الأحد، 26 أبريل 2015

الحبكة والعقدة المعنى والنوع والخصائص والتمثيل


- العقدة أو الحبكة :

الحبكة وأشكال الحكاية فـي القصـة القصيرة جداً

 

 

د. يوسف حطيني

1 خصوصية الحبكة
فـي القصة القصيرة جداً:

تتناول هذه الدراسة وجهاً من أوجه الحكائية التي تعدّ عنصراً لازماً غير كافٍ، من عناصر القصة القصيرة جداً، إذ ستتناول بالتنظير والتحليل الحبكة وعلاقاتها وأجزاءها، وأشكال الحكاية في هذا الفن. وتعني الحبكة الطريقة التي يتم بها سرد الأحداث، انطلاقاً من علاقة السببية التي تربط المقدّمة بما بعدها، والنتيجة بالسبب، والأحداث اللاحقة بالأحداث السابقة، وكل ذلك بالنهاية. وتنبع خصوصية الحبكة في القصة القصيرة جداً من انعكاس التكثيف الذي تشترطه على حجم النص؛ إذ تبدو كلُّ علاقةٍ لا وظيفةَ لها، ناشزةً بشكل واضح للعيان.

على أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أنَّ العلاقة الحبكوية التي تنتظم الحوادث المختلفة يجب أن تعبّر عن وظيفتها السببية بشكل مباشر، لأنّ الشكل هو خيار المبدع، فهو الذي يختار التعليل المباشر، أو غير المباشر، لبنائها.

وقد تنبه النقاد منذ أقدم العصور إلى أهمية الحبكة إذ تنبه أرسطو إلى أهميتها منذ عهد بعيد، وقدمها على عناصر القص جميعاً حين أكد أنّ «أكثر تلك العناصر أهميةً هو بناء الأحداث (الحبكة(1))» فيما سمّى طودوروف نوعَيْ السببية التي تفترضها الحبكة: بالسببية الصريحة وغير الصريحة(2).

ويمكن لنا أن نشير ها هنا إلى القاص مصطفى الغتيري الذي يلجأ غير مرة إلى بناء الحبكة في القصة القصيرة جداً بناء سببياً تعليلياً، مستثمراً الصيغ اللغوية المختلفة التي يتيحها نظام الجملة العربي، على نحو ما نجد في قصة «وثيقة(3)»، وقصة «المتشائل(4)»، وقصة «أسرة» التي تستعين بالحوار، لتقدّم حكاية تحفر بكثير من الأناة وجدان القارئ، وتقدّم شخصية الأب في أنصع صورة للفداء. فالأسرة التي تقدمها القصة تشعر كلّها بالسعادة، ولكل من أفرادها أسبابه، والمفارقة المدهشة تبنى على تسويغ سعادة الأب الحزين في أعماقه حتى نقيّ العظم. تقول القصة:
«قال الابن :
- أنا سعيد ، لأن أبي يشتري لي كل ما أحتاجه.
- قالت البنت :
- أنا سعيدة لأن أبي يسمح لي بالذهاب أينما شئت.
- قالت الزوجة :
- أنا سعيدة لأن زوجي أبدا لا يرفض لي طلباً.
ـ قال الزوج ، وقد طفرت من عينيه دمعة :
- حتما ، يجب أن أكون سعيدا لأن كل من حولي سعداء(5)».

وثمة شكل آخر من أشكال السببية التي تنظم حبكة الحوادث، يعتمد على صياغة لغوية، غير تعليلية في وظيفتها الدلالية الأساسية، ولكنها تفيد من موقعها الحدثي والسردي ، لتعلّل ارتباط الأحداث بعضها ببعض، وسيرها نحو النهاية. ومن ذلك قصة «رؤى العتمة» لمهند العزب» الذي يضع الجملة الاسمية في سياق تسويغي:
تبتسم الأم عندما تشاهد طفلها الكفيف، نائماً بين إخوته، فكلهم الآن ـ مغمضي الأعين ـ يرون الأحلام(6)».

وثمة قصص قصيرة جداً تحيل حبكتها على سببية ضمنية، لا يدعمها السياق اللغوي، ولكنها تتضح عن طريق متابعة دلالات الوحدات الحدثية الصغرى التي يقدّمها السرد. ويمكن هنا أن نستشهد بقصة «يائس» لعبد الإله الخديري التي تعلل انكفاء البطل عن صحوة موته:
«استفاق بعد سبات، بالجانب الأيمن حوائج قديمة، سلة ماتت فاكهتها، بيسراه ما زالت نظارته مضببة تحمل ندوب الشهقة الأخيرة، على الرفوف فواتير أخرى تنشد الأداء المستعجل. توسّد ذراعه اليسرى، وعاد للوفاة(7)».

وثمّة في السرد عموماً نوعان من الحبكة: بسيطة ومعقّدة، فالحبكة البسيطة هي «ذلك الفعل الواحد المتواصل (...) والذي يتغير فيه خط البطل دون حدوث (تحول) أو (تعرف(8)). أما الحبكة المعقدة فهي التي يتغير فيها خط البطل عن طريق (التحول) أو (التعرف)، وإما بهما معاً(9)».

وإذا كان نوعا الحبكة حاضرين بشكل عام في الرواية، بسبب تعدد الشخصيات، وتعدد الأبطال، فإن القصة القصيرة جدّاً تفترض ـ في رأينا ـ الاعتماد على الحبكة المعقّدة، دون غيرها. ولا نقصد هنا بتعقيد الحبكة اعتمادها على عُقَد متعددة، بل على ضرورة تغيّر الخط الذي يسلكه البطل نتيجة التعرف أو التحوّل حسب المصطلح الأرسطي، بعد مواجهته حوادثَ أو ظروفاً أو أقوالاً، تقوده إلى موقف جديد.

في قصة بعنوان «الماس والفحم» يقدّم القاص أسامة حويّج العمر حبكته القصصية من خلال شخصيتين بشريتين لا تتغيران، ولكن نقاشهما يُحدث التغيير في شخصيات تنتمي إلى عالم الجمادات:
«تجادل شابان ، الأول ثري و الثاني فقير حول مستقبل كلّ واحد منهما . فوضع الثّري قطعة ماس كبيرة على الطاولة و قال بحماسة: هذا هو مستقبلي. و وضع الفقير قطعة فحم حجري و قال بيأس: هذا هو مستقبلي . ثم خرج الاثنان كلٌّ في طريق ، لكن الماسة شعرتْ بالحنين إلى أصلها … فاقتربت من قطعة الفحم والتصقت بها بقوة !(10)».

وينبغي التنبيه هنا على أنّ اعتماد العقدة البسيطة (حيث لا تغير لموقف البطل) يحوّل القصة القصيرة جداً إلى حالة سردية، ، وقد وقع كثير من كتاب القصة القصيرة جداً، ومن بينهم منظّرون لها، في مأزق (الحالة القصصية) وقدّموا في بعض قصصهم مادة حكائية هلامية، ينقصها التشويق، وتعوزها لحظة التنوير، ومن ذلك ما نقرؤه عند حميد ركاطة، أحد المبدعين والنقاد المتحمسين لهذا الفن، في قصة «بروميتيوس»، إذ يستثمر طاقات اللغة الفعلية والمجازية لتقديم سرد لا يرقى إلى حالة الحكائية التي تتطلبها القصة القصيرة جداً، بلا هوادة:
«الشاعر يكتب فوق المكتب
يكتب بروميتيوس في وحدته مثلاً
يدخّن القنّب المغربي،
يشرب قهوته،
ويفكّر في شيء ما:
قصيدة مثلاً أو سرطان(11)».

ومن أمثلة (الحالة القصصية) أيضاً ما نلمسه عند محمد غازي التدمري في عدد قليل من نصوصه (إذ قلما يفلت من يده زمام الحبكة). ونشير هنا بالتحديد إلى نص دون عنوان ينتمي إلى سلسلة حكائية عنوانها «أميرة المشاوير»، يستند فيه القاص إلى المجاز، على حساب صناعة الحبكة التي تسهم، من خلال شكلها، في إعطاء القص القصير جداً دلالته النهائية:
«كم كنت أتمنى لو أنساك في ليلة الاستباحة.
كم أحبّ أن أذكرك في ثمالة الكأس الأخيرة.
أيُّ طقس هذا للفجيعة
يجعل الشياطين تراقص مرايا الندم(12)».

2 عناصر الحبكة
تُكوّن ثلاثية (البداية ـ العقدة ـ النهاية) العناصر الأساسية التي تشكّل الحبكة القصصية. وعلى الرغم من وضوح التقسيم، نظرياً وتطبيقياً، في الرواية والقصة، فإنه يبدو مثيراً في القصة القصيرة جداً، خاصة عندما تميل القصة إلى التكثيف الشديد، وتصل إلى حد بالغ من القصر (عدد قليل جداً من الكلمات)، إذ يغدو جسد القص غير طيّع أمام التقسيم المنهجي.

وتكتسب البداية أهميتها الكبرى، كما تؤكد الدراسات النقدية المختلفة، من كونها أول ما يصادف القارئ، وفي حالة القصة القصيرة جداً تغدو أول ما يخطف بصر القارئ، وهذه هي مهمة القاص الصعبة، إذ عليه، بجملة واحدة في معظم الأحيان، أن يأخذ بيد القارئ، دون إرباك ودون تنفير، إلى الجمل التي تليها.
وثمة أشكال مختلفة للبداية القصصية يمكن أن يستثمرها القاص، وقد أشار إلى عدد منها الأستاذ د. جميل حمداوي في المبحث الخامس من مقاربته الميكروسردية، فذكرَ البدايات التأملية والشاعرية والحُلمية والسببية والزمانية والمكانية والحدثية والوصفية والشخوصية والحوارية والحكائية(13).

والواقع أن هناك أشكالاً لا تحصى للبدايات التي يقترحها المبدعون، وإن كنت أرى أن الأشكال التي ذكرها الحمداوي تثير بعض الملاحظات التي تدور بشكل أساسي حول تطويع هذه الأشكال للتكثيف الذي تقتضيه القصة القصيرة جداً، خاصة في البدايات الوصفية والتقريرية والإنشائية. وإن التعامل مع هذا النوع من البدايات يتم من منطق الضرورة لا من منطق الاستعراض؛ إذ ليس ثمة وصف يفيد القصة القصيرة جداً إلا إذا كان شديد التكثيف، وذكيّ التوظيف في تطوير السرد، وإذا كان أي خلل من هذا النوع يمكن أن يختفي على مساحة السرد في الرواية مثلاً، فإنه في القصة القصيرة جداً يظهر ناشزاً للقارئ دون عناء.

فإذا لجأ القاص مثلاً إلى التفصيل غير الموظّف في بدايته القصصية، فإن ذلك سيعوّق الحكاية، وسيربك الحبكة، ويمكن أن نمثّل بقصة «الجامعة» للقاص ناصر سالم الجاسم؛ إذ يقدّم لنا في البداية بانوراما وصفية تقود إلى مجموعة من الشخصيات، راصداً تلك الشخصيات في حالاتها المختلفة دون أن يعنى بتطوير حكاية تنبثق من علاقتها بعضها ببعض، ولعل ما أسهم في عرقلة الحكاية اعتماده في بداية القصة على الجملة الإسمية التي يمكن أن تقدم وصفاً جيداً لقصة قصيرة:
«السور رفيع، الباب موصد، النوافذ علوية زجاجية عاكسة، موظفو الأمن عند بوابة الخروج ببذلاتهم الأنيقة يطابقون الأسماء في البطاقات المحددة ويطلون برؤوسهم داخل السيارات من خلال نوافذ السائقين وينظرون إلى الأجساد الجالسة والحلي الفارة من سواد العباءات السوداء والحقائب الجلدية الموضوعة فوق كل حجر، والرجال في المواقف المكشوفة للشمس ينتظرون ويدخنون ويقرؤون الصحف اليومية بدون شهوة، كنت منتظراً معهم، وأسأل نفسي: كم جميلة بداخل هذا المبنى؟ كم عاشقة خلف هذا السور؟ كم خائنة في قاعة المحاضرات تناقش بارتياح؟ كم حبلى واقفة في طابور الكافيتريا تمد يديها أمام بطنها تخشى الإجهاض؟ وكم..؟ وكم..؟(14)».

وإذا قدّم القاص بداية فضائية، فيها بعض التزيّد، فإن ذلك سيجعل الحبكة مترهلة، على نحو ما نجد في قصة «حنين» لفاطمة بن محمود التي تقول:
«في الغرفة المجاورة ينام طفلهما بسلام.
الآن هما... في الفراش.
في عمق الظلام يتعانقان في صمت.
تتحسس رقبته بكف ناعمة، ويضغط على خصرها برقّة، ويلتحمان...
بعيون مغمضة... كل واحد يترك جسده للآخر
في منتهى السكون أنفاس حارة وآهات كلّ منهما يتخيّل حبيباً أضاعه في رحلة العمر(15)».

والآن.. ليجرّب القارئ أن يقرأ النص مرتين، على أن يحذف في المرة الثانية السطرين الأول والثاني، وليكتشف من ثم أنه لا فرق بين الدلالتين، وأن وجود السطرين، لا فائدة ترجى منه، سوى في زيادة مساحة الفضاء الطباعي.
بالمقابل، فإنّ قصة «خنـز» لعبد الله المتقي التي سنورد بدايتها فقط، تُنوّع في صياغة الفضاء تنوعاً شديداً وتؤثثه بالمساحة والصوت والرائحة، لتبني بداية ناجحة وسهمية، يستطيع البطل أن يتحرّك خلالها:
«الغرفة شاحبة... الصمت مقلق... الرائحة خانزة.. كان متكوّماً فوق السرير، ...(16)»

كما تمكن الإشارة إلى قصة «بوح» لأحمد جاسم الحسين، للتدليل على أن البداية الفضائية يمكن أن تصبغ القصة كلها بطابعها، تقول القصة:
«في حديقة تشرين التي تمتد من ساحة الأمويين إلى قصر تشرين جلسنا على مقعد خشبي قديم، كانت الأشجار كثيرة، والبشر قليلين، وقاسيون شامخاً، بدأت بالبوح لها، وهو ما أحاوله منذ سنتين في حديقة كلية الآداب الضيقة(17)».

أمّا فيما يتعلّق بالعقدة التي تمثّل ذروة الصراع بين البطل والبطل المضاد، أو البطل والظرف المضاد، فإنّ القصة القصيرة جداً تنأى عن العقدة الكبرى التي تتشعب إلى مجموعة من العقد الصغيرة، وتتمحور حول عقدة واحدة، تتجه الحكاية نحوها مباشرة، لتنتج من ثمّ حلاً يوصل إلى النهاية.

وقد تكون العقدة في القصة القصيرة جداً ناتجة عن صراع سياسي أو اجتماعي أو فكري، يرسم القاص خيوطه، ويوجه حوافزه الصغرى نحو التأزّم، على نحو ما نجد في قصة «اللاعب» لفاطمة بن محمود التي تنجح في صياغة عقدة تفرزها حالة إنسانية بالغة الحساسية، لطفل مشلول، وهي عقدة أوجدها منظر رفاقه الذين يلعبون كرة القدم، وأزّمتها التفاصيل الصغيرة التي تعزّز ضرورة النهاية، فكان الحل أن يحلّق بخياله في الملعب، ويسجّل أروع الأهداف قبل أن يعود إلى واقعه: إلى كرسيه. تقول فاطمة:
«يجلس وحده في مكان مرتفع، يتحسس ببصره رجليه الممدودتين أمامه ثم يصوّب البصر هناك حيث رفاقه يتقاذفون الكرة بينهم بمرح، وبسرعة وجد نفسه بينهم يفتكّ الكرة من هذا، ويراوغ ذاك، يسجّل هدفاً بحركة بارعة من رجليه، يصفّق قلبه طرباً، ويعود إلى بيته راكضاً، ليُفتح له الباب ولا يصبر، فيقفز على سور المنزل، تعترضه أمه حانقة من تصرفاته الرعناء، يرشوها بقبلة سريعة، ويفتح باب المطبخ بركلة من قدمه.
لا يزال جالساً في مكانه... رفاقه في هرجهم وهو وحيد يتحسس ببصره رجليه الضامرتين، ثم يستعين كعادته بالعكازين، ويقفل عائداً إلى بيته(18)».

في قصة «نام.. أصبح وزيراً» يوظّف عز الدين الماعزي التفاصيل توظيفاً ناجحاً، ليرسم لنا حدود الصراع بين البطل، وبين نفسه، بين أحلامه وبين واقعه، إنه ببساطة نام، فقاده النوم إلى حلمه، إلى الصراع الحقيقي الذي صنع عقدة القصة، حيث أصبح وزيراً يحسب له الناس ألف حساب ويغازل السكرتيرات، وكان لا بد من حلّ سريع، يأتي بضربة واحدة: يستيقظ من النوم مرة أخرى، ويعود إلى البداية:
«نام، حلم، أصبح وزيراً بيده الحل والعقد، موكب السيارات، زغاريد، ورود، نخل مستنبت طول الطريق، في الساعة التاسعة صباحاً يشرب القهوة، التاسعة والنصف يضع ربطة العنق، العاشرة يمتطي سيارة الدوبل في العاشرة والربع يصل إلى...
يحملون له المحفظة، يفتحون له الأبواب، العاشرة والنصف ينقلون ابتسامته الموزعة على الشاشة، وهو يشعل الغليون، تحيط به السكرتيرات، يغازلهن، الحادية عشرة والربع يوقّع الأوراق، ويطوي الملفات، الثانية عشرة يخرج وهو غاضب، يسب الموظفين والعاملات.. ينزل، يصعد المصعد، يقف، ينتظر، ينزل يمشي، الثانية عشرة وخمسون دقيقة يسقط في درج العمارة..
يفيق، يجد نفسه تحت السرير في الغرفة، يحكّ ما تبقى من الكدمة التي انتفخت فوق عينه(19)».

أمّا فيما يتعلّق بالنهايات القصصية، فإنّ القصة القصيرة جداً تفترض نهاية حاسمة سريعة، من خلال عبارة نهائية تحقق التنوير، دون اختصار مُخلٍّ، ودون تطويل مملٍّ. وقد أشار الأستاذ جميل الحمداوي إلى مجموعة من الأنماط التركيبية التي تكوّن النهاية/ الخاتمة، فذكرَ الخاتمة الكلاسيكية والشاعرية والتراجيدية والسعيدة والمفتوحة والمغلقة والحوارية والحدثية وخاتمة التلقي والزمانية والمكانية والوصفية والمضمّنة والصامتة والصادمة والساخرة والخاتمة الخرجة والملغّزة(20). ومن الممكن أن تضاف أنواع أخرى من الخواتيم.

غير أنّ الأهم فيما يبدو لي هو ضرورة التأكيد على تنويع الخواتيم في المجموعات القصصية، حتى لا يشعر القارئ بالنمطية التي تولّد الملل. ويُذكر هنا أن كتّاب القصة القصيرة جداً تعاملوا مع أشكال مختلفة من النهايات، فاستثمروا النهاية المغلقة، والنهاية المفتوحة، وغيرها مما سبق ذكره، ونشير هنا إلى قصة «رقصتان» للمصطفى كليتي، وهي قصة ذات نهاية مغلقة، تحيل على رموز ذات دلالات وارفة:
«على فنن شجرة السرو، تعرّشت حمامتان كل واحدة منهما هدلت هدلتين، وصعدت من أحشائها زفرتين...
أزّ رصاص مارق أزّاً، فإذا بهما ترقصان رقصتين مخضوضبتين بالدماء(21)».

كما تمكن الإشارة إلى قصة «زعامة» لعبد الإله الخديري التي تقدّم نهاية مفتوحة على أكثر من احتمال، إذ أن الحدث النهائي لا يقدّم إجابة نهائية عن نتيجة معركة منتظرة بين القائد وتابعه:
«هزّ سيفه لأعلى وخطب فيهم بحماس وقوة: ألا تاتون إلا بنصر وغنيمة.
هجموا كالقطيع على الدير المجاور. اكتفى هو بالنظر منتشياً إلى أكتافهم المتزاحمة، ووقع حوافر دوابهم الجامحة. لم تخلف سوى رجلٍ واحدٍ(22) من أتباعه: شاهراً سيفه للمنازلة... تساءل السارد والكاتب حول من سيتنازل منهما للآخر عن الزعامة(23)».
وإذا كانت القصة السابقة تجعل القارئ أمام حدث غير محسوم، فإنّ قصة أخرى بعنوان «من أجل شبر أرض» لآمنة برواضي، لا تكتفي بالحسم، بل تجعله متجدداً، وقابلاً للتوليد، وكأن النهاية هي نهايات لا نهائية متكررة. تقول آمنة في القصة المشار إليها:
«قبل ثلاثة أيام رحل الأب عن هذه الدنيا.
في الأمس، اقتسم الإخوة الأرض.
في الصباح شوهد يعبر الأرض جيئة وذهاباً.
ويضرب يده بالأخرى.
يعاود الكرة مرة أخرى.
ثم أخرى....
تمتم.. لا بد أنهم أخذوا شبر أرض زيادة.
همّ بإزاحة الحجارة..
خرّ بدون حراك من سمّ أفعى ووجهه في التراب.

وهكذا بعدما رحل عن هذه الدنيا اجتمع الإخوة من جديد ليقتسموا فيما بينهم أرضه(24)».

غير أنّ ما يعدّ عيباً من عيوب إنشاء الخاتمة زيادة تعبير ما، أو قول مأثور ما، أو عبارة مسجوعة ما، بعد تقديم النهاية، فنحن أمام قصة قصيرة جداً، وليس ثمة متسّع لنوافل الأقوال. ولعلنا نشير هنا إلى القاص جمال الدين الخضيري الذي يبدو مولعاً باللغة، ولو على حساب الحكاية. وللتمثيل فإننا نستحضر قصة «القناع» التي يبدو سطراها الأخيران صياغة لمقولة مسجّعة، ويمكن حذفهما دون ان تتأثر بنية القص:
«هو: أودّ أن أشتري قناعاً يا حبيبتي.
هي: لمَ، أتنوي أن تمثّل في مسرح؟
هو: لا، لكن حتى يبدو وجهي محايداً أنا أغازلك، و...
هيَ: أتضع قناعاً على قناع؟!
صفقت في وجهه الباب، وهي تقول:
ـ في الوقت الذي كنت أنتظر أن تتجرّد من أصباغك، تتمترس في قلاعك(25)».

أشكـال الحكـايـة
فـي القصة القصيرة جداً:

إذا كان منظرو القصة القصيرة جداً قد اتفقوا جميعاً على ضرورة وجود الحكاية في هذا الفن، حتى لا تخرج من جنس القصّ عموماً، فإنهم اتفقوا أيضاً على أن شكل التعامل مع الحكاية هو خيار فني للمبدع، يميّزه من غيره، ويعطيه خصوصيته وفرادته. وقد نوّع القاصون في أشكال تقديم الحكاية تنوّعاً كبيراً غير أنّ أكثر الأشكال استثماراً هو الشكل الكلاسيكي (التصاعدي ـ السهمي)، والشكل الدائري، والشكل القائم على التوازي.

في الشكل الكلاسيكي، تتصاعد الوحدات الحدثية الصغرى، جملة بعد أخرى، لتصل إلى النهاية دون توقف، ويفترض في هذه الحالة أن يسير زمن السرد سيراً تعاقبياً، معتمداً على تحديد زمني مباشر أو غير مباشر، ومن ذلك قصة «انقراض» لعائشة خلف الكعبي التي نوردها في السياق التالي:
«في أول يوم مدرسي، رسم عمر في كرّاسة الرسم فراشة تحطُّ فوق زهرة.
بعد أسبوع، رسم الفراشة تقبع عالياً على غصن شجرة.
بعد شهر.. رسم الفراشة تحلّق بعيداً في السماء.
وفي نهاية العام.. اختفت الفراشة من لوحة عمر(26)».

ثمة إذاً في القصة السابقة مرتكزات زمنية معلنة، هي: أول يوم دراسي، بعد أسبوع، بعد شهر، في نهاية العام، وقد تتغيّر المرتكزات في قصة أخرى، قد تطول كثيراً، وقد تقصر كثيراً أيضاً، وربما تختفي وتبقى الصياغة اللغوية التي تدلّ على التعاقب، على نحو ما نجد في قصة «غرقى» لعبد الله المتقي التي تقدّم حدثاً تعاقبياً خيالياً رائقاً في حلة حكائية قشيبة:
«المعلم يطل من النافذة، والتلاميذ يكتبون على الدفتر ملخص «كان وأخواتها».
خلسة يخرج الطفل أقلامه الملونة، ويرسم بحراً وقارباً مكتظاً بالهاربين، ثم ريثما يستغفله المعلم، يلكمه على قفاه، وكاد القِسم يموت من الضحك.
غضب البحر
انقلب القارب.
و..
غرق المعلم
والأطفال(27)».

أما في الشكل الدائري، فإن ثمة شيئاً ما يدوّر الحكاية، الحدث أو اللغة أو الصورة أو أي شيء آخر ينتج حدثياً أو بنائياً شيئاً يشبه ما تسميه البلاغة الشعرية العربية (ردّ العجز على الصدر)، حيث تنطلق البداية مرة أخرى على شكل نهاية. ولعلّنا نشير ها هنا إلى قصة «برتقالة» لمصطفى لغتيري التي تنتهج بنية دائرية، تعتمد على بنية سردية سابقة، وتعيد إنتاج بدايتها في نهاية تصنع مفارقة لفظية وحدثية وفانتاستيكية في آن. يقول لغتيري في قصة برتقالة:
«صباحاً فتحت باب الثلاجة... مددت يدي داخلها... تناولت برتقالة.... متلذذاً شرعت أقشرها... فجأة أمام ذهولي، تحولت البرتقالة إلى سيارة أجرة صغيرة حمراء... شيئاً فشيئاً استحالت دهشتي إعجاباً بالسيارة...
بتؤدة فتحت بابها الخلفي... انبثق منها الكاتب متأبطاً أوراقه... مددت يدي نحوه... دون تردد سلمني إحداها... متلهفا قرأتها... إنها قصة سيارة أجرة، تحولت إلى برتقالة(28)».

وفي قصة «مداهمة» لجمعة الفاخري تدور الحكاية ذاتها، على نحو فلسفي، مكررة الحدث الأوّل، محدثة مفارقة تقوم على افتقار الصانع في لحظةٍ حاسمةٍ إلى ما ينتجه، في ساعة الحاجة الماسة إليه، وهي ثيمة مكررة في الثقافة العربية، فهي تحكي حكاية صانع التوابيت الذي لم يجد تابوتاً يستر موته:
«كل مرة كان صانع التوابيت يدّخر تابوتاً له.. فكلما داهمه الكسل تنازل عن تابوته للراحل الجديد..
وحينما داهمه الموت فجأة... كانوا يجدُّون في البحث عن تابوت له...!(29)»
وفي قصة «انتظار» لمحمد غازي التدمري يدوّر الكاتب حكايته، ويدوّر كل شيء معها، الحدث واللغة والبنية السردية، حتى لتغدو ثاني الجملتين الكبيرتين اللتين قدمتا القصة إعادة إنتاج للأولى، وتنجح القصة في تقديم دلالتها من خلال هذا الشكل، فتحكي معاناة الشعب العراقي، دون شعارات كبيرة، أو بهرجات لغوية مألوفة:
«في شارع الرشيد ثمة طفل كان ينتظرُ رفيقَ الأمس الذي كان يلعب معه.

من أمامه مرّت جنازة قيل : إنها لطفل كان بالأمس يلعب في شارع الرشيد(30)».

وعلى الرغم من وضوح البنية الدائرية للحكاية في القصة السابقة، فإنها تحيل أيضاً على شكل آخر من أشكال تقديم الحكاية، وهو التوازي القائم على وضع جملتين، أو أكثر، بشكل متقابل، لإنتاج دلالة القصة، وهذا معروف أيضاً في البلاغة الشعرية العربية بالتوازن اللفظي، أي أن التدمري دمج بين شكلين من أشكال تقديم الحكاية.

ويمكن لنا هنا أن نشير إلى قصة تمثّل اعتماد شكل التوازي لإنتاج الحكاية، من خلال قصة «حبّ» لخالد مزياني؛ إذ يتم استثمار التركيب اللغوي بكفاءة، ليقدّم من خلال العبارات المتوازية بناءً تقاطبياً محكماً:
«الزملاء.. الأصدقاء والأهل يباركون الحب بين العاشقين:
أرداه عزفاً منفرداً ووردة حمراء.
أرادته فيلا. سيارة فخمة وليالي حمراء.
جمعهما الحبّ..
فرقتهما الأحلام(31)».

ولا بد لنا من التأكيد أخيراً، وباختصار، على أن القصة القصيرة جداً استثمرت الأساطير والخرافات والأحلام والكوابيس والرسائل والمذكرات والمشهد الحواري، وغير ذلك في تقديم حكايتها، وقدّم بعض المبدعين متتاليات حكائية تتكوّن من مجموعة من القصص القصيرة جداً، وهذا ما يمكن أن يكون مثار دراسة قادمة.

 

وهي مجموعة من الحوادث مرتبطة زمنيّاً، ومعيار الحبكة الممتازة هو وحدتها، ولفهم الحبكة يمكن للقارئ أن يسأل نفسه الأسئلة التّالية : -

- ما الصراع الذي تدور حوله الحبكة ؟ أهو داخلي أم خارجي؟

- ما أهم الحوادث التي تشكّل الحبكة ؟ وهل الحوادث مرتّبة على نسق تاريخي أم نفسي؟

- ما التغيّرات الحاصلة بين بداية الحبكة ونهايتها؟ وهل هي مقنعة أم مفتعلة؟

- هل الحبكة متماسكة.

- هل يمكن شرح الحبكة بالاعتماد على عناصرها من عرض وحدث صاعد وأزمة، وحدث نازل وخاتمة .

هناك تعليقان (2):