الثلاثاء، 7 أبريل 2015

الحب عند القدماء

الحب أشعاره لا تنتهي منذ القدم فكل من وقع فيه نوعان :
الصريح : امرؤ القيس وغيره نجد الوجد والمغامرة من أجل المتعة واللذة بلا ألم قلبي أو نفسي بل راحة وسعادة في الفوز بالمغامرة .
أما أصحاب الغزل العفيف : فهم في غيبوبة ذهنية ونفسية وعقلية عن الواقع يصل بهم الحب والوجد والعشق والهيام للجنون ثم الموت سواء موتا عن واقع الحياة ومخالطة الناس وتحقيق أي نفع وبين الموت المرضي الهزال والأصفرار والنحول ثم الجفاف والموت ، وهؤلاء هم وصمة في جبين الإنسانية التي خلقها الله حتى لو كان هذا الحب في الله فقد وصل للحلول والاتحاد الحلجي وهو ما ليس بصورة صحيحة للحب الإلهي المرسوم في مخالطة الناس والبشر وتحمل الأذى والشر منهم وفي دعوة الأنبياء وفي قصص القرآن ، أما التوهان عن البشر في حب أنثى فهذا شرك بالله لأنه جعلها إله تعبد يهيم في عالمها بعيدا عن الناس ، وليس هذا نقصا من حق المرأة التي تسلب عقل الرجل بل العيب في الرجل الذي يرفعها لمكانة الإله ، المرأة مخلوق جميل خلقه الله لآدم ليخرجه من الحزن ويسليه ويسر عند النظر له ويذيل الوحشة منه ، لا أن يجعلها كل ما في الأمر فمن خلقها أجمل ، وخلق لكل إنسان ما يسره من جمال يتعلق به مثل خيل سليمان التي شغلته عن ذكر الله ، ومثل الإبل انظر كيف خلقت ؟ والسماء والنجوم والأرض والزهور والفاكهة والهوايات وغيرها من الأمور التي يتعلق بها الإنسان حتى تصرفه عن الفراغ العقلي في التفكير في صورة غمرأة أحبته ، ولو خدع بذلك فلماذا يأكل ويشرب ويعيش فليمت إذن ، ولكن أغلب المرض النفسي أنه لا يريد علاجا ويترك نفسه ليصعب على محبوبه حتى يرق له وما وجدنا أمراة ذابت من العشق في رجل ولا كتبت الهيام والوجد وغيرها ، ولكن من اندمج مع محبوب فهو بسبب الشفقة أو الرغبة لديها أو ضعف الشخصية في الانجرار  لدهاء الرجل مع رغبتها ، وما زليخة يوسف ببعيد سجن يوسف سنين ما أخرجته من السجن وما تعذبت ببعده ولا ماتت بل عاشرت وخلفت وأنجبت وعزمت وضحكت ، الأمر كله أن شاعر الحب العفيف يريد الضياع لأنه فشل في التوافق مع علاقات متنوعة من البشر ، لو تعددت علاقات هؤلاء الشعراء بعيدا عن جو البداوة وعادات إخفاء المرأة وتدليلها وغيرها ، ما حدث ذلك ، ولعلنا نرى في قرى مصر المرأة تخرج ثديها لترضع في الشارع ، وما جذبت رجل ولا معتوه يتغذل فيها ، والمعتوه الهائم على وجهه يتلصص ويتخفى وهو مريض نفسي نريد علاجه بالتوافق مع الصحاب والأقران ، فمن اعتزل أصحابه في الجامعة ليحب على إنقراد وترك الصحاب فهذا لديه خلل فيه منذ الصغر في البعد والعزلة ، وليس معنى الكلام الاختلاط والفحش والعري ، أبدا ولكن هو إخراج العاشق من العزلة والتلصص والوحدة والهروب والابتعاد عن الناس أشعار الغزل قريبه من الحب الإلهي كلاهما في وادي والحياة التي يريدها الله هي الامتزاج والتحمل والعمل والحياة وليس الحبس في محراب الترهات في عين ونهد ومشية وكلام ولمسة المرأة وأثرها ولو انشغل بالعمل والتقدم وإصلاح الحياة والاهتمام بمساعدة الآخر لصرف وقته في الفائدة التي يدفعنا الله لها وهي صلاح الدنيا لصلاح الآخرة .
حدثني صاحبنا أبا بكر (...) أن يوسف بن هارون الشاعر المعروف بالرمادي كان مجتازاً عند باب العطارين بقرطبة، وهذا الموضع كان مجتمع النساء، فرأى جارية أخذت بمجامع قلبه وتخلل حبها جميع أعضائه، فانصرف عن طريق الجامع وجعل يتبعها وهي ناهضة نحو القنطرة(...)، نظرت منه منفرداً عن الناس لا همة له غيرها فانصرفت إليه فقالت له: مالك تمشي ورائي؟ فأخبرها بعظيم بليته بها. فقالت له: دع عنك هذا ولا تطلب فضيحتي فلا مطمع لك في النية ولا إلى ما ترغبه سبيل فقال: إني أقنع بالنظر. فقالت: ذلك مباح لك، فقال لها: يا سيدتي: أحرة أم مملوكة؟ قالت: مملوكة. فقال لها: ما اسمك؟ قالت: خلوة. قال: ولمن أنت؟ فقالت له: علمك والله بما في السماء السابعة أقرب إليك مما سألت عنه، فدع المحال. فقال لها: يا سيدتي، وأين أراك بعد هذا؟ قالت: حيث رأيتني اليوم في مثل تلك الساعة من كل جمعة. فقالت له: إما أن تنهض أنت وإما أنا، فنهضت نحو القنطرة ولم يمكنه أتباعها، يقول: فوالله لقد لازمت باب العطارين والربض من ذلك الوقت إلى الآن فما وقعت لها على خبر ولا أدري أسماء لحستها أم أرض بلعتها، وإن في قلبي منها لأحر من الجمر. وهي خلوة التي يتغزل بها في أشعاره، ثم وقع بعد ذلك على خبرها بعد رحيله في سببها إلى سرقسطة
كتاب طوق الحمامة أو طوق الحمامة في الألفة والألاف هو كتاب لابن حزم الأندلسي وصف بأنه أدق ما كتب العرب في دراسة الحب ومظاهره وأسبابه. ترجم الكتاب إلى العديد من اللغات العالمية.
واسم الكتاب كاملاً طوق الحمامة في الألفة والأُلاف. ويحتوي الكتاب على مجموعة من أخبار وأشعار وقصص المحبين، ويتناول الكتاب بالبحث والدَّرس عاطفة الحب الإنسانية على قاعدة تعتمد على شيء من التحليل النفسي من خلال الملاحظة والتجربة. فيعالج ابن حزم في أسلوب قصصي هذه العاطفة من منظور إنساني تحليلي. والكتاب يُعد عملاً فريدًا في بابه.
يشمل الكتاب نصائح وفوائد كبيرة يوزعها في أبواب، فمثلا في باب من أحب من نظرة واحدة يحذر من الوقوع في الحب في الوهلة الأولى ويسرد قصة أحد اصحابه:
   
طوق الحمامة
كثيراً ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة. وهو ينقسم قسمين، فالقسم الواحد مخالف للذي قبل هذا، وهو أن يعشق المرء صورة لا يعلم من هي ولا يدري لها اسما ولا مستقراً، وقد عرض هذا لغير واحد
   
طوق الحمامة
.
   
طوق الحمامة

   
طوق الحمامة
.قسم ابن حزم كتابه طوق الحمامة إلى ثلاثين بابا بدء بباب علامات الحب وقد ذكر منها إدمان النظر والإقبال بالحديث عن المحبوب والإسراع بالسير إلى المكان الذي يكون فيه المحبوب والاضطراب عند رؤية من يحب فجأة وحب الحديث عن المحبوب بالإضافة إلى الوحدة والأنس بالانفراد والسهر.
باب ذكر من أحب في النوم وذكر فيه كثرة رؤية المحبوب في المنام ثم باب من أحب بالوصف وفيه ذكر وقوع المحبة بأوصاف معينة حتى لو لما يرى المحبوبين بعضهما فقد تقع المحبة لمجرد سماع صوت المحبوب من وراء جدار.
باب من أحب من نظرة واحدة وفيه ذكر وقوع الحب في القلب لمجرد نظرة واحدة ثم باب من لا يحب إلا المطاولة وفيه ذكر المحب الذي لا تصح محبته إلا بعد طول كتمان وكثرة مشاهدة للمحب ويصرح المحب بحبه بعد مقابلة الطبائع التي خفيت مما يشابهها من طبائع المحبوب ثم ذكر باب من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها وذكر فيه أنه من أحب صفه كانت في محبوبته لم يرغب بصفة غيرها فمن أحب شقراء الشعر مثلا لا يرضى بالسوداء الشعر.
باب التعريض بالقول وذكر فيه أن أول ما يستعمله أهل المحبة في كشف ما يجدونه إلى أحبتهم بالقول إما بإنشاد الشعر أو طرح لغز أو تسليط الكلام.
باب الإشارة بالعين وذكر فيه إشارات المحبوب لمحبوبه بالعين فالإشارة بمؤخرة العين الواحدة تعني النهي عن الأمر وإدامة النظر دليل على التوجع والأسف وكسر نظرها دليل على الفرح والإشارة الخفية بمؤخرة العين تعني سؤال وترعيد الحدقتين من وسط العينين تعني النهي العام واعتبر ابن حزم أن العين أبلغ الحواس وأصحها دلالة وأوعاها عملا عن بقية الحواس.
باب المراسلة وذكر فيه المراسلة بالرسائل وقد ذكر فيه صفات الرسائل بين المحبين وشعورالمحب بالسرور عند تلقيه رسالة من محبوبه.
باب السفير وذكر فيه صفات الوسيط بين المحبوبين كالكتمان والوفاء للعهد والنصح ثم باب طي السر ويذكر فيه صفات المحب حين يخفي حبه كجحود المحب إن سئل والتصنع بإظهار الصبر ويكون سبب الكتمان الحياء الغالب على الإنسان وحتى لا يشمت به الأعداء.
باب الإذاعة وتحدث فيه عن أسباب إذاعة الحب ويكون ذلك حتى يظهر صاحب هذا الفعل في عداد المحبين ويكون ذلك بسبب غلبة الحب ثم باب الطاعة ويذكر فيه أسباب طاعة المحب لمحبوبه وفي باب المخالفة أسباب مخالفة المحب لمحبوبه مثل غلبه الشهوة.
باب العاذل وفيه ذكر اللوم للمحبوب وأثره في النفس ثم باب المساعد من الإخوان وفيه ذكر صفات الصديق المخلص الذي يعلم بأمر المحبوبين ويكتم السر ثم باب الرقيب وفيه ذكر صفات المراقب للمحبوبين ومحاولة الرقيب إظهار سرهما والبوح بوجودهما ثم باب الواشي وقد ذكر فيه صفات الواشي الذي يريد القطع بين المتحابين والإطلاع على أسرار المحبوبين وذكر الوشاة الكاذبين وذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأقوال والأشعار التي تنهى عن الكذب.
باب الوصل وفيه ذكر وصل المحبوب والمواعيد بين المحبوبين وانتظار الوعد من المحب ثم باب الهجر وذكر فيه هجر المحبوب لمحبوبه عندما يكون هناك رقيب حاضر وقد يكون من اجل التذلل وقد يكون من أجل إبعاد الملل أو بسبب العتاب لذنب يقع من المحب.
باب الوفاء وفيه ذكر وفاء المحب لمحبوبه وذكر صفات الوفاء بين المحبوبين ثم ذكر باب الغدر ثم ذكر باب البين وهو افتراق المحبوبين عن بعضهما وذكر صفات مفارقة المحبوبين لبعضهما ثم باب القنوع وذكر فيه قناعة المحب بما يجد إذا حرم الوصل بين المتحابين وذلك من خلال الزيارة بين المتحابين من خلال النظر والحديث الظاهر ثم باب الضني وقد ذكر فيه معاناة المحب بعد فراق محبوبه وعلامات الضعف التي تصيب المحب بعد الفراق ثم باب السلو وقد ذكر فيه اليأس الذي يدخل إلى النفس من عدم بلوغها أملها وقد قسمه ابن حزم إلى النسيان والملل والاستبدال.
باب الموت وذكر فيه الموت بسبب الحب وذكر قصص من ماتوا من أجل مفارقتهم من يحبون.
باب قبح المعصية وفيه ذكر العفة وترك المعاصي والابتعاد عن موافقة الشيطان والابتعاد عن الفتن والفجور وغض البصر والنهي عن المعصية وذكر الزنا في القرآن والأحاديث النبوية الشريفة.
باب التعفف وقد ذكر فيه البعد عن المعصية والفاحشة والخوف من الله وقد ذكر أبيات شعرية تحث على التعفف.

الاثنين، 6 أبريل 2015

خصائص وسمات وومميزات اللغة العربية عن سائر اللغات

اللغات هي مرآة الفكر وأداته، وثمرة العقل ونتاجه، ثم هی معرض الثـقافة الإنسانیة وحضارتها،  ووسیلة للتواصل البشری یعبر بها الإنسان عمـا یختلج في صدره من أفكار ومشاعر، أمـا اللغة العـربیة فهی واسطة عقد اللغــات العالمیة لمسایرتها الزمن وطواعیتها للنمو والتـقدم، وقدرتهـا الفطــری علی التعبیرعن الذات والموجــودات، وفوق مــا تتصف أنها لغة رسالة اﷲ الخالدة، ووعاء  سنـة نبیه المطهرة، ومعلم في طریق العلم، ومفتاح التـفقّه في الدین، تنتمی اللغة العــربیة إلی أسرة اللغــات السامیة المنبثـقة من مجمـوعـــة اللغــات الأفریقیة الآسیویة، منها الكنعـانیة كما منها الآرامیة والعربیة، إلا أن العربیة أكثر اللغات السامیة تداولاوأكثرها انتشارا واستخدامًا، وذلك لاحتـفاظها علی مقومات اللغة  السامیة الأم أكثرمن أي لغة سامیة أخری، فالعربیة لغة نابضة متدفقة یتحدثها عشرات ملایین كلغة رسمیة وكذلك مئات الملایین كلغة دینیة، وقد تمتعت هذة اللغة بخصائصها العجیبة ومعجزاتها الفریدة منها الخصائص الصوتیة والصرفية والنحویة والدلالیة كما منها خصائص حروفها وإعرابها، وتعدد أبنیتها وصیغها، ووفرة مصادرها وجموعها وجودة مفرداتها واشـتـقاقها والدقة في تعابیرهــا وتراكیبها، وفي ذلك یقول أرنست رینان العالم الفـرنسی: «إن هذه اللغة قد بلغت حد الكمال في قلب الصحراء عند أمــة من الرحل ففاقت اللغـات بكثرة مفرداتها، ودقة معانیها، وحسن نظـام مبانیها»، كما یقول عبد الرزاق السعدي أحد أعلام اللغة والأدب: «العربیة لغة كاملة معجبة تكاد تصورألفاظها مشاهد الطبیعة، وتمثل كلماتها خطـوات النـفوس، وتكاد تنجلي معــانیها في أجـراس الألفاظ، كأنمــا كلماتها خطوات الضمیر، ونبضات القلوب، و نبرات الحیاة».(1)
لمحات عن أهم ممیزات اللغة العربیة:
(1) الإعراب:
     إن الإعراب هو تغییرالحالة النحــویة للكلمات بتغیر العوامل الداخلة علیها، فالإعراب من أقوی عناصراللغة العــربیة وأخص خصائصهـا به یعـرف فاعل من مفعول، وأصل من دخیل، وتعجب من استـفهــام، فظاهرة الإعراب من خصائص التمدن القدیم الذي جاءت معظـم لغاته معربة مثل البابلیة والیونانیة واللاتینیة والألمانیة وخاصة العربیة التي اختصت بالإعراب عن غیرها من  اللغات المتحضرة، والإعراب له أهمیة بالغة في حمل الأفكار، ونـقل المفاهیم ، ودفع الغموض، وفهم المراد والتعبیر عن الذات، فابن فارس یری أن الإعراب هو الفارق بین المعـاني المتكافئة في اللفظ، یهدي إلی التمییز بین المعاني والتوصل إلی أغراض المتكلم عن مجمل عواطفه وأفكاره ومعـانیه، وذلك أن قائلا لو قال: «مـا أحسن زید»، غیر معرب، لم یوقف علی مراده، فإذا قال: «ما أحسَنَ زیدا» أو «ما أحسَنُ زیدِِ» أو «ما أحسَنَ زیدٌ» أبان بالإعراب عن المعنی الذی أراده»(2).
(2) الاشتـقاق:
     الاشتـقاق في اللغـــة أخذ شيء من شيء، هو اقتطاع فرع من أصل، ولفظ من لفظ، أو صیغة من صیغــــة أخــری مــع التوافق والتناسب بینهمـا في الـمعنی والمـادة الأصلیة، فالاشتـقاق من خصائص نادرة تتـفوق بها اللغة العربیة علی لغات العالم أجمع، حیث ترجع صیغها إلی أصل واحد علی قدر من المدلول المشترك، وهو المــــــادة الأصلیة التي تتـفرع منها فروع الكلمـات والمعاني  یطلق علیهــا المشتـقات منهــا اسم الفاعــل، واسم المفعول، واسم التـفضیل، واسم الزمان، واسم المكان، واسم الآلـة والصفة المشبهة وغیرها، فجمیع هذه الأسماء والصفات تعود  إلی أصــل واحد یحدد مادتهــا ویوحي معانیهـــا المشترك الأصیل، وهذا ما سمــــاه اللغویون بالاشتـقاق الأصغر، ونضــرب المثل لذلك من مادة «س ل م» ومنها یشتق نحو: سَلَم، سلّم، وسالم، وسلمان، ومسلم، وسلمي، والسلامــة، والسلم، فتعطی جمیعهــــا معنی السلامـة علی تصاریفها، وكذلك مادة «ع ر ف» حیث یشتق منها نحو: عَــرَف، وعـرّف، وتعرّف، وتعارف، وعُرف، وعُـــــرفٌ، وإعراف، وعـرّاف، وتعریف، وعـرفان، ومعرفة، فتـفيد جمیهـا معنی الظهور والكشف عن أمر.
     ومن سنن العرب في تولید الألفاظ والمعاني كذلك «الاشتـقاق الأكبر» وهوأن یؤخذ أصل من الأصول الثلاثیة، فيعقد علیه وعلی تصاریفه الستـة معنی عامـا مشتركا، ومن أمثلة ذلك مـادة «قول» فتـقلیباتهـا: قلو، وَقَل، وَلَق، لقو، لوق، وتأتی كلها بمعنی القـوة والشدة، و «سمل» وتـقلیباتها: سلم، مسل، ملس، لمس، لسم، وتأتي كلها بمعنی الإصحاب والملاینـة(3).
(3) المترادفات والأضداد:
     الترادف مظهر من مظاهر اللغة العربیة التي ارتـفعت به حتی بزت اللغات اتساعا وتشعبا، فاللغة العــربیة فسیحة الآفاق، مترامیة الأطراف تتمیز بالثراء، وغزارة الألفاظ والمفردات التي لیست لها في اللغــات الحیة شبیها، وقد اتسمت هذه المفردات بحلاوة الجرس، وسلامة النطق والعذوبة حیث تمتاز بمرونة ومطواعیة، ولنأخذ مثالا لخضم المفردات في لسان العرب من كلمة «الـعسل»، وقد بلغ عدد أسمــائه المـرادفة ثمــانون اسمـا منها: الضرب، والضربة، والضریب، والشوب، والذوب، والــحمیت، والتحمـویت، والجَلس، والورس، والشَّهد، والشُّهد، والمــاذي، ولعاب النحل، والرحیق وغیرها، ولـكلمة «سیف» عشرات من الأسمـاء المترادفة مثل الصارم، والـرداء، والـقضیب، والصفيحة، والمفقّر، والصمصامة، والكهام، والمشرفي، والحسام، والعضب، والمذكر، والمهند، والــصقیل، والأبیض ومـــا إلی ذلك، وممـــا یكشف عن تعدد المترادفـات وتنوع الدلالات في الـعربیة أن یقـول جرجی زیدان الأدیب الفاضل: «في كل لغـة مترادفات أي عدة ألفـاظ للمعنی الواحد، ولكن العـرب، فاقوا في ذلك سائر أمم الأرض، ففي لغتهــم للسنة 24 اسما، وللنور 21 اسما، وللظــلام 52 اسما، وللشمس 29 اسما، وللسحــاب 50، وللمطــر64، وللبئر 88، وللمــاء 170 اسمـا، وللبن 13 اسما، وللعسل نحــو ذلك، وللخمر مئة اسم، وللأسد 350 اسما، وللحیة مئة اسم ومثل ذلك للجمل، أما الناقة فأسمائها 255 اسما، وقس علی ذلك أسماء الثور والفرس والحمــار وغیرهــا من الحیوانات التي كانت مألوفة عند العرب، وأسماء الأسلحة كالسیف والرمح وغیرهمــا، ناهیك بمترادفات الصفات، فعندهـــم للطویل 91 لفظا، وللقصیر160 لفظا، ونحو ذلك  للشجاع  والكریم والبخیل مما یضیق المقام عن استیفائه»(4).
     أما الأضداد فهو دلالة اللفظ الواحد علی معنیین متضادین أو تسمیة المتضادین باسم واحد، كقول العرب الصریم: للیل والنهار، والصــارح: للمغیث والمستغاث، والسدفة للظلمة والنور، والقـروء: للحیض والأطهــار، والزوج: للذكـــر والأنثی، والبسل: للحــلال والحرام، والسارب: للمتواري والظاهر، والناهل: للعطشان والریان، والجون: للأبیض والأسود، والخیلولة: للشك والیقین وهلم جرا(5).
(4) الأصوات:
     بلغت اللغة العربیة منتهی الإعجاز والكمال في مدارجها الصوتیة حیث ثبتت بنطـق حروفها ومخارجها طوال العصور دون أن یصیبها من السقم والانحدار الداخلي مـا أصابه كآفة اللغات السامیة مثل العبریة والآرامیة والحبشیة، فاللغــة العـربیة تنـفرد بین جمیع أخـواتها بالإحفاظ علی مقوماتها الصوتیة علی الرغم من تـقلباتها الصرفية، ومن هذه المقومات مخارج الحروف وصفاتها المحسّنة مثل الهمس والجهــــر، والشدة والرخاوة، والاستعلاء والاستفعال، والتفخیم والترقیق، والقلقلة واللین والغنة، والانـفتاح والإطباق وغیرها، أما مخارج الحروف فتتوزع بین الشفتین إلی أقصی الحلق، ومن هذه الحروف ما تخــــرج بین وسط اللسان وطرفه ورأسه، كما منها ما تخـــرج بین جوف الصدر وبین الشفتین والحلق، وبین اللسان ومــــا فوقه من الحنك فتختلف جمیعها في المدرج الصوتی اختلافا واضحا، فمثلا لا تجتمع السین مع الصاد والثاء، والضاد مع الذال، والعین مع الألف، والحاء مع الهاء، والتاء مع الطاء وعلی هذا النحو بقیة الأحرف الهجائیة.
(5) دقة التعبیر:
     وثمــة محاسن اللغة العربیة التخصص في المعاني والدقة في التعبیر، فتلك المیزة تعطیها الملكة علی التمییز بین الأنواع المتباینة والأحوال المختلفة من الأمور الحسیة والـمعنویة علی السواء، فالكلمــة إذا كانت تحمــل معنی معینا موافقا لمقتضی الحال ومناسبا للـواقع كان له أحسن الوقع في النـفوس وأجـل تأثیرا في القلوب، ونلاحظ أن اللغـة العـربیة أوسع اللغــات في دقتها للتعبیرعن الأحوال والصفـات، تتـفجر ینابیعها بالجودة والفصاحة وسلامة التراكیب والرصانة، وإلی القاریٔ نمـاذج من هذا القبیل كما یلي: تـقول العرب في تـقسیم الاشتهاء: فلان جـائع إلی الخبز، قرِم إلی اللحم، عـطشان إلی المـاء، عیمـان إلی اللبن، قَرِد إلی التمر، جعـم إلی الفاكهة، شبق إلی النكاح، كمـا تـقول في تـقسیم قطع الأعضاء وتـقسیم ذلك علیهـا: فلان جدع أنـفه، فقأعینه، شترجفنه، شرم شفته، جذم یده، جب ذكره، ومن حسن دقة التعبیر في العربیة اختلاف الأسماء والأوصاف باختلاف أحوالها، فمثلا تـقول العرب في ترتیب النوم:- أول النوم: النعاس وهوأن یحتاج الإنسان إلی النوم، ثم الوسن: وهو ثـقل النعاس، ثم التزنیق: وهو مخالطة النعاس العین، ثم الكری والغمض: وهو أن یكون الإنسان بین النائم والیقظان، ثم التغفيق: وهو النوم وأنت تسمع كلام القوم، ثم الإغفاء: وهوالنوم الخفيف، ثم الهجود: وهوالنوم الغرق ثم التسبیخ: وهو أشد النوم(6).
(6) التعریب:
     التعریب هو عملیة تهذیب كلمة خارجیة وفقا لأوزان العربیة وأبنیتها، وهوصیغ كلمة أجنبیة بصبغــة عـربیة أو رسم لفظــة أعجمیة بأحرف عـربیة عند انتـقالها حتی تتـفوه بها العرب علی مناهجها، فالعربیة لها القدرة الفائـقة علی تمثیل الكلام الأجنبي وتعریبه حسب قوالبها والذي یعد من أخص خصـائصها، وكان اتساع دائرة اللغـة العربیة وتنمیة عــلاقات العرب بالأجانب ونـقلهـم العلــوم عن الثـقافات المستجدة مثل الفارسیة والــهندیة والیونانیة ممــا دفعهـم علی الأخذ منها كلمات وتعبیرات متنوعـة ومصطلحات مستحدثة متطورة، فالعــربیة اقتبست من هذه الثـقافات الاصطلاحات العلمیة والأدبیة والإداریة والطبیة والفلسفية وغیرها من التـقنیات والمعارف من الدرجـــة الأولی، ومما عربت العربیة عـن الأعــاجم علی سبیل المثال: التریاق، والطلسم، والقولنج، والسرسام، والـقبان، والقنطار، والأصطـرلاب، والـفــردوس، والــقسطاس وغیرها عن الرومیة، والیاقوت، والجلنار، والبلور، والكافور، والزنجبیل، والدسكرة، والاستبرق، والدیباج، والسندس، والسكـنجبین، والبركار، والــصابون، والتنور عن الفارسیة، والأنسون والسقمونیا،  والمصطكی، والبقدونس، والزیدفون من الیونانیة، والفلفل، والجاموس، والشطرنج، والصندل وغیرها من اللغة الهندیة والسنسكریتیة(7).
     وأما المنهج الذی توخته العربیة في التعامل مع الألفاظ الأجنبیــة والأعجمیــة في تعریبها فإنه یقوم كما یلي:
     1- التحویل من حروف الدخیل بطریقة النـقص منها أو الزیادة فيها، كقول العرب: الدرهم وهو في أصله درم، وبرنامج وهو برنامه.
     2- إبدال السین من الشین، واللام من الزای، كقولهم: نیسابور وهو بالفارسیة نیشابور، وإسماعیل وهو إشمائیل.
     3- التعریب بطـریقـة الجمع بین كلمتین مركبتین بكلمــة واحـدة مثل «جاموس» وهومعرب من «كاو» بمعنی بقرة، و«میش» بمعنی مختلط، وكذلك «سكباج» وهو مركب من «سك» أي خل و «با» أي طعام.
     4- تغییر الحروف الأعجمیة وفقا للأوزان العربیة، كقولهم «فردوس» وهو في أصله «برادایس»، و «كعك» وهو تعریب «كاك».
     5- ربما یبدل الكاف جیمــا والجیم كافا أو قافا لقرب أحدهما إلی الاخر، كـقولهم: «جورب» وهو في الأصل «كورب»، و «كربج» وهو «قربق»(8).
*  *  *
الهوامش:
(1)      عبد الرزاق السعدي، مقومات العالمیة في اللغة العربیة وتحدیاتها في عصر العولمة، بحث  منشورفي مجلة آفاق الثـقافة والتراث،العدد الثالث والستون،1429، ص/47.
(2)      ابن فارس : الصاحبي في فقه اللغة، دار الكتب العلمیة بیروت، ط/1، 1997م ص/161.
(3)      للاستزادة راجع: الخصائص لابن  جني، المكتبة العلمیة دارالكتب المصریة : ج/1، ص67-68، 490-493.
(4)      جرجي زیدان: تاریخ آداب اللغة العربیة، دارالهلال، ص/45.
(5)      راجع: كتاب الأضداد لأبي بكر محمد الأنباري، طبع بلیدن،۱۸۸۱م .
(6)      أبومنصور الثعالبي: فقه اللغة وأسرار العربیة المكتبة العصریة، صیدا، ط/1، 1420هـ، ص/205-206.
(7)      فقه اللغة وأسرار العربیة، ص/338.
(8)      راجع: محمد بن ابراهیم الحمد، فقه اللغة: مفهومه، موضوعاته، قضایاه، دار ابن خزیمه، ط/1، 2005م، ص/169.

الأربعاء، 25 مارس 2015

الحذف في القرآن الكريم

فإن الله تعالى أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فالتعابير القرآنية بالغة غاية الكمال في البلاغة؛ لأن الله تعالى أحكم آياته وتحدى به أفصح العرب فعجزوا عن معارضته مع ما آتاهم الله تعالى من الفصاحة، ومع حرصهم الشديد على إبطاله، ومع هذا كله عجزوا عن الإتيان بمثله، أو بسورة مثله، والقرآن هو معجزة الله الخالدة إلى قيام الساعة، والإعجاز البياني واحد من أوجه إعجاز القرآن الكريم، تحدى الله تعالى به الإنس والجن في قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: 88].
فالقرآن له نمطه الخاص في التركيب، إذ يجد المتمرس في أساليب العربية وطرائقها في التعبير أن نمط الجملة العربية في القرآن فريد متميز.
ونحن نذكر وجهاً من أوجه الإعجاز البياني ألا وهو الذكر والحذف للكلمات والحروف، فقد يذكر الحرف في كلمة في موطن ما، ويحذف هذا الحرف من نفس الكلمة في موطن آخر، وتذكر الكلمة في موطن ما وتحذف في موطن آخر مع اقتضاء ذكرها، وذكرها وحذفها ليس عشوائياً وإنما لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها، وقد نعلم جزءاً منها.
ولكن ينبغي أن يعلم أن الحذف إذا نُسب في القرآن فإننا لا ننسب الحذف إلى مضمون القرآن بل ننسبه إلى تركيب اللغة، فاللغة تجعل للجملة العربية أنماطاً تركيبية معينة فإذا لم تشتمل على بعض هذه التراكيب عددنا ذلك حذفاً.
وللحذف أغراض كثيرة ذكرها البلاغيون ليس هذا مجال إحصائها ولكننا سنذكر بعض أمثلة إعجاز القرآن البياني في حذف وذكر بعض الكلمات والحروف. والله المستعان..
المبحث الأول: الذكر والحذف في الحروف:
من روائع البيان القرآني المعجز أنه يحذف حرفاً من بعض ألفاظه في موضع ويذكره في موضع آخر، وحذف هذا الحرف ليس حذفاً اعتباطياً كما أن ذكره ليس مصادفة عشوائية إنما ذكره لحكمة وحذفه لحكمة.
وهناك أغراض يذكرها أهل اللغة في هذا الباب فيقولون: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى إلى غيرها من الأغراض العربية وفي القرآن نجد من هذا كثيراً ولكن يحكمه التوازن الدقيق ليس في بعض أبوابه بل في كل أبوابه.
ولننظر إلى بعض الأمثلة في حكمة ذكر أو حذف بعض حروف الكلمات في القرآن الكريم.
المثال الأول:
"تسطِعْ" و"تستطع".
وردت هاتان الكلمتان في قصة موسى والخضر حيث رافق موسى الخضر وأمره بعدم سؤاله عما يفعله فكان يفعل أموراً يرى موسى أن الخضر فيها مخالف فينكر عليه، فقال له بعد إنكاره الفعل الثالث: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ [الكهف: 78] بإثبات التاء.
ثم نبأه بتأويل أفعاله وأخبره أنه لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾" ثم قال له: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ [الكهف:82] بحذف التاء.
وجه الإعجاز البلاغي:
هنا أن المرة الأولى كان موسى في قلق محيِّر جرّاء أفعال الخضر فراعى السياق القرآني الثقل النفسي الذي يعيشه موسى عليه السلام فأثبت التاء ليتناسب مع الثقل النفسي لموسى، الثقل في نطق الكلمة بزيادة الحرف. وحذفه في المرة الثانية بعد زوال الحيرة وخفة الهم عن موسى ليتناسب خفة الهم مع خفة الكلمة بحذف الحرف الذي ليس من أصل الكلمة.
المثال الثاني:
"اسطاعوا" و"استطاعوا":
جاءت هاتان الكلمتان في سورة الكهف في الحديث عن السد الذي بناه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج وأنه بعد أن بناه عليهم كي يمنع فسادهم أرادوا الخروج فحاولوا تسلق السد فلم يفلحوا ثم حاولوا أن ينقبوه أو يخربوه فلم يستطيعوا كذلك، قال تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً﴾ [الكهف: 97].
فلماذا حذف التاء في الأولى وأثبته في الثانية؟. يظهر والله أعلم أن ذلك ليتناسب مع السياق فتسلق السد شيء لطيف يحتاج إلى لطف وخفة فناسب حذف التاء والنقب والخراب شيء ثقيل يحتاج إلى جهد وقوة ومعدات ثقيلة فناسب ذكر التاء ليكون ثقل الكلمة مناسب لثقل الفعل وخفة الكلمة مناسب لخفة الفعل(1) فسبحان القائل: ﴿قل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: 88].
وذكر الدكتور فاضل السامرّائي بعض حالات ذكر وحذف الحرف في القرآن الكريم فقال: نذكر من حالات ذكر وحذف الحرف في القرآن الكريم حالتين: الأولى: عندما يحتمل التعبير ذكر أكثر من حرف، ومع ذلك يحذفه، والثانية عندما لا يحتمل التعبير ذكر حرف بعينه.
الحالة الأولى: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 91] يحتمل أن يكون المحذوف (الباء)؛ لأن الأمر عادة يأتي مع حرف الباء (أمرت بأن) كما في قوله تعالى (تأمرون بالمعروف) كما يحتمل التعبير ذكر حرف اللام ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر:12] فلماذا حذف؟ هذا ما يسمى التوسع في المعنى وأراد تعالى أن يجمع بين المعنيين (الباء واللام) فإذا أراد التخصيص ذكر الحرف وإذا أراد كل الاحتمالات للتوسع في المعنى يحذف.
مثال: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَق﴾ [الأعراف: 169].
في الآية حرف جر محذوف، يحتمل أن يكون (في) ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ﴾، ويحتمل أن يكون (اللام) (ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب لئلا يقولوا على الله إلا الحق) ويحتمل أن يكون (على) (ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب على ألا يقولوا على الله إلا الحق) ويحتمل أن يكون بالباء (ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب بألا يقولوا على الله إلا الحق) لذا فهذا التعبير يحتمل كل معاني الباء واللام وفي وعلى للتوسع في المعنى أي أنه جمع أربع معاني في معنى واحد بحذف الحرف.
الحالة الثانية: يحذف الحرف في موقع لا يقتضي إلا الحذف بالحرف، والذكر يفيد التوكيد بخلاف الحذف (مررت بمحمد وبخالد) أوكد من (مررت بمحمد وخالد).
مثال من القرآن الكريم: في سورة آل عمران قال تعالى ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 141، 142].
إذا كان التعبير يحتمل تقدير أكثر من حرف يُحذف للتوسع في المعنى وعندما لايحتمل إلا حرفاً بعينه فيكون في مقام التوكيد أو التوسع وشموله ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 142] ذكرت اللام في كلمة (ليعلم) وحذفت في كلمة (يتّخذ)، الآية الأولى نزلت بعد معركة أحد ﴿يَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ غرض عام يشمل كل مؤمن ويشمل عموم المؤمنين في ثباتهم وسلوكهم أي مما يتعلق به الجزاء ولا يختص به مجموعة من الناس فهو غرض عام إلى يوم القيامة والله أعلم. وهذا علم يتحقق فيه الجزاء.
أما في قوله (يتخذ منكم شهداء) ليست في سعة الغرض الأول فالشهداء أقل من عموم المؤمنين. وكذلك في قوله تعالى في سورة آل عمران ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 141] ذكرت في (ليمحص) ولم تذكر في (يمحق). غرض عام سواء في المعركة (أحد) أو غيرها لمعرفة مقدار ثباتهم وإخلاصهم وهو أكثر اتساعاً وشمولاً من قوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء) ويمحق الكافرين ليست بسعة (ليمحص الله) لم تخلو الأرض من الكافرين ولم يمحقهم جميعاً.
وزوال الكافرين ومحقهم على وجه العموم ليست الحال وليست بمقدار الغرض الذي قبله. (ليعلم الله) غرض كبير متسع وكذلك قوله تعالى (ليمحص الله) إنما قوله تعالى: (يتخذ منكم) و(يمحق الكافرين) فالغرض أقل اتساعاً لذا كان حذف الحرف (لام).
أما في قوله تعالى ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154]. هنا الغرضين بدرجة واحدة من الإتساع ولهذا وردت اللام في الحالتين.
المبحث الثاني: الذكر والحذف لبعض كلمات الآية:
قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً﴾ [النساء: 19] مع أن أكثر المنهيات كانت تلي حرف النهي مباشرة كقوله تعالى: ﴿ولا تقتلوا أولادكم﴾ وقوله ﴿ولا تقربوا الزنى﴾ وقوله ﴿ولا تقربوا مال اليتيم﴾.. الخ المنهيات، ففي هذه الآية لم يقل لا ترثوا النساء كرهاً بل قال "لا يحل لكم..الخ".
وعند البحث عن نظائر هذه الآية كقوله تعالى: ﴿لا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً﴾ [النساء: 229]. يبدو والله أعلم أن هذه الكلمة إنما تأتي بجانب قضايا كان الناس يزاولونها من دون أن يروا بها بأساً أو حرجاً كالقضايا السابقة بل كانت عادات منتشرة بين العرب، أما بقية المنهيات الأخرى كالقتل والزنى وأكل مال اليتيم وغيرها فهي أمور تنفر منها العقول السليمة والطباع المستقيمة وتنكرها الأعراف السائدة لا يقرها عقل ولا شرع؛ لذلك كان النهي عنها مباشراً لما جبل في الفطرة على النفور منها بخلاف الأشياء السابقة المقررة عندهم فتحتاج لترسيخ التحريم ألفاظاً قوية حادة قاطعة. فانظر إلى جمال التعبير القرآني لهذه الأمور حتى لا يساورها شك في التحريم. فهذه فروق عجيبة في التعبير أعجزت أفصح البلغاء عن معارضته، سبحان العليم الخبير(2).
1- جاء في قوله تعالى في حديثه عن الزوجين اللذين لا يستطيعان مواصلة الحياة الزوجية ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً﴾ [النساء: 130].
وجاء في قوله تعالى مبيناً حرمة دخول المشركين إلى المسجد الحرام للمفارقة العقدية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ا لْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 28].
فلماذا ذكر في الآية الأخيرة "إن شاء" ولم يذكرها في السابق مع أن الحديث عن موضوع واحد وهو الإغناء وكذلك كل شيء إنما يكون بمشيئة الله تعالى..
والذي يظهر والله أعلم أن الآية الأولى جاءت خطاباً لبعض الأفراد الذين تعسر عليهم مواصلة الحياة الزوجية رجالاً كانوا أم نساء فأراد الله تبارك وتعالى -والله أعلم بما ينزل- أن يبين لهم سعة فضله وواسع رزقه وعظيم تيسيره.
وأما الآية الثانية فجاءت خطاباً للأمة والأمة لابد أن تتعود التضحية للمحافظه على عقائدها ومقدساتها مهما كلفها ذلك من ثمن وقد يؤدي بها ذلك إلى أن تحرم بعض المكاسب وتتحمل كثيراً من الأعباء لذا ذكر فعل المشيئة.
فانظر إلى هذه اللفتة البيانية العظيمة في كتاب الله تعالى يظهر لك أن كل حرف وكلمة في كتاب الله تعالى وضع الحكمة "والله أعلم بما ينزل".
ويشبه الآية الأولى كلام الله تعالى في قوله ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 32].
فهذه الآية كذلك لم تتقيد بالمشيئة لأنها شئون فردية(3).
2- قوله تعالى ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾ [الأحزاب: 35] لماذا ذكر كلمة فروجهم عند كلامه عن الرجال ولم يذكر ذلك عند كلامه على النساء، وقد يقال إن ذلك من باب حذف المفعول لدلالة ما قبله عليه وهذا من أبواب العربية وهو معروف.
إلا أن هناك أمر آخر قد نلمسه في بيان سر الحذف وهو أن الله سبحانه وتعالى لم يمدح النساء بحفظ الفروج فقط ولكنه مدحهم بمطلق الحفظ، والمرأة لا ترتقي لهذه الأوجه ولا تصل لهذه الرتبة إلا إذا حافظت على نفسها من كل أسباب الغواية، ولو جاء في الذكر الحكيم لفظ (والحافظات لفروجهن) لوجدنا امرأة تقبل على الرجال الأجانب وتفعل معهم كل ألوان الزنا المجازي عدا الزنا في الفرج وتقول إنها حفظت فرجها فتدخل في زمرة الممدوحين في هذه الآية فهذه المرأة قد وقف النظم القرآني أمامها لأن القرآن لم يرد من المرأة حفظ الفرج فقط ولكن حفظ كل ما من شأنه أن يحفظ؛ لأنها كلها عورة فحذف المفعول للتعميم والشمول وسبحان من نزل القرآن تبياناً لكل شيء ونلمس هذا الحذف قد يكون أعم من الذكر.
وسئل الدكتور حسام النعيمي لماذا حذف كلمة ربهم في قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر: 71].
وذكرها مع الذين اتقوا؟ وما دلالة وجود الواو وحذفها في قوله تعالى (وفتحت) (فتحت) ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73].
فأجاب بقوله: ذكر ربهم مع الذين اتقوا ولم يذكرها مع الذين كفروا وذكر وحذف الواو في (فتحت) و (وفتحت) يتعلق بالحذف والذكر. في هذه الآية من سورة الزمر ذكر تعالى الذين كفروا عندما يساقون إلى النار فهؤلاء لا يستحقون أن يرد معهم اسم الله سبحانه وتعالى فضلاً عن أن يذكر اسم الرب (ربهم) الذي يعني المربي والرحيم العطوف الذي يرعى عباده فلا تنسجم كلمة ربهم هنا مع سوق الكافرين إلى جهنم وعدم ذكر كلمة ربهم مع الذين كفروا هو لسببين: الأول أنهم يساقون إلى النار، وثانياً أنهم لا يستحقون إن تذكر كلمة ربهم معهم فلا نقول وساق الذين كفروا ربُهم إلى جهنم لأن كلمة الرب هنا: فيها نوع من التكريم والواقع أنه كما قال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: 51]، لكن مع المؤمنين نقول ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ﴾ ذكر كلمة ربهم هنا تنسجم مع الذين اتقوا. وفعل كفر يتعدّى بنفسه أو بحرف الجر وهنا لم يتعدى الفعل وهذا يدل على إطلاق الذين كفروا بدون تحديد ما الذي كفروا به لتدل على أن الكفر مطلق فهم كفروا بالله وبالإيمان وبالرسل وبكل ما يستتبع الإيمان.
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ لم تذكر كلمة (ربهم) لأن الربوبية رعاية ورحمة ولا تنسجم مع السوق للعذاب ولا يراد لهم أن يكونوا قريبين من ربهم لكنها منسجمة مع سوق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة فهي في هذه الحالة مطلوبة ومنسجمة. كلمة الرب فيها نوع من التكريم فلا تذكر مع الكافرين لكن مع المؤمنين تكون مطمئنة ومحببة إليهم ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾.
وقد وردت (كفروا ربهم) في مواطن أخرى في القرآن لكن في هذا الموقع لم ترد لأنه لا تنسجم مع سوق الكافرين إلى النار ولا بد أن ننظر في سياق الآيات فقد قال تعالى ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ [المزمل: 4] والترتيل في القرآن ليس هو النغم وإنما النظر في الآيات رتلاً أي آية تلو آية متتابعة لأنها مرتبطة ببعضها فإذا اقتطعت آية من مكانها قد تؤول وتفسّر على غير وجهها المقصود لكن إذا أُخذت في داخل سياقها فستعطي المعنى المطلوب الذي لا يحتمل وجهاً آخر.
والبعض يتداول آيات خارج سياقها فتعطي معنى وفهماً غير دقيق للآية ولو أُخذت الآيات في سياقها لفهمناها الفهم الصحيح ولذا يجب أخذ الآيات في سياقها.
بالنسبة لذكر وحذف الواو في كلمة (فتحت) و (وفتحت) حذف الواو مع النار وهذا نوع من إذلال الكافرين والمضي في عقابهم لأن الذين كفروا عندما يساقون الى جهنم كأنهم ينتظرون ثم تفتح لهم الأبواب عندما يصلون إليها وهم في خوف ولكن تفتح الأبواب عند وصولهم وتفاجئهم النار، بينما المؤمنون يرون أبواب الجنة مفتحة لهم من بعيد ويشمون رائحتها من بعد، ورائحتها تشم من مسافة 500 عام وهذا نوع من الإكرام لهم لأن الأبواب مفتحة لهم قبل وصولهم إليها فيكونون في حالة اطمئنان في مسيرهم إلى الجنة.
والواو في (وفتحت) هي واو الحالية أي وقد فتحت أبوابها أي وهي في حالة انفتاح أي سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها حال كونها مفتّحة أبوابها. فالنار إذن أبوابها موصدة حتى يساق إليها الكافرون فتفتح فيتفاجؤن بها وهذا نوع من الإذلال لهم وإخافتهم وإرعابهم بما سيجدون وراء الأبواب أما الجنة فأبوابها مفتوحة وهذا نوع من التكريم للمؤمنين.