الاثنين، 29 أبريل 2013

تخليص الإبريز في تلخيص باريز

لغتك العربية فخر لك لأنها لغة الجنة والقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم

عندما صحب رفاعة البعثة العلمية الأولى إلى باريس كان عام 1826 .. وكان إماما لطلبه البعثة , يؤمهم فى الصلاة ويعظهم ويرشدهم.. لكن فى نفس الوقت بهرته الحضارة الأوربية, فعكف على دراسة اللغة الفرنسية ثم اتجهت ميوله إلى دراسة التاريخ والجغرافيا والفلسفة والآداب الفرنسية.. وبدأ يقارن بين ما عندنا وما عند الغرب وأخذ يبحث فى أسباب التخلف والتأخر.. ومن هنا بدأ اتصال رفاعة بأفكار فلسفه التنوير.. وأخذت الحياة تدب فى عقله.. وبدأ يتذكر وصايا أستاذه الشيخ حسن العطار فى تسجيل مشاهداته فى فرنسا ومحاولته ترجمه كل ما له صله بتقدم مصر .. ومن هنا بدأ عقل الطهطاوي يعي الأمور ويدرك القيمة الحقيقية للبعثة .. وأخذ يدرك مقدار ما يمكن أن ستفيده بلاده منه .. ولذلك ألف كتابا غاية فى الروعة وهو .. تخليص الإبريز فى تلخيص باريز..
ولم يكن من المصادفة أن يبدأ رفاعة الطهطاوي فى كتابه تخليص الابريز  بقوله (أن الأمة الفرنسية من الفرق التى تعتبر التحسين والتقبيح العقليين, وأن أبناءها يعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلا, وان الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير واجتناب ضده, وان عماره البلاد وتطرق الناس وتقدمهم فى الآداب والفنون تسد مسد الأديان, وان الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالسياسة الشرعية) .. والمسافة هنا قريبه بين انطلاق رفاعة من مبدأ التحسين والتقبيح عند المعتزلة وإعجابه بما قرأه فى الفرنسية فى مجال الحقوق الطبيعية عندما وصفه بأنه(عبارة عن التحسين والتقبيح يجعله الفرنج أساسا لأحكامهم السياسية التى يسموها شرعيه ) وإذا كانت شرعيه تشير إلى الدستور المدني والدولة العلمانية فى مصطلح رفاعة.. فإنها تشير إلى الإيمان العقلاني بأهمية هذه الدولة كما تشير إلى إفادته من فكر مونتيسكيو فى كتاب روح الشرائع الذي يصفه رفاعة بأنه (أشبه بميزان المذاهب الشرعية والسياسية )
ففى الفصل الثانى من الكتاب يقول ( من جمله ما يعين الفرنساويه على التقدم من العلوم والفنون سهوله لغتهم وسائر ما يكملها ,فان لغتهم لا تحتاج معالجه كثيره فى تعلمها , فأى إنسان له قابليه وملكه صحيحه يمكنه بعد تعلمها أن يطالع أى كتاب كان .. وهو هنا يضع كلتا يديه على أحدى الاسباب الخطيره الموروثه من عصور التخلف ..أنها أداه المعرفة, أداه الحوار , فالمعرفة ألعلميه ليست مونوج صوفي, بل هى حوار بين الذات والموضوع لذلك كانت اللغة من البنود الرئيسية فى جدول التنوير ..
وفى السياق نفسه يتحدث عن أهل باريس فيقول (ليسوا أسراء التقليد أصلا بل يحبون معرفه أصل الشئ والاستدلال عليه .. حتى ان عامتهم أيضا يحبون القراءة والكتابة ويدخلون مع غيرهم فى الأمور العميقة) .. وهنا يضع رفاعة الوعي عاملا جوهريا فى ربط الفرد بالمجتمع وقضاياه.. وهو المقدمة الأولى تكوين ما يسمى الرأى العام وهو بداية الديموقراطية .. ويكمل فيقول ( سائر العلوم والفنون والصنائع مدونه فى الكتب , حتى الصنائع الدنيئه فيحتاج الصنائعى بالضرورة إلى معرفه القراءة والكتابة لإتقان صنعته وكل صاحب فن يجب أن يبتدع فى فنه شيئا لم يسبق به أو يكمل ما ابتدعه غيره .. وهذا معنى التطور الذى يؤدى إلى التطور .
ثم ينتقل رفاعة فى الكتاب إلى التحدث عن السياسة فيقول (لا تطول عندهم ولاية ملك جبار أو وزير اشتهر بينهم بأنه تعدى مره وجار.. فالوزير اذا مشى فى الطريق لا تعرفه عن غيره .. فانه يقلل من أتباعه ما أمكنه).. ويقول أيضا ( ان أحكامهم القانونية ليست مستنبطه من الكتب السماوية لكن دستورهم فيه أمور لا ينكر ذوو العقل أنها من باب العدل, فلقد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد .
ويترجم الطهطاوي الدستور الفرنسى ضمن كتابه ويعلق عليه أيضا بأن ( سائر الفرنسيين مستوون قدام الشريعة, وان سائر من يوجد فى بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون فى إجراء الأحكام المذكورة فى القانون حتى إن الدعوة الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره.. ويقول أيضا (ومن الأدلة الواضحة على وصول الشرع عندهم إلى درجه عالية وتقدمهم فى الآداب الحاضرة ما يسمونه الحرية.. وذلك لان معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي فى الأحكام والقوانين, بحيث لا يجور الحاكم على إنسان, بل القوانين هى المحكمة والمعتبرة). و(الملك إنما هو منفذ للأحكام على طبق ما فيها من قوانين فكأنه عبارة عن أله)
لا يمكننا أن ننسى أن صاحب تلك الكلمات هو الشيخ رفاعة إمام البعثة المصرية فى باريس وهو فى جوهر فكره يحمل أسس النهضة .. وهى الانتقال بالسلطة من الحق الالهى إلى العقد الاجتماعي .. والانتقال بالدولة من الثيوقراطيه إلى الديموقراطية.. فهذا هو كتاب وهذا هو فكر أحد رواد النهضة فى الحوار مع أفكار التنوير الأوربية.. تقبل بعضها ورفض البعض الأخر .. وإعادة إنتاج المقبول تأويلا لصالح واقع مجتمعي ليستطيع التأقلم معه.
رابط الكتاب

ليست هناك تعليقات: