين نمطاً، وأعذب لفظاً؛ فقال عبيد الله:

قد كان ذلك ظني

 

فعاد ظني يقينا

فقلت: وهذا أيضاً شعر. فقال: ما علمت.
ققال: هذه حكايةٌ مفيدةٌ من هذا العالم المتقدم، وحكمٌ يلوح منه الإنصاف، وقد أغنى هذا القول عن خوضٍ كثير.
ودع ذا؛ من أين دخلت الآفة على أصحاب المذاهب حتى افترقوا هذا الافتراق، وتباينوا هذا التباين، وخرجوا إلى التكفير والتفسيق وإباحة الدم والمال ورد الشهادة وإطلاق اللسان بالجرح وبالقذع والتهاجر والتقاطع! فكان الجواب: إن المذاهب فروح الأديان، والأديان أصول المذاهب، فإذا ساغ الاختلاف في الأديان - وهي الأصول - فلم لا يسوغ في المذاهب وهي الفروع.
فقال: ولا سواء، الأديان اختلفت بالأنبياء، وهم أرباب الصدق والوحي الموثوق به، والآيات الدالة على الصدق؛ وليس كذلك المذاهب.
فقيل: هذا صحيح، ولا دافع له، ولكن لما كانت المذاهب نتائج الآراء، والآراء ثمرات العقول، والعقول منائح الله للعباد، وهذه النتائج مختلفةٌ بالصفاء والكدر، وبالكمال والنقص، وبالقلة والكثرة، وبالخفاء والوضوح؛ وجب أن يجري الأمر فيها على مناهج الأديان في الاختلاف والافتراق وإن كانت تلك منوطةً بالنوبة؛ وبعد، فما دام الناس على فطرٍ كثيرةٍ، وعاداتٍ حسنةٍ وقبيحة، ومناشىء محمودةٍ ومذمومة، وملاحظاتٍ قريبةٍ وبعيدة، فلابد من الاختلاف في كل ما يختار ويجتنب، ولا يجوز في الحكمة أن يقع الاتفاق فيما جرى مجرى المذاهب والأديان؛ ألا ترى أن الاتفاق لم يحصل في تفضيل أمة على أمة، ولا في تفضيل بلدٍ على بلد، ولا في تقديم رجلٍ على رجل، ولو لم يكن في هذا الأمر إلا التعصب واللجاج والهوى والمحك والذهاب مع السابق إلى النفس، والموافق للمزاج، والخفيف على الطباع، والمالك للقلب، لكان كافياً بالغاً بالإنسان كل مبلغ.
وشيخنا أبو سليمان يقول كثيراً: إن الدين موضوعٌ على القبول والتسليم، والمبالغة في التعظيم، وليس فيه "لم" و "لا" و "كيف" إلا بقدر ما يؤكد أصله ويشد أزره، وينفي عارض السوء عنه، لأن ما زاد على هذا يوهن الأصل بالشك، ويقدح في الفرع بالتهمة.
قال: وهذا لا يخص ديناً دون دين، ولا مقالةً دون مقالة، ولا نحلةً دون نحلة، بل هو سارٍ في كل شيء في كل حالٍ في كل زمان، وكل من حاول رفع هذا فقد حاول رفع الفطرة ونفي الطباع وقلب الأصل، وعكس الأمر؛ وهذا غير مستطاع ولا ممكن؛ وقد قيل: "إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون".
 وقال لنا القاضي أبو حامد المروروذي: أنا منذ أربعين سنةً أجتهد مع أصحابنا البصريين في أن أصحح عندهم أن بغداد أطيب من البصرة، وأنا اليوم في كلامي معهم كما كنت في أول كلامي لهم، وكذلك حالهم معي، فهذا هذا. أنظر إلى فضل ومرعوش - وهما من سقط الناس وسفلنهم - كيف لهج الناس بهما وبالتعصب لهما حتى صار جميع من ببغداد إما مرعوشياً وإما فضلياً.
ولقد اجتاز ابن معروف وهو على قضاء القضاة بباب الطاق فتعلق بعض هؤلاء المجان بلجام بغلته، وقال: أيها القاضي، عرفنا، أنت مرعوشي أم فضلي، فتحير وعرف ما تحت هذه الكلمة من السفه والفتنة، وأن التخلص بالجواب الرفيق أجدى عليه من العنف والخرق وإظهار السطوة؛ فالتفت إلى الحراني - وكان معه وهو من الشهود - فقال: يا أبا القاسم، نحن في محلة من? قال: في محلة مرعوش؛ فقال ابن معروف: كذلك نحن - عافاك الله - من أصحاب محلتنا لا نختار على اختيارهم؛ ولا نتميز فيهم. فقال العيار: امش أيها القاضي في ستر الله؛ مثلك من تعصب للجيران.
فقال الوزير - أحسن الله توفيقه - هذا كله تعصبٌ وهوى وتماحك وتكلفٌ. قيل: هذا وإن كان هكذا فهو داخلٌ فيما عداه من حديث الدين والمذهب والصناعة والبلد.
قال أبو سليمان: ولمصلحةٍ عامةٍ نهي عن المراء والجدال في الدين على عادة المتكلمين، الذين يزعمون أنهم ينصرون الدين، وهم في غاية العداوة للإسلام والمسلمين، وأبعد الناس من الطمأنينة واليقين.
ثم حدث فقال: اجتمع رجلان: أحدهما يقول بقول هشام، والآخر يقول بقول الجواليقي؛ فقال صاحب الجواليقي لصاحب هشام: صف لي ربك الذي تعبده، فوصفه بأنه لا يد له ولا جارحة ولا آلة ولا لسان، فقال الجواليقي: أيسرك أن يكون لك ولدٌ بهذا الوصف! قال: لا، قال: أما تستحي أن تصف ربك بصفةٍ لا ترضاها لولدك! فقال صاحب هشام: إنك قد سمعت ما نقول، صف لي أنت ربك؛ فقال: إنه جعدٌ قطط في أتم القامات وأحسن الصور والقوام. فقال صاحب هشام: أيسرك أن تكون لك جاريةٌ بهذه الصفة تطؤها?! قال: نعم، قال: أفما تستحي من عبادة من تحب مباضعة مثله!! وذلك لأن من أحب مباضعته فقد أوقع الشهوة عليه.
فقال: هذا من شؤم الكلام ونكد الجدل، فلو كان هناك دين لكان لا يدور هذا في وهم ولا ينطق به لسان.
وحكى أيضاً قال: ابتلي غلامٌ أعجميٌ بوجع شديد، فجعل يتأوه ويتلوى ويصيح. فقال له أبوه: يا بني اصبر واحمد الله تعالى. فقال: ولماذا أحمده! قال لأنه ابتلاك بهذا؛ فاشتد وجع الغلام ورفع صوته بالتأوه أشد مما كان، فقال له أبوه: ولم اشتد جزعك! فقال: كنت أظن أن غير الله ابتلاني بهذا فكنت أرجوه أن يعافيني من هذا البلاء ويصرفه عني، فأما إذ كان هو الذي ابتلاني به فمن أرجو أن يعافيني! فالآن اشتد جزعي، وعظمت مصيبتي. قال: ولو علم أن الذي ابتلاه هو الذي استصلحه بالبلاء ليكون إذا وهب له العافية شاكراً له عليها بحسٍ صحيحٍ وعلمٍ تامٍ لكان لا يرى ما قاله وتوهمه لازماً.
وحكى أيضاً أن رجلاً من العجم حج وتعلق بأستار الكعبة فطفق يدعو ويقول: يا من خلق السباع الضارية، والهوام العادية، وسلطها على الناس، وضربهم بالزمامة والعمى والفقر والحاجة؛ فوثب الناس عليه وسبوه وزجروه وقالوا: ادعو الله بأسمائه الحسنى. فأظهر لهم الندامة، والتقارف فخلوا عنه بعد ما أرادوا الوقيعة به، فرجع وتعلق بأستار الكعبة، وجعل ينادي: يا من لم يخلق السباع الضارية ولا الهوام، ولا سلطها على الناس، ولم يضرب الناس بالأوجاع والأسقام. فوثبوا عليه أيضاً وقالوا له: لا تقل هذا فإن الله خالق كل شيءٍ؛ فقال: ما أدري كيف أعمل? إن قلت: إن الله خالق هذه الأشياء وثبتم علي؛ وإن قلت: إن الله لم يخلقها وثبتم علي. فقالوا: هذا ينبغي أن تعلمه بقلبك ولا تدع الله به.
قال أبو سليمان: وهذا أيضاً من شؤم الكلام وشبه المتكلمين الذين يقولون: لا يجوز أن يعتقد شيء بالتقليد، ولابد من دليل، ثم يدللون ويختلفون، ثم يرجعون إلى القول بأن الأدلة متكافئة.
 وكان ابن البقال يجهر بهذا القول، فقلت له مرة: لم ملت إلى هذا المذهب? فقال: لأني وجدت الأدلة متدافعةً في أنفسها، ورأيت أصحابها يزخرفونها ويموهونها لتقبل منهم، وكانوا كأصحاب الزيوف الذين يغشون النقد لينفق عندهم، وتدور المغالطة بينهم. فقلت له: أما تعرف بأن الحق حق والباطل باطل? قال: بلى، ولكن لا يتبين أحدهما من الآخر. قلت: أفلأنه لا يتبين لك الحق من الباطل تعتقد أن الحق باطل وأن الباطل حق? قال: لا أجيء إلى حق أعرفه بعينه فأعتقد أنه باطل، ولا أجيء أيضاً إلى باطل أعرفه بعينه فأعتقد أنه حق، ولكن لما التبس الحق بالباطل والباطل بالحق قلت: إن الأدلة عليهما ولهما متكافئة، وإنها موقوفةٌ على حذق الحاذق في نصرته، وضعف الضعيف في الذب عنه. قلت فكأنك قد رجعت عن اعترافك بالحق أنه حق، وبالباطل أنه باطل. قال: ما رجعت. قلت: فكأنك تدعي الحق حقاً جملةً والباطل باطلاً جملةً من غير أن تميز بالتفصيل. قال: كذا هو. قلت: فما نفعك بالاعتراف بالحق وأنه متميزٌ عن الباطل في الأصل، وأنت لا تميز بينهما في التفصيل? قال: والله ما أدري ما نفعي منه. قلت: فم لا تقول: الرأي أن أقف فلا أحكم على الأدلة بالتكافؤ، لأن الباطل لا يقاوم الحق، والحق لا يتشبه بالباطل، إلى أن يفتح الله بصري فأرى الحق حقاً في التفصيل، والباطل باطلاً على التحصيل، كما رأيتهما في الجملة، وأن الذي فتح بصري على ذلك في الأول هو الذي غض بصري عنه في الثاني? قال: ينبغي أن أنظر فيما قلت. فقلت: انظر إن كان لك نظر، ولا تتكلف النظر ما دام بك عمىً أو عشاً أو رمد.
وحكى لنا أبو سليمان قال: وصف لنا بعض النصارى الجنة فقال: ليس فيها أكلٌ ولا شربٌ ولا نكاح. فسمع ذلك بعض المتكلمين فقال: ما تصف إلا الحزن والأسف والبلاء.
وقال أبو عيسى الوراق - وكان من حذاق المتكلمين - إن الآمر بما يعلم أن المأمور لا يفعله سفيه، وقد علم الله من الكفار أنهم لا يؤمنون، فليس لأمرهم بالإيمان وجهٌ في الحكمة.
قال أبو سليمان: انظر كيف ذهب عليه السر في هذه الحال، من أين أتوا، وكيف لزمتهم الحجة.
وقال أبو عيسى أيضاً: المعاقب الذي لا يستصلح بعقوبته من عاقبه، ولا يستصلح به غيره، ولا يشفي غيظه بعقوبته جائر، لأنه قد وضع العقوبة في غير موضعها. قال: لأن الله تعالى لا يستصلح أهل النار ولا غيرهم، ولا يشفي غيظه بعقوبتهم، فليس للعقوبة وجهٌ في الحكمة. هذا غرض كتابه الذي نسبه إلى الغريب المشرقي.
وقال أبو سعيد الحضرمي - وكان من حذاق المتكلمين ببغداد، وهو الذي تظاهر بالقول بتكافؤ الأدلة - إن كان الله عدلاً كريماً جواداً عليماً رءوفاً رحيماً فإنه سيصير جميع خلقه إلى جنته، وذلك أنهم جميعاً على اختلافهم يجتهدون في طلب مرضاته، فيهربون من وقع سخطه بقدر علمهم ومبلغ عقولهم، وإنما تركوا اتباع أمره لأنهم خدعوا، وزين لهم الباطل باسم الحق؛ ومثلهم في ذلك مثل رجل حمل هديةً إلى ملك، فعرض له في الطريق قومٌ شأنهم الخداع والمكر والاستلال، فنصبوا له رجلاً، وسموه باسم الملك الذي كان قصده، فسلم الهدية إليهم؛ فالملك الذي قصده إن كان كريمأً فإنه يعذره ويرحمه ويزيد في كرامته وبره حين يقف على قصته، وهذا أولى به من أن يغضب عليه ويعاقبه.
وقال أبو سليمان: ذكروا أن رجلاً رأى قوماً يتناظرون، فجلس إليهم فرآهم مختلفين، فأقبل على رجل منهم فقال: أتلزمني أن أقول بقولك وأنا لا أعلم أنك محقٌ فإن قلت لك: إن بعض جلسائك يدعوني إلى مخالفتك واتباعه، وليس عندي علمٌ بالمحق منكم؛ وإن ألزمتني أن أتبع كلكم فهذا محال، وإن قلت: لا يلزمك أن تتبعني ولا غيري إلا بعد العلم بالمحق منكم، لم يخل العلم بذلك من أن يكون فعلي أو فعل غيري، فإن كان العلم فعلاً لغيري فقد صرت مضطراً، ولا أستوجب عليه حمداً ولا ذماً وإن كان الفعل لي فمن أعظم جهالةً ممن يفعل ما يلزمه الأمر والنهي به، وإن قصر صيره ذلك إلى العطب والهلاك، مع أن هذا القول يؤدي إلى أن أكون أنا المعترض على نفسي، لأنه إنما يلزمني ذلك إذا علمت أني أقدر أن أعلم وألا أعلم.

وحكى لنا أيضاً قال: سئل عندنا رجلٌ من المتحيرين بسجستان فقيل له: ما دليلك على صحة مقالتك? فقال لا دليل ولا حجة. فقيل له وما الذي أحوجك إلى هذا? قال: لأني رأيت الدليل لا يكون إلا من وجوه ثلاثة: إما من طريق النبوة والآيات، فإن كان إنما يثبت من هذه الجهة فلم أشاهد شيئاً من ذلك ثبتت عندي مقالته.
وإما أن يكون ينبت بالكلام والقياس فإن كان إنما يثبت بذلك فقد رأيتني مرةً أخصم ومرةً أخصم، ورأيتني أعجز عن الحجة فأجدها عند غيري، وأتنبه إليها من تلقاء نفسي بعد ذلك، فيصح عندي ما كان باطلاً، ويفسد عندي ما كان صحيحاً؛ فلما كان هذا الوصف على ما وصفت لم يكن لي أن أقضي لشيء بيصحةٍ من هذه الجهة، ولا أقضي على شيء بفسادٍ لعدم الحجة.
وإما أن تكون ثبتت بالأخبار عن الكتب فلم أجد أهل ملةٍ أولى بذلك من غيرهم، ولم أجد إلى تصديق كلهم سبيلاً. وكان تصديق الفرقة الواحدة دون ما سواها جوراً، لأن الفرق متساويةٌ في الدعوى والحجة والذب والنصرة. فقيل له: فلم تدين بدينك هذا الذي أنت على شعاره وحليته، وهديه وهيئته? فقال: لأن له حرمةً ليست لغيره، وذاك أني ولدت فيه، ونشأت عليه، وتشربت حلاوته، وألفت عادة أهله، فكان مثلي كمثل رجلٍ دخل خاناً يستظل فيه ساعةً من نهار والسماء مصحيةٌ، فأدخله صاحب الخان بيتاً من البيوت من غير تخبرٍ ولا معرفةٍ بصلاحه، فبينا هو كذلك إذ نشأت سحابةٌ فمطرت جوداً، ووكف البيت، فنظر إلى البيوت التي في الفندق فرآها أيضاً تكف، ورأى في صحن الدار ردغة، ففكر أن يقيم مكانه ولا ينتقل إلى بيتٍ آخر ويربح الراحة، ولا يلطخ رجليه بالردغة والوحل اللذين في الصحن؛ ومال إلى الصبر في بيته، والمقام على ما هو عليه، وكان هذا مثلي، ولدت ولا عقل لي، ثم أدخلني أبواي في هذا الدين من غير خبرةٍ مني، فلما فتشت عنه رأيت سبيله سبيل غيره، ورأيتني في صبري عليه أعز مني في تركه، إذ كنت لا أدعه وأميل إلى غيره إلا باختيار مني لذلك، وأثرةٍ له عليه؛ ولست أجد له حجةً إلا وأجد لغيره عليه مثلها.
وحكى لنا ابن البقال - وكان من دهاة الناس - قال: قال ابن الهيثم: جمع بيني وبين عثمان بن خالد، فقال لي: أحب أن أناظرك في الإمامة؛ فقلت: إنك لا تناظرني، وإنما تشير علي؛ فقال: ما أفعل ذلك، ولا هذا موضع مشورة، وإنما اجتمعنا للمناظرة؛ فقلت له: فإنا قد أجمعنا على أن أولى الناس بالإمامة أفضلهم، وقد سبقنا القوم الذين يتنازع في فضلهم، وإنما يعرف فضلهم بالنقل والخبر؛ فإن أحببت سلمت لك ما ترويه أنت وأهل مذهبك في صاحبك، وتسلم لي ما أرويه أنا وفرقتي في صاحبي، ثم أناظرك في أي الفضائل أعلى وأشرف؛ قال: لا أريد هذا، وذاك أني أروي مع أصحابي أن صاحبي رجلٌ من المسلمين يصيب ويخطىء، ويعلم ويجهل؛ وأنت تقول في صاحبك: إنه معصومٌ من الخطأ، عالمٌ بما يحتاج إليه. فكيف أرضى هذه الجملة? قلت: فأقبل كل شيء ترويه أنت وأصحابك في صاحبي من حمدٍ أو ذم، وتقبل أنت كل شيء أرويه أنا وأصحابي في صاحبك من حمدٍ أو ذم؛ قال: هذا أقبح من الأول، وذلك أني وأصحابي نروي أن صاحبك مؤمنٌ خيرٌ فاضل، وأنت وأصحابك ترون أن صاحبي كافرٌ منافق؛ فكيف أقبل هذا منك وأناظرك عليه? قال ابن الهيثم: فلم يبق إلا أن أقول: دع قولك وقول أصحابك، واقبل قولي وقول أصحابي؛ قال: ما هو إلا ذاك؛ قلت: هذه مشورة، وليست مناظرة. قال: صدقت.
وحكى لنا الزهيري قال: سال رجلٌ آخر فقال: أتقول إن الله نهانا أن نعبد إلهين? قال: نعم؛ قال: وأمرنا أن نعبد إلهاً واحداً? قال: نعم؛ قال: فالاثنان اللذان نهانا عن عبادتهما معقولان هكذا? وأشار بإصبعيه، قال: نعم؛ قال: فالواحد الذي أمرنا بعبادته معقولٌ هكذا? وأشار بإصبع واحدة؛ قال: لا؛ قال: فقد نهانا عما يعقل وأمرنا بما لا يعقل، وهذا يعلم ما فيه فانظر حسناً.
وحكى لنا الزهيري قال: حدثنا ابن الأخشاد قال: تناظر رجلان في وصف الباري سبحانه، واشتد بينهما الجدال، فتراضيا بأول من يطلع عليهما ويحكم بينهما، فطلع أعرابيٌ، فأجلساه وقصا قصتهما، ووصفا له مذهبيهما؛ فقال الأعرابي لأحدهما - وكان مشبهاً -: أما أنت فتصف صنماً، وقال للثاني: وأما أنت فتصف عدماً، وكلاكما تقولان على الله ما لم تعلما.

وقال لنا الأنصاري أبو كعب: قال ابن الطحان الضرير البصري - وكان يقول بقول جهم -: إذا كان يوم القيامة بدل الله سيئات المؤمنين حسنات، فيندمون على ما قصروا فيه من تناول اللذات، وقضاء الأوطار بالشهوات؛ لأنهم كانوا يتوقعون العقاب، فنالوا الثواب؛ وكان يتلو عند هذا الحديث قول الله عز وجل: "فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ".
وحكى لنا ابن الثلاج قال، قال أبو عثمان الآدمي: إن الجنة لا ساتر فيها، وذلك لأن كل ساترٍ مانع، وكل مانعٍ آفة، وليست في الجنة آفة، ولهذا روي في الحديث: إن الحور يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلةً سوى ما تحت ذلك من اللحم والعظم، كالسلك في الياقوت؛ فقال له قائل: الجنة إذاً أولى من الحمام، إذ قيل: بئس البيت الحمام، يذهب الحياء، ويبدي العورة.
وحكى لنا ابن رباطٍ الكوفي - وكان رئيس الشيعة ببغداد، ولم أر أنطق منه - قال: قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من أين جاء اختلاف الناس في الحديث? فقال: الناس أربعة: رجلٌ منافقٌ كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمداً، فلو علم أنه منافقٌ ما صدق ولا أخذ عنه. ورجلٌ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قولاً أو رآه يفعل فعلاً ثم غاب ونسخ ذلك من قوله أو فعله، فلو علم أنه نسخ ما حدث ولا عمل به ولو علم الناس أنه نسخ ما قبلوا منه ولا أخذوا عنه ورجلٌ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قولاً فوهم فيه، فلو علم أنه وهم ما حدث ولا عمل به. ورجلٌ لم يكذب ولم يهم، وشهد ولم يغب.
قال: وإنما دل بهذا على نفسه، ولهذا قال: كنت إذا سئلت أجبت، وإذا سكت ابتدئت.
وحكى لنا ابن زرعة النصراني قال: قيل للمسيح: ما بال الرجلين يسمعان الحق فيقبله أحدهما ولا يقبله الآخر? فقال: مثل ذلك مثل الراعي الذي يصوت بغنمه فتأتيه هذه الشاة بندائه، ولا تأتيه هذه.
قال أبو سليمان: هذا جوابٌ مبتور، وليس له سنن، ولعل الترجمة قد حافت عليه، والمعنى انحرف عن الغاية؛ وليس يجوز أن يكون حال الإنسان كيف كان، حال الشاة في إجابة الداعي وإبائها، فإن له دواعي وموانع عقليةً وحسية.
فقال الوزير: هذا أيضاً بابٌ قد مضى مستوفىً، ما الذي سمعت اليوم? فقلت: رأيت ابن برمويه في دعوة، وترامى الحديث فقال: رأيت اليوم الوزير شديد العبوس، أهو هكذا أبداً، أم عرض له هذا على بختي? فقال ابن جبلة: لعله كان ذاك لسبب، وإلا فالبشر غالبٌ على وجهه، والبشاشة مألوفةٌ منه. فقال ابن برمويه: ما أحسن ما قال الشاعر:

أخو البشر محمودٌ على حسن بشره

 

ولن يعدم البغضاء من كان عابسا

فقال علي بن محمد - رسول سجستان -: ما أدري ما أنتما فيه، ولكن يقال: ما أرضى الغضبان، ولا استعطف السلطان، ولا ملك الإخوان؛ ولا استلت الشحناء، ولا رفعت البغضاء؛ ولا توقي المحذور، ولا اجتلب السرور؛ بمثل البشر والبر، والهدية والعطية.
وقال الوزير: هات ملحة المجلس.
فكان الجواب: قال أبو همام ذات يوم: لو كان النخل لا يحمل بعضه إلا الرطب، وبعضه إلا البسر، وبعضه إلا الخلال، وكنا متى تناولنا من الشمراخ بسرةً خلق الله مكانها بسرتين، ما كان بذلك بأس.
ثم قال: أستغفر الله، لو كنت تمنيت بدل نواة التمر زبدةً كان أصوب.
وسأل الوزير: هل يقال في النساء رجلة? فكان الجواب: حدثنا أبو سعيد السيرافي قال: كان يقال في عائشة بنت أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما: "كانت رجلة العرب"، وإنما ضاعت هذه الصفة على مر الأيام بغلبة العجمان؛ فقال: إنها والله لكذلك، ولقد سمعت من يقول: كان يقال: لو كان لأبيها ذكرٌ مثلها لما خرج الأمر منه.
قال: هل تحفظ من كلامها شيئاً? فقلت: لها كلامٌ كثيرٌ في الشريعة، والرواية عنها شائعةٌ في الأحكام، ولقد نطقت بعد موت أبيها بما حفظ وأذيع، لكني أحفظ لها ما قالته لما قتل عثمان:  

خرجت والناس مجتمعون، وعليٌ فيهم، فقالت: أقتل أمير المؤمنين عثمان? فالوا: نعم، قالت: أما والله لقد كنتم إلى تسديد الحق وتأكيده أحوج منكم إلى ما نهضتم إليه، من طاعة من خالف عليه؛ ولكن كلما زادكم الله صحةً في دينه، ازددتم تثاقلاً عن نصرته طمعاً في دنياكم، أما والله لهدم النعمة أيسر من بنيانها، وما الزيادة إليكم بالشكر، بأسرع من زوال النعمة عنكم بالكفر؛ أما لئن كان فني أكله، واخترم أجله، إنه لصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وما علمنا خلقاً تزوج ابنتي نبي غيره؛ ولو غير أيديكم قرعت صفاتته لوجد عند تلغلي الحرب متجرداً، ولسيوف النصر متقلداً، ولكنها فتنةٌ قدحت بأيدي الظلمة؛ أما والله لقد حاط الإسلام وأكده، وعضد الدين وأيده؛ ولقد هدم الله به صياصي أهل الشرك، ووقم أركان الكفر؛ لله المصيبة به، ما أفجعها! والفجيعة به ما أوجعها! صدع والله مقتله صفاة الدين، وثلمت مصيبته ذروة الإسلام، تباً لقاتله، أعاذنا الله وإياكم من التلبس بدمه، والرضا بقتله.
فقال الوزير: ما أفصح لسانها، وأشجع جنانها، في ذلك المحفل الذي يتبلبل فيه كل قلقل! ورويت أيضاً أنها قالت: مكارم الأخلاق عشر: صدق الحديث، وصدق البأس، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وبذل المعروف، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، والمكافأة بالصنائع، وقري الضيف، ورأسهن الحياء.
فقال: والله لكأنها نغمات النبي صلى الله عليه وسلم ، ما كان أشهمها، وأعلى نظرها، وأبين جوابها!! وحدثني أن امرأةً تظلمت إلى مسلم بن قتيبة بخراسان، فزبرها، ولم ينظر في قصتها؛ فقالت له: إن أمير المؤمنين بعثك إلى خراسان لتنظر هل تثبت خراسان بلا عاملٍ أم لا؛ فقال لها مسلم: اسكتي ويلك، فظلامتك مسموعة، وحاجتك مقضية.
وقال مسلم: ما وخز قلبي قط شيءٌ مثل قول هذه المرأة، ولقد آليت ألا أستهين بأحدٍ من ذكرٍ أو أنثى.
وشبيهٌ بهذا قول المعلى بن أيوب: رأيت في دار المأمون إنساناً فازدريته، فقلت: لأي شيء تصلح أنت? على غيظٍ مني وتغضب؛ فقال: أنا أصلح لأن يقال لي: هل يصلح مثلك لما أنت فيه أو لا. قال: فوالله ما وقرت كلمته في أذني حتى أظلم علي الجو ونكرت نفسي.
وكان عبد الملك بن مروان إذا كان له خصيٌ وضيءٌ أمر أن يحجب عن نسائه، وقال: هو رجلٌ وإن قطع منه ما قطع، وربما اجتزأت امرأةٌ بمثلها، وللعين حظها.
قال عبد الرحمن بن سعيد القرشي: كان لهشام بن عبد الملك خصيٌ يقال له خالد، وكان وضيئاً تأخذه العين، مديد القامة، فخماً أبيض، فأمر هشامٌ مسلمة بالغدو عليه، فغدا، فقيل: استأذن لأخي أمير المؤمنين عليه، فاستخف وقال كلمةً سمعها مسلمة، فحقدها عليه، فلما دخل مسلمة إلى هشام لم يزل يذاكره شيئاً، ويشير عليه حتى حط عن فرشه وجلسا على البساط ومسلمة في ذلك يرمق الخصي متى يمر به، فلم يلبث أن مر معمماً بعمامة وشي؛ فقال مسلمة: يا أمير المؤمنين، أي فتياننا هذا? قال: غفر الله لك يا أبا سعد، هذا خالد الخصي؛ قال، فقال: يا أمير المؤمنين، لضمةٌ من هذا خيرٌ من مجامعة رجل، فقلق هشامٌ وجعل يتضور حتى قام مسلمة، ثم أمر بالخادم فأخرج من الرصافة، فاتصل ببعض بنيه، فكتب إليه هشام، إني نحيته لما بلغك، فجفاه، فلحق الخادم بالثغر.
وجرى حديث النفس وأنها كيف تعلم الأشياء، فقيل: النفس في الأصل علامة، والعلم صورتها؛ لكنها لما لابست البدن، وصار البدن بها إنساناً، اعترضت حجبٌ بينها وبين صورتها كثيفةٌ ولطيفة، فصارت تخرق الحجب بكل ما استطاعت لتصل إلى ما لها من غيبها، فصارت تعلم الماضي بالاستخبار والتعرف والبحث والمسئلة والتنقير، وتعلم الآتي بالتلقي والتوكف والتبشير والإنذار، وتعلم الحاضر بالتعارف والمشاهدة ومجال الحس؛ وهذه المعلومات كلها زمانية، ولهذا انقسم بين الماضي والآتي والحاضر.

فأما ما هو فوق الزمان فإنها تعلمه بالمصادفة الخارجة من الزمان، العالية على حصر الدهر، وهذه عبارةٌ عن وجدانها، لما لها في غيبها بالحركة اللائقة بها، أعني الحركة التي هي في نوع السكون، وأعني بهذا السكون الذي هو في نوع الحركة؛ ولما فقد الاسم الخاص بهذا المعنى، ولم يعرف في الإخبار والاستخبار إلا ما كان مألوفاً بالزمان، التبست العبارة عنه باعتماد السكون فيما يلحظ منه الحركة، واعتماد الحركة فيما يلحظ منه السكون، فصار هذا الجزء كأنه ناقضٌ ومنقوض، وهذا لجذب محل الحس من نبت العقل، وخصب مراد العقل بكل ما علق بالموجود الحق.
فقال الوزير: ما أعلى نجد هذا الكلام! وما أعمق غوره! وإني لأعذر كل من قابل هذا المسموع بالرد، واعترض على قائله بالتكبر؛ ولعمري إذا تعايت الأشياء بالأسماء والصفات، وعرض العجز عن إبانتها بحقائق الألقاب، حار العقل الإنساني، وحير الفهم الحسي، واستحال المزاج البشري وتهافت التركيب الطيني، وقدر الناظر في هذا الفن، والباحث عن هذا المستكن، أنه حالم، وأن الحلم لا ثمرة له، ولا جدوى منه.
وهذا كله مادام مقيساً إلى الأمور القائمة بشهادة الإحساس؛ فأما إذا صفا الناظر، أعني ناظر العقل من قذى الحس، فإن المطلوب يكون حاضراً أكثر مما يكون غيره ظاهراً مستباناً؛ وليست شهادة العبد كشهادة المولى، ولا نور السهى كنور القمر.
قال: أنشدني أبياتاً غريبةً جزلة، فأنشدت لهدبة العذري:

سآوي إلى خيرٍ فقد فاتني الصبـا

 

وصيح بريعان الشباب فـنـفـرا

أمورٌ وألوانٌ وحالٌ تـقـلـبـت

 

بنا وزمانٌ عرفه قـد تـنـكـرا

أصبنا بما لو أن سلمى أصـابـه

 

تسهل من أركانه مـا تـوعـرا

وإن ننج من أهوال ما خاف قومنا

 

علينا فإن اللـه مـا شـاء يسـرا

وإن غالنا دهرٌ فقد غال قبـلـنـا

 

ملوك بني نصرٍ وكسرى وقيصرا

وذي نيربٍ قد عابني لينـالـنـي

 

فأعيا مداه عن مداي فأقـصـرا

فإن يك دهر نالني فأصـابـنـي

 

بريبٍ فما تشوي الحوادث معشرا

فلست إذا الضراء نابت بـجـبـأ

 

ولا جزعٍ إن كان دهرٌ تـغـيرا

فقيل: ما الجبأ? فقال: الجبان.
قال أبو سعيد: حكى العلماء أن فلاناً جبأٌ، إذا نكل.
فقال: ما أمتن هذا الكلام، وألطف هذا الجدد! وما أبعده من تلفيق الضرورة، وهجنة التكلف، ولولا أن سامعه ربما تطير به، وانكسر عليه.
فكان الجواب: قد مر في الفأل والزجر والطيرة والاعتياف ما إذا تحقق لم يعج على مثل هذا الاستشعار؛ ولعمري إن المذكور والمسموع إذا كان حسناً وجميلاً ومحبوباً ومتمنىً، كان أخف على القلب، وأخلط بالنفس، وأعبث بالروح؛ وكذلك إذا كان ذلك على الضد، فإنه يكون أزوى للوجه، وأكرب للنفس؛ ولكن الأمور في الخيرات والشرور ليست فاشية من الطيرة والعيافة، ولا جارية على هذه الحدود المعروفة، وهي على مقاصدها التي هي غاياتها، ومتوجهاتها التي هي نهاياتها؛ وإنما هذه الأخلاق عارضةٌ للنساء وأشباه النساء، ومن بنينه ضعيفة، ومادته من العقل طفيفة، وعادته الجارية سخيفة؛ وإلا فبأي برهانٍ صح أن الكلام الطيب يجلب المحبوب ويكون علةً له?! وأن اللفظ الخبيث يجلب المكروه ويكون علةً له?! هذا خورٌ في طباع قائله، وتأنثٌ في عنصر مستشعره؛ ولو سلك العلماء والبصراء هذا الطريق في كل حالٍ وفي كل أمرٍ لأدى ذلك إلى فسادٍ عام؛ وآثر ما في هذه القصة أن الإنسان إن أعجبه شيءٌ من هذا لا يعول عليه، وإن ساء منه شيءٌ لا يحط إليه، بل يكون توكله على ربه في مسرته ومساءته، أكثر من تفرده بحوله وقوته، في اختياره وتكرهه، وهذا يحتاج إلى عقلٍ رصين، وهمةٍ صاعدة، وشكيمةٍ شديدة، وليس يوجد هذا عند كل أحد، ولا يصاب مع كل إنسان.
فقال الوزير: قد أخذت المسئلة بحقها، والمستزيد منها ظالم، والزائد عليها متكلف.
وقال أيضاً: أريد أن أسألك عن ابن فارسٍ أبي الفتح - فقد كنت عنده بقرميسين أياماً - وما وضح لك من تقدمه وتأخره في صناعته وبضاعته?  

فكان من الجواب: إنه شيخٌ فيه محاسن ومساوىء، إلا أن الرجحان لما يذم به لا لما يحمد عليه، فمن ذلك أن له خبرة بالتصرف، وهناك أيضاً قسطٌ من العلم بأوائل الهندسة، وتشبه بأصحاب البلاغة، ومذاكرةٌ في المحافل صالحة؛ إلا أن هذا كله مردودٌ بالرعونة والمكر والإيهام والخسة والكذب والغيبة؛ وقد كان قرينه بقرميسين يظن به خيراً، ويلحظه بعينٍ ما؛ فلما سبره ذمه وكره أن يعاجله بالصرف لئلا يحكم على اختياره بالخطأ، وعلى تصرفه بالهوى. وللكبراء وذوي القدرة زلاتٌ فاحشة، وفعلاتٌ موحشة، ولكن ليس لهم عليها معير للخوف منهم؛ فلما تمادى قليلاً وجه ابن وصيفٍ حتى صرفه، ولا يلتفت إليه بلحظة، ومع ذلك يظن أن فقر الدولة إلى نظره كفقر المدنف إلى عافيته.
وله مع طاهر بن محمد بن إبراهيم شرار وقبقبة، وتنديد وشنعة.
وحدثني ابن أحمد أمس أن ابن فارس شارعٌ في أمور خبيثة، وعازمٌ على أشياء قبيحةٍ، ومضربٌ بين أقوامٍ ضمتهم الألفة، واستحكمت بينهم الثقة، وخلصوا حفظةً للدولة، وحرساً للنعمة، وعلموا أن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم، وما أخوفني على إخواننا الذين بهم عذب شربنا، وأمن سربنا كفانا الله فيهم وكفاهم فينا كل مكروه.
فقال: هو أضيق مبعراً، وأقمأ منظرا، وأذل ناصراً من ذاك؛ والله لو نفخت عليه لطار، ولو هممت به لبار.
وأما ما قلت لي أيها الشيخ إنه ينبغي أن تكتب رسائلك إلى الوزير، حتى أقف على مقاصدك فيها، وأستبين براعتك وترتيبك بها؛ فأنا أفعل ذلك في هذه الورقات، ولم أكتب في طول هذه المدة مع هذه الأحوال العجيبة إلا رقعتين ورسالتين؛ فأما الرقعة الواحدة فإنها تضمنت حديث الخادم وما عزم عليه، وقد شافهتك به؛ وأما الأخرى فحوت حديث ابن طاهر وصاحب الرصافة، وقد شافهتك به؛ وأما الأخرى فحوت حديث ابن طاهر وصاحب الرصافة، وقد سمعته مني.

رسالتان كتب بهما المؤلف إلى الوزير

أما الرسالة الأولى :

بسم الله الرحمن الرحيم: اللهم حلني بالتوفيق، وأيدني بالنصرة، واقرن منطقي بالسداد، واجعل لي من الوزير وزير الممالك عقبي فارجةً من الغمم، وخاتمةً موصولةً بالنجاح، فإنك على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.

كنت وصلت إلى مجلس الوزير، وفزت بالشرف منه، وخدمت دولته، وعلاه من صدري بخبيثه، ومن فؤادي بمحيضته، وتصرفت من الحديث بإذنه في شجونه وفنونه، كل ذلك آملاً في جدوى آخذها، وحظوةٍ أحظى بها، وزلفى أميس معها، ومثالةٍ أحسد عليها؛ فتقبل ذلك كله، ووعد عليه خيراً ولم يزل أهله، وانقلبت إلى أهلي مسروراً بوجهٍ مسفر، ومحيا طلق، وطرفٍ عازم، وأملٍ قد سد ما بين أفق العراق إلى صنعاء اليمن، حتى إذا قلت للنفس: هذا معان الوزير ومعمره، وجنابه ومحضره، فانشرحي مستفتحة، وتيمني مقترحة، واطمئني راضيةً مرضية، لا كدرة الشرب، ولا مذعورة السرب، حصلت من ذلك الوعد والضمان، على بعض فعلات الزمان؛ ولا عجب في ذلك من الزمان فهو بمثله مليء، وله فعول. وبقيت محمولاً بيني وبين إذكاره - قرن الله ساعاته بسعاداته، ووصل عز يومه بسعادة غده؛ وغده بامتداد يده - حيران لا أريش ولا أبرى، ثم رفعت ناظري، وسددت خاطري، وفصلت الحساب لي وعلي؛ فوضح العذر المبين، المانع من استزادة المستزيدين، وذلك أني رأيت أعباء الوزارة تؤود سره، وتتعب باله، والمملكة تفزع ولهي عليه، وتلقي بجرانها له بين يديه، والدولة تستمده التدبير الثاقب، والرأي الصائب، سوى أمورٍ في خلاف ذلك لا يحررها رسم راسم، ولا يقررها قسم قاسم، ولا يحويها وهم واهم، ولا يفوز بها سهم مساهم، وهو يخطر في حواشي هذه الأحوال، متأبطاً بواهظ الأثقال، مفتتحاً عويص الأقفا، سامي الطرف، فسيح الصدر، بساماً على العلات، غير مكترثٍ بهاك وهات، يتلقى ما أعيا من ذلك باللي، وما أشكل بالإيضاح، وما عسر بالتدبير، وما فسد بالإصلاح، وما أرق بالعتق، وما خرق بالرتق، وما خفي بالتكشيف، وما بدا بالتصريف، وما أود بالتثقيف، وما لبس بالتعريف، حتى أجمع على هواه قاصيها ودانيها، وجرى على مراده خافيها وباديها، واستجاب لأمره أبيها ومنقادها، وأتلف بلفظه نادرها ومعتادها؛ فلما تيقنت ذلك كله وقتلته خبراً، أمسكت عن إذكاره - نفس الله مدته - سالف عهده، ومتقدم وعده، عالماً بأن أسرهما مرعيٌ عنده في صدر الكرم، ومكتوبٌ لديه في صحيفة المجد، وثابتٌ قبله في ديوان الحسنى.
ولكن كان ذلك الامتنان على رغمٍ مني، لأني قتلت في أثنائه بين جنبي قلباً مغرور الرجاء، ومنزور العزاء، على عوارض لم تسنح في خلدي، ولم أعقد على شيء منها يدي.
فالحمد لله الذي جعل معاذي إلى الوزير الكريم، البر الرحيم، والمنة لله الذي جعلني من عفاة جوده، وناشئة عرفه، ووارد عده، وقادحي زنده، ومقتبسي نوره، ومصطلي ناره، وحاملي نعمته، وطالبي خدمته، وجعل خاصتي وخالصتي من بينهم رواية مناقبه باللسان الأبين، ونشر فضائله بالثناء الأحسن، وذكر آلائه باللفظ الأفصح، والاحتجاج لسداد آرائه بالمعنى الأوضح؛ فلا زال الوزير - وزير الممالك - ممدوحاً في أطوار الأرض على ألسنة الأدباء والحكماء، وفي نوادي الرؤساء والعظماء، ما آب آئب، وغاب غائب، بمنه ولطفه.
قد ناديت الوزير حياً سامعاً، وخيراً جامعاً، وهززت منه صارماً قاطعاً، وشهاباً ساطعاً، واستسقيت من كرمه سحاباً هاطلاً، ونقاخاً سائلاً، وأسأله أن يجنبني مرارة الخيبة، وحسرة الإخفاق، وعذاب التسويف، فقد تلطفت بالسحر الحلال، والعذب الزلال، جهد المقل المحتال، وهو أولى بمجده، في تدبير عبده، إن شاء الله تعالى.
هذا آخر الرسالة الأولى.
وحضر وصولها إليه بهرام - لعنه الله - وتكلم بما يشبه نذاالته وخشيته ونتن نيته، فما كنت آمنه؛ وما أشد إشفاقي على هذا الوزير الخطير من شؤم ناصية بهرام، وغل صدره، وقلة نصيحته، ولؤم طبعه، وخبث أصله، وسقوط فرعه، ودمامة منظره، ولآمة مخبره؛ حرس الله العباد من شره، وطهر البلاد من عره وضره.
وأما الرسالة الثانية :

فهي التي كانت في هذه الأيام بعد استئذاني إياه في المخاطبة بالكاف، حتى يجري الكلام على سنن الاسترسال، ولا يعثر في طريق الكتابة بما يزاحم عليه من اللفظ واللفظ، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم. أيها الوزير، جعل الله أقدار دهرك جاريةً على تحكم آمالك، ووصل توفيقه بمبالغ مرادك في أقوالك وأفعالك، ومكنك من نواصي أعدائك، وثبت أواخي دولتك على ما في نفوس أوليائك.

يجب على كل من آتاه الله رأياً ثاقباً، ونصحاً حاضراً، وتنبهاً نافعاً، أن يخدمك متحرياً لرسوخ دعائم المملكة بسياستك وريادتك، قاضياً بذلك حق الله عليه في تقويتك وحياطتك. وإني أرى على بابك جماعةً ليست بالكثيرة - ولعلها دون العشرة - يؤثرون لقاءك والوصول إليك لما تجن صدورهم من النصائح النافعة، والبلاغات المجدية، والدلالات المفيدة، ويرون أنهم إذا أهلوا لذلك فقد قضوا حقك، وأدوا ما وجب عليهم من حرمتك، وبلغوا بذلك مرادهم من تفضلك واصطناعك، وتقديمك وتكريمك؛ والحجاب قد حال بينهم وبينك، ولكلٍ منهم وسيلةٌ شافعةٌ، وخدمةٌ للخيرات جامعةٌ؛ منهم - وهو أهل الوفاء - ذوو كفايةٍ وأمانةٍ، ونباهةٍ ولباقة؛ ومنهم من يصلح للعمل الجليل، ولرتق الفتق العظيم؛ ومنهم من يمتع إذا نادم، ويشكر إذا اصطنع، ويبذل المجهود إذا رفع؛ ومنهم من ينظم الدار إذا مدح، ويضحك الثغر إذا مزح؛ ومنهم من قعد به الدهر لسنه العالية، وجلابيبه البالية، فهو موضع الأجر المذخور، وناطقٌ بالشكر المنظوم والمنثور؛ ومنهم طائفةٌ أخرى قد عكفوا في بيوتهم على ما يعينهم من أحوال أنفسهم، في تزجية عيشهم، وعمارة آخرتهم، وهم مع ذلك من وراء خصاصةٍ مرة، ومؤنٍ غليظة، وحاجاتٍ متوالية؛ ولهم العلم والحكمة والبيان والتجربة، ولو وثقوا بأنهم إذا عرضوا أنفسهم عليك، وجهزوا ما معهم من الأدب والفضل إليك حظوا منك، واعتزوا بك، لحضروا بابك، وجشموا المشقة إليك؛ لكن اليأس قد غلب عليهم، وضعفت منتهم، وعكس أملهم، ورأوا أن سف التراب، أخف من الوقوف على الأبواب، إذا دنوا منها دفعوا عنها؛ فلو لحظت هؤلاء كلهم بفضلك، وأدنيتهم بسعة ذرعك وكرم خيمك، وأصغيت إلى مقالتهم بسمعك، وقابلتهم بملء عينك، كان في ذلك بقاءٌ للنعمة عليك، وصيتٌ فاشٍ بذكرك، وثوابٌ مؤجلٌ في صحيفتك، وثناءٌ معجلٌ عند قريبك وبعيدك؛ والأيام معروفةٌ بالتقلب، والليالي ماخضةٌ بما يتعجب منه ذو اللب، والمجدود من جد في جده، أعني من كان جده في الدنيا موصولاً بحظه من الآخرة، ولأن يوكل العاقل بالاعتبار بغيره، خيرٌ من أن يوكل غيره بالاعتبار به.
أيها الوزير، اصطناع الرجال صناعةٌ قائمةٌ برأسها، قل من يفي بربها، أو يتأتى لها، أو يعرف حلاوتها، وهي غير الكتابة التي تتعلق بالبلاغة والحساب.
وسمعت ابن سورين يقولك آخر من شاهدنا ممن عرف الاصطناع، واستحلى الصنائع، وارتاح للذكر الطيب، واهتز للمديح، وطرب على نغمة السائل، واغتنم خلة المحتاج، وانتهب الكرم انتهاباً، والتهب في عشق الثناء التهاباً، أبو محمد المهلبي، فإنه قدم قوماً ونوه بهم، ونبه على فضلهم وأحوج الناظرين في أمر الملك إليهم، وإلى كفايتهم، منهم أبو الفضل العباس بن الحسين، ومنهم ابن معروف القاضي، ومنهم أبو عبد الله اليفرني، ومنهم أبو إسحاق الصابىء، وابو الخطاب الصابىء، ومنهم أحمد الطويل، ومنهم أبو العلاء صاعد، ومنهم أبو أحمد ابن الهيثم، وابن حفصٍ صاحب الديوان، وفلان وفلان، هؤلاء إلى غير هؤلاء، كأبي تمام الزينبي، وأبي بكر الزهري، وابن قريعة، وأبي حامد المروروذي، وأبي عبد الله البصري، وأبي سعيد السيرافي، وأبي محمد الفارسي، وابن درستويه، وابن البقال، والسري، ومن لا يحصى كثرةً من التجار والعدول.
وقال لي ابن سورين: كان أبو محمد يطرب على اصطناع الرجال كما يطرب سامع الغناء على الشبابير، ويرتاح كما يرتاح مدير الكأس على العشائر. وقال عنه: إنه قال: والله لأكونن في دولة الديلم، أول من يذكر، إن فاتني أن كنت في دولة بني العباس آخر من يذكر.

فلولا أنك - أدام الله دولتك - أذنت لي أن أكتب إليك كل ما هجس في النفس، وطلع به الرأي مما فيه مردٌ على ما أنت فيه من هذا الثقل الباهظ، وتنبيهٌ على ما تباشره بكاهلك الضخم، ولم يكن خطري يبلغ مواجهتك بلفظٍ يثقل، وإشارةٍ تغلظ، وكنايةٍ تخدش، لكنك والله يأخذ بيدك، ويقرن الصنع الجميل بظاهرك وباطنك - قد رخصت لي في ذلك، وخصصتني به من بين غاشية بابك، وخدم دولتك، فلذلك أقول ما أقول معتمداً على حسن تقبلك، وجميل تكلفك، ومنتظر تفضلك؛ وليس في أبواب السياسة شيءٌ أجدى وأنفع، وأنفى للفساد وأقمع، من الاعتبار الموقظ للنفس، الباعث على أخذ الحزم، وتجريد العزم؛ فإن الوكال والهوينا قلما يفضيان بصاحبهما إلى درك مأمول، ونيل مراد، وغصابة متمني. وقد قال رجلٌ كبير الحكمة، معروف الحنكة: المعتبر كثير، والمعتبر قليل. وصدق هذا الرجل الصالح، وهو الحسن البصري: لو اعتبر من تأخر بمن تقدم، لم يكن من يتحسر في الناس ويندم، ولكن الله بنى هذه الدار على أن يكون أهلها بين يقظةٍ ونوم، وبين فرحٍ وترح، وبين حيطةٍ وورطة، وبين حزمٍ وغفلة، وبين نزاعٍ وسلوة، لكن الآخذ بالحزم - وإن جرى عليه مكروه - أعذر عند نفسه وعند كل من كان في مسكه، من الملقي بيده، والمتدلي بغروره، والساعي في ثبوره؛ وما وهب الله العقل لأحدٍ إلا وقد عرضه للنجاة، ولا حلاه بالعلم إلا وقد دعاه إلى العمل بشرائطه، ولا هداه الطريقين أعني الغي والرشد إلا ليزحف إلى أحدهما بحسن الاختيار.
هذا بالأمس أبو الفضل العباس بن الحسين الوزير - وهو في وزارته وبسطه أمره ونهيه - قيل له ذات يوم: هذا التركي ساسنكر تفيأ بظله، واعتصم بحبله، واستسق بسجله، وارتو من سؤره، ولا يبلغه عنك، ما يوحشه منك، ويجفيه عليك. وقد قيل:

اسجد لقرد السوء في زمانه

وإذا لم تقدر على قطع يدٍ جائرةٍ، فقبلها متهمةً منجدةً غائرة. فلم يفعل، حتى وجد أعداؤه طريقاً إليه، فسلكوه وأوفعوه.
ثم قيل له في الوزارة الثانية: قد ذقت مرارة النكبة، وتحرقت بنار الشماتة، وتأرقت على فرطات العجز والفسالة، وقد كان من ذلك كله ما كان، ودار لك بما تمنيت الزمان؛ فانظر إلى أين تضع الآن قدمك، وبأي شيء تدير لسانك وقلمك، فإن مخلصك من ورطتك بالمرصاد، وقد وعدت من نفسك إن أعاد الله يدك إلى البسطة، ورد حالك إلى السرور والغبطة، أنك تجمل المعاملة، وتنسى المقابلة، وتلقى وليك وعدوك بالإحسان إلى هذا، والكف عن هذا، حتى يتساويا بنظرك، ويتعبدا لك بتفضلك.
فكان من جوابه ما دل على عتوه وثباته، لأنه قال: أما سمعتم الله تعالى حيث يقول: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون"? وقال لي لاقومسي - ولم يعلم ما في فحوى هذا الكلام -: ما ذاك? قلت: فحواه ولو عادوا إلى ما نهوا عنه لعدنا إلى مقابلتهم بما استحقوا عليه.
وصدق ما قال الله عز وجل، ما لبث ذلك الإنسان بعد هذا الكلام إلا قليلاً حتى أورده ولم يصدره، وأعثره ولم ينعشه، وسلم إلى عدوه حتى استل روحه من بين جنبيه، شافياً به ومشتفياً منه، وكان عاقبة أمره خسراً، ولو اتقى الله لكان آخر أمره يسراً. والله المستعان.
وهذا بعده محمد بن بقية طغى وبغى، واقتحم ظلمات والعسف، وطار بجناح اللهو والعزف، والشرب والقصف، ومل نعمة الله عليه، وضل بين إمهال الله وإملائه، فحاق به ما ذهبت عليه نفسه وماله، وخرب بيته، وافتضح أهله، وكيف كان يسلم أم كيف كان ينجو وقد قتل ابن السراج بلا ذنب، والجرجرائث بلا حجة، وضرب ابن معروفٍ بالسياط وأبا القاسم - أخاً لأبي محمد القاضي - وشهره على جملٍ في الجانب الشرقي?! والتشفي حلو العلانية، ولكنه مر العاقبة، وكأن الحفيظة إنما خلقت لتعتقد، والحقد إنما وجد ليبلغ به ما يسر الشيطان.
وكأن العفو حرام، والكظم محظور، والمكافأة مأمورٌ بها.
وهذا بالأمس علي بن محمد ذو الكفايتين، اغتر بشبابه، ولها عن الحزم والأخذ به فيما كان أولى به، وظن أن كفايته تحفظه، ونسبه من أبيه يكنفه، وبراءته تحتج له، وذنوبه الصغيرة تغتفر؛ لبلائه المذكور، وغنائه المشهور؛ ومشى فعثر، وراب فخثر، والأول يقول:

من سابق الدهر كبا كبـوةً

 

لم يستقلها آخـر الـدهـر

فاخط مع الدهر إذا ما خطا

 

واجر مع الدهر كما يجري

وقال لي الخليل - وكان لطيف المحل عنده، لما كان يرى من اختصاص أبيه له، ولما يظهر من فضله عنده -: قلت له يوماً: يا هذا، في أي شيء أنت?! وبأي شيء تعلل?! وقد شحذت المواسي، وحددت الأنياب، وفتلت المرائر، ونصبت الفخاخ، والعيون محدقةٌ نحو القطيعة، والأعناق صورٌ إلى الفظيعة، وأنت لاهٍ ساهٍ عما يراد بك بعد؛ يسبيك هذا المزرفن وهذا المرخي وهذا المعرض، وهذا الحليق، وهذا النتيف، وهذا المعقرب الصدغ، وهذا المصفوف الطرة، وبالكاس والطاس، والغناء والقصف، والناي والعود، والصبوح والغبوق، والشراب المروق العتيق؛ والله ما أدري ما أصنع، إن سكت عنك كمدت، وإن نصحتك خفت منك؛ ونعوذ بالله من اشتباه الرأي، واشتباك الأمر، وقلة الاحتراس، والإعراض عما يجري من أفواه الناس.
يا هذا، سوء الاستمساك خيرٌ من حسن الصرعة، وتلقي الأمر بالحزم والشهامة أولى من استدباره بالحسرة والندامة، ومن لا تجربة له يقتبس ممن له تجربة، فإذا نقب الخف دمي الأظل. فقال: قد فرغ الله مما هو كائن، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون.
قال: قلت له: ما أطلعك الله على كائنات الأمور، ولا أعلمك بعواقب الأحوال، وإنما عرفك حظك بعد أن وفر عقلك، وأحضرك استطاعتك؛ وأوضح لقلبك ما عليك ولك، حتى يستشف ويستكشف، وملكك النواصي حتى تمن وترسل، وما طالبك إلا بعد أن أزاح علتك، ولا عاقبك إلا بعد أن أنذرك وأنظرك، وبمثل هذا تطالب أنت من هو دونك من خدمك وحشمك، وأوليائك وأعدائك، وهذا الذي أعذلك عليه هو الذي به تعذل غيرك وتراه ضالاً في مسلكه، متعرضاً لمهلكه.
فقال: أيظلمني ولي نعمتي صراحاً بلا ذنب، ويجتاحني بلا جريمة؛ ويثلم دولته بلا حجة? قلت: الله يقيك ويكفيك، نراك بلا ذنب، ونجدك بريئاً من كل عيب، وغيرك لا يراك بهذه العين، ولا يحكم لك بهذا الحكم؛ فإن كنت ترى فرصةً فانتهزها، وإن كنت تحلم بغصةٍ فاحترز منها؛ فأبواب النجاة مفتحة، وطرق الأمان متوجهة، والأخذ بالاحتياط واجب، قد قرب الشاخص من هذا المكان، والقيامة قد قامت بالإرجاف، والطيرة قشعريرة النفس، كما أن القشعريرة طيرة البدن، والاسترسال كلال الحس، والفأل لسان الزمان، وعنوان الحدثان، ولا يقع في الأفواه إلا ما يوجب الحذر، ويبعث على الرأي والنظر، واستقراء الأثر والخبر.
قال: أما أنا بعد التوكل على الله فقد استظهرت بمحمد بن إبراهيم صاحب نيسابور، وبفخر الدولة وهو بهمذان على ثلاثة أيام، وبعز الدولة وهو بمدينة السلام؛ ومتى حرب حارب، وراب رائب، أويت إلى واحدٍ من هؤلاء.
قال: قلت: ها هنا ما هو أسهل من هذا وإن كان أهول، وأنجى وإن كان أشجى، وأقرب وإن كان أعزب.
قال: ما هو? فرج عني واهدني.
قلت: لما يدخل هذا الوارد الدار، ويدنو من طرف البساط، تندر رأسه عن كاهله، وتلقي شلوه في مزبلة، فإن الهيبة تقع، والنائرة تخبو، والعجب يغمر، والظنة تزول، والصدر يشتفي، والاعتذار ينتفي؛ ويكتب إلى موفده بأن الرأي أوجب هذا الفعل، لأنه غلب على الظن باليقين، ودفعت الشبهة بالجلاء، واستخلصت النور من الظلام؛ ولأن تبعد ساقطاً من خدمك، يسوء ظني به من جهتك، ويقدح في طاعتي لك، ويضرم في نار التهمة بيني وبينك؛ خيرٌ لي في نصيحتي لدولتك، وخيرٌ لك في بقائي على أمرك ونهيك، من أن يلتاث ضميري في سياسة دولتك، وتحول نيتي عما عهدت من القيام بحق جندك ورعيتك، وحفظ قاصيتك ودانيتك.
فقال: هذا أعظم والله المستعان.
وليتني أصبت بهذا الرأي امرأً علا عقله، فيقبلهه ببيان، أو يرده ببرهان، فكان يقوى أو يضعف، ويقدم عليه أو يحجم عنه، فإن المبرم أقوى من السحيل، والسمين أحمد من النحيل؛ ثم كان ما كان. وكان مشايخ العراق والجبل يرون ما حديث بذلك الفتى أمراً فرياً، وظلماً عبقرياً.
وحدثني القومسي أنه لم يتقدم بذلك أمر، ولا سبق به إذن، ولكن لما حدث ما حدث، وقع عنه إمساك، وسترت الكراهية والإنكار.
وللأمور أيها الوزير ظهورٌ وبطون، وهوادٍ وأعجاز، وأوائل وأواخر؛ وليس على الإنسان أن يدرك النجاح في العواقب، وإنما عليه أن يتحرز في المبادىء؛ ولهذا قال القائل:

لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره

 

وليس عليهم أن تتم عواقبه

وقال سليمان بن عبد الملك أو غيره من أهل بيته: ما لمت نفسي على فوت أمرٍ بدأته بحزم، ولا حمدتها على درك أمرٍ بدأته بعجز.
ها هنا ناسٌ إذا تلاقوا ينفث بعضهم إلى بعض بما هو صريح وكناية، ويحتاج الأمر إلى ابن يوسف، ويستملي الخبيث من الجالس فوق مشرعة مكان الروايا.
وليس يصح كل ما يقال فيروى على وجهه، وليس يخفى أيضاً كل ما يجري فيمسك عنه؛ والأمور مرجة، والصدور حرجة، والاحتراس واجب، والنصح مقبول، والرأي مشترك، والثقة بالله من اللوازم على من عرفه وآمن به، وليس من الله عز وجل بدٌ على كل حال.
والله أسأل الدفاع عنك، والوقاية لك، في مصبحك وممساك، وفي مبيتك ومقيلك، وشهادتك وغيبتك، ولذوي مليحاً في هذا الباب نفخٌ وإيقاد، وتناقلٌ وائتمار، ومسئلةٌ وجواب.
وعند الشيخ أبي الوفاء من هذا الحديث ومن غيره مما يتصل به من ناحية ابن اليزيدي ما يجب أن يصاخ له بالأذن الواعية، ويقابل بالنفس الراعية، ويداوى بالدواء الناجع، وتحسم مادته من الأصل، فإن الفساد إذا زال حصل مكانه الصلاح. وليس بعد المرض إلا الإفراق، ولا بعد النزاع إلا الإغراق.
إلى ها هنا انتهى نفسي بالنصح وإن كانت شفقتي تتجاوزه، وحرصي يستعلي عليه، لكني خادم، وكما يجب علي أن أخدم بنيات الصدر، فينبغي أن ألزم الحد بحسن الأدب.
والله إني لوادٌ مخلصٌ، وعبدٌ طائع، ورجائي اليوم أقوى من رجائي أمس، وأملي غداً أبسط من أملي اليوم؛ أشكو إليك الأرق بالليل فكرا فيما يقال، وتحفظا مما ينال، وتوهما لما لا يكون إن كان، وشر العدا، الذين يتمنون لأولي نعمتهم الردى، ويبيتون النكائث، ويكسرون الأجفان، ويتخازرون بالأعين، ويتجاهرون بالأذى إذا تلاقوا، ويتهامسون بالألسن إذا تدانوا، والله يصرع جدودهم، ويضرع خدودهم بين يديك؛ وهذه الرقة مني والحفاوة، وهذه الرعشة والقلق، وهذا التقبع والتفزع كله، لأني ما رأيت مثلك، ولا شاهدت شبهك، كرم خيم، ولين عريكة، وجود بنان، وحضور بشر، وتهلل وجه، وحسن وعد، وقرب إنجاز، وبذل مال، وحب حكمةٍ.
قد شاهدت ناساً في السفر والحضر، صغاراً وكباراً وأوساطاً، فما شاهدت من يدين بالمجد، ويتحلى بالجود، ويرتدي بالعفو، ويتأزر بالحلم؛ ويعطي بالجزاف، ويفرح بالأضياف، ويصل الإسعاف بالإسعاف، والإتحاف بالإتحاف، غيرك.
والله إنك لتهب الدرهم والدينار وكأنك غضبان عليهما، وتطعم الصادر والوارد كأن الله قد استخلفك على رزقهما؛ ثم تتجاوز الذهب والفضة إلى الثياب العزيزة، والخلع النفيسة، والخيل العتاق، والمراكب الثقال، والغلمان والجواري، حتى الكتب والدفاتر وما يضن به كل جودا؛ وما هذا من سجايا البشر إلا أن يكون فاعل هذا نبياً صادقاً، وولياً لله مجتبنى، فإن الله قد أمن هذا الصنف من الفقر، ورفع من قلوبهم عز المال، وهون عليهم الإفراج عن كل منفس، ياقوتاً كان أو دراً، ذهباً كان أو فضة؛ كفاك الله عين الحاسدين، ووقاك كيد المفسدين، الذين أنعمت عليهم بالأمس على رءوس الأشهاد، وكانوا كحصى فجعلتهم كالأطواد؛ وهم يكفرون أياديك، ويوالون أعاديك، ويتمنون لك ما أرجو أن الله يعصبه برءوسهم، وينزله على أرواحهم، ويذيقهم وبال أمرهم، ويجعلهم عبرةً لكل من يراهم ويسمع بهم، كان الله لك ومعك، وحافظك وناصرك.
أطلت الحديث تلذذاَ بمواجهتك، ووصلته خدمةً لدولتك، وكررته توقعاً لحسن موقعه عندك، وأعدته وأبديته طلباً للمكانة في نفسك.
وأرجو إن شاء الله ألا أحرم هبة من ريحك، ونسيماً من سحرك، وخيرةً بنظرك. لم أوفق في هذه الكلمة الأخيرة، والله ما يمر بي يأسٌ من إنعامك فأقويه بالرجاء، ولا يعتريني وهمٌ في الخيبة لديك فأتلافاه بالأمل. إنما قصارى أمنيتي إذا حكمت أن أعطى فيك سؤلي بالبقاء المديد، والأمر الرشيد، والعدو الصريع، والولي الرفيع، والدولة المستتبة، والأحوال المستحبة، والآمال المبلوغة، والأماني المدركة، مع الأمر والنهي النافذين، بين أهل الخافقين؛ والله يبلغني ذلك بطوله ومنه.

وآخر ما أقول: أيها الوزير: مر بالصدقات، فإنها مجلبة السلامات والكرامات، مدفعةٌ للمكاره والآفات، واهجر الشراب، وأدم النظر في المصحف، وافزع إلى الله في الاستخارة، وإلى الثقات بالاستشارة؛ ولا تبخل على نفسك برأي غيرك، وإن كان خاملاً في نفسك، قليلاً في عينك، فإن الرأي كالدرة التي ربما وجدت في الطريق وفي المزبلة، وقل من فزع إلى الله بالتوكل عليه، وإلى الصديق بالإسعاد منه، إلا أراه الله النجاح في مسئلته، والقضاء لحاجته؛ والسلام.
فقال لي الوزير بعد ما قرأ الرسالة: يا أبا مزيد، بيضتها، وعجبت من تشقيق القول فيها، ومن لطف إيرادك لها، ومن بلة ريقك بها.
والله يحقق ما نأمله له، ونرجوه لأنفسنا، وينحسر عنا هذا الضباب الذي ركد علينا، ويزول الغيم الذي استعرض في أمرنا، وعلى الله توكلنا، "ومن يتوكل على الله فهو حسبه".

رسالة في شكوى البؤس ورجاء المعونة

وجه بها المؤلف إلى الشيخ أبي الوفاء المهندس الذي كتب له المؤلف هذا الكتاب. وختم كتابه بها: أيها الشيخ، سلمك الله بالصنع الجميل، وحقق لك وفيك وبك غاية المأمول.
هذا آخر الحديث، وختمته بالرسالتين، ويتقرر جميع ما جرى ودار على وجهه، إلا ما لممت به شعثاً، وزينت به لفظاً، وزيدت منقوصاً، ولم أظلم معنىً بالتحريف، ولا ملت فيه إلى التحوير؛ وأرجو أن يبيض وجهي عندك بالرضا عني، فقد كاد وعدك في عنايتك يأتي علي، وأنا أسال الله أن يحفظ عنايتك علي، كسابق اهتمامك بأمري، حتى أملك بهما ما وعدتنيه من تكرمة هذا الوزير الذي قد أشبع كل جائع، وكسا كل عارٍ، وتألف كل شاردٍ، وأحسن إلى كل مسيء، ونوه بكل خامل، ونفق كل هزيل، وأعز كل ذليل؛ ولم يبق في هذه الجماعة على فقره وبؤسه، ومره ويأسه، غيري؛ مع خدمتي السالفة والآنفة، وبذلي كل مجهودٍ، ونسخي كل عويص، وقيامي بكل صعب؛ والأمور مقدرة، والحظوظ أقسام، والكدح لا يأتي بغير ما في اللوح.

فصل

خلصني أيها الرجل من التكفف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مؤونة الغداء والعشاء.
إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع، وباقلي درب الحاجب، وسذاب درب الرواسين? إلى متى التأدم بالخبز والزيتون? قد والله بح الحلق، وتغير الخلق؛ الله الله في أمري؛ اجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صدٍ، أغثني فإنني ملهوف، شهرني فإنني غفل، حلني فإنني عاطل.
قد أذلني السفر من بلدٍ إلى بلد، وخذلني الوقوف على بابٍ باب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب مني.
أغرك مسكويه حين قال لك: قد لقيت أبا حيان، وقد أخرجته مع صاحب البريد إلى قرميسين?! والله ثم وحياتك التي هي حياتي، ما انقلبت من ذلك بنفقة شهر، والله نظر لي بالعود، فإن الأراجيف اتصلت، والأرض اقشعرت، والنفوس استوحشت، وتشبه كل ثعلبٍ بأسد، وفتل كل إنسانٍ لعدوه حبلاً من مسد.
أيها الكريم، ارحم؛ والله ما يكفيني ما يصل إلي في كل شهرٍ من هذا الرز المقتر الذي يرجع بعد التقتير والتيسير إلى أربعين درهماً مع هذه المئونة الغليظة، والسفر الشاق، والأبواب المحجبة، والوجوه المقطبة، والأيدي المسمرة، والنفوس الضيقة، والأخلاق الدنيئة.
أيها السيد، أقصر تأميلي، ارع ذمام الملح بيني وبينك، وتذكر العهد في صحبتي، طالب نفسك بما يقطع حجتي، دعني من التعليل الذي لا مرد له، والتسويف الذي لا آخر معه.
ذكر الوزير أمري، وكرر على أذنه ذكري، وأمل عليه سورةً من شكري، وابعثه على الإحسان إلي.
افتح عليه باباً يغري الراغب في اصطناع المعروف لا يستغني عن المرغب، والفاعل للخير لا يستوحش من الباعث عليه.
أنفق جاهك فإنه بحمد الله عريض، وإذا جدت بالمال فجد أيضاً بالجاه، فإنهما أخوان.

سرحني رسولاً إلى صاحب البطائح أو إلى أبي السؤل الكردي أو إلى غيره ممن هو في الجبال، هذا إن لم تؤهلني برسالةٍ إلى سعدٍ المعالمي بأطراف الشام، وإلى البصرة، فإني أبلغ في تحمل ما أحمل، وأداء ما أؤدي؛ وتزيين ما أزين، حداً أملك به الحمد، وأعرف فيه بالنصيحة وأستوفي فيه على الغاية. دع هذا، ودع لي ألف درهم، فإني اتخذ رأس مال، وأشارك بقال المحلة في درب الحاجب، ولا أقل من ذا، تقدم إلى كسج البقال حتى يستعين بي لأبيع الدفاتر. قلت: الوزير مشغول. فما أصنع به إذا فرغ، فالشاعر يقول:

تناط بك الآمال ما اتصل الشغل

قد والله نسيت صدر هذا البيت، وما بال غيري ينوله ويموله مع شغله وأحرم أنا?! أنا كما قال الشاعر:

وبرقٌ أضاء الأرض شرقاً ومغرباً

 

وموضع رجلي منه أسود مظلـم

والله إن الوزير مع أشغاله المتصلة، وأثقاله الباهظة، وفكره المفضوض ورأيه المشترك، لكريمٌ ماجد، ومفضلٌ محسن، يرعى القليل من الحرمة، ويعطي الجزيل من النعمة، ويحافظ على اليسير من الذمام، ويتقبل مذاهب الكرام، ويتلذذ بالثناء إذا سمع، ويتعرض للشكر من كل منتجع، ويزرع الخير، ويحصد الأجر، ويواظب على كسب المجد، ويثابر على اجتلاب الحمد، وينخدع للسائل، ويتهلل في وجه الآمل، ولا يتبوأ من الفضائل إلا في ذراها، رحيم بكل غادٍ ورائح، ولكل صالحٍ وطالح.
وأنا الجار القديم، والعبد الشاكر، والصاحب المخبور، ولكنك مقبلٌ كالمعرض، ومقدمٌ كالمؤخر، وموقدٌ كالمخمد، تدنيني إلى حظي بشمالك، وتجذبني عن نيله بيمينك، وتغذيني بوعدٍ كالعسل، وتعشيني بيأس كالحنظل، ومن عتبه علي مظنة عيبك، فليس ينبغي أن يكون تقصيره على تيقنه بنصرك.
نعم؛ عتبت فأوجعت، وعرفت البراءة فهلا نفعت? والله ما أدري ما أقول، إن شكرتك على ظاهرك الصحيح لذعتك لباطنك السقيم، وإن حمدتك على أولك الجميل، أفسدت لآخرك الذي ليس بجميل.
قد أطلت، ولكن ما شفيت، ونهلت وعللت، ولكن ما رويت.
وآخر ما أقول: افعل ما ترى، واصنع ما تستحسن، وابلغ ما تهوى، فليس والله منك بد، ولا عنك غنىً.
والصبر عليك أهون من الصبر عنك، لأن الصبر عنك مقرونٌ باليأس، والصبر عليك ربما يؤدي إلى رفع هذا الوسواس، والسلام لأهل السلام.

انتهى الكتاب