الأربعاء، 9 أغسطس 2023

القول بمخالفة القرآن لبعض قواعد اللغة العربية

لُغَتُكَ الْعَرَبِيَّةُ فَخْرٌ لَكَ؛ لأَنَّهَا لُغَةُ الْجَنَّةِ، وَالْقُرْآنِ، وَمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

القول بمخالفة القرآن لبعض قواعد اللغة العربية هو قول قديم، أول من قال به هي السيدة عائشة، لهذا أستغرب استهجان الإجابات الأخرى للسؤال من أساسه. لكن أكمل القراءة للنهاية كي نرى إن كان في القرآن ما يُخالف قواعد اللغة العربية أم لا.

في هذه الإجابة سأُناقش مزعمين من مزاعم احتواء القرآن على أخطاء في اللغة العربية وهما:

  • الأخطاء النحوية
  • أخطاء في الأسلوب، أو ما يُعرف باستخدام القرآن لأسلوب (الإلتفات) وهو ما سأشرح معناه بعد قليل

سأقوم لاحقًا بنقل بعض الردود على هذه المزاعم قبل أن أقول رأيي الشخصي.

الأخطاء النحوية:

قد يكون أقدم ما ورد عن هذا الموضوع هو ما نقله الطبري في تفسيره (جامع البيان في تفسير القرآن صفحة ٣٦٤)

:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه سأل عائشة عن قوله: عن قوله: "والمقيمين الصلاة"، وعن قوله: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون" وعن قوله "إن هذان لساحران"، فقالت: يا بن أخي هذا عمل الكاتب، أخطأوا في الكتاب.

وهي رواية صحيحة على شرط الشيخين (يعني أن البخاري ومُسلم نقلا أحاديثَ عن نفس السند)، وقد وردت نفس الرواية مع اختلاف طفيف في بعض الألفاظ في كتب أخرى كالإتقان في علوم القرآن للسيوطي.

في هذه الرواية سُئِلَت عائشة عن سبب مخالفة ثلاث آيات لقواعد اللغة العربية وهي:

لكنّ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ۚ والمقيمين الصلاة ۚ والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا (النساء - ١٦٢)

والخطأ المُفترض هنا هو في "والمقيمين الصلاة" والصواب الظاهر "والمقيمون الصلاة". وهنا يجب رفع كلمة "المقيمين" وليس نصبها لأنها معطوفة على الأسماء التي جاءت قبلها (الراسخون)، (المؤمنون).

وكذلك الآية:

إنّ هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهم (طه - ٦٣)

حيث الصواب الظاهر هو: "إن هذين لساحران" كون المثنى يُنصَب بالياء وليس بالألف (إن وأخواتها تنصب المُبتدأ وترفع الخبر).

وأخيرًا عن الآية:

إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (المائدة 69)

الخطأ هنا هو في "والصابئون" والصواب الظاهر هو "والصّابئين" لأنها معطوفة بالواو على كلمة محلّها النصب (الذين) فيجب نصب (الصابئين) بالياء لأنها جمع مذكّر سالم.

رد السيدة عائشة كان أن "هذا عمل الكُتّاب"، وتُقصد أنها أخطاء ارتكبها من نسخوا القرآن، تمامًا كما تُخطئ المطابع في أيامنا هذه في طباعة بعض الحروف فنُسميه "خطأ مطبعي".

وفي رواية أخرى، ذكر الإمام أحمد في مسنده

أن رجلًا سأل عائشة:

"جئت أن أسألك عن آية في كتاب الله عز وجل كيف كان رسول الله يقرؤها؟ فقالت أية آية، فقال: "الذين يؤتون ما أتوا" أو "الذين يأتون ما أتوا" فقالت: أيهما أحب إليك؟ قال: قلت […] "الذين يأتون ما أتوا"، قالت: أشهد أن رسول الله كذلك كان يقرؤها، وكذلك أُنزِلت، وكذلك كان رسول الله يقرؤها، ولكن الهجاء حُرِّف".

الآية المقصودة هي: "والّذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنّهم إلى ربّهم راجعون" ووفقًا لعائشة فقد نزلت "والّذين يأتون ما آتوا" لكن تم تحريف اللفظ عند الكتابة.

وأخرج ابن أبي داود في كتاب "المصاحف":

فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ لَحْنٌ: {الصَّابِئُونَ} ، {وَالْمُقِيمِينَ} [النساء: ١٦٢] ، {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: ١٠] ، وَ {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: ٦٣] 

إذًا، ما الرد على هذه الادعاءات؟

جميع هذه الادعاءات تم الرد عليها من الأقدمين والمُُعاصرين، وبشكل عام تنقسم الردود إلى نوعين:

  • النوع الأول (وهي ردود الأقدمين) ويرى هذا التأويل أن بعض ما نعتبره أخطاءً وفقًا للعربية القياسية/الشائعة كانت تعابير صحيحة عند بعض العرب في ذلك الوقت. وهو تفسير معقول فنحن نعرف أن الاختلاف كان موجودًا بين الألسنة العربية، فلسان قريش يختلف عن لسان كنانة الذي يختلف عن لسان طيء، لكن هذا التأويل يتعارض مع ما تم التعارف عليه من كون القرآن قد نزل بلغة قُريش، فلو كان يجوز أن يُقال "إن هذان لساحران" بلغة قريش فلماذا اعتبرت عائشة أن كتابتها بهذه الطريقة خطأ؟ قد تكون الرواية خاطئة وإن لم أكن قد قرأت مثل هذا الرأي إذ يتجنب الدارسون عادةً تخطيء رواية تُصنف أنها صحيحة على شرط الشيخين. أو أن القرآن لم يأتِ بلسان قريش بل تضمن ألسنةً أخرى قد تكون هي (الأحرف السبعة) رغم أن المختصين اختلفوا على 35 قولًا في معنى الأحرف السبعة.
  • النوع الثاني وهي تفسيرات إعرابية مُختلفة تحاول إظهار صحّة التعبير موضع الجدل.
    • مثلًا في الآية "إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنصارى والصابئونقيل أن الآية فيها تقديم وتأخير والمعنى الضمني لها هو: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، من آمن بالله فلا خوف عليهم، ولاهم يحزنون، والصابئون كذلك". وهناك أقوال أخرى في إعراب هذه الآية، لكن من الجدير بالذكر أن نفس الآية تكررت في موضعين آخرين في سورتي البقرة (62) والحج (17) وقد كُتبت فيهما الكلمة بشكلها المُفترض (والصابئين).
    • وقيل في الآية: "لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة" بأنه إذا وجدت مُتعاطفات وأردنا أن نولي إحداها مزيدًا من العناية لإبراز أهميتها فيحق للكاتب تغيير أسلوب العطف ليدل على أهميتها.
    • وقيل في الآية: "إن هذان لساحران" أن حرف (إن) هنا يأتي بمعنى (نعم). وليس (إن) التي تنصب المبتدأ وترفع الخبر.

هناك نوع ثالث في الحقيقة وهو نظرية السيدة عائشة، بأن هذه أخطاء من النُّسّاخ، لكن في حال كان هذا صحيحًا، فلماذا لم يتم تصحيح هذه الأخطاء في النّسخ اللاحقة؟ لا أعرف الإجابة.

أسلوب الإلتفات في القرآن:

بالإضافة إلى ما يُزعَم بأنها أخطاء إملائية، هناك من يُشير أيضًا إلى استخدام أسلوب (الإلتفات) في القرآن وهو استعمال حال عوضًا عن حالٍ آخر في نفس الجملة، وهو ما نعتبره خطأً في عربيتنا القياسية.

مثال لتوضيح الفكرة. لو كتب أحدهم: "ذهبنا أنا وأخي إلى الامتحان ووزّع عليهم المُدرّس الأوراق). هذه عبارة خاطئة إذ تم تغيير الحال في الجملة من المتكلّم إلى الغائب، الصحيح "ووزّع علينا". هذا الأسلوب مُستخدم كثيرًا في القرآن وهنا بعض الأمثلة:

  • تغيير الحال من الماضي إلى الأمر: "قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد" - قياسيًا نكتب: "قل أمر ربي بالقسط وإقامة وجوهكم عند كل مسجد"
  • من الماضي إلى المضارع: "ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون" - قياسيًا نكتب: "وفريقًا قتلتم".
  • من المفرد إلى الجمع: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون" - قياسيًا نكتب: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنوره وتركه في ظلماتٍ لا يُبصر".
  • من الجمع إلى المُثنى: "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا […] فبأي آلاء ربكما تكذبان" - قياسيًا نكتب: "فبأي آلاء ربكم تكذبون".
  • استعمال الجمع مع المُفرد: "ومن يعصِ الله ورسوله فإنّ له نارَ جهنّم خالدين فيها أبدا" - قياسيًا نكتب: "فإنّ له نارَ جهنّم خالدًا فيها أبدا"

ناقش المفسرون القدامى أسلوب الالتفات واختلفوا أحيانًا في الغرض منه، لكن بشكل عام يمكن القول أن معظمهم أجمع أنه أسلوب من أساليب البلاغة الخاصّة بالقرآن.

كما نقول إنه يحق للشاعر ما لا يحق لغيره، فبشكلٍ مماثل يحق للقرآن بالطبع ما لا يحق لغيره، وليس لنا أن نعتبر هذا خطأً. لو كتب الطالب في حصة اللغة العربية: "ذهب الرجل إلى المطعم وأكلوا طعامًا لذيذًا" لاستحقّ عليها صفرًا كونه غيّر الصيغة من المفرد إلى الجمع، ولن يشفع له أن يُبرر لمُعلّمه بأنه كتب هذا عامدًا كنوع من البلاغة. من وجهة نظر العربية القياسية فهذه العبارة خاطئة. قد يُبرر الطالب هذا بأن القرآن فعل ذلك (فإنّ له نارَ جهنّم خالدين فيها) لكن هذا لن يُغيّر رأي المُعلّم، فللبلاغة وأساليب التعبير غير المألوفة مكانها ومُناسبتها، ومكانها ليس في كتب النحو. يحق للطالب أن يُخالف القواعد كما يشاء لو كان هذا يُُساهم في إيصال التعبير بشكل بليغ من خلفه مقصد، لكن عليه أن يفعل ذلك خارج حصة اللغة العربية.

بالعودة إلى ما يُقال بأنها أخطاء نحوية، فأنا لا أميل إلى المخارج الإعرابية التي وجدها الباحثون. أعتقد أنه يمكنك دائمًا إيجاد تبرير إعرابي لأية جملة فيها خطأ، فيمكنك دائمًا افتراض وجود خبر محذوف أو تقديم وتأخير أو أن تقول بأن حرفًا ناسخًا عُطِفَ على محل اسمه أو أن كلمةً ما منصوبةً على القطع أو على الاختصاص. لو كتبت أية جملة فيها إعراب خاطئ صريح وأحضرت سيبويه وطلبت منه أن يجد لك مخرجًا دون تعديل الجملة، فسوف يجده! هذا برأيي لا يصح إذ يجب وجود قواعد قياسية كي نقيس عليها ما نكتبه وإلا طغت الحالات الغريبة وغير المألوفة على كتابتنا وأصبحت حالةً عامة وصار كلٌُ يكتب كما يشاء. لهذا أنا أميل إلى تفسير الأقدمين من كون القرآن احتوى ألسنًا عربية مُختلفة كانت ترفع المفعول به أو تنصب ما يجب أن يُجَر وما شابه، تلك الألسن انقرضت وصارت لدينا عربية قياسية للالتزام بها.

بالمُحصلة لا يمكن أن نقول إن في القرآن أخطاء نحوية بالمُطلَق، فعندما نقول (أخطاء) فما هي جملة المُقارنة لدينا؟ أخطاء بالنسبة لماذا؟ بالنسبة للعربية القياسية المُتعارف عليها اليوم في حصّة اللغة العربية قد تكون أخطاء فعلًا، لكن اللغة العربية تطوّرت وتغيّرت على مر الأزمنة. العربية القياسية التي نستخدمها اليوم لم تكن موجودة في زمن القرآن ولا يمكن أن نُطالب لغة القرآن بأن تُطابق لغتنا اليوم وثم نعتبرها خطأً إن لم تفعل.

الهوامش

ليست هناك تعليقات: