الأربعاء، 25 مارس 2015

الحذف في القرآن الكريم

فإن الله تعالى أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فالتعابير القرآنية بالغة غاية الكمال في البلاغة؛ لأن الله تعالى أحكم آياته وتحدى به أفصح العرب فعجزوا عن معارضته مع ما آتاهم الله تعالى من الفصاحة، ومع حرصهم الشديد على إبطاله، ومع هذا كله عجزوا عن الإتيان بمثله، أو بسورة مثله، والقرآن هو معجزة الله الخالدة إلى قيام الساعة، والإعجاز البياني واحد من أوجه إعجاز القرآن الكريم، تحدى الله تعالى به الإنس والجن في قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: 88].
فالقرآن له نمطه الخاص في التركيب، إذ يجد المتمرس في أساليب العربية وطرائقها في التعبير أن نمط الجملة العربية في القرآن فريد متميز.
ونحن نذكر وجهاً من أوجه الإعجاز البياني ألا وهو الذكر والحذف للكلمات والحروف، فقد يذكر الحرف في كلمة في موطن ما، ويحذف هذا الحرف من نفس الكلمة في موطن آخر، وتذكر الكلمة في موطن ما وتحذف في موطن آخر مع اقتضاء ذكرها، وذكرها وحذفها ليس عشوائياً وإنما لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها، وقد نعلم جزءاً منها.
ولكن ينبغي أن يعلم أن الحذف إذا نُسب في القرآن فإننا لا ننسب الحذف إلى مضمون القرآن بل ننسبه إلى تركيب اللغة، فاللغة تجعل للجملة العربية أنماطاً تركيبية معينة فإذا لم تشتمل على بعض هذه التراكيب عددنا ذلك حذفاً.
وللحذف أغراض كثيرة ذكرها البلاغيون ليس هذا مجال إحصائها ولكننا سنذكر بعض أمثلة إعجاز القرآن البياني في حذف وذكر بعض الكلمات والحروف. والله المستعان..
المبحث الأول: الذكر والحذف في الحروف:
من روائع البيان القرآني المعجز أنه يحذف حرفاً من بعض ألفاظه في موضع ويذكره في موضع آخر، وحذف هذا الحرف ليس حذفاً اعتباطياً كما أن ذكره ليس مصادفة عشوائية إنما ذكره لحكمة وحذفه لحكمة.
وهناك أغراض يذكرها أهل اللغة في هذا الباب فيقولون: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى إلى غيرها من الأغراض العربية وفي القرآن نجد من هذا كثيراً ولكن يحكمه التوازن الدقيق ليس في بعض أبوابه بل في كل أبوابه.
ولننظر إلى بعض الأمثلة في حكمة ذكر أو حذف بعض حروف الكلمات في القرآن الكريم.
المثال الأول:
"تسطِعْ" و"تستطع".
وردت هاتان الكلمتان في قصة موسى والخضر حيث رافق موسى الخضر وأمره بعدم سؤاله عما يفعله فكان يفعل أموراً يرى موسى أن الخضر فيها مخالف فينكر عليه، فقال له بعد إنكاره الفعل الثالث: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ [الكهف: 78] بإثبات التاء.
ثم نبأه بتأويل أفعاله وأخبره أنه لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾" ثم قال له: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً﴾ [الكهف:82] بحذف التاء.
وجه الإعجاز البلاغي:
هنا أن المرة الأولى كان موسى في قلق محيِّر جرّاء أفعال الخضر فراعى السياق القرآني الثقل النفسي الذي يعيشه موسى عليه السلام فأثبت التاء ليتناسب مع الثقل النفسي لموسى، الثقل في نطق الكلمة بزيادة الحرف. وحذفه في المرة الثانية بعد زوال الحيرة وخفة الهم عن موسى ليتناسب خفة الهم مع خفة الكلمة بحذف الحرف الذي ليس من أصل الكلمة.
المثال الثاني:
"اسطاعوا" و"استطاعوا":
جاءت هاتان الكلمتان في سورة الكهف في الحديث عن السد الذي بناه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج وأنه بعد أن بناه عليهم كي يمنع فسادهم أرادوا الخروج فحاولوا تسلق السد فلم يفلحوا ثم حاولوا أن ينقبوه أو يخربوه فلم يستطيعوا كذلك، قال تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً﴾ [الكهف: 97].
فلماذا حذف التاء في الأولى وأثبته في الثانية؟. يظهر والله أعلم أن ذلك ليتناسب مع السياق فتسلق السد شيء لطيف يحتاج إلى لطف وخفة فناسب حذف التاء والنقب والخراب شيء ثقيل يحتاج إلى جهد وقوة ومعدات ثقيلة فناسب ذكر التاء ليكون ثقل الكلمة مناسب لثقل الفعل وخفة الكلمة مناسب لخفة الفعل(1) فسبحان القائل: ﴿قل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ [الإسراء: 88].
وذكر الدكتور فاضل السامرّائي بعض حالات ذكر وحذف الحرف في القرآن الكريم فقال: نذكر من حالات ذكر وحذف الحرف في القرآن الكريم حالتين: الأولى: عندما يحتمل التعبير ذكر أكثر من حرف، ومع ذلك يحذفه، والثانية عندما لا يحتمل التعبير ذكر حرف بعينه.
الحالة الأولى: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 91] يحتمل أن يكون المحذوف (الباء)؛ لأن الأمر عادة يأتي مع حرف الباء (أمرت بأن) كما في قوله تعالى (تأمرون بالمعروف) كما يحتمل التعبير ذكر حرف اللام ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر:12] فلماذا حذف؟ هذا ما يسمى التوسع في المعنى وأراد تعالى أن يجمع بين المعنيين (الباء واللام) فإذا أراد التخصيص ذكر الحرف وإذا أراد كل الاحتمالات للتوسع في المعنى يحذف.
مثال: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَق﴾ [الأعراف: 169].
في الآية حرف جر محذوف، يحتمل أن يكون (في) ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ﴾، ويحتمل أن يكون (اللام) (ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب لئلا يقولوا على الله إلا الحق) ويحتمل أن يكون (على) (ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب على ألا يقولوا على الله إلا الحق) ويحتمل أن يكون بالباء (ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب بألا يقولوا على الله إلا الحق) لذا فهذا التعبير يحتمل كل معاني الباء واللام وفي وعلى للتوسع في المعنى أي أنه جمع أربع معاني في معنى واحد بحذف الحرف.
الحالة الثانية: يحذف الحرف في موقع لا يقتضي إلا الحذف بالحرف، والذكر يفيد التوكيد بخلاف الحذف (مررت بمحمد وبخالد) أوكد من (مررت بمحمد وخالد).
مثال من القرآن الكريم: في سورة آل عمران قال تعالى ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 141، 142].
إذا كان التعبير يحتمل تقدير أكثر من حرف يُحذف للتوسع في المعنى وعندما لايحتمل إلا حرفاً بعينه فيكون في مقام التوكيد أو التوسع وشموله ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 142] ذكرت اللام في كلمة (ليعلم) وحذفت في كلمة (يتّخذ)، الآية الأولى نزلت بعد معركة أحد ﴿يَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ غرض عام يشمل كل مؤمن ويشمل عموم المؤمنين في ثباتهم وسلوكهم أي مما يتعلق به الجزاء ولا يختص به مجموعة من الناس فهو غرض عام إلى يوم القيامة والله أعلم. وهذا علم يتحقق فيه الجزاء.
أما في قوله (يتخذ منكم شهداء) ليست في سعة الغرض الأول فالشهداء أقل من عموم المؤمنين. وكذلك في قوله تعالى في سورة آل عمران ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 141] ذكرت في (ليمحص) ولم تذكر في (يمحق). غرض عام سواء في المعركة (أحد) أو غيرها لمعرفة مقدار ثباتهم وإخلاصهم وهو أكثر اتساعاً وشمولاً من قوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء) ويمحق الكافرين ليست بسعة (ليمحص الله) لم تخلو الأرض من الكافرين ولم يمحقهم جميعاً.
وزوال الكافرين ومحقهم على وجه العموم ليست الحال وليست بمقدار الغرض الذي قبله. (ليعلم الله) غرض كبير متسع وكذلك قوله تعالى (ليمحص الله) إنما قوله تعالى: (يتخذ منكم) و(يمحق الكافرين) فالغرض أقل اتساعاً لذا كان حذف الحرف (لام).
أما في قوله تعالى ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154]. هنا الغرضين بدرجة واحدة من الإتساع ولهذا وردت اللام في الحالتين.
المبحث الثاني: الذكر والحذف لبعض كلمات الآية:
قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً﴾ [النساء: 19] مع أن أكثر المنهيات كانت تلي حرف النهي مباشرة كقوله تعالى: ﴿ولا تقتلوا أولادكم﴾ وقوله ﴿ولا تقربوا الزنى﴾ وقوله ﴿ولا تقربوا مال اليتيم﴾.. الخ المنهيات، ففي هذه الآية لم يقل لا ترثوا النساء كرهاً بل قال "لا يحل لكم..الخ".
وعند البحث عن نظائر هذه الآية كقوله تعالى: ﴿لا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً﴾ [النساء: 229]. يبدو والله أعلم أن هذه الكلمة إنما تأتي بجانب قضايا كان الناس يزاولونها من دون أن يروا بها بأساً أو حرجاً كالقضايا السابقة بل كانت عادات منتشرة بين العرب، أما بقية المنهيات الأخرى كالقتل والزنى وأكل مال اليتيم وغيرها فهي أمور تنفر منها العقول السليمة والطباع المستقيمة وتنكرها الأعراف السائدة لا يقرها عقل ولا شرع؛ لذلك كان النهي عنها مباشراً لما جبل في الفطرة على النفور منها بخلاف الأشياء السابقة المقررة عندهم فتحتاج لترسيخ التحريم ألفاظاً قوية حادة قاطعة. فانظر إلى جمال التعبير القرآني لهذه الأمور حتى لا يساورها شك في التحريم. فهذه فروق عجيبة في التعبير أعجزت أفصح البلغاء عن معارضته، سبحان العليم الخبير(2).
1- جاء في قوله تعالى في حديثه عن الزوجين اللذين لا يستطيعان مواصلة الحياة الزوجية ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً﴾ [النساء: 130].
وجاء في قوله تعالى مبيناً حرمة دخول المشركين إلى المسجد الحرام للمفارقة العقدية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ا لْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 28].
فلماذا ذكر في الآية الأخيرة "إن شاء" ولم يذكرها في السابق مع أن الحديث عن موضوع واحد وهو الإغناء وكذلك كل شيء إنما يكون بمشيئة الله تعالى..
والذي يظهر والله أعلم أن الآية الأولى جاءت خطاباً لبعض الأفراد الذين تعسر عليهم مواصلة الحياة الزوجية رجالاً كانوا أم نساء فأراد الله تبارك وتعالى -والله أعلم بما ينزل- أن يبين لهم سعة فضله وواسع رزقه وعظيم تيسيره.
وأما الآية الثانية فجاءت خطاباً للأمة والأمة لابد أن تتعود التضحية للمحافظه على عقائدها ومقدساتها مهما كلفها ذلك من ثمن وقد يؤدي بها ذلك إلى أن تحرم بعض المكاسب وتتحمل كثيراً من الأعباء لذا ذكر فعل المشيئة.
فانظر إلى هذه اللفتة البيانية العظيمة في كتاب الله تعالى يظهر لك أن كل حرف وكلمة في كتاب الله تعالى وضع الحكمة "والله أعلم بما ينزل".
ويشبه الآية الأولى كلام الله تعالى في قوله ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 32].
فهذه الآية كذلك لم تتقيد بالمشيئة لأنها شئون فردية(3).
2- قوله تعالى ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾ [الأحزاب: 35] لماذا ذكر كلمة فروجهم عند كلامه عن الرجال ولم يذكر ذلك عند كلامه على النساء، وقد يقال إن ذلك من باب حذف المفعول لدلالة ما قبله عليه وهذا من أبواب العربية وهو معروف.
إلا أن هناك أمر آخر قد نلمسه في بيان سر الحذف وهو أن الله سبحانه وتعالى لم يمدح النساء بحفظ الفروج فقط ولكنه مدحهم بمطلق الحفظ، والمرأة لا ترتقي لهذه الأوجه ولا تصل لهذه الرتبة إلا إذا حافظت على نفسها من كل أسباب الغواية، ولو جاء في الذكر الحكيم لفظ (والحافظات لفروجهن) لوجدنا امرأة تقبل على الرجال الأجانب وتفعل معهم كل ألوان الزنا المجازي عدا الزنا في الفرج وتقول إنها حفظت فرجها فتدخل في زمرة الممدوحين في هذه الآية فهذه المرأة قد وقف النظم القرآني أمامها لأن القرآن لم يرد من المرأة حفظ الفرج فقط ولكن حفظ كل ما من شأنه أن يحفظ؛ لأنها كلها عورة فحذف المفعول للتعميم والشمول وسبحان من نزل القرآن تبياناً لكل شيء ونلمس هذا الحذف قد يكون أعم من الذكر.
وسئل الدكتور حسام النعيمي لماذا حذف كلمة ربهم في قوله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر: 71].
وذكرها مع الذين اتقوا؟ وما دلالة وجود الواو وحذفها في قوله تعالى (وفتحت) (فتحت) ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73].
فأجاب بقوله: ذكر ربهم مع الذين اتقوا ولم يذكرها مع الذين كفروا وذكر وحذف الواو في (فتحت) و (وفتحت) يتعلق بالحذف والذكر. في هذه الآية من سورة الزمر ذكر تعالى الذين كفروا عندما يساقون إلى النار فهؤلاء لا يستحقون أن يرد معهم اسم الله سبحانه وتعالى فضلاً عن أن يذكر اسم الرب (ربهم) الذي يعني المربي والرحيم العطوف الذي يرعى عباده فلا تنسجم كلمة ربهم هنا مع سوق الكافرين إلى جهنم وعدم ذكر كلمة ربهم مع الذين كفروا هو لسببين: الأول أنهم يساقون إلى النار، وثانياً أنهم لا يستحقون إن تذكر كلمة ربهم معهم فلا نقول وساق الذين كفروا ربُهم إلى جهنم لأن كلمة الرب هنا: فيها نوع من التكريم والواقع أنه كما قال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: 51]، لكن مع المؤمنين نقول ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ﴾ ذكر كلمة ربهم هنا تنسجم مع الذين اتقوا. وفعل كفر يتعدّى بنفسه أو بحرف الجر وهنا لم يتعدى الفعل وهذا يدل على إطلاق الذين كفروا بدون تحديد ما الذي كفروا به لتدل على أن الكفر مطلق فهم كفروا بالله وبالإيمان وبالرسل وبكل ما يستتبع الإيمان.
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ لم تذكر كلمة (ربهم) لأن الربوبية رعاية ورحمة ولا تنسجم مع السوق للعذاب ولا يراد لهم أن يكونوا قريبين من ربهم لكنها منسجمة مع سوق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة فهي في هذه الحالة مطلوبة ومنسجمة. كلمة الرب فيها نوع من التكريم فلا تذكر مع الكافرين لكن مع المؤمنين تكون مطمئنة ومحببة إليهم ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾.
وقد وردت (كفروا ربهم) في مواطن أخرى في القرآن لكن في هذا الموقع لم ترد لأنه لا تنسجم مع سوق الكافرين إلى النار ولا بد أن ننظر في سياق الآيات فقد قال تعالى ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ [المزمل: 4] والترتيل في القرآن ليس هو النغم وإنما النظر في الآيات رتلاً أي آية تلو آية متتابعة لأنها مرتبطة ببعضها فإذا اقتطعت آية من مكانها قد تؤول وتفسّر على غير وجهها المقصود لكن إذا أُخذت في داخل سياقها فستعطي المعنى المطلوب الذي لا يحتمل وجهاً آخر.
والبعض يتداول آيات خارج سياقها فتعطي معنى وفهماً غير دقيق للآية ولو أُخذت الآيات في سياقها لفهمناها الفهم الصحيح ولذا يجب أخذ الآيات في سياقها.
بالنسبة لذكر وحذف الواو في كلمة (فتحت) و (وفتحت) حذف الواو مع النار وهذا نوع من إذلال الكافرين والمضي في عقابهم لأن الذين كفروا عندما يساقون الى جهنم كأنهم ينتظرون ثم تفتح لهم الأبواب عندما يصلون إليها وهم في خوف ولكن تفتح الأبواب عند وصولهم وتفاجئهم النار، بينما المؤمنون يرون أبواب الجنة مفتحة لهم من بعيد ويشمون رائحتها من بعد، ورائحتها تشم من مسافة 500 عام وهذا نوع من الإكرام لهم لأن الأبواب مفتحة لهم قبل وصولهم إليها فيكونون في حالة اطمئنان في مسيرهم إلى الجنة.
والواو في (وفتحت) هي واو الحالية أي وقد فتحت أبوابها أي وهي في حالة انفتاح أي سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها حال كونها مفتّحة أبوابها. فالنار إذن أبوابها موصدة حتى يساق إليها الكافرون فتفتح فيتفاجؤن بها وهذا نوع من الإذلال لهم وإخافتهم وإرعابهم بما سيجدون وراء الأبواب أما الجنة فأبوابها مفتوحة وهذا نوع من التكريم للمؤمنين.

ليست هناك تعليقات: