الخميس، 14 مايو 2015

المعنى المعجمي والدلالي والسياقي واللغوي والصرفي والنحوي

 التحليل المعجمي يتعلَّق بالبحث عن معنى الكلمة داخل المعجم ، و جمع جميع المعاني التي يرِدُ بها اللفظ و المسجَّلة في المعجم .
- أما التحليل الدلالي فيتعلَّق بالدلالات المتنوعة التي يأخذها اللفظ في اللغة :
فهناك الدلالة النحوية : التي نستنبطها من ترتيب الكلمات ترتيباً معيّنا ، و هذا التركيب النحوي للكلمات مهم جداً ، إذ أفهم منه دلالة معينة لا أفهمها مع ترتيب نحوي آخر ، مثل قوله سبحانه و : إياك نعبد و إياك نستعين حيث قُدِّم المفعول به ، فالدلالة النحوية لهذه الآية أن هناك تخصيصاً لله سبحانه و بالعبادة و الاستعانة دون غيره و يظهر لنا الفرق جلياً حين نحاول تغيير ترتيب الكلمات في الآية فلا نحصلُ على المعنى نفسه .
و هناك الدلالة الصرفية : التي أصل إليها عن طريق الصيغ الصرفية المستعملة في الجملة أو الآية كقوله سبحانه و : و إني لغفَّار لمن تاب و آمن و عمل صالحاً فاستعمال صيغة ( غفار ) له دلالتُه و هي المبالغة و الإكثار من المغفرة ، و ليس فعل المغفرة فقط .
و هناك الدلالة السياقية : التي استمدُّها من معنى الكلمة في تجاوُرها مع كلمات أخرى ، لأن السياق له دور كبير في تحديد المعنى ، مثلا ً فعل ( ضربَ ) تتعدد دلالاته حسب ما جاوره من ألفاظ فنقول : ضرب زيدٌ عمرواً ، ضرب زيدٌ الخيمةَ ، ضرب زيدٌ النقدَ ، ضرب زيدٌ على يد الظالم ، ضرب زيدٌ في الأرض . و هكذا كلما غيَّرنا في الكلمات المجاورة لضرب في السياق حصلْنا على معنى و دلالة جديدة .
وتناول الباحثون المحدثون أسباب التغير الدلالي بما لا يتسع المقام لمزيد من التفصيل فيه، ولكنهم في معظمهم جعلوها في أسباب داخلية في اللغة، تتصل من حيث الأصوات، والصرف، والنحو، والدلالة، وفي أسباب خارجية تتعلق بالعوامل الاجتماعية، والتاريخية، والثقافية، والأدبية، والنفسية، التي تؤثر في



 المعنى، وتؤدي إلى تغييره





وعلى الرغم من أن بعض الباحثين العرب القدماء أشار إلى التطور الدلالي





الاثنين، 11 مايو 2015

التناص الاقتباس التضمين التلميح السرقة الشعرية والأدبية

اختلفت المصطلحات والمعنى هو أخذ كلام من آخر نسبت له أم لم تنسب فهو تأثر وسلم تركيبي لإكمال بعضنا بعضا شعوري أم غير شعوري وكلها من الثقافة المتسعة من تاريخ ودين وأدب وعلوم وأساطير ورموز وغيرها من قصص وأمثال وحكم متنوعة من مخزون التراث العالمي الذي لا حصر له فمن ترجم ومن عرب ومن نسب ومن أبدع على سبق إبداع من الآخرين .
الجاحظ الذي رأى أن المعاني مطروحة في الطريق، وأن الصياغة هي الأساس، وقدامة ابن جعفر الذي لم تشغله السرقات.
5) نتائج انشغال العرب بالسرقات:
كان لانشغال العرب ونقادهم بالسرقات نتيجتان:
- أولاهما: أن كل هذه الجهود لم تفد الأدب إلا قليلا.
- وثانيهما أنها شغلتهم عن دخول مجالات أخرى من النقد أكثر خطراً وأطيب جنى مثل البحث عن تأثر الشاعر بالبيئة الطبيعية والاجتماعية وبتربيته وبزمانه وعصره والبحث عن انعكاس نفسيته في شعره، ولأضرب مثلاً واحداً لذلك:
في ديوان «كثير» بيتان من قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن مروان، وقيل عبد الملك بن مروان هما:
ومازالت رقاك تسل ضغني
ويرقيني لك الراقون حتى
وتخرج من مكاني ضبابي
أجابت حية تحت الثياب
فانهال النقاد على كثير، فقالوا: ليس هذا الشعر مما يمدح به الملوك، وقالوا: لقد اشتط «كثير» في الدلال . . . . وأمثال هذا النقد، والمؤسف أن النقاد لم يربطوا بين نفسية «كثير» وبين هذا الشعر، ولذلك اعتبروه خروجاً عن قاعدة مدح الملوك.

- التضمين هو أن يضمّن الشاعر كلامه من شعر غيره لشدّة جماله أو لشدّة علاقته بما يقول، نحو قول الحريري على لسان الغلام الذي عرضه أبو زيد للبيع:

على أنّي سأنشد عند بيعـي *** أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا
حيث ضمّن الشاعر صدر بيت العرجيّ القائل:

أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا*** ليوم كريـــــه وســـداد ثغر

الاقتباس هو أن يضمّن المتكلّم كلامه شعرا كان أم نثرا شيئا من القرآن الكريم، أو الحديث الشريف، من غير دلالة على أنّه منهما ،ويجوز أن يكون هناك بعض التغيير في ما اقتبس، نحو قول الشاعر: "قد كان ما خفت أن يكونا.... إنّا إلى الله راجعونا" حيث اقتبس من قوله تعالى "إنّا للّه وإنّا إليه راجعون" (سورة البقرة آية 156)"
 ذكرنا في المقال الأول ان الاقتباس عند علماء البلاغة القدماء يكاد يكون مقصوراً على اقتباس الشاعر من القرآن الكريم أو الحديث الشريف..
وذكرنا أن أكثر العلماء لا يجيزون ذلك، وخاصة من القرآن، تنزيهاً لآي الذكر الحكيم، ومنهم من أجازه بشرط أن يكون المعنى شريفاً والغاية نبيلة..
أما التضمين فهو أن يدخل الشاعر في أبيانه بيتاً (أو أبياناً) مشهورة، وكأنه يستشهد بها، وعادة ما يضع ما ضمن بين قوسين، كما أنه قد يضمن شعره الأمثال أو الحكم السائرة ليعطيه رونقاً وقوة..
وفي النقد الحديث دخل مصطلحا (الاقتباس والتضمين) تحت مصطلح (التناص) عند أكثر النقاد، بمعنى دخول النصوص بعضها في بعض، سواء أكان ذلك عمداً وقصداً أم من فيض العقل الباطن، إذ يشبهون النص الأدبي (بالفسيفساء) التي تتكون من عدة أحجار وألوان بشكل منسق جميل يمنحها شخصية رائعة مستقلة ننسى فيها تفاصيل الأحجار والألوان، والتي يقابلها في الشعر الألفاظ والصور..
* من أمثلة التضمين في الشعر الشعبي قول محسن الهزاني من رباعية له:
وان زرفل المسيوق وارخو العنّه
والجيش هربد والرمك يشعفنّه
واهوى على ركن من الخيل كنّه:
(جلمود صخر حطّه السيل من عالِ)
* وقول ابن لعبون:
«ينشدني يوم انتوى الكل برحيل:
(هل عند رسم دارس من معول»؟
فضمن بيته نصف بيت لامرئ القيس.. وكذلك فعل ابن لعبون مع زهير بن أبي سلمى في قوله - ولكنه هذه المرة ضمن شعر زهير صدر البيت):
(تبصّر خليلي هل ترى من ظعاين)
تقازى بهم فوق الشفا من حزومها؟
«تقازى» تسير بهم مسرعة نوعاً معاً بما يشبه لفظة (المناقز وتناقز «والشفا» المرتفع من الحزوم جمع حزم وهو الهصبة.
* ويقول الشاعر (جري) من قصيدة بليغة:
«وترى روضة الجثجاث لوزان نبتها
مر ولو هو كل يوم يسيل
وعظم الندى يندى ولو كان بالي
يندى ولو هو بالمراح محيل
فان كان ما تعطي والايام عدله
فالايام لازم عدلهن يميل
والعوشزه ما ياقع الحرّ فوقها
لابها لسمحين الوجيه مقيل
وان كان ما نفع الفتى في حياته
ترى النفع من بعد الممات قليل
(ألا ما أكثر الخلان يوم نعدهم
كثير وعند الموجبات قليل)
فضمن البيت الفصيح - مع بعض التعديل -
(فما أكثر الإخوان حين تعدهم
ولكنهم في النائبات قليل)
* والشاعر فلاح القرقاح القحطاني كثيراً ما يضمن شعره الأمثال والحكم بشكل متلاحم لا تكلف فيه مثل قوله:
نقطة من حبر تكتبها تحل أكبر قضيّه
وانت حر صيرمي (والحر تكفيه الاشاره)
جابنا صدق الولا الموروث و(النيّه مطيه)
جعل بيت العز ما يهجر ولا يهدم جداره)
الله يسوّد وجيه اللي نواياهم رديه
ولَّعوا نار الفتن (والنار تالع من شراره)
اصبحوا بين الظهر والبطن (علّه باطنيه)
(والثعل يبقى ثعل) في حجر وإلا في مغاره
فضمن في شعره الجميل الكثير من الأمثال العربية والشعبية بشكل انسيابي يدخل في نسيج شعره.. كأنه ينسج سجادة أصيل..
* ومن الشعر الفصيح في التضمين قول صالح بن عبدالقدوس:
إذا ما وترت امرءاً فاحذر عواقبه
(من زرع الشوك لم يحصد به العنبا)
يريد المثل العربي (انك لا تجني من الشوك العنب)..
* وقول أبي تمام يعزي صديقاً له:
وقال عليُّ في التعازي لأشعث
وخاف عليه بعض تلك المآثم:
(أتصبر للبلوى عزاءً وحسنة
فتؤجر، أم تسلو سلو البهائم)
فنظم قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه حين قال يعزي أشعث بن قيس في ولد له: (إن صبرت صبر الأحرار) والا سلوت سلوَّ البهائم)..
* وقد يحل الناثر بيت شعر، قال الصولي «ما اتكلت قط في مكاتبتي إلا على ما يجيش به صدري أو يجلبه خاطري إلا قولي «فافبدلوه آجالا من آمال» فإني حللت فيه قول مسلم بن الوليد:
«موف على منهج في يوم ذي رهج
كأنه أجل يسعى إلى أمل»
والتضمين قد يكون تلميحاً وفيه بلاغة لأنه يحتاج إلى استنباط، كقول أبي تمام:
«لعمر مع الرمضاء والنار تلتظي
أرق واحفى منك في ساعة الكرب»
يلمح للبيت المشهور:
«والمستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار»
وفي علم البلاغة يفردون التضمين عن التلميح، والأخير أجمل إذا تساوت العناصر الأخرى.. وكلاهما من (فن البديع) في البلاغة..
*يقول الأخيطل:
ولقد سما للخرمي فلم يقل
يوم الوغى: (لكن تضايق مقدمي)
فضمن جزءاً من بيت عنترة:
«إذا يتقون بي الأسنة لم أخم
عنها ولكني تضايق مقدمي»
* ويقول ابن العميد - والبيت الأخير ضمنه من شعر أبي تمام):
وصاحب كنت مغبوطاً بصحبته
دهراً فغادرني فرداً بلا سكن
هبت له ريح اقبال فطار بها
نحو السرور والجاني إلى الحزن
كأنه كان مطوياً على أحن
ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني:
«إن الكرام إذا ما اسهلوا ذكروا
من كاد يعتادهم في المنزل الخشن»
 عرّف البلاغيون الاقتباس بأنه (تضمين النثر أو الشعر شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث الشريف من غير دلالة على أنه منهما، ويجوز أن يُغَيَّر في الأثر المقتبس قليلاً) أنظر الايضاح للقزويني ص٤٢٢ بشرح البرقوقي، أما التضمين فهو أن يضمن شعره شيئاً من شعر غيره مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهوراً عند البلغاء بوضعه بين قوسين..
واختلف العلماء في جواز تضمين الشعر بالذات شيئاً من القرآن أو السنة، فأكثرهم يحرم ذلك إجلالاً للقرآن وأنه ليس بشعر بل هو كلام الله جل وعلا..
أما تضمين الشعر أمثالاً أو شعراً آخر فليس مجال نقاش ديني، بل أدبي وبلاغي، وذلك كقول الشاعر:
على أني سأنُشد حين بيعي
(أضاعوني وأي فتى أضاعوا)
فضمن بيته صدر البيت المشهور وقلبَهُ:
«أضاعوني وأي فتي أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر»
* ويقول فضيلة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في شرح البلاغة عن تضمين القرآن: (وأما إذا كان التضمين في الشعر فهو وإن طابق المعنى المراد فالذي يظهر لي أنه لا يجوز وأنه ممنوع لأنه يتحول القرآن شعراً، ولأنه يسقط من أعين الناس تعظيمه وتكريمه..»
قلت: علماء الشرع لدينا - وفي مقدمتهم الشيخ ابن عثيمين - درسوا واتقنوا قواعد النحو والصرف والبلاغة لأن ذلك ضرورة لفهم القرآن والسنة، وأذكر ونحن طلبة في كلية اللغة العربية أن زملاءنا الذين ذهبوا لكلية الشريعة كانوا يقولون نحن ندرس أكثر منكم: اللغة والشريعة معاً، وهذا صحيح إلى حدّ ما، فكلية اللغة أيضاً فيها تفسير وحديث وتوحيد ولكن من ناحية لغوية ومنطقية، كما أنها تمتاز بدراسة النقد الحديث والبلاغة القديمة..
أما تضمين النثر شيئاً من القرآن فهو جائز على أن يكون المعنى شريفاً.. وبعيداً عن التحريف..
والقرآن الكريم هو أفصح وأبلغ من كل كلام.. بل هو معجز، ومن حفظه، أو بعضه، فإنه ينعكس على حديثه وكتابته نوراً، إذا كان واعياً موهوباً..
* * *
* أما الشيخ سلمان العودة فقد قال في موقعه الالكتروني (الإسلام اليوم) رداً على هذا السؤال:
«ما حكم اقتباس آيات من القرآن الكريم وإدراجها ضمن أبيات شعرية؟ أفتونا مأجورين؟
فرد فضيلته «التضمين معروف لدى علماء البلاغة، وهو إدراج مقاطع من القرآن الكريم ضمن أبيات شعرية مثل قولهم:
«فإنَّ الله خلاق البرايا
عنت لجلال هيبته الوجوه
يقول إذا تدانيتم بدين
إلى أجل مسمى فأكتبوه»
.. وقد يسمى اقتباساً وقد يكون من القرآن أو من الحديث أو من الشعر أو من غيره، ولا مانع منه إذا كان في سياق لا يعرِّض النص الأصلي للسخرية أو النقص أو الامتهان، أما تضمين بلاغات القرآن وأساليبه اللفظية فهو أوسع من ذلك، المقصود بها أن يضع الشاعر أو المتكلم أو الكاتب عبارة من عنده على دفق عبارة قرآنية تنتمي إليها من حيث الأصل وتفترق عنها بالتصرف الكبير في لفظها وسياقها، والمقصود ألا يكون ذلك عبثاً بالقرآن ولا تلاعباً ولا تعريضاً له بالسخرية والله أعلم». ٣/٦/١٤٢٢.
هذا وقد شغل كثير من نقاد العرب قديماً بموضوع (السرقات الشعرية) وبالغ بعضهم في الاتهام إما بدافع التقعر أو الغيرة والحسد، فأرجع بعضهم جل أن لم يكن كل شعر المتنبي مثلاً إلى أنه مسروق من أشعار غيره أو من حكم (ارسطو وأفلاطون) حتى ألف القاضي الجرجاني (الوساطة بين المتبني وخصومه) فكان منصفاً، فالسرقة واضحة، أما التشابه النسبي في المعاني مع الإبداع في الصياغة فهو من توارد الخواطر، وقديماً قال الجاحظ (المعاني ملقاة في الطريق وإنما الفضل للأسلوب) أو نحوه، ودافع المتنبي عن اتهامه بالسرقة في مناظرة فقال: «كلام العرب أخذ بعضه برقاب بعض، والمعاني تختلف في الصدور، وتخطر للمتقدم تارة وللمتأخر أخرى، ولا أعلم شاعراً جاهلياً أو إسلامياً إلاَّ وقد أحتذى واقتفى، واجتذب واجتلب» بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «لولا أن الكلام يعاد لنفد» وقديماً قال عنترة: «هل غادر الشعراء من متردم»؟
فتشابه المعاني مع اختلاف الصياغة وإبداع المعنى لا يعتبر سرقة، وإنما يسمى في النقد الحديث (التّناص) وهو خروج نص قديم من العقل الباطن بإبداع جديد، وحين سأل شاب موهوب أبا تمام: كيف أصبح شاعراً؟ قال له: أحفظ ألف بيت من أجود شعر العرب ثم تعال، وحيث حفظها وقرأها عليه قال: انسها كلها الآن، فأبو تمام الموهوب يعرف أنه إذا عمل على نسيانها فقد هضمها في عقله الباطن وصارت جزءاً من ثقافته توسع مداركه ومعانيه وألفاظه، وأمره بنسيانها لكي تكون له (شخصية) وأسلوب متفرد وإن أثرت فيه النصوص التي قرأها لأنه يكون قد هضمها بوجدانه وتفرده كما يهضم الجسم السليم أنواع الطعام المختلفة فيبني بها صحته ونضارته..
كما أن الصياغة إذا فاقت الأصل تغلبت عليه، فقد كان بشار بن برد يفخر بقوله:
«من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج»
فسار بيته حتى قال تلميذه سلم الخاسر:
«من راقب الناس مات هماً
وفاز باللذة الجسورُ»
فلما سمع بشار هذا البيت لطم وجهه وصرخ: لقد ضاع والله بيتي!
* وعوداً للتضمين فإنه قد يشمل الأمثال والأشعار السائرة كقول الحارثي:
وقائلة والدمع سكب مبادر
وقد شرقت بالماء منها المحاجر
وقد أبصرت نعمان من بعد أنسها
بنا، وهي موشحات دوائر:
(كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا
أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامر)
فقلت لها والقلب مني كأنما
يُقَلِّبهُ بين الجوانح طائر:
(بلى، نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثرُ)
فضمن بيتين لمضاض بن عمرو الجرهمي بشكل منساب، حيث مهد لهما بما يناسب.
* وفي شعرنا الشعبي الكثير من تضمين الأمثار والأشعار، فيكون في ذلك قوة للمعنى وبلاغة للمبنى..
وهم فاضلون ينسبون الشعر المضمن لقائله بالاسم، يقول رضيمان الشمري:
«راعي الحساني نتجازى بالأحسان
وراعي الشتايم ما لنا فيه راده
الهرج يكفي مثل ما قال راكان
ما قل دل، وقل هرج سداده»
يشير إلى قول الشاعر والفارس المشهور راكان بن حثلين:
«الاحسان يا ابن عبيد يجزى بالاحسانْ
والشر تنطحه الوجيه الشريره
ما قل دل وزبدة الهرج نيشان
والهرج يكفي صامله عن كثيره»
الفرق بين الاقتباس والتضمين والتلميح


الاقتباس :

هو أن يضمن الشاعر أو الناثر كتاباته شيئًا من القرآن الكريم أو الحديث الشريف .

ومنه قول الحريري : " فلم يكن إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فأغرب " ..
وقال ابن عباد :

قال لي إن رَقيـــبـــــــي * * * سيء الخُلق فداره
قُلتُ دَعني وجهُكَ الجنَّـ * * * ـة حُفّت بالمكــاره


وقد يُغير المقتبس لاستقامة الوزن كقول أحدهم :
قد كان ما خِفْتُ أن يكونا * * * إنا إلى الله راجعونــــا





التضمين :
هو أن يضمن الشعرُ شيئًا من شعر الآخرين ..

كقول الحريري :
على أني سأنشِدُ عند بيعي * * * أضاعوني وأيُّ فتًى أضاعوا

فنصف البيت الأول للحريري ، والنصف الثاني للشاعر الأموي عبد الله بن عثمان الملقب بالعرجي قائلا :
أضاعوني وأيُّ فتًى أضاعوا * * * ليومِ كريهةٍ وسدادِ ثغرِ






التلميح :
فهو أن يُشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره كقول أبي تمام :
فو الله ما أدري أأحلامُ نائمٍ * * * ألمَّت بنا أم كان في الركب يوشعُ

ويوشع .. بضم أوله وفتح الشين هو صاحب موسى عليه السلام ، ووصيُّه ، وفتاه الذي ردَّت له الشمس .

والأمثلة تكثر في مثل هذه الأنواع ..

فالاقتباس من القرآن والحديث في أساليب النثر جائز بالإجماع ولكن البعض رأى فيه غير ذلك وهو عند البلاغيين أحد الفنون البديعية وهو عندهم تضمين الكلام ـ نثراً كان أو شعراً ـ شيئاً من القرآن أو الحديث من غير دلالة على أنه منهما أي بأن يكون خالياً من الاشعار بذلك .‏


وللاقتباس أربع صور هي اقتباس من القرآن في النثر واقتباس من القرآن في الشعر واقتباس من الحديث في النثر واقتباس من الحديث في الشعر .‏
 


فالنص القرآني الذي يتحدث عن كليم الله موسى "لعلي آتيكم ..." يفرض نفسه على اعتبار أنه كتب علينا هنا البدء باللغة ثم الدخول في المصطلح لأن اللغة هي الأصل إذ أن المفسر يعتمد اللغة والترادف اللغوي أما المؤول يستغرق ويبحث في العمق .‏

وفي السياق ذاته تناول الباحث حسن النيفي في المحور الثاني مفهوم التضمين والتناص في اللغة العربية حيث أكد أن التضمين جاء ضمن ما يسمى بالسرقات الشعرية وما يتبعها وفقاً للمنظومة البلاغية القديمة وعرف علماء البلاغة السرقة بأن يأخذ الشخص كلام الغير وينسبه لنفسه وهي ثلاثة أنواع نسخ ومسخ وسلخ.‏

فالنسخ هو أن يأخذ السارق اللفظ والمعنى بلا تغيير ولا تبديل أو بتبديل الألفاظ كلها أو بعضها بمرادفها كما فعل الحطيئة في بعض شعره بقوله :‏

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي‏

وأما المسخ فهو أن يأخذ بعض اللفظ أو تغيير بعض النظم كقول الشاعر :‏

من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللهج‏

وغيره قال:‏

من راقب الناس مات هماً وفاز باللذة الجسور‏

بينما النوع الثالث السلخ هو أن يأخذ السارق المعنى وحده وإن امتاز الثاني فهو أبلغ نحو قول الشاعر:‏

هو الصنع إن يعمل فخير وإن يرث فللريث في بعض المواضع أنفع‏

ويقول آخر:‏

ومن الخير بطء سبيك عني أسرع السحب في المسير الجهام‏

وفيما يتعلق بمفهوم التناص ذلك المصطلح النقدي الحديث أو ينتمي إلى نقد ما بعد الحداثة لما يسميه النقاد لأنه أحد مفرزات نظرية التلقي ومضمون هذا المصطلح يتمحور على قاعدة أن "أي نص لا يمكن فهمه دون الرجوع إلى عشرات النصوص التي سبقته" .‏

كما يذهب بعض النقاد المعاصرين إلى اعتبار التناص مجموعة من النصوص التي نجد بينها وبين النص الذي نحن بصدد قراءته قرابة على اعتبار أن البعض بؤرة نصوص لذلك يكون حضور النصوص الغائبة في النص المقروء تلقائياً وهذا ما يجعل أي نص أدبي أو غيره بحاجة إلى تفكيك .‏

فالوظائف والنتائج المرجوة من عملية التناص تعني إعادة استخدام الكلام الذي مضى وربط الماضي بالحاضر والأصالة بالمعاصرة والتراث بالحداثة وكذلك ربط الأدب بغيره من الثقافات والفنون وقال الإمام علي كرم الله وجهه حول ذلك "لولا أن الكلام يعاد لنفد" ويقول الناقد جيرار جينيت "ليس للنص أب واحد، أو أصل واحد بل مجموعة من الأصول والأنساب" .‏

ولتقريب مفهوم التناص أكثر أورد الباحث مقارنة بين نص للشاعر محمود درويش ونص للشاعر أبي العلاء المعري حيث يقول الأول:‏

رأيت المعري يطرد نقاده من قصيدته‏

لست أعمى لأبصر ما تبصرون‏

فإن البصيرة نور يؤدي‏

إلى عدم أو جنون‏

وهذا المقطع من قصيدة الشاعر درويش يتناص ويتقاطع مع تجربة أبي العلاء المريرة مع الموت ويكشف عن غربته التي تمخضت من سوء فهم الناس له ويقول المعري:‏

أعمى البصيرة لا يهديه ناظره إذ كل أعمى لديه من عصا هاد‏

وتوقف الباحث النيفي عند بعض الملاحظات الهامة التي تتعلق بمفاهيم التضمين والتناص ومنها :‏

أولاً: إن ظاهرة التضمين في البلاغة القديمة هي أقرب ما تكون إلى مفهوم التناص في النقد الحديث مع وجود الفروقات منها مثلاً أن التضمين في الشعر القديم كان يرد لفظاً ومعنى وقلما يعمد الشاعر إلى توظيف اللفظ أو المعنى المتضمن توظيفاً جديداً بينما في الشعر المعاصر نرى الشاعر في الغالب يعيد إنتاج المعنى القديم بطريقة تخدم رؤيته أو تنسجم مع غرضه المراد .‏

ثانياً: إن المنظومة البلاغية القديمة والأطر النقدية التراثية بوجه عام ليست بنى جامدة فقدت قيمتها بانقضاء زمانها ولم تعد قادرة على النهوض بالإبداعات المعاصرة بل ما زالت أرضاً خصبة لمن اراد الحرث في مداميكها واستنباط مكنوناتها وإن بناء نقد عربي معاصر يتأسس أو ينطلق من النقد التراثي ولا يفعل الإفادة من النظريات النقدية الغربية الحديثة .‏

ثالثاً: إن القيمة الجمالية لأي فن والذوق الفني لأي إبداع ليس أمراً ثابتاً أو مستقراً لا يعتريه التغيير أو التحول فما يمكن أن يكون مستقبحاً في عصر من العصور يمكن أن يكون مستحباً في عصر لاحق .‏

وظاهرة التضمين كانت تدرج في باب السرقة في النقد القديم وتتصل بالسرقات الشعرية إلى جانب سبعة أمور هي : "الاقتباس والعقد والحل والتلميح والابتداء والتخلص والانتهاء" ويعني التضمين وفقاً لعلماء البلاغة "أن يضمن الشاعر كلامه شيئاً من مشهور شعر الغير مع التنبيه عليه ما يجعل شعره يزداد حسناً وجمالاً ، كقول الصاحب بن عباد :‏

أشكو إليك زماناً ظل يعركني عرك الأديم ومن يعدوعلى الزمن‏

وصاحباً كنت معبوطاً بصحبته دهراً فغادرني فرداً بلا سكن‏

وباع صفو وداد كنت أقصره عليه مجتهداً في السر والعلن‏

فيما يقول أبو تمام :‏

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن‏





نجد في معجم الوسيط أن السرق هو (الأخذ من كلام الغير، وهو أخذ بعض المعنى أو بعض اللفظ سواءً أكان أخذ اللفظ بأسره والمعنى بأسره). وأجد نوعاً من السرقات الغريبة في عالمنا هذا حيث يعمد أصحاب المال والمناصب لدفع مبالغ مالية لبعض الطلاب الناشئين أو الكتّاب المغمورين لتأليف الكتب والأبحاث ونسبها لهم، وغالباً يكون صاحب المال غير عارفٍ أو عالمٍ بما يحوي بين دفتي الكتاب هذا مدفوع الثمن.
وقد قسم النّقاد السرقات من حيث اللفظ والمعنى إلى ثلاثةِ أقسام هي :
1- سرقة الألفاظ.
2- سرقة المعاني.
3- سرقة الألفاظ والمعاني.
إنّ للسرقة الأدبية تاريخ قديم، فقد كان عند الشعراء العرب من يغربل كلامهم ويتعقبهم لرد المعاني لأصحابها السبّاقين السابقين في المعنى والفكرة. فيرى (الأعشى) أنّ السرقة هي عارٌ يصيب الشاعر حيث يقول: فكيف أنا وانتحالي القوافي............ بعد المشيب كفى ذاك عارا وأيضاً نجد السرقة الأدبية قديمة عند الرومان واليونان، حيث يعترف (هوراس) بتقليده لـ(اركيلوكس) و(اليكوس)، وأيضاً أشار إليها (أرسطو) باستخدام الشعراء النقل عن الأقدمين.
نجد بعض الكتاب من يميلون لتبرير السرقة ونفيها إلى تسميتها توارد الخواطر، مستشهدين بحادثة (إبراهيم عبد القادر المازني) حيث ترجم رواية عن الروسية إلى اللغة العربية وأسماها (ابن الطبيعة) عام 1920، ليفاجأ هو نفسه عندما قام بطبع قصته (إبراهيم الكاتب) عام 1930 بتضمينها أربع أو خمس صفحات من الرواية الروسية ابن الطبيعة بالحرف والفاصلة والنقطة ذاتها، ليقول مذهولاً مما حصل بدون إرادة منه: "لعمق الأثر الذي تركته هذه الرواية في نفسي، فجرى بها القلم وأنا أحسبها لي".
كثيراً ما نسمع عن سرقات أدبية واضحة اللفظ والمعنى والفكرة أيضاً، ولكن أغلب السرقات هي غير واضحة المعالم، أي بمعنى أدق يحمّل السارق عمله إبداعه الشخصي فقط في إعادة صياغة العبارات ونسبها إليه. ونظراً لوجود الانترنيت والمواقع الإلكترونية في العصر الحالي نجد السرقة أصبحت مشاعة بعيدة كل البعد عن حماية الملكية الفكرية وحق المؤلّف، وببعض عبارات تتردد هنا وهناك: "السارق على الفيس بوك كالوارث من أبيه". مهما اختلف شكل أو لون السرقة، تظلّ سرقة وكذباً، ولو برّر لها قبلاً أرسطو باعتبارها استعارة وعلى حدّ قوله: "الاستعارة هو من علامات العبقرية".






























يقول « ابن طباطبا» تناول المعاني المسبوقة ليس سرقة وإنما هو« أخذ» لايعاب، جاء ذلك في معرض حديثه عن موضوع السرقات الادبية، ذلك الموضوع الذي شغل حيزاً كبيراً من اهتمام العرب ودراستهم منذ قامت المعارك الأدبية حول تجديد الشعراء المحدثين في الادب العربي بعامة، والخصومات الأدبية التي دارت حول ابي تمام والبحتري ثم من بعده حول المتنبي بخاصة ـ وانما عني العرب بالسرقات

ـ وفق مايورده الدكتور مصطفى الصاوي ـ لأنها مقياس بلاغة الشاعر وآية تفوقه، وهم يقصدون طبعاً من وراء ذلك الى الوقوف على مدى أصالته وابتكاره، أو تقليده واتباعه ،هذا ماسعت إليه الدراسات العربية القديمة في الماضي، كما تسعى الدراسات الأدبية في الآداب العالمية في الحاضر الى تبين مدى اصالة الاديب وقدر مافيه من رواسب ماضية، ومايتبقى لعبقريته الذاتية المتفاعلة مع حاضره، وقد اورد الجاحظ في اشارات خاطفة، ،ولكنها عميقة وموحية الى أبعاد الموضوع، حيث يعرض في كتاب( الحيوان) ـ ومباحثه جميعاً موسوعات أدبية ـ لموضوع السرقة عرضاً واقعياً، من حيث ان كل صورة جزئية او معنى بديع او تعبير مخترع عرضة إما للتناهي أو إما للاستعانة والاستمداد، اللهم الا التصوير الفردي الذي يتحاماه غير صاحبه من الادباء. ‏
ولقد وضع الإمام عبد القاهر الجرجاني من قواعد ومفاهيم أخذها تلامذته وساروا على منوالها دون مراجعة وفحص وتقويم وإضافة، فلكم بذل من جهود علمية مضنية عن الجملة العربية وخصائصها واقسامها وأجزائها ومتعلقها مسنداً أومسنداً اليها. ونجد ان الجرجاني التقى مع الجاحظ« في ان اساس التفاضل بين صناع الكلام، ليس هو المعنى الذي يورده الأديب وانما يتفاضلون بحسن الصياغة وإقامة الوزن وتخير اللفظ وجودة السبك» ونلحظ ان الجرجاني لم يخصص للسرقة باباً في كتابيه، «اسرار البلاغة» و«دلائل الاعجاز» وانما عرض لها هنا وهناك حيث يقتضيه الجدل في منافحته عن المعنى ضد انصار اللفظ، وفي قراءة لافكاره نتلمس بسطه الفلسفي لهذه القضية الأدبية اذ يقول اعلم ان الشاعرين اذا اتفقا لم يخل ذلك من ان يكون في الغرض على الجملة والعموم، او في وجه الدلالة على الغرض، وأما وجه الدلالة على الغرض فهو ان يذكر مايستدل على اثباته له الشجاعة والسخاء مثلاً، وذلك ينقسم أقساماً منها التشبيه، بمايوجد هذا الوصف فيه على الوجه البليغ والغاية البعيدة كالتشبيه بالاسد وبالبحر في البأس والجود، وبالبدر والشمس في الحسن والبهاء والإنارة والإشراق، ومنها ذكر هيئات تدل على الصفة من حيث كانت لاتكون الا فيمن له الصفة كوصف الرجل في حال الحرب بالابتسام وسكون الجوارح وقلة الفكر كقوله: كأن دنانير اً على قسماتهم... وان كان قد شق الوجوه لقاء ونلحظ انه لايوضح فرقاً مابين هذه المسميات الاخذ.. السرقة ـ الاستمداد .. الاستعانة.. وفي كتابه الدلائل تجده لايسميها سرقة بل« احتذاء» ويرى الاحتذاء في النظم، وهذا منه طريف وقد قسم الاحتذاء الى جلي وخفي، ثم يعود في النهاية فيسوي بين الاحتذاء والأخذ والاستراق عند علماء الشعر.. ويلح عبد القاهر على التحوير الفني، او هو يدلل على ان السرقات الشعرية تكون في الصورة( او النظم) وذلك في معرض بيانه ان التفاضل بين معنيين متحدين انما يكون في النظم وليس في اللفظ... يجدر بالذكر ان الجرجاني إضافة الى ماسبق ذكره ـ قد حاول وضع قواعد فنية للبلاغة والجمال الفني في كتابه دلائل الإعجاز كما حاول ان يضع قواعد نفسية للنصوص في كتابه ‏
« أسرار البلاغة». ‏
1) سارق المال يسرق المادة، أما سارق الأدب فيسرق الروح. وبعيد ما بين سارق المادة لأنه فقير مادياً يريد أن يأكل، وبين سارق الروح لأنه فقير روحياً ويريد أن يسرق ليدعي أنه ذو موهبة، الأول جائع المعدة والثاني جائع العقل والقلب والروح.
2) سرقة الشعر معروفة منذ الجاهلية، وقد أشار إليها طرفة بن العبد، ولكنها بدأت تستفحل بعد انتشار الإسلام واللغة العربية.
3) في اعتقادي أن شر أنواع السرقة الاغتصاب، وهو أشبه بالنهب وقد مارسه في جرأة عجيبة الفرزدق في العصر الأموي، وهذه بعض حوادثه في الاغتصاب:
أ ـ اغتصاب شعر ذي الرمة:
سمع الفرزدق ذي الرمة ينشد:
أحين أعاذت بي تميم نساءها
وجردت تجريد الحسام من الغمد
فأخذ البيت الفرزدق وانتحله وهو في ديوانه 1 : 195.
ب ـ اغتصاب شعر جميل:
وقف الفرزدق على جميل، والناس مجتمعون عليه وهو ينشد:
ترى الناس ماسرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
فأشرع إليه رأسه من وراء الناس وقال: أنا أحق بهذا البيت منك، قال: أنشدك الله يا أبا فراس، فمضى الفرزدق فانتحله. «الأغاني 9:341، وهو في ديوانه 2:82».
ج ـ اغتصاب شعر الشمردل:
مر الفرزدق بالشمردل وهو ينشد:
ومابين من لم يعط سمعاً وطاعة
وبين تميم غير حز الغلاصم
فقال: والله لتتركنه أو لتتركن عرضك، فقال: هو لك، فانتحله الفرزدق وهو في ديوانه 2:383.
وقل أن نجد في تاريخ الشعر العربي بعد الفرزدق من يغتصب شعر غيره مثل هذا الاغتصاب العلني.
4) تاريخ السرقات الأدبية:
شغلت السرقات الأدبية أكثر علماء العربية ومنهم:
الآمدي، الحاتمي، ابن السكيت، الزبير بن بكار، ابن طيفور، المبرد، مهلهل بن يموت، جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي، المرزباني، وابن رشيق والمظفر العلوي، وغيرهم.
ولكن إلى جانب هؤلاء العلماء الذين اهتموا بالسرقات الأدبية نجد علماء آخرين لم تشغلهم ومنهم:

6) سرقة كتاب:
أ ـ في عام 1951 أصدرت في حمص كتاب «المتشردون» لمكسيم غوركي وهو مجموعة قصصية، وبعد أسبوعين في بيروت فإذا بالكتاب نفسه بغلافه وكلماته يعرض فيها باسم غير اسم مؤلفه، إن سارق الكتاب لم يكلف نفسه حتى عناء تغيير الغلاف.
أيقل هذا السارق جرأة عن الفرزدق حين اغتصب ابيات الشعراء؟
ب ـ في عام 1970 أصدرت ديواني «قصيدتان: بهيرة وورود» وفي الديوان رثاء زوجتي بهيرة التي توفيت عام 1947، ورثاء ابنتي ورود التي توفيت عام 1970 فادعاهما كثيرون ونشروا منهما مقاطع بأسمائهم ولكن صدور القصيدتين عام 1970 أوقف محاولات السرقة.
7) مجالات السرقة: لاتقتصر السرقة على الشعر وحده، إنما هي تشمل كل أنواع المعرفة والثقافة: الشعر والنثر والعلم والبحث والتأليف.
8) أما السارقون فكثيرون:
والمؤسف أن بعض أساتذة الجامعات يسرقون إما كتب غيرهم وإما رسائل طلابهم وينتحلونها ويصدرونها بأسمائهم.
ولعل أغرب السرقات أن آذناً أمياً في إحدى المحاكم اشترى من قاض فقير كتاباً في القانون وأصدره باسمه «باسم الآذن الأمي» وربح أرباحاً طائلة، وجاءته الرسائل معنونة باسم الأستاذ الجليل والقاضي الفاضل.
ويدخل في مجال السرقة نشر كتب التراث العربي والإسلامي دون تحقيق ومن هذه الكتب كتاب «المطربات والمرقصات» الرائع الذي أحاله محققوه أو الذين ادعوا أنهم حققوه إلى كارثة.
بل إن كتاب الأغاني الجليل لم يخل من سقطات بعض المحققين الجهلاء وأكتفي بذكر جريمة واحدة في الجزء 21 صفحة 359:
نقل المحقق قول «كثير عزة» السابق:
ومازالت رقاك تسل ضغني
ويرقاني لك الراقون حتى
وتخرج من مكاني ضبابي
أجابت حية تحت الثياب
وأحالنا المحقق الجليل إلى تفسيره في الحاشية:
(2). . . . أما سر ثورة الفرزدق فهو ماضمناه من فحش. . .. .. .
. . .. . . .. . . . .
(4) يريد بالحية تحت الثياب ذكره والمعنى: كنت غاضباً عليك لا آتيك فما زلت تتودد إلي ويسعى الساعون في سل بغضي لك من صدري حتى نشطت إليك وأتيتك.
والمؤسف أن هذا التفسير المذهل جاء في طبعة الهيئة المصرية للكتاب عام 1973، ورغم أن هذين البيتين وردا مرتين في الأجزاء السابقة من الكتاب.
ملاحظة (1)
يخطئ كثير من المؤلفين والكتاب حين يهملون عمداً أو سهواً ذكر الكتب التي اقتبسوا منها مؤلفاتهم. فهم أولاً يخونون الأمانة العلمية، وهم ثانياً يسرقون حقوق الآخرين، وفي اعتقادي أن ذكر الكتب التي اقتبسوا منها والعلماء الذين أخذوا عنهم يزيد مؤلفاتهم قيمة ويجعلها موضع ثقة القراء.
إن الاستفادة من التراث الأدبي قديماً وحديثاً حق، ولكن ضمن هذين الشرطين: ألا يشوه ماورد في التراث أولاً، وأن يذكر صراحة موضع الاستشهاد والاقتباس ثانياً.
ملاحظة 2
يجب أن تعد إعادة نشر الكتب وتوزيعها حتى لو كانت باسم مؤلفها الأصلي سرقة موصوفة، فإعادة نشر الكتاب دون إذن مؤلفه ظلم له وأكل لحقوقه، وماأقسى هذا التصرف حتى على كبار المؤلفين.
مقترحات:
1. أقترح إصدار قوانين صارمة لحفظ حقوق المؤلفين، والكتاب والشعراء وعقوبة من يعتدي على مؤلفاتهم بالسرقة والتزوير عقوبة رادعة.
والمؤسف أن أكثر الدول العربية ليس فيها قوانين لحماية المؤلفين.
وأذكر بالمناسبة أن شيخاً جليلاً هو الأستاذ محمد أحمد دهمان صنف كتاباً في القراءات فسرقته إحدى دور النشر وأصدرته باسمها فأقام عليها دعوى في الثلاثينات ولكنه مات قبل صدور الحكم في الثمانينات.
2. تشكيل لجان من العلماء والأدباء والشعراء في كل اتحاد للكتاب العرب في الدول العربية أو جمعية للأدباء لمتابعة ماينشر من الكتب والأبحاث والمقالات ومراقبة المسروقات منها وتلقي رسائل القراء الذين يرشدونهم إلى مواقعها.
رأي
لقد عانى القدماء في تتبع السرقات الأدبية حتى بلغوا درجة الإحالة والتمحل، وأرى أن كشف السرقات العلمية والأبحاث التاريخية و الكتب يقع في المقام الأول قبل كشف السرقات الشعرية إلا إذا بلغت حد الاغتصاب وذلك لثلاثة أسباب:
1. أولهما أن المواقف الإنسانية متشابهة، وعواطفنا البشرية متقاربة، ويوشك أن يكون التعبير عنها متشابها مشتركاً.
2. وثانيها: أن في الأدب واللغة تعابير تاريخية وصيغاً متشابهة متداولة أملت على الشعراء نفسها منذ قرون، ويصعب على الشاعر، مهما حاول ـ أن يتخلص منها.
3. وثالثهما أن الحافر قد يقع على الحافر دون عمد والشاعر قد يقع على الشاعر دون قصد، وأضرب على ذلك مثالاً علق عليه النقاد كثيراً وهو قول الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل
فقد روي هذا البيت لعدة شعراء مع تبديل القافية:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل طريق
وأحسب أن كل واحد منهم وقع على صياغة هذا المعنى صياغة واحدة دون أن يسرق بعضهم شعر بعض.
اعتذار
سألني الأستاذ محمد يونس عبد الرحمن هذا السؤال:
خلال ترجماتك للآداب الأجنبية، وبخاصة موسوعتك الكبيرة (الأدب الفيتنامي «4 مجلدات») هل لاحظت وجود ظاهرة السرقة الأدبية بين الأدباء الفيتناميين؟
والجواب أني أعتذر عن عدم الإجابة على هذا السؤال لأني لا أملك الشروط الكافية للجواب، فعذراً.






























الأربعاء، 6 مايو 2015

نماذج من الشعر القصصي

1- كسر الغلام زجاج نافذة البنا... من غير قصد شأنه شأن البشر فأتاه والده وفي يده عصا ... غضبان كالليث الجسور إذا زأر مسك الغلامَ يدق أعظم كفه ... لم يبق شيئاً في عصاه ولم يذر والطفل يرقص كالذبيح ودمعه...يجري كجري السيل أو دفق المطر نام الغلام وفي الصباح أتت له ... الأم الرؤوم فأيقظته على حذر وإذا بكفيه كغصن أخضر ... صرخت فجاء الزوج عاين فانبهر وبلمحة نحو الطبيب سعى به ... والقلب يرجف والفؤاد قد انفطر قال الطبيب وفي يديه وريقة ... عجّلْ ووقّعْ هاهنا وخذ العبر كف الغلام تسممت إذ بالعصا ...صدأ قديم في جوانبها انتشر في الحال تقطع كفه من قبل أن ... تسري السموم به ويزداد الخطر نادى الأب المسكين واأسفي على ... ولدي ووقّعَ باكيا ثم استتر قطع الطبيب يديه ثم أتى به ... نحو الأب المنهار في كف القدر قال الغلام أبي وحق أمي ... لا لن أعود فرُدََّ ما مني انبتر شُدِهَ الأب الجاني وألقى نفسه ... من سطح مستشفىً رفيعٍ فانتحر


2- عموا أنه كان يقبلُ ركضا على فرسٍ عربيّ فتى يرتدي معطفا من جحيمِ السرابْ، يحملُ الغصن،َ في فكرهِ والعويلُ صداهُ يُذيبُ التلالْ كان يحكي لمن وُلدوا بعد مجزرة الحيِّ أنَّ في ما مضى هلك الزرعُ والنسلُ تحت أزيز الرصاصِ وقمع الصهاينة الغاصبين ذبحوا في الحقولِ الترابَ رموا بالرصاص الحمامْ فجّروا في الصدور جراحا تنير الطريقْ أعدموا الطفل في مهدهِ نكّلوا بالشيوخ أمام الحشودْ ضاع في رمشة العين كل الوجودْ في الخنادق ألقوا بهم وأقاموا الزفافْ مجلس الحربِ لم يستمع لصلاة العراةْ صدّروا للعدوّ عتادا يزيلُ الديارْ، في السجون ينام على الدمع كل أسيرْ فارسَ الليل كم قتلوا منذ أن سلبوا الأرض غصبا أمام الشعوبْ شردوا أهلنا تحت نخل الجليلْ يحلم النخل بالأمن في ظله الشمس تركض خلف الضياءْ سيظل الفارسُ يحكي مادامَ الرمسُ في صدره يمتطي وطنا يعلن الفجرُ عن نورهِ في الصباحِ الجديدْ


ولقد دخلت على الفتا = ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر = فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت = مشي القطاة إلى الغدير
ويختمها بقوله :
فإذا انتشيت فإنني = رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني = رب الشويهة والبعير
وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ = ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ = يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزاءها = ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما
حفـاة عراة ما اغتذوا خبـز ملة = ولا عرفوا للبر مذ خلقـوا طعما
رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ = فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَشمَّرَ وَاِهتَمّا
فقال هيا رباه ضيف ولا قــرى = بحقك لا تحرمه تالليلة اللحمـا
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ = أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا = يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَةً = وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا
فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ = قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما
عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها = عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها = فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما
فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ = قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما
فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ = وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى
فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم = فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما
وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً = لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا
3-لم يخل العصر الجاهلي من شعر قصصي ، ولكننا بصفة عامة لا نستطيع أن نسلكه في باب القصة الشعرية ذات البناء الفني بمفهومه الحديث . صحيح أن الأحداث تتابع فيه بواقعية وصدق ، وفيه أحيانًا دقة في تصوير المواقف والشخصيات والمنازع النفسية ، ولكنه تغلب عليه البساطة من جهة ، ويتسم بالغنائية الحادة من جهة أخرى ، فهو قد حرم التعقيد الذي يعد من أبرز سمات العمل القصصي ، ولم يكن مقصودًا كفن له اعتباره وملامحه ، بل كان يرد غالبًا ضمن القصائد الغنائية التي استغرقت الشعر العربي في هذا العصر .
 غير أن هذا اللون من الشعر كان نواة للشعر القصصي الذي تلاه ، ونشير في هذا الصدد إلى شعر النابغة الزبياني الذي صور لنا ما وقع له مع المتجردة ومع زوجها النعمان بن المنذر ، وشعر امرئ القيس الذي يصور فيه مغامراته الغرامية الفاضحة ، وشعر السمؤل ، وزهير بن أبي سلمى ، وغير هؤلاء ممن عبروا لنا في شعرهم عن أفكار ومشاعر تولد أكثرها من أحداث غريبة وقعت لهم .
 ولا شك أن غلبة الذاتية على هذا اللون من الشعر أضعف من الحبكة القصصية ، لأن الموضوعية هي أهم خصاتئص الشعر القصصي ، إلا أن هذه الغنائية لا تنفي الصبغة القصصية عن هذا اللون من الشعر نفيًا مطلقًا ، وقد ترتقي بعض القصائد القصصية فتستوفي من عناصر الفن القصصي ما يسلكها في باب القصة الشعرية .
 فالنقف عند نموذج من هذا اللون عند شعرائنا القدامى ، لنرى حظه من هذا الفن :
المنخل اليشكري :
 ومن هذا القبيل تلك المغامرة الغرامية التي صاغ تفاصيلها الشاعر الجاهلي المنخل اليشكري في رائيته المشهورة . والتي مطلعها :
إن كنت عاذلتي فسيري = نحو العراق ولا تحوري
 ويقال إنها مغامرة حقيقية بينه وبين هند بنت عمرو بن هند ، وبلغ خبرها عمرًا ( أباها ) فقتله ، وقيل أن الذي قتله هو النعمان بن المنذر لغرام بينه وبين زوجته ( انظر الأصمعيات من ص 58 – 61 ) .
 ومنها :

فالشاعر في صدق وبساطة وجمال تشير إلى الجو الذي تمت فيه المغامرة ، لقد كان الجو باردًا مطيرًا وكفى ، ولم يجنح إلى ما درج عليه الآخرون من تصوير الأخطار التي يتخطاها وصولاً إلى المحبوبة . والشعر هنا على قلة الأبيات فاق سابقيه في تصوير الملامح النفسية :
 1- فلوعة الحب استبدت به حتى سيطرت على جسده حرارة العشق التي لم تخفف منها برودة الجو .
 2- والحب زاد وفاض وتخطى الحبيبين إلى الحيوان الأعجم .
 3- والشاعر إذا لعبت برأسه الخمر تعابثه الأحلام حتى يرى نفسه ملكًا مملكًا ، والإفاقة تصدمه بالواقع المر فإذا هو الراعي الفقير رب الشويهة والبعير .
 فنحن هنا أمام لون يغلب عليه الطابع النفسي الصادق الذي افتقر إليه امرؤ القيس في حسيته المنهومة .
**********
ولكن تبقى ميمية الشاعر المخضرم الحطيئة ( جرول بن أوس ) أدل ما قيل في هذا المقام موضوعيًا ، وفنيًا ، فهي قصة شعرية بكل عناصرها . ونقدم للقارئ نص أبياتها :

 والقصيدة كما هو واضح استكملت كل عناصر القصة الشعرية ، يستغلب عليها الموضوعية ، وتتخلى عن الطابع الغنائي السائد . وهي قصة مستقلة مقصودة بذاتها ، ولم ترد في سياق غيرها من قصائد المدح أو الفخر أو الغزل .
 والأحداث تقع في صحراء موحشة " لم يعرف بها ساكن رسما " .
 وملامح البيئة القاسية تنعكس على شخصيات القصة التي وفق الشاعر في رسمها وتجديد ملامحها :
 فالشخصية الأولى هي شخصية الأعرابي الخشن الجافي الذي حرم متعة الحياة في بيداء لا ترحم .
 وأسرة الأعرابي من أم عجوز وثلاثة أبناء عراة جياع يعيشون على الحرمان .
 وبعد هذا العرض البسيط الواضح يرتقي الشاعر إلى لون من التعقيد والتركيب .... ففجأة يظهر شبح ضيف غير متوقع ، ويقع الأعرابي نهبًا لصراع نفسي فادح : هل يعتذر للضيف بالعُدم والحرمان ، فيظن الضيف به بخلا ؟ أم يذبح ابنه ويقدم للضيف وجبة من لحم فلذة كبده .
 ويصل الموقف إلى قمة التأزم ، ونجد أنفسنا أمام " عقدة " حقيقية حين نرى الضيف يهم بذبح ابنه ليفي الضيف الطارق حقه ، حتى لا يدركه العار والمزمة في بيئة أرفع قيمها الكرم والأريحية .
 وبعد أن بلغت العقدة قمة التأزم يأتي الحل في صورة طبيعية لا تكلف فيها : إذ يظهر قطيع من حمر الوحش يصيد منها الأعرابي " أتانًا " سمينة ذات جحش ، ويقضي حق ضيفه ، ويبيت الجميع في سعادة وهناءة . وهو حل يتسق مع طبيعة " البيئة "، ويتسق مع طبيعة " الشخصية العربية " التي تحرص على التحلي بالكرم والشهامة والأريحية .
 والشاعر يستعين في تصوير " الصراع النفسي " بالحوار الداخلي :
هيا رباه ضيف ولا قرى ؟
كما يستعين " بالحوار الخارجي " ( الديالوج ) حين يدخل الابن مسرح القصة ليمثل الشخصية الثانية ويقوم بدور " الفداء " ، فيذكرنا بقصة إبراهيم وإسماعيل الذبيح عليهما السلام .
 والأحداث تتلاحكم في صورة عضوية لتخلق " حبكة " تتدفق بالتشويق ، وتجعل من القصيدة أقصوصة شعرية كاملة ، فيها العرض الناجح ، والتصوير الدقيق البارع ، والصراع النفسي ، والحوار بنوعيه الداخلي والخارجي ، والعقدة ، والحل .
 ولكن القصيدة لا تمثل اتجاهًا فنيًا مطردًا في الشعر الجاهلي ، أو في شعر الحطيئة ، فهي وإن مثلت البيئة العربية من الناحية الاجتماعية والنفسية لا تمثل – باطراد - الشعر العربي الجاهلي من الناحية الفنية والموضوعية .

















الأحد، 26 أبريل 2015

أسلوب السرد في الرواية العربية

أساليب السّرد والبناءفي الرواية العربيّة الجديدة
دراسة أسلوبية‏
الحديث عن السرد في الرواية، يعني الحديث في الوقت نفسه عن الراوي وعن وجهات النظر أو ما يسمى (بالرؤى) في الحكاية، تلك الظاهرة الفنية التي أعارها النقد في القرن العشرين أهمية لم تكن لها من قبل، بسبب صلتها الشديدة بمستويات العبارة، وبالطريقة التي يعرض فيها الكاتب أحداثه.‏
ويذهب معظم النقاد، الذين تناولوا هذا الموضوع، إلى أن القيمة الأساس للعمل الروائي تكمن في (الرؤى). فقد اعتبر برسي لوبوك "مجمل السؤال المعقد عن الأسلوب في صنعة الرواية محكوم بالسؤال عن وجهة النظر، السؤال عن علاقة القصة بها".‏
وأكد فرانك كرمود هذا المعنى بقوله: "فإذا تابعت الحديث عن السرد القصصي بشكل حسن فهذا يعني أنك ستحسن الحديث عن الرواية"(2) أما تزفتان تودوروف فيضع الرؤى في المرتبة الأولى من الأهمية في العمل الأدبي، إذ يقول: "ففي الأدب لا نواجه أحداثاً أو أموراً في شكلها الخام. وإنما نواجه أحداثاً معروضة بطريقة ما وتتحدد جميع مظاهر أي شيء بالرؤية التي تقدم لنا عنه".(3)‏
ويعتبر كتاب "الزمن والرواية" لجن بويون، أحد الاسهامات النقدية البنيوية المهمة في دراسة هذا المظهر من العمل الأدبي، بعد دراسات لوبوك وبوث. وقد صنف بويون (الرؤى) إلى ثلاثة أنواع، هي:(4)‏
1- الرؤية من الخلف: وتتميز بأن الشخصية فيها، لا تخفي شيئاً عن الراوي، فهو يعرفها معرفة تامة ويخترق جمجمتها ويتنبأ بأفكارها.‏
2- الرؤية مع: وتسمى أيضاً بالرؤية (المجاورة) وتتميز بأن معرفة الراوي فيها تساوي معرفة الشخصية عن نفسها.‏
3- الرؤية من الخارج، وتقتصر معرفة الراوي فيها على وصف أفعال الشخصية، ولكنه يجهل أفكارها ولا يحاول أن يتنبأ بها.‏
ويطلق على الراوي في الرؤية من الخلف مصطلح "كلي العلم" أو "كلي الوجود". إلا أن الناقد "فريدمان" يرفض هذه التسمية، بسبب محدودية معرفة أو وجود هذا الراوي ويصطلح عليه بـ "الراوية المتنوع" ويحدد خصائصه بأنه "لا يقيم في كل مكان في وقت واحد: بل يكون مرة هنا ومرة هناك، ينظر الآن في هذا العقل أو ذاك، ويتحرك صوب فرص مواتية أخرى فهو مقيد بالزمان ومقيد بالمكان، ويضيف الناقد واصفاً هذا النوع من الرواة، بأنه (لا يكون في الأغلب شديد التعمق، ولكن لا بد له من أن يكون متنوع المهارات، خفيفاً في نقلاته المجازية لأن تحوله المسرحي جزئي، وهو يستدعى مثلما يستدعى لاعب الدمى الماهر النشيط، ويتلاعب بعدد من الشخصيات على التوالي، وغالباً ما تكون عديدة في وقت واحد، كما أنه يحتفظ لنفسه بدور على المسرح مع البقية".(5)‏
ويشير الناقد نفسه، إلى أن هذا الراوي، لا يمكن أن يوجد في رواية الصعاليك أو الرواية الانطباعية أو رواية الشخصية المكثفة. بل يوجد في الروايات التأريخية، روايات المشاهد الشاملة، والرواية الواقعية أو الطبيعية.‏
وعلى حين يطلق مصطلح "المشارك" على الراوي في الرؤية المجاورة، فإن الناقد يضيف نوعاً (ثالثاً) يسميه (بالشخص الثالث الذاتي) ويحدد خصائص هذا الراوي بأن يصفه بأنه بعيد عن أن يكون كلي العلم.. فهو يرى ويحس بعيني وحواس شخصية واحدة يحبس نفسه على منظور منفرد، باتساق كثير أو قليل، بالمقارنة مع الرواية المتعدد نجد أن صوت الشخص الثالث الذاتي يلعب دوراً أكثر تحديداً لكنه أكثر نفاذاً، إنه لا يمسرح نفسه ولكنه من جهة أخرى يضبط عمليات التحول إلى الداخل في شخصية أو أكثر من الشخصيات المركزية ثم يضيف الناقد قائلاً: - وإذن فالشخص الثالث الذاتي يمثل من الناحية البنيوية نوعاً من الواسطة بين الراوية (المتنوع) والذي -ببقائه محدود المعرفة في العمق- يحول المنظور واللهجة والمسافة حسبما يقتضي هدفه، وبين وحدة الصوت الشديدة الكامنة في رواية البطل الواحد.(6)‏
أما تودوروف فيقسم الرؤى إلى قسمين كبيرين هما:(7) الرؤية من الداخل والرؤية من الخارج ثم يعمد إلى تقسيمات أخرى داخل كل نوع ليحصل على ضروب عديدة من الرؤى داخل الرؤية الواحدة.‏
وتقسيم تودوروف للرؤى إلى نوعين، قريب من تقسيم الناقد الشكلي الروسي توماشفسكي الذي يرى أن هناك نوعين من القصة هما، القصة الذاتية، والقصة الموضوعية "في الأولى نتابع السرد من خلال عيني الراوي، أما في الثانية فالراوية يعرف كل شيء ويحيط بكل شيء"(8) على أنه ينبغي ملاحظة ما في مصطلحي الناقدين من تناقض، فالقصة أو الرؤية الذاتية لدى توماشفسكي تتضمن الرؤية من الخارج عند تودوروف، على حين يسمى تودوروف بالرؤية من الداخل ما أسماه الأول بالقصة أو الرواية الموضوعية، فالمعروف مثلاً أن الراوي في الأسلوب الذي يطلق عليه بالواقعية الموضوعية، في الرواية الأمريكية، يكون بمثابة عدسة الكاميرا التي تلتقط أفعال الشخصية بشكل محايد، وبهذا تكون رؤيته للأحداث رؤية خارجية لدى تودوروف على حين يطلق توماشفسكي عليها مصطلح " الرؤية الذاتية" لأننا نرى الأحداث من خلال عيني الراوي. وقد تكون الرؤية خارجية، حتى وإن استخدام الراوي ضمير المتكلم، في مثل هذه الروايات كما هو الأمر مثلاً في قصة القاص العربي المصري صنع اللَّه ابراهيم (تلك الرائحة) وروايته (نجمة أغسطس).‏
لقد شهدت الرواية العربية خلال العقدين الأخيرين تحولات واضحة في أساليب السرد، كانت مظهراً من مظاهر تحول أكبر في بنية الرواية العربية، إلا أن الأساليب الروائية الناجمة عن هذا التحول لم تنل ما تستحقه من الدراسة النقدية، وما كتب من هذه الدراسات اقتصر - وتحت تأثير النظرية البنيوية في النقد- على الجوانب الشكلية، إذ لم تحفل هذه الدراسات القليلة بأية محاولة لدراسة الدلالة الاجتماعية الكامنة وراء هذه التحولات في الأساليب الروائية.(9).‏
ونحن إذ نحاول هنا دراسة بعض مظاهر التحول والتطور في أساليب الرواية العربية -وبخاصة أشكال السرد ووظائفه- فإننا ننطلق من النظرة الاجتماعية للأدب التي ترى أن أصول أية بنية أدبية، ومؤلفها الأول في أبرز مظاهرها الجمالية، هو "المركب التاريخي والاجتماعي والنفسي والذهني، الذي يمثل الكاتب أحد شهوده، فالكاتب لا يؤسس شكلاً بل يكشفه".(10).‏
لقد انحسرت الرواية التاريخية، أو رواية المشهد الشامل، ذات الوصف الملحمي للحياة، والتي يطلق عليها أدوين موير "رواية الشخصية" لتفسح الطريق أمام قالب روائي جديد في الأدب العربي، هو قالب القصة القصيرة الطويلة، مواكبة بذلك الرواية العالمية، إذ من الواضح أن كتاب الرواية اليوم يميلون إلى كتابة روايات قصيرة "لكنهم ما إن يكتبوها حتى يجدوا مهمتهم قد قصرت عن الاكتمال، ومن ثم يكتبونها من زاوية أو رؤية مختلفتين، وأحياناً يكتبونها مرة بعد مرة، والنتيجة هي الرواية الحديثة المتباينة الوجوه".(11) إلا أن هذا التطور في الرواية العربية لم ينشأ بفعل هذه المؤثرات العالمية فحسب، بل جاء تلبية لحاجة أفرزها التطور في المجتمعات العربية التي أنجبت فن الرواية.‏
وما يقال عن الرواية الحديثة متباينة الوجوه، حقيقة تنطبق إلى حد كبير على الرواية العربية، إذ يمكن -على سبيل المثال- اعتبار روايات نجيب محفوظ القصيرة في مرحلته الفلسفية التي بدأت بـ "أولاد حارتنا" كاللص والكلاب والسمان والخريف، والطريق والشحاذ، يمكن اعتبارها رواية واحدة متباينة الوجوه، ويمكن اعتبار أبطالها بطلاً واحداً، نوقشت مشكلاته من زوايا عديدة وانفردت كل رواية بمناقشة المشكلة من زاوية معينة.‏
وفضلاً عن تباين الوجوه في الرواية العربية الجديدة، فإن دراسة هذه الأعمال الروائية تظهر أن الرواية الجديدة. هي في الغالب رواية درامية تقترب في الكثير من خصائصها الفنية من التراجيديا الشعرية، والفرق الأساسي بين الرواية الدرامية الجديدة والرواية الاجتماعية القديمة -كثلاثية محفوظ مثلاً- إن الفعل، لا الحادثة هو أساس هذه الرواية، وفي الفعل، كما يقول هيغل "كل شيء يقود إلى الملامح الداخلية للشخصية" أما في حالة الحادثة فيضيف هيغل: "فحتى الجانب الخارجي يكتسب شرعيته التي لا يمكن منازعته عليها.. إن مهمة الأدب القصصي تتركز في أن تؤدي.. إلى أن تمنح الظروف الخارجية، وظواهر الطبيعة، وغير ذلك من المصادفات، نفس تلك الحقوق التي يطالب بها المجال الداخلي".(12)‏
ولعل خير ما توصف به الرواية الدرامية الجديدة، قول كوزينوف في محاولته تحديد خصائص الأدب الدرامي "وفي الأدب الدرامي يجري التشبث بالسعي الأساسي والمركزي الخاص بالشخصية البشرية. وهذا ما يجعله قريباً فعلاً من التصوير الكرافيكي الذي يقدم المحيط العام والمظهر الأساسي للهيئة البشرية والذي يكتفي فقط بالإشارة إلى الخلفية والظرف المحيط".(13) إن الحياة الداخلية، والمأساة الشخصية لكل من عيسى الدباغ وسعيد مهران، وصابر الرحيمي، وعمر الحمزاوي، هي الأساس ومركز الصورة في روايات نجيب محفوظ في المرحلة التي أشرنا إليها -أما الظرف الاجتماعي الصانع للحياة الباطنة وللمآسي الشخصية فهو خلفية واطار الصورة فحسب، ولهذا السبب تصبح لغة السرد وكلام الشخوص في هذه الروايات لغة وكلاماً حافلين بالصور الشعرية، بل إن أعمال نجيب محفوظ في هذه المرحلة، تكاد تصبح على حد تعبير الناقد محمود أمين العالم "قصائد درامية، بل يكاد يكون بعض فصول روايات الشحاذ مثلاً، قصيدة من قصائد الشعر المعاصر، بناء ومعنى وتجربة وإيقاعاً داخلياً وإن خلت من الوزن والبحر والتفعيلة والقافية".(14)‏
ومن الطبيعي في الرواية التي يكون مركزها الفرد، أن يشحب المكان والزمان الفيزياوي، ويختفي الوصف - الذي من شأنه أن يوقف حركة الزمن في السرد - إلى حد كبير، على حين يبرز الزمن الداخلي أو السيكولوجي للشخصية، يقول الناقد غالي شكري عن اللص والكلاب: تبدأ اللص والكلاب "في لحظة نموذجية هي لحظة خروج سعيد مهران من السجن، وهي لحظة منحوتة من الزمان الداخلي للشخصية"(15) ذلك أن قيم الرواية الدرامية، كما يقول أدوين موير، هي قيم فردية، أما قيم الرواية الاجتماعية، أو رواية المشهد الشامل فهي اجتماعية، وفي الأولى نرى أفراداً يتحركون من بداية إلى نهاية، أما في الثانية فنرى شخصيات تعيش في مجتمع وكلا هذين النموذجين من الرواية لا يتعارضان ولا يتمم أحدهما الآخر، بل هما طريقان متميزان في رؤية الحياة: الفرد في الزمان والمجتمع في المكان.(16) ويكفي أن نقرأ المشهد الأول من "بين القصرين" ثم نقرأ نفس المشهد في "اللص والكلاب" لنقف على الفروق الفنية بين الرواية الاجتماعية والرواية الدرامية. ففي الأولى لا يصف الكاتب لحظة استيقاظ (أمينة) فحسب، بل يعمد إلى لقطة بانورامية للمكان، فالغرفة والجدران والأعمدة والفرش والسقف، والملامح الفيزيائية للشخصية، ثم الشرفة، وشارعي النحاسين وبين القصرين اللذين تقع عند لقائهما الدار، والمقاهي والحوانيت وعربات اليد ومصابيحها ومآذن قلاوون وبرقوق وهي تلوح كأطياف من المردة ساهرة تحت ضوء النجوم.(17) وكل ذلك يجد لنفسه مكاناً في الوصف الدقيق لمفردات المكان ومكوناته، أما في اللص والكلاب فالعبارات الأولى في المشهد تحدد الحالة السيكولوجية للبطل وترسم أهم السمات الفنية في أسلوب الرواية: "مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن في الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفي انتظاره وجد بذلته الزرقاء وحذاءه المطاط وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً.."(18) وسوف نلتقي بمفردات الوحدة، والعزلة والنفي وهي تتردد كنغمة طوال صفحات الرواية.‏
وما دمنا بصدد الحديث عن أدب نجيب محفوظ الروائي، فجدير بالذكر أن أهم الخصائص التعبيرية في المرحلة الفنية التي تحدثنا عنها، تضاؤل السرد واعتماد الحوار والحوار الباطني كوسيلتين أساسيتين في التعبير. وصحيح أن الثلاثية حافلة هي أيضاً بالحوار الباطني، إلا أن الأمر هنا اختلف كلياً، إذ أصبح الحوار والحوار الباطني هما أساس الأسلوب الجديد.‏
أما السرد والرؤية القصصية فقد تغيرا لينسجما مع الموضوعات والمضامين الجديدة ومع الشكل الروائي الجديد الذي ينصب الاهتمام فيه على الفرد، لا المجتمع، كما هو الأمر في مرحلة الثلاثية. لقد اختفى الراوي "كلي العلم" الذي يمسك بالأحداث من الخلف، ويتنبأ بأفكار الشخصية، بل ويتدخل أحياناً مفسراً وشارحاً ومعللاً للأحداث وكان من الطبيعي أن تختفي الرؤية (من الخلف) في الرواية الدرامية الجديدة، ذلك أن من شأن هذه الرواية أن تسود فيها وجهة نظر القارئ "فليس ثمة النفاذ إلى ما وراء الشخوص والكشف عن أفكارهم"(19) كما يقول بيرسي لوبوك.‏
وإذا حاولنا تحديد نوع الراوي والرؤية القصصية في هذه المرحلة وجدنا أن الرؤية أصبحت رؤية "مجاورة" على حين أصبح الراوي ما يصطلح عليه فريد مان "بالشخص الثالث الذاتي" الذي يحبس نفسه على منظور واحد ويرى ويحس بعين وحواس شخصية واحدة ويضبط عمليات التحول من الخارج إلى الداخل في الشخصية المركزية.‏
نقرا في اللص والكلاب على سبيل المثال "ودار على الميدان في سرعة طبيعية والضجة تلاحق حواسه، ولكنها استقرت في أعصابه حتى بعد انقطاعها عن حواسه، ولفه ذهول شامل فساق السيارة بلا وعي/ القاتل هناك، رؤوف علوان، الخائن الرفيع الممتاز الخ.."(20).‏
إن الذي يتلفظ بالعبارة هنا هو الراوي والشخصية معاً، ومن الواضح أن الراوي يعرف الشخصية من الداخل ويتطابق معها، على حين يتم الانتقال إلى داخل الشخصية، وعن طريق الحوار الباطني المباشر (القاتل هناك الخ..) بدون تدخل من الراوي إذ لا يقوم بتنظيم الحوار وقيادة القارئ، بل يتوقف عن الرواية ليترك الشخصية تتحدث من الداخل وهذا هو الفرق الوحيد بين راوي نجيب محفوظ والشخص الثالث الذاتي الذي يقوم هو بضبط عملية التحول، كما يصفه "فريدمان".‏
ومن الجدير بالذكر أن الحوار الباطني في (اللص والكلاب) هو من نمط (المباشر) ولم يخرج المؤلف عنه إلى استخدام "غير المباشر" واستخدام ضمير الغائب والمخاطب إلا نادراً، على حين استخدم المؤلف النمطين من الحوار الباطني في (الشحاذ)، مما خلق أسلوباً علمياً ساعد كثيراً في كشف وتصوير العالم الباطني لشخصية عمر الحمزاوي، وهو أسلوب يختلط فيه صوت الراوي بصوت الشخصية إلى حد يصبح معه فصل أحد الصوتين عن الآخر، من الصعوبة بمكان، نقرأ في (الشحاذ):‏
" في ضوء الشمس تبدت أنيقة وقوراً.. ونظرتها الخضراء الجادة لم تفقد كل سحرها، ولكنها غريبة، غرابة مستحدثة لم ترها عينك من قبل. امرأة رجل آخر رجل الأمس الذي لم يعرف التعب أو الفتور، ولكن ما علاقتها بهذا الرجل المريض بغير مرض"(21) إن استخدام ضمير الغائب في الحوار الباطني يتيح للشخصية أن ترى نفسها وهي تتحرك تماماً كما في الأحلام حيث نكون مشاهدي الأحداث المشدودين إليها وصانعيها في نفس الوقت.‏
إذا كنا قد خصصنا نجيب محفوظ بالجزء الأكبر من حديثنا حتى الآن، فذلك لما يمثله هذا الكاتب للرواية العربية ولأساليبها من أهمية كبيرة، وليس من أغراض هذا البحث أن يتحرى مسألة الراوي والرؤية القصصية في النماذج التي سنعرض لها في دراستنا، تحرياً دقيقاً. إذ أن العمل الروائي الواحد قد يحفل- بما يمكن خلقه من رؤى متنوعة ومولدة ناجمة عن اقتران نمطين أو أكثر من الرؤى- بأكثر من رؤية، بحيث يحتاج معه العمل الروائي الواحد إلى دراسة موسعة. إن هدف هذا البحث دراسة أهم الأساليب الروائية الجديدة القائمة أساساً على تنوع الرؤى دراسة عامة محاولاً استنباط دلالة هذه الأساليب وعلاقتها بالبنية الاجتماعية التي أنجبتها.‏
وبما أن هذا هو هدفنا فإننا سنكتفي -عند دراسة النماذج الروائية- بتقسيم توماشفسكي للرؤية إلى موضوعية وذاتية يدفعنا إلى ذلك، من جهة أخرى، أن الرؤى الثلاث التي أشرنا إليها قد اختزلت إلى حد كبير، فالراوي "كلي العلم" قد اختفى ولم يعد مستساغاً اليوم تدخل الراوي في الأحداث أو ما يسميه تودوروف بـ "الكلام التقويمي" في الرواية، كما أن الرؤية الثالثة التي اصطلح عليها "الرؤية من الخارج" اقتصر وجودها على عدد قليل من الروايات في الأدب العربي.‏
لقد نشأت "الرؤية من الخارج" في القصة العربية، تحت تأثير كتاب الرواية الأمريكية، وبخاصة همنغواي الذي ترجمت معظم أعماله إلى العربية، إن هذا الأسلوب الذي يكون الراوي فيه بمثابة (كاميرا) تلتقط حركات الشخصية، وآلة التسجيل تسجل كلماتها والذي يطلق عليه (عين الكاميرا) تارة (والواقعية الموضوعية) تارة أخرى، أو (جبل الجليد الغائم) تارة ثالثة، والذي اشتهر به كتاب الرواية الأمريكيون-كدائيل هامت، وجون دوس باسوس، وهمنغواي- شاع في الأدب العربي لدى كتاب القصة القصيرة، كمحمد خضير ومحمد زفزاف، وإبراهيم أصلان أكثر من شيوعه في الرواية، وباستثناء قصة صنع الله إبراهيم المعروفة "تلك الرائحة"(22) وروايته "نجمة أغسطس" فإن معظم الآثار الأدبية التي كتبت بهذا الأسلوب، تقع في دائرة القصة القصيرة لا الرواية، علماً أن القصتين تقترن فيهما الرؤية من الخارج مع الرؤية من الداخل لتكون أسلوباً متميزاً يقوم على سرد الأحداث في أكثر من مستوى زمني واحد.‏
وبهذا تكون الرؤية (المجاورة) أو المصاحبة، هي الرؤية القصصية السائدة اليوم في أساليب السرد، في الرواية العربية الجديدة، وهي رؤية أكثر رقياً من الرؤية من (الخلف) أو الرؤية (المجاورة) كما اصطلح البعض عليها.‏
لقد عبرت الرؤية الدرامية عن نفسها في الرواية العربية الجديدة، بطرق أو أساليب عديدة، أبرزها شيوع الرؤية الداخلية الذاتية واستخدام ضمير المتكلم في سرد الأحداث، في كثير من الروايات العربية، وثانيهما استخدام الرؤية الذاتية إلى جانب الموضوعية لتحقيق الرواية ذات الأصول المتعددة، ولخلق ظاهرة جديدة في الرواية العربية وأساليبها، هي ظاهرة "تكافؤ السرد" إذ يعمد معظم كتاب الرواية اليوم إلى رؤية الأحداث من منظورات وزوايا مختلفة، بل ومتناقضة أحياناً من شأنها أن تخلق تشويشاً معيناً يتطلب من القارئ أن يقحم نفسه في العملية الإبداعية، وهي بهذا أي الرواية تقترب من المسرح الملحمي، كما تقترب مما يسميه الناقد البنيوي بارت "بالنص المقابل للكتابة" وإن لم تحققه بصورة كاملة.‏
وبما أن هذه الدراسة القصيرة لا تهدف إلى استقصاء أنواع الرؤى في نماذج روائية عديدة، بشكل دقيق تحتاج معه إلى دراسة مطولة، رأينا أن نشير إلى شيوع استخدام ضمير المتكلم في سرد الأحداث وفق رؤية ذاتية- والذي لا يمكن أن يعتبر عودة إلى الرومانسية بقدر ماهو تعبير عن رؤية درامية للحياة، مجرد إشارة، وأن تخصص هذه الدراسة لأحداث الأساليب الروائية الجديدة في الأدب العربي والذي يقوم على استخدام أكثر من رؤية في سرد الأحداث خالقاً بذلك أسلوباً جديداً في الرواية العربية.‏
ويتم تحقيق "التكافؤ السردي" في الرواية العربية الجديدة بطريقتين، الأولى أن تشترك معظم شخصيات الرواية، وبخاصة الرئيسة منها في سرد الأحداث. كل من وجهة نظرها الخاصة ومن زاوية معينة، كما هو الأمر في (ميرامار) لنجيب محفوظ (والأشجار واغتيال مرزوق) لعبد الرحمن منيف، أو أن تقترت الرؤية الموضوعية للأحداث، عن طريق الشخص الثالث، أو الشخص الثالث الذاتي بالرؤية الذاتية عن طريق سماح الكاتب لبعض شخصيات الرواية، وبخاصة تلك التي تتسم بالذاتية، أو تمتلك حياة داخلية خصبة بأن تروي الأحداث من وجهة نظرها الذاتية، لتضاف إلى رؤية الراوي الموضوعي، كرواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، (والبحث عن وليد مسعود) لجبرا ابراهيم جبرا و"الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي. وفي الحالتين نحصل على رؤى ذاتية وموضوعية متعددة للأحداث، إذ أن من شأن الرؤية الذاتية لكل شخصية، أن تصبح بالنسبة للشخصيات الأخرى، رؤية موضوعية.‏
ولعل الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ هو من أوائل من ابتكر هذا الأسلوب الجديد في روايته (ميرمار) حيث يلتقي في بنسيون سيدة إغريقية الوفدي السابق (عامر وجدي) والإقطاعي الذي وضعت أمواله تحت الحراسة "طلبة مرزوق" والشاب الذي ينحدر من أسرة ارستقراطية ويحاول أن يوظف بضعة الأفدنة من الأرض التي بقيت له بعد الثورة، في مشروع جديدة (حسني علام) والثوري المرتد والخائن لرفاقه (منصور باهي)، عضو الاتحاد الاشتراكي (سرحان البحيري) الذي استطاع بانتهازيته أن يتسلق المراتب الحزبية والوظيفية، يلتقي كل هؤلاء ويفترقون في صراعهم مع وحول (زهرة) الفلاحة خادم البنسيون، وعلى حين يتفرد عامر وجدي الوفدي القديم برواية الفصل الأول والأخير من الرواية ويستبعد طلبة مرزوق، الإقطاعي الذي يرى أن الثورة أخذت أمواله فئة اجتماعية معينة وأخذت حرية الجميع وأن أمريكا هي البديل للنظام، من رواية الأحداث، يروي كل من حسني علام وسرحان البحيري ومنصور باهي فصلاً من فصول الرواية. مما يتيح لنا أن نرى الأحداث من منظورات وزوايا رؤية متعددة.‏
ولعل بناء الرواية على هذا الشكل يسهم في إبراز المضمون الذي أراد أن يقوله الكاتب، إذ أن استبعاد مرزوق من الرواية يعود إلى انتمائه إلى مجتمع ماقبل الثورة الذي سقط سياسياً واقتصادياً وايديولوجياً على حين جاء استبعاد زهرة من رواية الأحداث لكونها رمزاً وليس حقيقة،(23)، ولعل الكاتب كنى بها عن مصر الفلاحة، كما أن انفراد عامر وجدي برواية الفصل الأول والأخير ينبئ بتعاطف الكاتب مع الوفد أكثر من تعاطفه مع أي تيار سياسي آخر.‏
وفي الوقت الذي نرى فيه الأحداث من وجهة نظر ذاتية في كل فصل، إذ نراها من خلال عيني الراوي تصبح وجهة النظر وزاوية الرؤية الذاتية هي بمثابة رواية موضوعية بالنسبة للشخصيات الأخرى في الرواية، وبهذا يتاح للقارئ أن يرى الأحداث رؤية موضوعية عن طريق رؤيته لها بطرق متعددة ومن جوانبها المختلفة.‏
إلا أن محاولة محفوظ هذه لم تفلح في أن تحقق النجاح إذ جاءت وكأنها أربع قصص مستقلة يجمعها مكان واحد وتتشابك في بعض أحداثها، مما دفع بعض النقاد إلى القول بأن شكل الرواية كان مجرد شكل خارجي فحسب، يحاول أن يصوغ أفكارها الجوهرية التي تتمثل أساساً في التوازي والتصادم... بين الواقع الخارجي، والوجدان الداخلي للنفس البشرية.(24).‏
وجدير بنا ونحن نتحدث عن مثل هذا الأسلوب، أن نذكر محاولة غائب طعمة فرمان في روايته "خمسة أصوات" التي جاءت شبيهة بميرامار بعض الشيء واختلفت عنها في أشياء كثيرة. فالرواي في خمسة أصوات هو "المتنوع" والرؤية موضوعية إلا أن المؤلف سمى فصول روايته بأسماء أبطالها، وأفرد لكل شخصية أكثر من فصل مما جعل الرواية تحقق الالتحام في فصولها، على حين تخفق في أن تقدم أو تضيف جديداً إلى الرواية العربية. والعلة في ذلك في رأينا أن أحداث خمسة أصوات تقع قبل التغير لابعده كما في ميرامار، وأن شخصياتها جميعاً تنتمي إلى شريحة اجتماعية واحدة، وتتجانس سياسياً وأيديولوجياً، ولا تختلف إلا في بعض الأمور الخاصة والذاتية، وفي مجتمع تتحقق فيه الوحدة لا الانقسام، وهو على وشك تحقيق التغيير، تصبح الرؤية الموضوعية لا الرؤية الذاتية، هي الرؤية المناسبة للأحداث.‏
على أن الرواية التي حققت إضافة كبيرة في (أسلوبها السردي)، وتركت أثرها الكبير في الرواية العربية، هي رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" وهي رواية درامية تسلك طريق الرواية الذاتية، إذ أن الراوي هوأحد شخصياتها بل هو الشخصية الثانية في الرتبة الروائية بعد شخصية (مصطفى سعيد)، بطلها.‏
ولعل أحد أسباب جمال السرد في هذه الرواية، وما يحققه من تشويق، ناجم عن أن الراوي لا يروي الأحداث دفعة واحدة من البداية إلى النهاية، بل يعمد إلى تقطيع هذه الأحداث إلى نتف تظهر من خلال المنلوج والتداعي. فنحن في الفصل الأول منها نتعرف على الراوي وعلى مصطفى سعيد وعلى بعض الشخصيات الرئيسة الأخرى، وفي الفصل الثاني يروي (مصطفى سعيد) مأساته للراوي، ولا يظهر مصطفى سعيد، بعد ذلك إلا من خلال وعي الراوي وهو يتابع سرد أحداث القصة. إن المؤلف لا يضيء نقطة من الأحداث، حتى يتركها إلى غيرها: "فنصبح مع المؤلف كأننا نسير في سرداب مظلم يضيء مصباحه اليدوي في أي مكان شاء فنرى قطعة من الأحداث، ثم يعاودنا الظلام والضياع بالنسبة لهذه القطعة، لأنه يحلو له أن يضيء غيرها، فإذا أضفنا أنه بدأ بنا من آخر السرداب، ثم بدأ بداية أخرى من وسطه، ثم عاد إلى البداية، ثم إلى الوسط، أدركنا مدى التشويق الكامن في طريقة السرد".(25).‏
وينشأ التكافؤ السردي، وما يترتب عليه من (تشويش) عن طريق إسهام معظم شخصيات الراوية في الحديث عن مصطفى سعيد أحاديث متضاربة يصبح معها مصطفى سعيد أكذوبة وحقيقة، واقعاً وأسطورة في آن واحد، فالرواي لا يعرف مصطفى سعيد من خلال روايته هو لأحداث مأساته، ولا من خلال جده ومن خلال الفلاح محجوب، بل يقابل بعد موت مصطفى شخصيات عديدة، تروي عنه كل من زاويتها الخاصة.‏
فالراوي يقابل موظفاً متقاعداً وهو في القطار في طريقه إلى الخرطوم، ويصف الموظف سعيداً بأنه ابن الانكليز المدلل، وأنه لا أصل له(26) ثم يقابل الراوي رجلاً إنكليزياً يزعم بأنه لا يدري شيئاً عن صحة ماقيل عن الدور الذي لعبه مصطفى سعيد في مؤامرات السياسة الإنكليزية في السودان، ويضيف قائلاً: "إن مصطفى سعيد لم يكن اقتصادياً يركن إليه.. كان ينتمي إلى مدرسة الاقتصاديين الغابانيين الذين يختفون وراء ستار التعميم"ويضيف قائلاً: "(27) يظهر أنه كان زير نساء يخلق لنفسه أسطورة من نوع ما، الرجل الأسود الوسيم المدلل في الأوساط البوهيمية، كما كان يبدو واجهة يعرضها أفراد الطبقة الارستقراطية الذين كانوا في العشرينات وأوائل الثلاثينات يتظاهرون بالتحرر....‏
وكان أيضاً من الأثيرين عند اليسار الإنكليزي"..‏
ويصفه شاب يحاضر في الجامعة، (28) كان زميلاً للراوي في إنكلترا والتقى مرات عديدة به، يصف سعيداً بأنه مليونير يعيش كاللوردات في الريف الإنكليزي، وأنه لعب دوراً خطيراً في مؤامرات الإنكليز في السودان في أواخر الثلاثينات. على حين يصفه وزير من تلاميذه بأنه "كان رئيساً لجمعية الكفاح لتحرير أفريقيا.... ياله من رجل كانت له صلاة واسعة، يا إلهي ذلك الرجل كانت النساء تتساقط عليه كالذباب".(29) وحين يرد الراوي على زميله الشاب ليصحح معلوماته عن مصطفى سعيد، يسأل الشاب الراوي بذعر "هل أنت ابنه؟" وهو يسأل هذا السؤال رغم معرفته الأكيدة بالراوي بأنه ليس ابناً لمصطفى سعيد، فيعلق الراوي على ذلك بقوله: "والمكان، تبدو له الأشياء هو الآخر، غير حقيقية، يبدو له كل شيء محتملاً".(29).‏
وليست الشخصيات وحدها هي التي تروي عن مصطفى سعيد، بل تسهم في رواية الأحداث والرسائل كرسائل مسز روبنسن إلى الراوي، والوثائق التي وجدت في مكتبه وبضمنها جوازه ومذكراته التي بدأ بكتابتها، ومؤلفاته العديدة،ـ كل ذلك يسهم في أن يكشف شخصية ثرية وفنية كشخصية مصطفى سعيد، شخصية في غناها وثرائها وفي تعدد أبعادها تبدو وكأنها حلم وليس حقيقة، بحيث أن الراوي نفسه تخطر له أحياناً فكرة مزعجة مفادها:"أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقاً وإنه فعلاً أكذوبة أو طيف، أو حلم، أو كابوس ألم بأهل القرية... ذات ليلة داكنة خانقة، ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه"(30).‏
وليس السرد وحده هو الذي يسهم في "تشويش" صورة مصطفى سعيد بل ويتضافر ترتيب الأحداث في الرواية، معه، ليخلق هذه الصورة المشوشة والمتناقضة كما تبدو للوهلة الأولى، ذلك أن أحداث الرواية في بعض أجزائها لا تنجم عن قانون السببية أو العلة والمعلول، أي أنها ليست سبباً ونتيجة بشكل مباشر كما هو الأمر في (الحبكة) ولكن عن سببية سيكولوجية وعن خاصية في الطباع، فنحن لا نجد تفسيراً واضحاً لغياب عاطفتي البنوة والأمومة بين سعيد وأمه، ولا نعرف دافعاً لذلك الاندفاع نحو المأساة لدى سعيد:"وما أكثر ما سألت نفسي ما الذي يربطني بها، لماذا لا أتركها وأنجو بنفسي؟ ولكنني كنتُ أعلم أن لا حيلة لي، وأن لا مفر من وقوع المأساة.(31)‏
إن الوظيفة التي يؤديها مثل هذا الأسلوب في السرد، كامنة في كلمات الراوي بصدد زميله: "إذ تبدو له الأشياء في لحظة غير حقيقية ويبدو وكل شيء محتملاً" إن الحقيقة في مثل هذه الرواية ذاتية متعددة ومتباينة الوجوه، بتعدد وتباين طرق النظر إليها.‏
وأخلاقية هذه الرواية مضادة للأخلاقية الإطلاقية، وفكرها مضاد للأفكار المطلقة، وليس عجيباً أن يقدم مصطفى لقصة حياته التي أراد أن يكتبها، فلم يكتب غير الإهداء بقوله: (32) "إلى الذين يرون بعين واحدة، ويتكلمون بلسان واحد، ويرون الأشياء أما سوداء أو بيضاء، إما شرقية أو غربية...."، وكأنه أحس بأن في قصته المأساوية مايفند هذه الرؤية القاصرة عن فهم الحقيقة.‏
وفي رواية "الأشجار واغتيال مرزوق"، لعبد الرحمن منيف، يروي عبد السلام منصور، الأستاذ الجامعي الذي فصل من عمله لأسباب سياسية، قصة فصله، وتشرده بحثاً عن عمل، ومماطلة السلطات في منحه جواز سفر لثلاث سنوات وفي القطار يلتقي بشخصية شعبية بدائية تشبه إلى حد بعيد شخصية (زوربا) في رواية الكاتب اليوناني كازنتزاكي، ويروي عبد السلام منصور قصته من الداخل بطريقة ذاتية، مستخدماً ضمير المتكلم ويقتصر دوره ومنذ الفصل الخامس من القسم الأول على توجيه الأسئلة لـ(الياس) والتعليق على روايته للأحداث مما جعل هذا القسم شبيهاً بالريبورتاج الصحفي. وفي الوقت الذي يستعين فيه القاص على كشف وتصوير شخصية منصور باستخدام التداعي والمونولوج المباشر وغير المباشر، فإن رواية الياس تتم عن طريق السرد بضمير المتكلم،دون استخدام التداعي أو المونولوج، وبطريقة هي أحياناً "أقرب إلى التقرير العفوي البسيط بكل مافيه من ملامح الأداء الشعبي".(33).‏
ويقدم الكاتب للقسم الثاني من الأحداث بفصل تكون رواية الأحداث فيه موضوعية عن طريق الشخص الثالث، إلا أنه يعود إلى إكمال رواية الأحداث بنفس الأسلوب السابق لنرى إلى جانب حياته جوانب من حياة الياس نخلة، التي سبق أن رواها بنفسه مما يتيح لنا رؤية قصة الياس نخلة رؤية موضوعية ومن خلال منصور وبهذا تقترب الرواية من بناء "موسم الهجرة إلى الشمال"، حيث تتضافر الرؤيتان الذاتية والموضوعية في عرض الأحداث، رغم الفوارق الفنية الكبيرة، إذ ظلت "الأشجار" تبدو وكأنها قصتان لا قصة واحدة(34) تتشابك أحداثهما في نقاط محددة فحسب شأنها شأن "ميرامار" لنجيب لنجيب محفوظ.‏
وينجح الكاتب في تلافي هذا الصدع في روايته "شرق المتوسط، التي تقوم على نفس البناء السردي، حيث يشترك في رواية أحداثها، بطلها السياسي المرتد "رجب اسماعيل، وأخته "أنيسة" حيث يروي كل منهما ثلاثة فصول من الأحداث بالتعاقب. ويكشف القاص عن رغبته في كتابة رواية تشكل إضافة فنية وتحقق قيمة جمالية جديدة، إذ يكتب (رجب) إلى أخته أنيسة قائلاً: "أريد أن نكتب معاً رواية... لو كتب عادل بعض الأشياء وتركناها على بساطتها وصدقها.. ولو كتب حامد، ولو كتبت أنت، ثم أكتب أنا بعد ذلك... فإن ما نكتبه معاً سيكون شيئاً جديداً وجميلاً"، ثم يضيف مبيناً ميزة هذه الطريقة"... وطبيعي أيضاً أن ننظر من زوايا مختلفة، هذه الزوايا المختلفة ضرورية لكي نرى الشيء من جميع جوانبه".(35).‏
بين "موسم الهجرة إلى الشمال" والبحث عن وليد مسعود لجبرا إبراهيم جبرا أكثر من سبب وأكثر من وشيجة، وقد تركت الأولى بصمات واضحة على الثانية(36) في محاولة للكاتب خلق شخصية روائية شبيهة "بمصطفى سعيد" وتقوم رواية جبرا على فكرتين أساسيتين أولهما تقع في الخلط بين فكرة النمط وفكرة النموذج. إذ تقول إحدى شخصيات الرواية مبررة ما في شخصية (وليد) من خروج على المألوف يقترب بها من الأسطورة:(ليس هناك نموذجي ولاسيما عندما يكون شخصاً غير عادي كوليد"(37). وثانيهما، أن أصالة الإنسان تكمن في دخيلة ذهنه في خلايا دماغه، وأن النظرة السوسيولوجية تطمس القدرة على رؤية ما في الفرد من أصالة وتميز:"إن النظرة السوسيولوجية، تفسد الخيال من أساسه يدربونك عشر سنوات على رؤية الإنسان كظاهرة مجتمعية وإذا أنت في النهاية تفقد القدرة على رؤيته كإنسان متميز كإنسان مستوحد".(38)‏
وتقوم رؤية جبرا على (استخدام الرؤية الموضوعية والذاتية معاً في سرد الأحداث والكاتب يموضع أحداثه عن طريق الراوي الأول في الرواية الدكتور جواد حسني الأستاذ الجامعي الذي يقوم بكتابة بحث عن وليدمسعود يدفعه للبحث مع الشخصيات الأخرى عن هوية وليد ومصيره كماتتموضع الأحداث عن طريق إسهام معظم شخصيات الرواية التي لها علاقة بوليد في رواية الأحداث على حين نحصل على رؤية ذاتية لوليد من خلال رواية وليد لبعض فصول الرواية رواية ذاتية داخلية يستخدم فيها التداعي-وبخاصة في حديثه الذي تركه في شريط على آلة التسجيل في السيارة قبل اختفائه- بحيث تتاح للقارئ رؤية وليد رؤية ذاتية وموضوعية ومن منظورات مختلفة. وتأتي النهاية المفتوحة للرواية إذ يخضع مصير وليد لاحتمالات عديدة منسجمة مع هذا البناء للسرد.‏
ويطلق الكاتب على هذا الأسلوب الفني في بناء الرواية مصطلح "المرايا" إذ يتساءل د.جواد حسني عن شخصيات الرواية وهي تروي الأحداث قائلاً: "عمن هم في الحقيقة يتحدثون؟ عن رجل شغل في وقت ما عواطفهم وأذهانهم أم عن أنفسهم، عن أوهامهم وإحباطاتهم وإشكالات حياتهم؟ هل هم المرآة وهو الوجه الذي يطل من أعماقها، أم أنه هو المرآة ووجوههم تتصاعد من أعماقها كما ربما هم أنفسهم لا يعرفونها" وهكذا يتاح لشخصيات الرواية أن تكشف نفسها للقارئ، وهي تتحدث عن وليد على حين نرى وليداً من خلال وعيها.‏
ولابد من الإشارة -وقد أشرنا إلى تأثير موسم الهجرة إلى الشمال على رواية البحث عن وليد مسعود- إلى الفروق الفنية بين العملين، إذ ينتصر في الأولى الفن والصدق الفني على الأيديولوجية في تصوير الواقع، على حين تنتصر الأيديولوجية على الفن في رواية جبرا، فنرجسية الكاتب وانحيازه الأيديولوجي، وتعاطفه الشديد مع بعض الشخصيات وحرمانه لبعض شخصياته الأخرى من هذا التعاطف ومحاولة لتصويرها بأسلوب تهكمي ساخر واعتماده في كشف وتصوير شخصياته على الحوار والمناقشات الطويلة بين شخصياته، جعل من القاص قاص السماع لا الرؤية، وجعل من الرواية بناءً فنياً جميلاً، لكن بلا مضمون يرتقي إلى مستوى هذا البناء. لقد حرم الكاتب شخصياته "من أن تقول أي شيء يفضح خفاياها ومؤكد أن المؤلف لو لم ينقذ أحاديثهم تلك بسرده الطلي الرشيق، بتفجير بعض المواقف الدرامية... بتمرسه على نحت الصورة الروائية والأداء الروائي البارع، لما بقي لنا سوى أن "نتفرج" عليهم غير متعاطفين ماداموا لا يظهرون لنا بكامل تجربتهم التاريخية".(39).‏
وتختلف "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي التي تصور أربعة أجيال(40) من أسرة بغدادية عن كل الأعمال التي ناقشناها، في أنها تطمح إلى أن تكون رواية كلاسيكية، رغم أن أحداثها لا تبتعد كثيراً عن الدار، بحيث تكون مشهداً شاملاً للمجتمع العراقي في المرحلة التي تقع فيها الأحداث، ورغم استخدام الكاتب للكلام) لا (اللغة) في حوارها.‏
وفضلاً عما تحفل به الرواية من نزعة تسجيلية وطبيعية، فإن معظم شخصيات الرواية هي شخصيات سلبية مهزومة، تواجه الواقع بسلوك مريض، كما هو الأمر مع شخصيتي (كريم) الذي تشل إرادة الحياة والعمل فيه رؤيته لصديقه (فؤاد) وهو يموت تحت عجلات مركبة، وحسني الذي يتخلى عن زوجته وابنتيه ويفصل من عمله فيبحث عن عمل في بلد غير بلده، ثم يعود إلى بلده، ليسقط في مستنقع العدمية ويغرق في السكر والإدمان عليه. وفي نفس الوقت تقتصر حيوات النسوة العجائز في الطابق الأعلى من الدار على النوم، والطعام، وإصدار نداءات الجوع بشكل دائم، بحيث تذكرنا حياتهن الوضيعة هذه بتلك الحيوات الوضيعة في (جحيم) دانتي، ورغم أن شخصية (مدحت) هي الشخصية التي تأسر القارئ، لأنها الشخصية الأكثر إيجابية، إلا أن منطق الشخصية وفلسفتها البراغماتية، تحد إلى حد كبير من إيجابيتها وفاعليتها. ولا تتأتى سلبية كريم و(حسين) وسلوكهما المرضي، نتيجة لعوامل قاهرة، تدفع القارئ إلى التعاطف معهما، بل تغرق الشخصيتان في سلوكهما المرضي هذا بفعل صدمة نفسية ناجمة عن (المصادفة). وهي في الحالتين (مصادفة) لا تنبع من الضرورة، مما جعل الشخصيتين تبدوان زائدتين وسلوكهما غير مبرر وأحاديثهما الكثيرة وإن ارتدت رداءً فلسفياً- باعثة على الضجر.‏
والكاتب هو أيضاً يستخدم الرؤيتين الموضوعية والذاتية معاً في كشف وتصوير شخصياته، فالراوي في معظم فصول الرواية هو (المنوع) باستثناء الفصول الخاصة (بكريم) التي تقدمها فيها الأحداث من وجهة نظره وتروى بضمير المتكلم، على حين يتضافر الأسلوبان في تقديم وتصوير شخصية(منيرة) التي تبدأ في الفصل التاسع من الرواية، رواية الأحداث رواية ذاتية وبضمير المتكلم، حتى إذا دنا سرد الأحداث من حادث السفاح لجأ الكاتب- وبلغة سينمية- إلى موضعة الأحداث، وتحول ضمير الحاضر إلى الغائب (والأنا) القائل إلى (هو) الرائي ليتحول القارئ بدوره من (السماع) إلى الرؤية البصرية للأحداث.‏
إن المعنى الكامن وراء موضعة الأحداث، هو عجز الشخصية، بفعل التابو الاجتماعي، والتحريمات الأخلاقية الاجتماعية، ولاسيما بين الطبقات الوسطى(41) عن الحديث عن أمر كهذا، ومن جهة أخرى، تجعل هذه الموضعة القارئ يرى الأحداث بشكل أفضل. وتذكرنا هذه الالتفاتة الفنية من قبل الكاتب بنجيب محفوظ في الثلاثية، واستخدامه لأدواته التعبيرية بشكل يتناسب وينسجم مع الخصائص الاجتماعية والسيكولوجية للشخصية إذ لم يستخدم الكاتب المونولوج في كشف شخصية أمينة من الداخل وتصوير عالمها الباطني إلا بعد وفاة زوجها أحمد عبد الجواد.‏
إن الرواية كناية عن عمل فكري في المرتبة الأولى، وهي في المرتبة الثانية، صياغة جمالية لهذا العمل الفكري، ومعطيات الواقع هي التي تقترح نوعية هذا العمل وصياغته الجمالية. والرواية الدرامية هي رؤية في الحياة، وهي رؤية (للفرد في الزمان) كما يقرر ادوين موير، وقيم هذه الرواية، قيم فردية، على عكس الرواية الاجتماعية التي تقوم على قيم اجتماعية، على رؤية (الفرد في مجتمع) فما الذي يجعل الرؤية الدرامية للحياة تتقدم وتصبح في مركز الصورة على حين تتراجع الرؤية الاجتماعية إلى خلفية هذه الصورة؟‏
إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في مضامين الروايات التي تحدثنا عنها والروايات جميعاً تتناول عملية التغيير الاجتماعي، والمشكلات الناجمة عنه. وقد يقول قائل إن بعض روايات نجيب محفوظ في المرحلة الفلسفية التي تحدثنا عنها كالطريق والشحاذ، تطرح وتعالج مشكلات ميتافيزيقية، وهذا صحيح، إلا أن المشكلات الكونية والميتافيزيقية في هذه الروايات "تتلبس مضمونها العيني بوصفها مشكلة اجتماعية في الجوهر والأساس، مشكلة انتماء إلى العالم والتزام به ومشاركة في صياغته"(42). بل إن التساؤلات الكونية والميتافيزيقية فيها نابعة عن التغيير الاجتماعي نفسه.‏
وعلى حين تقف بعض هذه الروايات عند حدود الواقعية النقدية(كاللص والكلاب) و(الطريق) فإن البعض الآخر يتجاوزها إلى واقعية أكثر إشراقاً بما فيها من إيمان بالمستقبل، وبالعلم والثورة والتغيير الاجتماعي، وبما تلهمه من اتجاه ثوري.‏
إن أكثر روايات هذه المرحلة التصاقاً بما هو اجتماعي، وبعملية التغير الاجتماعي، هي اللص والكلاب وميرامار، وكلاهما تنتهي بالجريمة وتعنينا رواية اللص والكلاب أكثر من غيرها لكونها بنية دالة بالنسبة للتغير الاجتماعي، أكثر من غيرها أيضاً، ولقد بين بعض الباحثين باستخدام جدول الناقد البنيوي كريماس أنها بنية سقوط اقتصادي وأيديولوجي(43)، إذ يتخلى الجميع تدريجياً عن (مهران) باستثناء نور وطرزان. ونحن نتفق مع الرأي القائل بأن الرمز في (اللص وا لكلاب) هو "مزيد من الواقع"، هو تكثيف الواقع وتركيزه". إن هجرة (رؤوف علوان) الطبقية وتخليه عن تلميذه (سعيد مهران) وعن أفكاره الثورية عن العدالة الاجتماعية هي هجرة موازية وشبيهة بهجرة الطبقة الاجتماعية التي قادت التغيير، ولذلك كان سعيد مهران وهو يكافح من أجل العدالة الاجتماعية، وضد القوى الصانعة لمأساته ضمير الملايين: "الناس معي عدا اللصوص الحقيقيين.. أنا روحك التي ضحيت بها ولكن ينقصني التنظيم على حد تعبيرك.. وأن أفهم اليوم كثيراً مما أغلق عليّ فهمه من كلماته القديمة ومأساتي الحقيقية أنني رغم تأييد الملايين أجدني ملقى في وحدة مظلمة بلا نصير".(45)‏
وفي الشحاذ نجد المفارقة واضحة بين مرض عمر الحمزاوي المحامي الثري الذي حقق كل مايحلم به من ثروة وملكية وبين النظام الاجتماعي، إذ يدور هذا الحوار بين عمر وطبيبه.‏
"-وها أنت تبحث عن الحب المفقود، خبرني أما زلت تذكر أيام السياسة والإضراب والمدينة الفاضلة؟..‏
- طبعاً. وقد ولت جميعاً ولم يبق إلا سوء السمعة.‏
- ومع ذلك فقد تحقق حلم كبير- أعني الدولة الاشتراكية".‏
ثم يصف الطبيب مرض عمر المرتد عن ماضيه السياسي والأيديولوجي قائلاً:-‏
"أجل إنه مرض برجوازي.. ليس بك من مرض".(46).‏
وفي (موسم الهجرة إلى الشمال) يشير محجوب الفلاح إلى خلو القرية من الخدمات التعليمية والصحية، رغم كل الشعارات العريضة التي ترفعها الفئة الحاكمة حول ذلك ويقول محجوب للراوي واصفاً التغيير بقوله: "الدنيا لم تتغير بالقدر الذي تظنه... الدينا تتغير حين يصير أمثالي وزراء في الحكومة"،(47) ويتلو ذلك حديث للراوي عن مؤتمر انعقد حول التعليم، يكشف فيه التناقض الفاضح بين الفكر والممارسة، النظرية والتطبيق، الشعارات والسلوك العملي للفئة الحاكمة، لنقف على شتى أنواع الفساد في صفوف هذه الفئة التي تتحدث باسم العمال والفلاحين.‏
أما (الأشجار واغتيال مرزوق) فتؤكد مثل هذا المعنى على لسان منصور عبد السلام الأستاذ الجامعي، الذي سرح من عمله لأسباب سياسية"، أما الذين توهم أنه علق مشانقهم فمازالوا في أماكنهم.. هل نزل منصور عبد السلام تحت الأرض؟ هل تعب فوقها مثل الخلد الأعمى؟ لا يستطيع أن يتذكر، ولكنه متأكد أن ثورة لم تقع رغم الضجة الكبيرة التي يراها في كل شيء حوله". ولا تتعرض هذه الروايات لعملية التغيير ومصيرها، وتخلي الفئات الاجتماعية التي قادتها عن تحقيق العدالة الاجتماعية، بل وتصف أساليب القمع والإرهاب الذي تمارسه هذه السلطات في تحقيق أهدافها الخاصة من التغيير، إن ثمة علاقة واضحة بين انتقال قرية(الطيبة) العربية من اقتصاد الاكتفاء الذاتي إلى اقتصاد السوق، وبين اغتراب عبد السلام والياس نخلة من جهة، وانتهاء الأول إلى الجنون، وبين اغتيال مرزوق الذي أسهم في الثورة وفي انتقال السلطة إلى الفئة الجديدة من جهة أخرى.‏
وإذا كان منصور عبد السلام الذي انتهى إلى عدمية شبيهة بعدمية بتشورين بطل ليرمنتوف في رواية (بطل من هذا الزمان)،(48)، إذا كان قد انتهى إلى أن يطلق الرصاص على نفسه في المرآة، فإن بطل (شرق المتوسط) يمرض ثم يفقد بصره على يد جلاديه ويموت بعد أيام من رميه فاقداً لبصره على عتبة داره، بل يبلغ الأمر بهؤلاء الجلادين بأن يقدموا على سجن (حامد) زوج أخته أنيسة، الذي تكفله بعد خروجه من السجن، ويجعلوا منه رهينة لكي يعود (رجب) إلى الوطن بعد أن رفض أن يكون عيناً لهم على أبناء وطنه في الخارج.‏
وتناقش رواية جبرا "البحث عن وليد مسعود" مشكلة التغيير في المجتمعات الزراعية، حيث يقف التخلف والغيبية عائقين أمام هذا التغيير الذي يتطلب حالة قصوى من العقلانية إذ يتساءل (وليد) عن الهدف من التكنولوجيا قائلاً:"ماهو الهدف النهائي لذلك كله؟ هل هو تهيئة الرفاه المادي للجميع؟.. أو لن يكون ذلك ذريعة لتمرير أهداف خاصة لفئات تعطي الخبز للفم بيد، وتسلط المقرعة على العقل باليد الأخرى، كما حصل في فترات كثيرة من التاريخ".(49).‏
ويصف وليد العنف والعسف والقمع الذي وجده على الأرض العربية بعد هجرته من فلسطين، بأنه لا يقل ضراوة عما وجده عند اعتقاله من قبل السلطات الصهيونية في الأرض المحتلة. وبصدد حرية الفكر وغيابها، وتحريم كل النشاطات الفكرية بحجة أنها سلفية أو أنها لا تنتمي إلى الأرض تقول إحدى شخصيات الرواية: "لنشرب نخب المحرقة الكبرى القادمة، يوم يصبح اللامثقفون الوطنيين الوحيدين".(50)‏
أما رواية (الرجع البعيد) فهي لا تطرح موضوع مصادرة حرية الإنسان وحقوقه بشكل مباشر بل تقول ماقالته الروايات الأخرى عن طريق بنائها وأحداثها ومصائر هذه الأحداث وإن كنا نجد في استرجاع) كريم لحادث التحقيق معه في موت صديقه فؤاد إشارات واضحة إلى موضوع العنف "كان ضابط البوليس.. يقف كالطاووس بعينين ملتهبتين ويتخذ شكل أحد ضباط الجستابو مرة وهيئة رجل من رجال محاكم التفتيش الإسبان مرة أخرى". (51) وينبغي فهم محاولة مدحت للخروج من الحصار، في مستواها الرمزي لا الواقعي، ذلك أن هذه المحاولة اقترنت بتخطيه وتجاوزه لكل القيم الاجتماعية الموروثة ولكل "قذارات أجداده وتفاهاتهم وعقدهم وجنون حبهم للشرف والقتل"،(52). ولكن مدحت الذي يقرر الخروج من غرفة (حسين) والعودة إلى زوجته (منيرة) يسقط ويموت برصاص الجنود المحاصرين للحي وبفعل قوانين كونية واجتماعية عاتية لا ترحم، شأنه شأن معظم أبطال التكرلي الذين يناضلون بقوة ضد هذه القوانين لكنهم لا يلبثون أن يسقطوا ضحايا لها. وليس عجيباً أن يعمد الكاتب إلى اختتام روايته بهذا الجزء من الفصل (12-الزخم والبقاء) رغم أنه ليس الأخير من حيث التسلسل الزمني لأحداث الرواية، ذلك أن كفاح مدحت البطولي للخروج من الحصار نحو الحياة، ومايكمن فيه من دلالة رمزية، وموته الذي يتعانق فيه مصيره الكوني بمصيره الاجتماعي- على نحو يندر له مثيل في الرواية العربية- هو مايمنح للرواية قيمتها الفكرية والفنية.‏
لقد أجبنا على السؤال الذي طرحناه حول انتصار الرؤية الفردية الدرامية للحياة على الرؤية الاجتماعية، إجابة غير مباشرة بأن عرضنا لمضامين هذه الروايات التي تتناول جميعها مشكلات التغيير الاجتماعي وما نجم عنه من مشكلات وتناقضات جديدة، ولكي نجيب على سؤالنا إجابة تامة لابد من المقارنة بين هذه المرحلة التأريخية التي دفعت بهذه الرؤية إلى المقدمة وبين مراحل سابقة من التاريخ شهدت انتصار الرؤية الملحمية للحياة تارة، والرؤية الدرامية والغنائية تارة أخرى.‏
إن المراحل الأولى لظهور فن الرواية الحديث، شبيهة إلى حد كبير بتلك المرحلة التي نشأ فيها فن الملحمة لدى الشعوب البدائية، والتي تسمى بمرحلة الديمقراطية العسكرية، ففي كلتا الحالتين تكسر المجموعات والسلالات البشرية أطواق الحياة الضيقة، لتخرج إلى حياة أوسع، تتيح للشاعرi ذلك الوصف الملحمي التفصيلي للحياة، كما تتيح للفرد بروز (أناه) بعد أن كان منصهراً في الجماعة البشرية، وكلتا المرحلتين في التاريخ القديم والحديث شهدتا اندماج هذه (الأنا) بالكلية الجوهرية للأمة وحالاتها وطرق تفكيرها، (53) ولقد كانت هذه الحالة (الملحمية) من انسجام الفرد مع الأمة وانسجام الإحساس مع الإرادة، التربة الخصبة التي نشأ فيها فن الملحمة قديماً، كما كانت مثل هذه الحالة- التي ولدت مع خروج التاجر الجوال إلى الحياة الأوسع بعد أن حطمت قواقع الحياة الضيقة- التربة الملائمة التي ولد فيها فن الرواية الحديث ولم يكن ظهور الدول المركزية في الحالة الأولى يؤدي إلى موت واختفاء العناصر المثيولوجية في الملحمة، بل كان يؤدي إلى موت الملحمة نفسها مفسحاً الطريق للأدب الدرامي من جهة، والغنائي من جهة أخرى. أما في التاريخ الحديث فإن قيام مثل هذه الدول، أدى إلى موت الرواية (الملحمية) الكلاسيكية، ومافيها من رؤية اجتماعية مفسحاً الطريق أمام الأدب الدرامي والرؤية الدرامية للحياة من جهة، وللأدب أو الشعر الغنائي من جهة أخرى. ولقد استمرت المرحلة الأولى حتى بداية العقد الثاني من القرن العشرين ثم تلتها مرحلة أنجبت بنية روائية يضمحل فيها البطل ويتلاشى لتحل المؤسسات أو العائلة محله واستمرت حتى نهاية الحرب الثانية، لتحل محلها بنية روائية يتلاشى فيها الإنسان وتحل الأشياء محله كما هو الأمر في الرواية الجديدة.‏
وفي المجتمع العربي، وفي أجزائه الأكثر تطوراً والتي أنجبت فن الرواية كانت مرحلة مابعد الحرب الثانية، وما نشأ فيها من تحلل لقوى اجتماعية قديمة ونشوء قوى اجتماعية جديدة تصدرت قيادة المجتمع والتغيير الاجتماعي كانت المرحلة التي أنجبت الرواية ذات الرؤية الاجتماعية والمشهد الشامل، إلا أن التغيير الذي وقع بعد الخمسينات أدى إلى قيام دول شديدة المركزية في هذه المجتمعات تركت مؤسساتها الشاملة والكاملة آثاراً سلبية خطيرة على الفرد، مما أصبح ينوء به من ثقل باهظ تضعه هذه المؤسسات على كاهله. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار البنية الزراعية المتخلفة لهذه المجتمعات أدركنا حجم الهيمنة الكبيرة لهذه المؤسسات وما تؤدي إليه هذه الهيمنة من مصادرة للكائن البشري ولحقوقه وخاصة في تلك المجتمعات التي نهضت فيها الدعوة إلى العدالة الاجتماعية، وقامت بنيتها الاقتصادية على أساس غير رأسمالي لتنتهي إلى ظهور طبقات مستغلة جديدة بعد أن أزاحت الطبقات المستغلة القديمة. إن هذه العوامل وما أدت إليه من إحساس عال بالفردية ومن اغتراب وتحطيم لوحدة الإنسان والمجموعة البشرية. أدى إلى تراجع الرؤية الاجتماعية في الرواية وازدهار الرؤية الدرامية. وقد عبرت هذه الرؤية الدرامية، وهذا الإحساس بالفرد عبرا عن نفسيهما في أساليب السرد وبناء الرواية كما رأينا. إن الرواية الجديدة لا تناضل ضد اغتراب الإنسان عن طريق مضامينها فحسب بل هي تناضل ضد كل العناصر الصانعة لاغتراب الإنسان عن طريق بنائها وأساليب السرد فيها أيضاً بما تمنحه هذه الأساليب وهذا البناء، من اهتمام عال بالفرد وبرؤيته الخاصة، وللحقائق من دلالات بعيدة عن الإطلاق.‏
الهوامش‏
1 - برسي لوبوك صنعة الرواية، ترجمة: عبد الستار جواد، دار الرشيد، بغداد، ص 225.‏
2 - فرانك كرمود الرواية والسرد، ترجمة: محيي الدين صبحي- مجلة الآداب الأجنبية العدد 3 السنة الرابعة، ص 172.‏
3 -تزفنان تودوروف: الإنشائية الهيكلية، ترجمة: مصطفى التواني، الثقافة الأجنبية، العدد 3، 1982، ص 12.‏
4 - نفسه، وانظر: د.صلاح فضل: نظرية البنائية في النقد الأدبي، مكتبة الأنجلو المصرية 1978، ص 337-338، وانظر حسين الواد، البنية القصصية في رسالة الغفران، الدار العربية للكتاب 1977، ص 67.‏
5 - 6- الان واران فريدمان: الرواية الحديثة المتباينة الوجوه شكلاً ووظيفة، ترجمة محيي الدين صبحي، الآداب الأجنبية، العدد 2 تشرين أول 1977، ص 17.‏
7- تزفان تودوروف: نفسه.‏
8- د. موريس أبو ناصر: الألسنية والنقد الأدبي في النظرية والممارسة، دار النهار- بيروت هامش ص 129.‏
9- نفسه، انظر على سبيل المثال، الفصل الخاص (بالشحاذ)، لنجيب محفوظ.‏
10- انظر: ميشيل زيرافا: الرواية والمجتمع: ترجمة جمال شحيد، مجلة الآداب الأجنبية، العدد الرابع، نيسان 1975، ص 180، وانظر أيضاً محمد رشيد ثابت: البنية القصصية ومدلولها في حديث عيسى بن هشام، الدار العربية للكتاب 1975، ص 301.‏
11- الان وارن فريدمان: نفسه، ص4.‏
12- عدد من الباحثين السوفييت المختصين بنظرية الأدب العالمي، ترجمة: د.جميل نصيف التكريتي، دار الرشيد، 1980، ص 88.‏
13- نفسه، ص 90.‏
14- محمود أمين العالم: تأملات في عالم نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة، 1970، ص 96.‏
15- غالي شكري: المنتمي دراسة في أدب نجيب محفوظ- القاهرة 1944، ص 258.‏
16- ادوين موير: بناء الرواية ترجمة إبراهيم الصيرفي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ص 92.‏
17- الرواية- دار العلم- بيروت، ص 5.‏
18- الرواية - ط- دار مصر- ص7.‏
19- لوبوك: نفسه، ص 214.‏
20- الرواية، ص 78.‏
21- الرواية: دار مصر للطباعة، ص 40.‏
22- نشرت في مجلة شعر اللبنانية العدد 30 صيف 1968.‏
23- محمود أمين العالم نفسه ص 132.‏
24- نفسه، ص 133.‏
25- محيي الدين صبحي: (موسم الهجرة إلى الشمال بين عطيل وميرسو) في كتاب (الطيب صالح عبقري الرواية العربية) أعداد أحمد سعيد محمدية، دار العودة، بيروت، ص 74.‏
26-27-28-29- الرواية دار العودة، ص 55-57-59-112.‏
30- الرواية، ص60.‏
31- الرواية، ص 50.‏
32- الرواية، ص164.‏
33- صدقي اسماعيل، مقدمة الأشجار واغتيال مرزوق- دار العودة- 1973، ص 9.‏
34- انظر شجاع مسلم العاني، عبد الرحمن منيف روائياً- مجلة الأقلام 7 نيسان، 1980، ص 100.‏
35- عبد الرحمن منيف، شرق المتوسط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 113.‏
36- انظر عبد الجبار عباس، البحث عن وليد مسعود الأقلام 52 شباط 1979، ص 79.‏
37- الرواية، دار الآداب، بيروت 1978، ص 348.‏
38- الرواية، ص82.‏
39- انظر عبد الجبار عباس، نفسه.‏
40- أشار بعض الباحثين إلى أنها تصور ثلاثة أجيال مهملاً جيل الأطفال (سها وسناء)، حيث يقدم الكاتب الأحداث من وجهة نظر الأخيرة في الفصل السادس، انظر مقال د.محسن جاسم الموسوي. الفكر العربي المعاصر، العددان 18-19، شباط. آذار، 1982، ص 232، وقد ورد اسم الناقد خطأ (محمد) بدلاً من محسن.‏
41- انظر: د. محسن جاسم الموسوي، نفسه، ص 232.‏
42-انظر: جورج طرابيشي، الله في رحلة نجيب محفوظ، ط2، دار الطليعة، بيروت، ص 52-64.‏
43- د. سامي سويدان، اللص والكلاب، لنجيب محفوظ، دراسة سينمائية، مجلة الفكر العربي المعاصر العددن 18-19، شباط، آذار 1982، ص 220.‏
44- غالي شكري، المنتمي، دراسة في أدب نجيب محفوظ، القاهرة، 1964. ص 258.‏
45- الرواية، ص 139.‏
46-الرواية، ص 9-12.‏
47-الرواية، ص 103.‏
48-انظر: شجاع مسلم العاني، نفسه، ص 101.‏
49- انظر: الرواية، ص 44.‏
50-الرواية، ص355.وللاستزادة راجع الصفحات 248، 354.‏
51-الرواية، دار ابن رشد، بيروت، 1980، ص26.‏
52-الرواية، ص303.‏
53-الرواية، عدد من الباحثين السوفييت، نفسه، ص140