الاثنين، 17 يوليو 2023

صيدُ الخاطر

لُغَتُكَ الْعَرَبِيَّةُ فَخْرٌ لَكَ؛ لأَنَّهَا لُغَةُ الْجَنَّةِ، وَالْقُرْآنِ، وَمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

هذا الكتاب من كنوز التراث الإسلامي والإنساني

من أروع ما قرأت

 

 

 

صيدُ الخاطر

 

تأليف

أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي

 

 

·       مقدمة

الحمد لله حمداً يبلغ رضاه وصلى الله على أشرف من اجتباه وعلى من صاحبه ووالاه وسلم تسليماً لا يدرك منتهاه‏.‏

لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها ثم تعرض عنها فتذهب كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر لكيلا ينسى‏.‏

وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ قيدوا العلم بالكتابة‏.‏

وكم قد خطر لي شيء فأتشاغل عن إثباته فيذهب فأتأسف عليه‏.‏

ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر سنح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب فأنثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه فجعلت هذا الكتاب قيداً - لصيد الخاطر - والله ولي النفع إنه قريب مجيب‏.‏

 

 

 

 

 

 

 

 

·       فصل : تفاوت الناس في تقبل المواعظ

   قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة ، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القساوة و الغفلة ! فتدبرة السبب في ذلك فعرفته .
   
ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك ، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفته من اليقظه عند سماع الموعظة و بعدها ، لسببين :
   
أحدهما : أن المواعظ كالسياط ، و السياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت و قوعها .
   
و الثاني : أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة ، قد تخلى بجسمه و فكره عن أسباب الدنيا ، و أنصت بحضور قلبه ، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها ، وكيف يصح أن يكون كما كان ؟ .
   
و هذه حالة تعم الخلق إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر :
   
فمنهم من يعزم بلا تردد ، و يمضي من غير التفات ، فلو توقف بهم ركب الطبع لضجوا ، كما قال حنظلة عن نفسه : نافق حنظلة ! و منهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحياناً ، و يدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحياناً ، فهم كالسنبلة تميلها الرياح ! و أقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه ، كماء دحرجته على صفوان .

 

 

 

 

 

 

·       فصل : جواذب النفس بين الدنيا و الآخرة

   جواذب الطبع الى الدنيا كثيرة ، ثم هي من داخل ، و ذكر الآخرة أمر خارج عن الطبع من خارج و ربما ظن من لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى ، لما يسمع من الوعيد في القرآن ، و ليس كذلك ، لأن مثل الطبع في ميله إلى الدنيا ، كالماء الجاري فإنه يطلب الهبوط ، و إنما رفعه إلى فوق يحتاج إلى التكلف .
   
و لهذا أجاب معاون الشرع : بالترغيب و الترهيب يقوي جند العقل . فأما الطبع فجواذبه كثيرة ، و ليس العجب أن يغلب ! إنما العجب أن يغلب .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


  

·       فصل : البصر في العواقب

   من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها ، نال خيرها ، و نجا من شرها . و من لم ير العواقب غلب عليه الحسن ، فعاد عليه بالألم ما طلب منه السلامة ، و بالنصب ما رجا منه الراحه .
   
و بيان هذا في المستقبل ، يتبين بذكر الماضي ، و هو أنك لا تخلو ، أن تكون عصيت الله في عمرك ، أو أطعته . فأين لذة معصيتك ؟ و أين تعب طاعتك ؟ هيهات رحل كل بما فيه !
   
فليت الذنوب إذ تخلت خلت !
   
و أزيدك في هذا بياناً مثل ساعة الموت ، و انظر إلى مرارة الحسرات على التفريط ، و لا أقول كيف تغلب حلاوة اللذات ، لأن حلاوة اللذات استحالت حنظلا ، فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم ، أتراك ماعلمت أن الأمر بعواقبه ؟ فراقب العواقب تسلم ، و لا تمل مع هوى الحسن فتندم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

·       فصل : متاع الغرور

  من تفكر بعواقب الدنيا ، أخذ الحذر ، و من أيقن بطول الطريق تأهب للسفر . ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه ، و يتحقق ضرر حال ثم يغشاه ! و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه .
   
تغلبك نفسك على ما تظن ، و لا تغلبها على ما تستيقن . أعجب العجائب ، سرورك بغرورك ، و سهوك في لهوك ، عما قد خبىء لك . تغتر بصحتك و تنسى دنو السقم ، و تفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم . لقد أراك مصرع غيرك مصرعك ، و أبدى مضجع سواك ـ قبل الممات ـ مضجعك . و قد شغلك نيل لذاتك ، عن ذكر خراب ذاتك :
   
كأنك لم تسمع بأخبار من مضى       و لم تر في الباقين مايصنع الدهر
   
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم       محاها مجال الريح بعدك و البقر !
   
كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده ، حتى نزل ! و كم شاهدت والي قصر وليه عدوه لما عزل ! فيا من كل لحظة إلى هذا يسري ، و فعله فعل من لا يفهم لو لا يدري ...
   
و كيف تنام العين و هي قريرة ؟       و لم تدر من أي المحلين تنزل ؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

·       فصل : الحزر طريق السلامة

   من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة . و من ادعى الصبر ، و كل إلى نفسه .
   
و رب نظرة لم تناظر ! و أحق الأشياء بالضبط و القهر : اللسان و العين . فإياك إياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى ، مع مقاربة الفتنة ، فإن الهوى مكايد .
   
و كم من شجاع في صف الحرب اغتيل ، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه ! و اذكر حمزة مع و حشي .
   
فتبصر و لا تشم كل برق       رب برق فيه صواعق حين
   
و اغضض الطرف تسترح من غرام       تكتسي فيه ثوب ذل و شين
   
فبلاء الفتى موافقه النفس       و بدء الهوى طموح العين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

·       فصل : لا تأخذك العزة بالاثم

   أعظم المعاقبة ألا يحس المعاقب بالعقوبة . و أشد من ذلك نفع السرور بما هو عقوبة ، كالفرح بالمال الحرام ، و التمكن من الذنوب . و من هذه حاله ، لا يفوز بطاعة . و إني تدبرت أحوال أكثر العلماء و المتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسون بها و معظمها من قبل طلبهم للرياسة .
   
فالعلم منهم ، يغضب إن رد عليه خطؤه ، و الوعظ متصنع بوعظه ، و المتزهد منافق أو مراء . فأول عقوباتهم ، إعراضهم عن الحق شغلا بالخلق . و من خفي عقوباتهم ، سلب حلاوة المناجاة ، و لذة التعبد إلا رجال مؤمنون ، و نساء مؤمنات ، يحفظ الله بهم الأرض ، بواطنهم كظواهرهم ، بل أجلى ، و سرائرهم كعلانيتهم ، بل أحلى ، و هممهم عند الثريا ، بل أعلى .
   
إن عرفوا تنكروا ، و إن رئيت لهم كرامة ، أنكروا . فالناس في غفلاتهم ، و هم في قطع فلاتهم ، تحبهم بقاع الأرض ، و تفرح بهم أملاك السماء . نسأل الله عز و جل التوفيق لاتباعهم ، و أن يجعلنا من أتباعهم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

·       فصل : كمال العقل

   من علامة كمال العقل : علو الهمة ! و الراضي بالدون دنيء ! !
   
و لم أر في عيوب الناس عيباً       كنقص القادرين على التمام

 

 

·       فصل : يحبهم و يحبونه

   سبحان من سبقت محبته لأحبائه ، فمدحهم على ما وهب لهم ، و اشترى منهم ما أعطاهم ، و قدم المتأخر من أوصافهم ، لموضع إيثارهم ، فباهى بهم في صومهم ، و أحب خلوف أفواههم . يا لها من حالة مصونة لا يقدر عليها كل طالب ! و لا يبلغ كنه وصفها كل خاطب .

 

·       فصل : ضع الموت نصب عينيك

    الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله ، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه ، و لا يدري متى يستدعى ؟
   
و إني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب ، و نسوا فقد الأقران ، و ألهاهم طول الأمل .
   
و ربما قال العالم المحض لنفسه : أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً ، فيتساهل في الزلل بحجة الراحة ، و يؤخر الأهبة لتحقيق التوبة ، و لا يتحاشى من غيبة أو سماعها ، و من كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع .
   
و ينسى أن الموت قد يبغت . فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه ، فإن بغته الموت رؤى مستعداً ، و إن نال الأمل ازداد خيراً .

 

 

 

 

·       فصل : من أعمالكم سلط عليكم

   خطرت لي فكرة فيما يجري على كثير من العالم من المصائب الشديدة ، و البلايا العظيمة ، التي تتناهى إلى نهاية الصعوبة فقلت : سبحان الله ! إن الله أكرم الأكرمين ، و الكرم يوجب المسامحة .
   
فما وجه هذه المعاقبة؟
   
فتكفرت ، فرأيت كثيراً من الناس في وجودهم كالعدم ، لا يتصفحون أدلة الوحدانية ، و لا ينظرون في أوامر الله تعالى و نواهيه ، بل يجرون ـ على عاداتهم ـ كالبهائم .
   
فإن وافق الشرع مرادهم و إلا فمعولهم على أغراضهم . و بعد حصول الدينار ، لا يبالون ، أمن حلال كان أم من حرام . و إن سهلت عليهم الصلاة فعلوها ، و إن لم تسهل تركوها . و فيهم من يبارز بالذنوب العظيمة ، مع نوع معرفة الناهي . و ربما قويت معرفة عالم منهم ، و تفاقمت ذنوبه ، فعلمت أن العقوبات ، و إن عظمت دون إجرامهم . فإذا وقعت عقوبة لتمحص ذنباً صاح مستغيثهم : ترى هذا بأي ذنب ؟ و ينسى ما قد كان ، مما تتزلزل الأرض لبعضه .
   
و قد يهان الشيخ في كبره حتى ترحمه القلوب ، و لا يدري أن ذلك لإهماله حق الله تعالى في شبابه . فمتى رأيت معاقباً ، فاعلم أنه لذنوب .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

·       فصل : المقارنة بين علماء الدنيا و علماء الآخرة

   تأملت التحاسد بين العلماء ، فرأيت منشأه من حب الدنيا ، فإن علماء الآخرة يتوادون و لا يتحاسبون ، كما قال عز و جل : و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا .
   
و قال الله تعالى : والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا .
   
و قد كان أبو الدرداء : [ يدعو كل ليلة من إخوانه ] .
   
و قال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي : [ أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل ليلة وقت السحر ] .
   
و الأمر الفارق بين الفئتين : أن علماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها ، و يحبون كثرة الجمع و الثناء . و علماء الآخرة ، بمعزل من إيثار ذلك ، و قد كانوا يتخوفونه ، و يرحمون من بلي به .
   
و كان النخعي ، لا يستند إلى سارية . و قال علقمة : أكره أن يوطأ عقبي . و يقال علقمة . و كان بعضهم ، إذا جلس إليه أكثر من أربعة ، قام عنهم . و كانوا يتدافعون الفتوى ، و يحبون الخمول ، مثل القوم كمثل راكب البحر ، و قد خب ، فعنده شغل إلى أن يوقن بالنجاة .
   
و إنما كان بعضهم يدعوا لبعض ، و يستفيد منه لأنهم ركب تصاحبوا فتوادوا ، فالأيام و الليالي مراحلهم إلى سفر الجنة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

·       فصل : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

   من أحب تصفية الأحوال ، فليجتهد في تصفية الأعمال .
   
قال الله عز وجل : و ألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً .
   
قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروي عن ربه عز وجل : لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل ، و أطلعت عليهم الشمس بالنهار ، و لم أسمعهم صوت الرعد .
   
و قال صلى الله عليه و سلم : البر لا يبلى ، و الإثم لا ينسى ، و الديان لا ينام ، و كما تدين تدان .
   
و قال أبو سليمان الداراني : [ من صفى صفي له ، و من كدر كدر عليه ، و من أحسن في ليلة كوفىء في نهاره ، و من أحسن في نهاره كوفىء في ليله ] . و كان شيخ يدور في المجالس ، و يقول : من سره أن تدوم له العافية ، فليتق الله عز وجل . و كان الفضيل بن عياض ، يقول : [ إني لأعصي الله ، فأعرف ذلك في خلق دابتي ، و جاريتي ] . و اعلم ـ وفقك الله ـ أنه لا يحس بضربة مبنج ، و إنما يعرف الزيادة من النقصان المحاسب لنفسه و متى رأيت تكديراً في حال فاذكر نعمة ما شكرت ، أو زلة قد فعلت ، و احذر من نفار النعم ، و مفاجأة النقم ، و لا تغتر بساط الحلم ، فربما عجل انقباضه .
   
و قد قال الله عز وجل : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
   
و كان أبو علي الروذباري يقول : [ من الاغترار أن تسىء ، فيحسن إليك ، فتترك التوبة ، توهما أنك تسامح في العقوبات ] .

 

·       فصل : غوامض تحير الضال

   تفكرت يوماً في التكليف ، فرأيته ينقسم إلى سهل ، و صعب . فأما السهل فهو أعمال الجوارح ، إلا أن منه ما هو أصعب من بعض ، فالوضوء و الصلاة أسهل من الصوم ، و الصوم ربما كان عند قوم أسهل من الزكاة . و أما الصعب فيتفاوت ، فبعضها أصعب من بعض . فمن المستصعب ، النظر ، و الإستدلال ، الموصلان إلى معرفة الخالق . فهذا صعب عند من غلبت عليه أمور الحس ، سهل عند أهل العقل . و من المستصعب غلبة الهوى ، و قهر النفوس ، و كف أكف الطباع عن التصرف فيما يؤثره .
   
و كل هذا يسهل على العاقل النظر في ثوابه ، و رجاء عاقبته ، و إن شق عاجلاً .
   
و إنما أصعب التكاليف و أعجبها : أنه قد ثبتت حكمة الخالق عند العقل ، ثم نراه يفقر المتشاغل بالعلم ، المقبل على العبادة ، حتى يعضه الفقر بناجذيه ، فيذل للجاهل في طلب القوت . و يغنى الفاسق مع الجهل ، حتى تفيض الدنيا عليه .
   
ثم نراه ينشىء الأجسام ثم ينقض بناءالشباب في مبدأ أمره ، و عند استكمال بنائه ، فإذا به قد عاد هشيماً . ثم نراه يؤلم الأطفال ، حتى يرحمهم كل طبع . ثم يقال له : إياك أن تشك في أنه أرحم الراحمين . ثم يسمع بإرسال موسى إلى فرعون ، و يقال له : اعتقد أن الله تعالى أضل فرعون ، و اعلم أنه ما كان لآدم بد من أكل الشجرة و قد وبخ بقوله : و عصى آدم ربه .
   
و في مثل هذه الأشياء تحير خلق ، حتى خرجوا إلى الكفر و التكذيب .
   
و لو فتشوا على سر هذه الأشياء ، لعلموا أن تسليم هذه الأمور ، تكليف العقل ليذعن ! و هذا أصل ، إذا فهم ، حصل منه السلامة و التسليم .
   
نسأل الله عز وجل أن يكشف لنا الغوامض ، التي حيرت من ضل ، أنه قريب مجيب .

 

 

 

·       فصل : المحافظة على الوقت

   ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه ، و قدر وقته ، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة . و يقدم الأفضل فالأفضل من القول و العمل . و لتكن نيته في الخير قائمة ، من غير فتور ربما لا يعجز عنه البدن من العمل ، كما جاء في الحديث : نية المؤمن خير من عمله . و قد كان جماعة من السلف ، يبادرون اللحظات . فنقل عن عامر بن عبد قيس ، أن رجلاً قال له : كلمني ، فقال له : أمسك الشمس . و قال ابن ثابت البناني : ذهبت ألقن أبي ، فقال : [ يا بني دعني ، فإني في وردي السادس ] .
   
و دخلوا على بعض السلف عند موته ، و هو يصلي ، فقيل له . فقال : [ الآن تطوى صحيفتي ] .
   
فإذا علم الإنسان ـ و إن بالغ في الجد ـ بأن الموت يقطعه عن العمل ، عمل في حياته ما يدوم له آجره بعد موته . فإن كان له شيء من الدنيا وقف وقفاً ، و غرس غرساً ، و أجرى نهراً ، و يسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده ، فيكون الأجر له . أو أن يصنف كتاباً من العلم ، فإن تصنف العالم ولده المخلد . و أن يكون عاملاً بالخير ، عالماً فيه ، فينقل من فعله ما يقتدي الغير به .
   
فذلك الذي لم يمت .
   [
قد مات قوم و هم في الناس أحياء ]

 

·       فصل : شرف الغنى و مخاطرة الفقر

   رأيت من أعظم حيل الشيطان و مكره ، أن يحبط أرباب الأموال بالآمال ، و التشاغل باللذات القاطعة عن الآخرة و أعمالها .
   
فإذا شغلهم بالمال ـ تحريضاً على جمعه ، و حثاً على تحصيله ـ و أمرهم بحراسته بخلاً به .
   
فذلك من متين حيله ، و قوي مكره . ثم دفن في هذا الأمر من دقائق الحيل الخفية ، أن خوف من جمعه المؤمنين ، فنقر طالب الآخرة منه ، و بادر التائب بأن يخرج ما في يده .
   
و لا يزال الشيطان ، يحرضه على الزهد ، و يأمره بالترك ، و يخوفه من طرقات الكسب ، إظهاراً لنصحه و حفظ دينه . و في خفايا ذلك عجائب من مكره .
   
و ربما تكلم الشطان على لسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب ، فيقول له : اخرج من مالك و ادخل في زمرة الزهاد .
   
و متى لك غداء أو عشاء ، فلست من أهل الزهد ، فلا تنال مراتب العزم .
   
و ربما كرر عليه الأحاديث البعيدة عن الصحة الواردة على سبب و لمعنى .
   
فإذا أخرج ما في يده ، و تعطل عن مكاسبه ، عاد يعلق طعمه بصلة الإخوان . أو يحسن عنده صحبة السلطان ، لأنه لا يقوى على طريق الزهد و الترك إلا أياماً ، ثم يعود فيقاضى مطلوباته ، فيقع في أقبح مما فر منه .
   
و يبذل أول السلع في التحصيل دينه و عرضه ، و يصير متمبدلابه ، و يقف في مقام اليد السفلى .
   
و لو أنه نظر في سير الرجال و نبلائهم ، و تأمل صحاح الأحاديث ، عن رؤسائهم ، لعلم أن الخليل عليه الصلاة و السلام كان كثير المال ، حتى ضاقت بلدته بمواشيه .
   
و كذلك لوط عليه الصلاة و السلام ، [ و كثير من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ] ، و الجم الغفير من الصحابة . و إنما صبروا عند العدم ، و لم يمتنعوا من كسب ما يصلحهم ، و لا من تناول المباح عند الوجود .
   
و كان أبو بكر رضي الله عنه يخرج للتجارة و الرسول صلى الله عليه و سلم حي .
   
و كان أكثرهم يخرج فاضل ما يأخذ من بيت المال ، و يسلم من ذل الحاجة إلى الأخوان . و قد كان ابن عمر لا يرد شيئاً ، و لا يسأله .
   
و إني تأملت على أكثر أهل الدين و العلم هذه الحال ، فوجدت العلم شغلهم عن المكاسب في بداياتهم ، فلما احتاجوا إلى قوم نفوسهم ذلوا ، و هم أحق بالعز .
   
و قد كانوا قديماً يكفيهم من بيت المال فضلاً عن الإخوان ، فلما عدم في هذا الأوان ، لم يقدر متدين على شيء إلا يبذل شيء من دينه . و ليته قدر فربما تلف الدين و لم يحصل له شيء . فالواجب على العاقل أن يحفظ ما معه ، و أن يجتهد في الكسب ليربح مداراة ظالم ، أو مداهنة جاهل ، و لا يلتفت إلى ترهات المتصوفة ، الذين يدعون في الفقر ما يدعون .
   
فما الفقر إلا مرض العجز ، و للصابر على الفقر ثواب الصابر على المرض . اللهم إلا أن يكون جباناً عن التصرف ، مقتنعاً بالكفاف ، فليس ذلك من مراتب الأبطال ، بل هو من مقامات الجبناء الزهاد .
   
و أما الكاسب ليكون المعطي لا المعطى ، و المتصدق لا المتصدق عليه ، فهي من مراتب الشجعان الفضلاء . و من تأمل هذا ، علم شرف الغنى و مخاطرة الفقر .

 

·       فصل : فضول الدنيا

   تأملت أحوال الفضلاء ، فوجدتهم ـ في الأغلب ـ قد بخسوا من حظوظ الدنيا ، و رأيت الدنيا غالباً ـ في أيدي أهل النقائص .
   
فنظرت في الفضلاء ، فإذا هم يتأسفون على ما فاتهم مما ناله أولو النقص ، و ربما تقطع بعضهم أسفاً على ذلك . فخاطبت بعض المتأسفين فقلت له ، و يحك تدبر أمرك ، فإنك غالط من وجوه :
   
أحدها : أنه إن كانت لك همة في طلب الدنيا ، فاجتهد في طلبها تربح التأسف على فوتها ، فإن قعودك ـ متأسفاً على ما ناله غيرك ، مع قصور اجتهادك ـ غاية العجز .
   
الثاني : أن الدنيا إنما تراد لتعبر لا لتعمر ، وهذا هو الذي يدلك عليه علمك ويبلغه فهمك .
   
و ما يناله أهل النقص من فضولها يؤذي أبدانهم و أديانهم . فإذا عرفت ذلك ثم تأسفت على فقد ما فقده أصلح لك ، كان تأسفك عقوبة لتأسفك على ما تعلم المصلحة في بعده ، فاقنع بذلك عذاباً عاجلاً إن سلمت من العذاب الآجل .
   
و الثالث : أنك قد علمت بخس حظ الآدمي في الجملة ، من مطاعم الدنيا و لذاتها بالإضافة إلى الحيوان البهيم ، لأنه ينال ذلك أكثر مقداراً ، مع أمن و أنت تناله مع خوف ، و قلة مقدار .
   
فإذا ضوعف حظك من ذلك كان ذلك لاحقاً بالحيوان البهيم ، من جهة أنه يشغله ذلك عن تحصيل الفضائل . و تخفيف المؤن يحث صاحبه على نيل المراتب . فإذا آثرت الفضول مع قلة الفضول ـ عدت على ما علمت بالإزراء ، فشنت علمك ، و دللت على اختلاط رأيك . . .

 

·       فصل : من يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه

   تأملت إقدام العلماء على شهوات النفس المنهي عنها ، فرأيتها مرتبة تزاحم الكفر ، لولا تلوح معنى : هو أن الناس عند مواقعة المحظور ينقسمون .
   
فمنهم : جاهل بالمحظور ، أنه محظور ، فهذا له نوع عذر .
   
و منهم : من يظن المحظور مكروهاً لا محرماً ، فهذا قريب من الأول . و ربما دخل في هذا القسم آدم صلى الله عليه و سلم .
   
و منهم : من يتأول فيغلط ، كما يقال : إن آدم عليه الصلاة و السلام . نهي عن شجرة بعينها ، فأكل من جنسها ، لا من عينها .
   
و منهم : من يعلم التحريم ، غير أن غلبات الشهوة أنسته تذكر ذاك . فشغله ما رأى عما يعلم . و لهذا لا يذكر السارق القطع ، بل يغيب بكليته في نيل الحظ و لا يذكر راكب الفاحشة الفضيحة و لا الحد ، لأن ما يرى يذهله عما يعلم .
   
و منهم : من يعلم الخطر و يذكر . . . غير أن الأخذ بالحزم أولى بالعاقل ، كيف قد و علم أن هذا الملك الحكيم قطع اليد في ربع دينار ، و هدم بناء الجسم المحكم بالرجم بالحجارة ، لالتذاذ ساعة .
   
و خسف ، و مسخ ، و غرق . . . .

·        فصل : ميزان العدل لا يحابى

   من تأمل أفعال الباري سبحانه ، رآها على قانون العدل ، و شاهد الجزاء مراصداً ، و لو بعد حين .
   
فلا ينبغي أن يغتر مسامح ، فالجزاء قد يتأخر . و من أقبح الذنوب التي قد أعد لها الجزاء العظيم ، الإصرار على الذنب ، ثم يصانع صاحبه باستغفار ، و صلاة ، و تعبد ، و عنده أن المصانعة تنفع .
   
و أعظم الخلق اغتراراً ، من أتى ما يكرهه الله تعالى ، و طلب منه ما يحبه هو ، كما في الحديث و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني .
   
و مما ينبغي للعاقل أن يترصد ، و قوع الجزاء ، فإن ابن سيرين قال : [ عيرت رجلاً فقلت : يا مفلس ، فأفلست بعد أربعين سنة ] .
   
و قال ابن الجلا : [ رآني شيخ لي و أنا أنظر إلى أمرد ، فقال : ما هذا ؟ لتجدن غبتها ، فنسيت القرآن بعد أربعين سنة ] . و بالضد من هذا ، كل من عمل خيراً أو صحح نية ، فلينتظر جزاءها الحسن ، و إن امتدت المدة .
   
قال الله عز وجل : إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين . و قال عليه الصلاة و السلام : من غض بصره عن محاسن امرأة أثابه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه . فليعلم العاقل أن ميزان العدل لا يحابى .

 

·       فصل : و لا تنس نصيبك من الدنيا

   تأملت أحوال الصوفية و الزهاد ، فرأيت أكثرها منحرفاً عن الشريعة ، بين جهل بالشرع ، و ابتداع بالرأي . يستدلون بآيات لا يفهمون معناها ، و بأحاديث لها أسباب ، و جمهورها لا يثبت .
   
فمن ذلك ، أنهم سمعوا في القرآن العزيز : و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة ثم سمعوا في الحديث : للدنيا أهون على الله من شاة ميتة ، على أهلها فبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها .
   
و ذلك أنه ما لم يعرف حقيقه الشيء فلا يجوز أن يمدح و لا أن يذم .
   
فإذا بحثنا عن الدنيا رأينا هذه الأرض البسيطة التي جعلت قراراً للخلق ، تخرج منها أقواتهم ، و يدفن فيها أمواتهم .
   
و مثل هذا لا يذم لموضع المصلحة فيه و رأينا ما عليها من ماء ، و زرع ، و حيوان ، كله لمصالح الآدمي ، و فيه حفظ لسبب بقائه . و رأينا بقاء الآدمي سبباً لمعرفة ربه ، و طاعته إياه ، و خدمته ، و ما كان سبباً لبقاء العارف العابد ، يمدح و لا يذم ، فبان لنا أن الذم إنما هو لأفعال الجاهل ، أو العاصي في الدنيا ، فإنه إذا اقتنى المال المباح ، و أدى زكاته ، لم يلم .
   
فقد علم ما خلف الزبير ، و ابن عوف و غيرهما ، و بلغت صدقة علي ـ رضي الله عنه ـ أربعين ألفاً . و خلفت ابن مسعود تسعين ألفاً ، و كان الليث ابن سعد يشتغل كل سنة عشرين ألفاً ، و كان سفيان يتجر بمال ، و كان ابن مهدي يشتغل كل سنة ألفى دينار .
   
و إن أكثر من النكاح و السراري ، كان ممدوحاً لا مذموماً فقد كان للنبي صلى الله عليه و سلم زوجات ، و سراري . و جمهور الصحابة ، كانوا على الإكثار من ذلك . و كان لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أربع حرائر ، و تسع عشرة أمة . و تزوج ولده الحسن ، نحواً من أربعمائة .
   
فإن طلب التزوج للأولاد ، فهو الغاية في التعبد ، و إن أراد التلذذ فمباح ، يندرج فيه من التعبد ما لا يحصى ، من إعفاف نفسه و المرأة ، إلى غير ذلك . و قد أنفق موسى ـ عليه السلام ـ من عمره الشريف عشر سنين في مهر بنت شعيب .
   
فلولا أن النكاح من أفضل الأشياء ، لما ذهب كثير من زمان الأنبياء فيه و قد قال ابن عباس رضي الله عنهما : [ خيار هذه الأمة أكثرها نساء ] .
   
و كان يطأ جارية له ، و ينزل في أخرى . و قالت سرية الربيع بن خيثم : كان الربيع يعزل . و أما المطعم ، فالمراد منه تقوية هذا البدن لخدمة الله عز وجل ، و حق على ذي الناقة أن يكرمها لتحمله .
   
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم ، يأكل ما وجد اللحم أكله و يأكل لحم الدجاج ، و أحب الأشياء إليه الحلوى و العسل ، و ما نقل عنه أنه امتنع من مباح . و جيء علي رضي الله عنه بفالوذج فأكل منه ، و قال : [ ما هذا ] ؟ قالوا : يوم النوروز ، فقال : [ نوروزنا كل يوم ] .
   
و إنما يكره الأكل فوق الشبع ، و اللبس على وجه الاختيال و البطر .
   
و قد اقتنع أقوام بالدون من ذلك ، لأن الحلال الصافي لا يكاد يمكن فيه تحصيل المراد ، و إلا فقد لبس النبي صلى الله عليه و سلم حلة اشتريت له بسبعة و عشرين بعيراً . وكان لتميم الداري حلة اشتريت بألف درهم ، يصلي فيها بالليل .
   
فجاء أقوام ، فأظهروا التزهد ، و ابتكروا طريقة زينها لهم الهوى ، ثم تطلبوا لها الدليل .
   
و إنمان ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل ، لا أن يتبع طريقاً و يتطلب دليلها . ثم انقسموا :
   
فمنهم ، متصنع في الظاهر ، لبث الشري في الباطن ، يتناول في خلواته الشهوات ، و ينعكف على اللذات . و يري الناس بزيه أنه متصوف متزهد ، و ما تزهد إلا القميص ، و إذا نظر إلى أحواله فعنده كبر فرعون .
   
و منهم : سليم الباطن ، إلا أنه في الشرع جاهل .
   
و منهم : من تصدر ، و صنف ، فاقتدى به الجاهلون في هذه الطريقة ، و كانوا كعمي اتبعوا أعمى .
   
و لو أنهم تلمحوا الأمر الأول ، الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة رضي الله عنهم ، لما زلوا .
   
و لقد كان جماعة من المحققين ،لا يبالون بمعظم في النفوس إذا حاد عن الشريعة ، بل يوسعونه لوما .
   
فنقل عن أحمد أنه قال له المروذي : ما تقول في النكاح ؟ فقال : [ سنة النبي صلى الله عليه و سلم ] . فقال : فقد قال إبراهيم . قال : فصاح بي و قال : جئتنا ببنيات الطريق ؟ و قيل له : إفي سريا السقطي قال : لما خلق الله تعالى الحروف ، و قف الألف و سجدت الباء ، فقال : نفروا الناس عنه .
   
و اعلم أن المحقق لا يهوله اسم معظم ، كما قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أتظن أنا نظن أن طلحة و الزبير ، كانا على الباطل ؟ فقال له : [ إن الحق لا يعرف بالرجال ، أعرف الحق تعرف أهله ] .
   
و لعمري أنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام ، فإذا نقل عنهم شيء فسمعه جاهل بالشرع قبله ، لتعظيمهم في نفسه . كما ينقل عن أبي يزيد رضي الله عنه ، أنه قال : [ تراعنت علي نفسي فحلفت لا أشرب الماء سنة ] . و هذا إذا صح عنه ، كان خطأ قبيحاً . و زلة فاحشة ، لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن ، و لا يقوم مقامه شيء . فإذا لم يشرب فقد سعى في أذى بدنه . و قد كان يستعذب الماء لرسول الله صلى الله عليه و سلم . أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له ، و أنه لا يجوز التصرف فيها إلا عن إذن مالكها .
   
و كذلك ينقلون عن بعض الصوفية ، أنه قال : [ سرت إلى مكة على طريق التوكل حافياً ، فكانت الشوكة تدخل في رجلي فأحكها بالأرض و لا أرفعها ، و كان علي مسح ، فكانت عيني إذا آلمتني أدلكها بالمسح فذهبت إحدى عيني ] .
   
و أمثال هذا كثير ، و ربما حملها القصاص على الكرامات ، و عظموها عند العوام ، فيخايل لهم أن فاعل هذا أعلى مرتبة من الشافعي ، و أحمد .
   
و لعمري ، إن هذا من أعظم الذنوب أقبح العيوب ، لأن الله تعالى قال و لا تقتلوا أنفسكم .
   
و قال النبي عليه الصلاة و السلام : إن لنفسك عليك حقاً . و قد طلب أبو بكر رضي الله عنه ، في طريق الهجرة للنبي صلى الله عليه و سلم ، ظلا ، حتى رأى صخرة ففرش له في ظلها .
   
و قد نقل عن قدماء هذه الأمة بدايات هذا التفريط ، و كان سببه من وجهين : أحدهما : الجهل بالعلم ، و الثاني : قرب العهد بالرهبانية .
   
و قد كان الحسن يعيب فرقد السبخي ، و مالك بن دينار ، في زهدهما فرأى عنده طعام فيه لحم ، فقال: [ لا رغيفي مالك ، و لا صحنا فرقد ] . و رأى على فرقد كساء ، فقال : [ يا فرقد إن أكثر أهل النار أصحاب الأكسية ] .
   
وكم قد زوق قاص مجلسه بذكر أقوام خرجوا إلى السياحة بلا زاد و لا ماء و هو لا يعلم أن هذا من أقبح الأفعال ، و أن الله تعالى لا يجرب عليه . فربما سمعه جاهل من التائبين فخرج فمات في الطريق ، فصار للقائل نصيب من إثمه . و كم يروون عن ذي النون : أنه لقي امرأة في السياحة فكلمها و كلمته ، و ينسون الأحاديث الصحاح : لا يحل لامرأة أن تسافر يوماً و ليلة إلا بمحرم .
   
و كم ينقلون : أن أقواماً مشوا على الماء ، و قد قال إبراهيم الحربي : [ لا يصح أن أحداً مشى على الماء قط ] . فإذا سمعوا هذا قالوا : أتنكرون كرامات الأولياء الصالحين ؟
   
فنقول : لسنا من المنكرين لها ، بل نتبع ما صح ، و الصالحون هم الذين يتبعون الشرع ، و لا يتعبدون بآرائهم .
   
و في الحديث : إن بني إسرائيل شددوا فشدد الله عليهم .
   
و كم يحثون على الفقر حتى حملوا خلقاً على إخراج أموالهم ، ثم آل بهم الأمر إما إلى التسخط عند الحاجة ، و إما إلى التعرض بسؤال الناس . و كم تأذى مسلم بأمرهم الناس بالتقلل ، و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : ثلث طعام ، و ثلث شراب ، و ثلث نفس . فما قنعوا حتى أمروا بالمبالغة في التقلل .
   
فحكى أبو طالب المكي في [ قوت القلوب ] : أن فيهم من كان يزن قوته بكربة رطبة ، ففي كل ليلة يذهب من رطوبتها قليل ، و كنت أنا ممن اقتدى بقوله في الصبا ، فضاق المعي و أوجب ذلك ، مرض سنين .
   
أفترى هذا شيئاً تقتضيه الحكمة ، أو ندب إليه الشرع ؟
   
و إنما مطية الأدمي قواه ، فإذا سعى في تقليلها ، ضعف عن العبادة . فإنا لو دخلنا ديار الروم ، فوجدنا أثمان الخمور و أجرة الفجور ، كان لنا حلالاً بوصف الغنيمة .
   
أفتريد حلالاً ، على معني أن الحبة من الذهب لم تنتقل مذ خرجت من المعدن ، على وجه لا يجوز ؟
   
فهذا شيء لم ينظر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم . أو ليس قد سمعت أن الصدقة عليه حرام ، فلما تصدق على بريرة بلحم فأهدته ، جاز له آكل تلك العين لتغير الوصف . و قد قال أحمد بن حنبل [ أكره التقلل من الطعام ، فإن أقواماً ما فعلوه فعجزوا عن الفرائض ] . و هذا صحيح . فإن المتقلل لا يزال يتقلل إلى أن يعجز عن النوافل ثم الفرائض ، ثم يعجز عن مباشرة أهله و إعفافهم ، و عن بذل القوى في الكسب لهم ، و عن فعل خير قد كان يفعله .
   
و لا يهولنك ما تسمعه من الأحاديث التي تحث على الجوع ، فإن المراد بها إما الحث على الصوم و إما النهي عن مقاومة الشبع . فأما تنقيص المطعم على الدوام ، فمؤثر في القوى ، فلا يجوز .
   
ثم في هؤلاء المذمومين من يرى هجر اللحم ، و النبي صلى الله عليه و سلم كان يود أن يأكله كل يوم .
   
و اسمع مني بلا محاباة : لا تحتجن علي بأسماء الرجال ، فتقول : قال بشر ، و قال إبراهيم بن أدهم ، فإن من احتج بالرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ أقوى حجة . على أن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليهم بحسن الظن . و لقد ذاكرت بعض مشايخنا ما يروى عن جماعة من السادات ، أنهم دفنوا كتبهم فقلت له : ما وجه هذا ؟ فقال : أحسن ما نقول أن نسكت ، يشير إلى أن هذا جهل من فاعله . و تأولت أنا لهم ، فقلت : لعل ما دفنوا من كتبهم ، فيه شيء من الرأي ، فما رأوا أن يعمل الناس به .
   
و لقد روينا في الحديث ، عن أحمد بن أبي الحواري : أنه أخذ كتبه فرمى بها في البحر ، و قال : [ نعم الدليل كنت ! و لا حاجة لنا إلى الدليل بعد الوصول إلى المدلول ] .
   
و هذا ـ إذا أحسنا به الظن ـ قلنا : كان فيها من كلامهم ما لا يرتضيه . فأما إذا كانت علوماً صحيحة ، كان هذا من أفحش الإضاعة ، و أنا و إن تأولت لهم هذا ، فهو تأويل صحيح في حق العلماء منهم ، لأنا قد روينا عن سفيان الثوري : أنه قد أوصى بدفن كتبه ، و كان ندم على أشياء كتبها ، عن قوم ، و قال : حملني شهوة الحديث ـ و هذا لأنه كان يكتب عن الضعفاء و المتروكين ، فكأنه لما عسر عليه التمييز أوصى بدفن الكل .
   
و كذلك من كان له رأي من كلامه ثم رجع عنه ، جاز أن يدفن الكتب التي فيها ذلك ، فهذا وجه التأويل للعلماء .
   
فأما المتزهدون ، الذين رأوا صورة فعل العلماء ، و دفنوا كتباً صالحة لئلا تشغلهم عن التعبد ، فإنه جهل منهم ، لأنهم شرعوا في إطفاء مصباح يضيء لهم ، مع الإقدام على تضييع مال لا يحل تضييعه .
   
و من جملة من عمل بواقعه في دفن كتب العلم ، يوسف بن أسباط ، ثم لم يصبر عن التحديث فخلط ، فعد في الضعفاء .
   
أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك ، قال : أخبرنا محمد بن المظفر الشامي ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي ، قال : حدثنا يوسف بن أحمد ، قال : حدثنا محمد ابن عمرو العقيلي قال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : أخبرنا أحمد بن خالد الخلال . قال : سمعت شعيب بن حرب يقول : قلت ليوسف بن أسباط : كيف صنعت بكتبك ؟ قال : [ جئت إلى الجزيرة ، فلما نضب الماء دفنتها عليها ، فذهبت ] .
   
قلت : ما حملك على ذلك ؟ قال : [ أردت أن يكون الهم هماً واحداً ] .
   
قال العقيلي : و حدثني آدم ، قال : سمعت البخاري قال : قال صدقة : [ دفن يوسف بن أسباط كتبه ، و كان يغلب عليه الوهم فلا يجيء كما ينيغي ] .
   
قال المؤلف : قلت : الظاهر أن هذه كتب علم ينفع ، و لكن قلة العلم أوجبت هذا التفريط ، الذي قصد به الخير ، و هو شر . فلو كانت كتبه من جنس كتب الثوري ، فإن فيها ، عن ضعفاء و لم يصح له التمييز ، قرب الحال . إنما تعليله يجمع الهم هو الدليل على أنها ليست كذلك ، فانظر إلى قلة العلم ، ماذا تؤثر مع أهل الخير .
   
و لقد بلغنا في الحديث عن بعض من نعظمه ، و نزوره ، أنه كان على شاطئ دجلة ، فبال ثم تيمم ، فقيل له : الماء قريب منك ، فقال : خفت ألا أبلغه ! !
   
و هذا و إن كان يدل على قصر الأمل ، إلا أن الفقهاء إذا سمعوا عنه مثل هذا الحديث تلاعبوا به ، من جهة أن التيمم ، إنما يصح عند عدم الماء . فإذا كان الماء موجوداً كان تحريك اليدين بالتيمم عبثاً . و ليس من ضروري وجود الماء أن يكون إلى جانب المحدث ، بل لو كان على أزرع كثيرة ، كان موجوداً فلا فعل للتيمم و لا أثر حينئذ . و من تأمل هذه الأشياء ، علم أن فقيهاً واحداً ـ و إن قل أتباعه و خفت إذا مات أشياعه ـ أفضل من ألوف تتمسح العوام بهم تبركاً ، و يشيع جنائزهم ما لا يحصى . و هل الناس إلا صاحب أثر نتبعه ، أو فقيه يفهم مراد الشرع و يفتي به ؟ نعوذ بالله من الجهل ، و تعظيم الأسلاف تقليداً لهم بغير دليل ! فإن من ورد المشرب الأول ، رأى سائر المشارب كدرة .
   
و المحنة العظمى مدائح العوام ، فكم غرت ... ! ! كما قال علي رضي الله عنه : [ ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً ] . و لقد رأينا و سمعنا من العوام ، أنهم يمدحون الشخص ، فيقولون : لا ينام الليل ، و لا يفطر النهار ، و لا يعرف زوجة ، و لا يذوق من شهوات الدنيا شيئاً ، قد نحل جسمه ، و دق عظمه حتى أنه يصلي قاعداً ، فهو خير من العلماء الذين يأكلون و يتمتعون . ذلك مبلغهم من العلم ، و لو [ فقهوا ] علموا أن الدنيا لو اجتمعت في لقمة فتناولها عالم يفتي عن الله ، و يخبر بشريعته ، كانت فتوى واحدة منه يرشد بها إلى الله تعالى خيراً و أفضل من عباده ذلك العابد باقي عمره . و قد قال ابن عباس رضي الله عنه : [ فقيه واحد ، أشد على إبليس من ألف عابد ] .
   
و من سمع هذا الكلام فلا يظنن أنني أمدح من لا يعمل بعلمه . و إنما أمدح العاملين بالعم ، و هم أعلم بمصالح أنفسهم . فقد كان فيهم من يصلح على خشن العيش ، كأحمد بن حنبل . و كان فيهم ، من يستعمل رقيق العيش ، كسفيان الثوري ، مع ورعه ، و مالك مع تدينه ، و الشافعي مع قوة فقهه .
   
و لا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره ، فيضعف هو عنه .
   
فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه . و قد قالت رابعة : [ إن كان صلاح قلبك في الفالوذج ، فكله ] .
   
و لا تكون أيها السامع ممن يرى صور الزهد . فرب متنعم لا يريد التنعم و إنما يقصد المصلحة . و ليس كل بدن يقوى على الخشونة ، خصوصاً من قد لاقى الكد و أجهده الفكر ، و أمضه الفقر ، فإنه إن لم يرفق بنفسه ، ترك واجباً عليه من الرفق بها .
   
فهذه جملة لو شرحتها بذكر الأخبار و المنقولات لطالت ، غير أني سطرتها على عجل حين جالت في خاطري ، و الله ولي النفع برحمته .

 

·       فصل : مصير النفس بعد الموت

   قد أشكل على الناس أمر النفس و ماهيتها ، مع إجماعهم على وجودها ، و لا يضر الجهل بذاتها مع إثباتها . ثم أشكل عليهم مصيرها بعد الموت ، و مذهب أهل الحق أن لها وجوداً بعد موتها ، و أنها تنعم و نعذب . قال أحمد بن حنبل : [ أرواح المؤمنين في الجنة ، و أرواح الكفار في النار ] .
   
و قد جاء في أحاديث الشهداء : [ أنها في حواصل طير خضر تعلق من شجر الجنة ] .
   
و قد أخذ بعض الجهلة بظواهر أحاديث النعيم ، فقال : إن الموتى يأكلون في القبور ، و ينكحون .
   
و الصواب من ذلك أن النفس تخرج بعد الموت إلى نعيم أو عذاب ، و أنها تجد ذلك إلى يوم القيامة ، فإذا كانت القيامة ، أعيدت إلى
   
الجسد ليتكامل لها التنعم بالوسائط . و قوله : [ في حواصل طير خضر ] ، دليل على أن النفوس لا تنال لذةإلا بوساطة . إلا أن تلك اللذة لذة مطعم أو مشرب ، فأما لذات المعارف و العلوم فيجوز أن تنالها بذاتها ، مع عدم الوسائط .
   
و المقصود من هذا المذكور أني رأيت بعض الانزعاج من الموت . و ملاحظة النفس بعين العدم عنده فقلت لها : إن كنت مصدقة للشريعة فقد أخبرت بما تعرفين و لا وجه للإنكار ، و إن كان هناك ريب في أخبار الشريعة ، صار الكلام في بيان صحة الشريعة .
   
فقالت : لا ريب عندي .
   
قلت : فاجتهدي في تصحيح الإيمان ، و تحقيق التقوى ، و أبشري حينئذ بالراحة من ساعةالموت ، فإني لا أخاف عليك إلا من التقصير في العمل . واعلمي أن تفاوت النعيم بمقدار درجات الفضائل ، فارتفعي بأجنحة الجد إلى أعلى أبراجها ، و احذري من قانص هوى ،أو شرك غرة ، و الله الموفق .

 

 

·       فصل : العقل بين التكليف و الإذعان

   قلت يوماً في مجلسي : لو أن الجبال حملت ما حملت لعجزت . فلما عدت إلى منزلي ، قالت لي النفس : كيف قلت هذا ؟ و ربما أوهم الناس أن بك بلاء و أنت في عافية في نفسك و أهلك ‍‍ ‍‍‍‌‌‍‍‍‍‍‍!!. و هل الذي حملت إلا التكليف الذي يحمله الخلق كلهم ؟ فما وجه هذه الشكوى ؟
   
فأجبتها : إني لما عجزت عما حملت ، قلت هذه الكلمة لا على سبيل الشكوى ، و لكن للاسترواح .
   
و قد قال كثير من الصحابة و التابعين قبلي : ليتنا لم نخلق ، و ما ذاك إلا لأثقال عجزوا عنها . ثم من ظن أن التكاليف سهلة ، فما عرفها .
   
أتى يظن الظان أن التكاليف غسل الأعضاء برطل من الماء ، أو الوقوف في محراب لأداء ركعتين ؟ هيهات ! هذا أسهل التكليف .
   
و إن التكليف هو الذي عجزت عنه الجبال ، و من جملته : أنني إذا رأيت القدر يجري بما لا يفهمه العقل ، ألزمت العقل الإذغان للمقدر ، فكان من أصعب التكليف . و خصوصاً فيما لا يعلم العقل ، معناه كإيلام الأطفال ، و ذبح الحيوان ، مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك و الأمر به ، أرحم الراحمين .
   
فهذا مما يتحير العقل فيه ، فيكون تكليفه التسليم ، و ترك الاعتراض ...!!
   
فكم بين تكليف البدن و تكليف العقل ... ؟!
   
و لو شرحت هذا لطال ، غير أني أعتذر عما قلته ، فأقول عن نفسي و ما يلزمني حال غيري .
   
إني رجل حبيب إلي العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به ثم لم يحبب إلى فن واحد منه ، بل فنونه كلها . ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه ، بل تروم استقصاءه . و الزمان لا يسع ، و العمر أضيق ، و الشوق يقوى ، والعجز يظهر ، فيبقى وقوف بعض المطلوبات حسرات .
   
ثم أن العلم دلني على معرفة المعبود ، و حثني على خدمته ، ثم صاحت بي الأدلة عليه إليه ، فوقفت بين يديه ، فرأيته ، في نعمه ، و عرفته بصفاته ، و عاينت بصيرتي من الطافه مادعاني إلى الهيمان في محبته ، و حركني إلى التخلي لخدمته ، و صار يملكني أمر كالوجد كلما ذكرته ، فعادت خلوتي في خدمتي له أحلى عندي من كل حلاوة . فكلما ملت إلى الانقطاع عن الشواغل إلى الخلوة ، صاح بي العلم أين تمضي ؟ أتعرض عني و أنا سبب معرفتك به ؟
   
فأقول له : كنت دليلاً و بعد الوصول يستغني عن الدليل .
   
قال : هيهات ! كلما زدت ، زادت معرفتك بمحبوبك ، و فهمت كيف القرب منه . و دليل هذا أنك تعلم غداً ، أنك اليوم في نقصان . أو ما تسمعه يقول لنبيه صلى الله عليه و سلم و قل رب زدني علماً .
   
ثم ألست تبغي القرب منه ؟ فاشتغل ، بدلالة عباده عليه ، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة و السلام . أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق ، على خلوات التعبد ، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم ؟
   
أما قال الرسول صلى الله عليه و سلم ، لعلي رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلاً ، خير لك من حمر النعم ؟ .
   
فلما فهمت صدق هذه المقالة ، تهوست على تلك الحالة ، و كلما تشاغلت بجمع الناس ، تفرق همي . و إذا وجدت مرادي من نفعهم ، ضعفت أنا ، فأبقى في حيز التحير متردداً ، لا أدري على أي القدمين أعتمد . فإذا وقفت متحيراً صاح العلم : قم لكسب العيال ، و ادأب في تحصيل ولد يذكر الله . فإذا شرعت في ذلك قلص ضرع الدنيا وقت الحلب ، و رأيت باب المعاش مسدوداً في وجهي ، لأن صناعة العلم شغلتني عن تعلم صناعة .
   
فإذا التفت إلى أبناء الدنيا ، رأيتهم لا يبيعون شيئاً من سلعها إلا بدين المشتري . و ليت من نافقهم أو راءاهم نال من دنياهم ، بل ربما ذهب دينه و لم يحصل مراده . فإن قال الضجر : اهرب . قال الشرع : كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت .
   
و إن قال العزم : انفرد ، قال : فكيف بمن تعول ؟
   
فغاية الأمر أنني أشرع في التقلل من الدنيا ، و قد ربيت في نعيمها . و غذيت بلبانها ، و لطف مزاجي فوق لطف وضعه بالعادة . فإذا غيرت لباسي و خشنت مطعمي ، لأن القوت لا يحتمل الانبساط ، نفر الطبع لفراق العادة ، فحل المرض فقطع عن واجبات ، و أوقع في آفات .
   
و معلوم أن لبن اللقمة بعد التحصيل من الوجوه المستطابة ، و تخشينها لمن لم يألف سعى في تلف النفس .
   
فأقول : كيف أصنع و ما الذي أفعل ؟ و أخلو بنفسي في خلواتي ، و أتزيد من البكاء على نقص حالاتي . و أقول : أصف حال العلماء ، و جسمي يضعف عن إعادة العلم ، و حال الزهاد ، و بدني لا يقوى على الزهد ، و حال المحبين و مخالطة الخلق تشتت همي ، و تنقش صور المحبوبات من الهوى في نفسي ، فتصدأ مرآة قلبي .
   
و شجرة المحبة تحتاج إلى تربية في تربة طيبة تسقى ماء الخلوة من دولاب الفكرة . و إن آثرت التكسب لم أطق . و إن تعرضت لأنباء الدنيا ـ مع أن طبعي الأنفة من الذل و تديني يمنعني ـ فلا يبقى للميل مع هذين الجاذبين أثر . و مخالطة الخلق تؤذي النفس مع الأنفاس !!!
   
و لا تحقيق التوبة أقدر عليه ، و لا نيل مرتبة من علم أو عمل أو محبة يصح لي . فإذا رأيتني كما قال القائل :
   
ألقاه في اليم مكتوفاً و قال له       إياك إياك أن تبتل بالماء
   
تحيرت في أمري ، و بكيت على عمري ، و أنادي في فلوات خلواتي بما سمعته من بعض العوام ، و كأنه وصف حالي :
   
واحسرتي كم أداري فيك تعثيري       مثل الأسير بلا حبل و لا سيري
   
ما حيلتي في الهوى قد ضاع تدبيري لما شكلت جناحي فلت لي طيري

 

·       فصل : من رام صلاح القلب رام الممتنع

   تأملت أمر الدنيا و الآخرة ، فوجدت حوادث الدنيا حسية طبعية ، و حوادث الآخرة إيمانية يقينية . و الحسيات أقوى جذباً لمن لم يقو علمه و يقينه .
   
و الحوادث إنما تبقى بكثرة أسبابها ، فمخالطة الناس ، و رؤية المستحسنات و التعرض بالملذوذات ، يقوي حوادث الحس .
   
و العزلة ، و الفكر ، و النظر في العلم يقوي حوادث الآخرة .
   
و يبين هذا بأن الإنسان إذا خرج في الأسواق ، و يبصر زينة الدنيا ثم دخل إلى المقابر ، ففكر ورق قلبه ، فإنه يحس بين الحالتين فرقاً بيناً .
   
و سبب ذلك ، التعرض بأسباب الحوادث .
   
فعليك بالعزلة و الذكر و النظر في العلم ، فإن العزلة حمية ، و الفكر و العلم أدوية . و الدواء مع التخليط لا ينفع .
   
و قد تمكنت منك أخلاط المخالطة للخلق ، و التخليط في الأفعال فليس لك دواء إلا ما وصفت لك .
   
فأما إذا خالطت الخلق و تعرضت للشهوات ، ثم رمت صلاح القلب رمت الممتنع .

 

·       فصل : الممنوع مرغوب

   تأملت حرص النفس على ما منعت منه . فرأيت حرصها يزيد على قدر قوة المنع .
   
و رأيت في الشرب الأول ، أن آدم عليه السلام لما نهي عن الشجرة ، حرص عليها مع كثرة الأشجار المغنية عنها .
   
و في الأمثال : [ المرء حريص على ما منع ، و تواق إلى ما لم ينل ] .
   
و يقال : [ لو أمر الناس بالجوع لصبروا ، و لو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه ] .
   
و قالوا : ما نهينا عنه إلا لشيء . و قد قيل : [ أحب شيء إلى الإنسان ما منعنا ]
   
فلما بحثت عن سبب ذلك ، وجدت سببين :
   
أحدهما : أن النفس لا تصبر على الحصر ، فإنه يكفي حصرها في صورة البدن .
   
إذا حصرت في المعنى بمنع زاد طيشها .
   
و لهذا لو قعد الإنسان في بيته شهراً ، لم يصعب عليه .
   
و لو قيل له : لا تخرج من بيتك يوماً ، طال عليه .
   
و الثاني : أنها يشق عليها الدخول تحت حكم ، و لهذا تستلذ الحرام ، و لا تكاد تستطيب المباح .
   
و لذلك يسهل عليها التعبد على ما ترى ، و تؤثره لا على ما يؤثر .

 

·       فصل : التعليم عبادة

   ما زالت نفسي تنازعني بما يوجبه مجلس الوعظ ، و توبة التائبين ، و رؤية الزاهدين ... إلى الزهد و الانقطاع عن الخلق و الانفراد بالآخرة .
   
فتأملت ذلك فوجدت عمومه من الشيطان ، فإن الشيطان يرى أنه لا يخلو لي مجلس من خلق لا يحصون ، يبكون و يندبون على ذنوبهم . و يقوم في الغالب جماعة يتوبون و يقطعون شعور الصبا .
   
و ربما اتفق خمسون و مائة . و لقد تاب عندي في بعض الأيام أكثر من مائة .
   
و عمومهم صبيان ، قد أنشأوا على اللعب و الانهماك في المعاصي . فكأن الشيطان لبعد غوره في الشر . رآني أجتذب منه . فأراد أن يشغلني عن ذلك بما يزخرفه ليخلو هو بمن أجتذبهم من يده .
   
و لقد حسن إلى الإنقطاع عن المجالس . و قال : لا يخلو من تصنع للخلق .
   
فقلت : أما زخرفة الألفاظ و تزويقها ، و أخراج المعنى من مستحسن العبارة ، ففضيلة لا رذيلة .
   
و أما أن أقصد الناس بما لا يجوز في الشرع ، فمعاذ الله .
   
ثم رأيته يريني في التزهد قطع أسباب ـ ظاهرة الإباحة ـ من الاكتساب .
   
فقلت له : فإن طاب لي في الزهد ، و تمكنت من العزلة ، فنفذ ما بيدي أو احتاج بعض عائلتي ، ألست أعود القهقرى ؟
   
فدعني أجمع ما يسد خلتي ، و يصونني عن مسألة الناس ، فإن مد عمري ، كان نعم السبب ، و إلا كان للعائلة . و لا أكون كراكب أراق ماءه لرؤية سراب ، فلما ندم وقت الفوات ، لم ينتفع بالندم .
   
و إنما الصواب توطئة المضجع قبل النوم ، و جمع المال الساد للخلة قبل الكبر أخذاً بالحزم .
   
و قد قال الرسول صلى الله عليه و سلم : لأن تترك ورثتك أغنياء ، خير لك من أن تتركهم عالة يتكففون الناس .
   
و قال : نعم المال الصالح ، للرجل الصالح .
   
و أما الانقطاع فينبغي أن تكون العزلة عن البشر لا عن الخير ، و العزلة عن البشر واجبة على كل حال . و أما تعليم الطالبين ، و هداية المرتدين ، فإنه عبادة العالم .
   
و إن من تفضيل بعض العلماء إيثاره للتنفل بالصلاة و الصوم ، عن تصنيف كتاب ، أو تعليم علم ينفع ، لأن ذلك بذر يكثر ريعه ، و يمتد زمان نفعه .
   
و أنما تميل النفس إلى ما يزخرفه الشيطان من ذلك لمعنيين :
   
أحدهما : حب البطالة ، لأن الانقطاع عندها أسهل .
   
الثاني : لحب المدحة فإنها إذا توسمت بالزهد كان ميل العوام إليها أكثر .
   
فعليك بالنظر في الشرب الأول ، فكن مع الشرب المقدم . و هم الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، رضي الله تعالى عنهم .
   
فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جهلة المتزهدين و المتصوفة ، من الانقطاع عن العلم ؟
   
و الانفراد عن الخلق ؟
   
و هل كان شغل الأنبياء إلا معانات الخلق ، و حثهم على الخير و نهيهم عن الشر ؟
   
إلا أن ينقطع من ليس بعالم يقصد الكف عن الشر ، فذاك في مرتبة المحتمي يخاف شر التخليط .
   
فأما الطبيب العالم بما يتناول ، فأنه ينتفع بما يناله .

 

فصل : خيركم من عمل بما علم

   تأملت المراد من الخلق ، فإذا هو الذل ، و اعتقاد التقصير و العجز .
   
و مثلت العلماء و الزهاد العاملين صنفين فأقمت في صف العلماء مالكاً و سفيان و أبا حنيفة و الشافعي و أحمد ، و في صف العباد مالك بن دينار و رابعة و معروف الكرخي و بشر بن الحارث .
   
فكلما جد العباد في العبادة ، و صاح بهم لسان الحال : عباداتكم لا يتعداكم نفعها و إنما يتعدى نفع العلماء ، و هم ورثة الأنبياء ، و خلفاء الله في الأرض ، و هم الذين عليهم المعول ، و لهم الفضل ، إذاً أطرقوا و انكسروا و علموا صدق تلك الحال ، و جاء مالك بن دينار إلى الحسن يتعلم منه و يقول : الحسن أستاذنا .
   
و إذا رأى العلماء أن لهم بالعلم فضلاً ، صاح لسان الحال بالعلماء : و هل المراد من العلم إلا العمل ؟ !
   
و قال أحمد بن حنبل : [ و هل يراد بالعلم إلا ما وصل إليه معروف ؟ ] .
   
و صح عن سفيان الثوري قال : [ وددت أن قطعت و لم أكتب الحديث ] .
   
و قالت أم الدرداء لرجل : [ هل عملت بما علمت ] ؟ قال : لا . قالت : [ فلم تستكثر من حجة الله عليك ؟ ] .
   
و قال أبو الدرداء : [ ويل لمن يعلم و لم يعمل مرة ، و ويل لمن علم و لم يعمل سبعين مرة ] .
   
و قال الفضيل : [ يغفر للجاهل سبعون ذنباً ، أن يغفر للعالم ذنب واحد ]
   
فما يبلغ من الكل قوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون .
   
و جاء سفيان إلى رابعة : فجلس بين يديها ينتفع بكلامها ، فدل العلماء العلم على أن المقصود منه العمل به ، و أنه آلة فانكسروا و اعترفوا بالتقصير .
   
فحصل الكل على الاعتراف و الذل فاستخرجت المعرفة منهم حقيقة العبودية باعترافهم ، فذلك هو المقصود من التكليف .

 

 

 

 

 

 

·       فصل : محبة الخالق ضرورة
 

تأملت في قوله تعالى : يحبهم و يحبونه . فإذا النفس تأبى إثبات محبة للخالق توجب قلقاً و قالت : محبته طاعته ، فتدبرت ذلك فإذا بها قد جهلت ذلك لغلبة الحس .
   
و بيان هذا أن محبة الحس لا تتعدى الصور الذاتية ، و محبة العلم و العمل ترى الصور المعنوية فتحبها .
   
فإنا نرى خلقاً يحبون أبا بكر رضي الله عنه ، و خلقاً يحبون علياً بن أبي طالب رضي الله عنه ، و قوماً يتعصبون لأحمد بن حنبل ، و قوماً للأشعري فيقتتلون و يبذلون النفوس في ذلك .
   
و ليسوا ممن رأى صور القوم ، و لا صور القوم توجب المحبة .
   
لكن لما تصورت لهم المعاني فدلتهم على كمال القوم في العلوم ، وقع الحب لتلك الصور التي شوهدت بأعين البصائر .
   
فكيف بمن صنع تلك الصور المعنوية و بذلها ؟ .
   
و كيف لا أحب من وهب لي ملذوذات حسي ، و عرقى ملذوذات علمي ؟ فإن التذاذي بالعلم و إدراك العلوم أولى من جميع اللذات الحسية ، فهو الذي علمني و خلق لي إدراكاً ، و هداني إلى ما أدركته .
   
ثم إنه يتجلى لي في كل لحظة في مخلوق جديد ، أراه فيه بإتقان ذلك الصنع و حسن ذلك المصنوع .
   
فكل محبوباتي منه ، و عنه ، و به ، الحسية و المعنوية ، و تسهيل سبل الإدراك به ، و المدركات منه ، و ألذ من كل لذة عرفاني له ، فلولا تعليمه ما عرفته .
   
و كيف لا أحب من أنا به ، و بقائي منه ، و تدبيري بيده ، و رجوعي إليه ، و كل مستحسن محبوب هو صنعه و حسنه و زينه و عطف النفوس إليه .
   
فذلك الكامل القدرة أحسن من المقدور ، و العجيب الصنعة أكمل من المصنوع ، و معنى الإدراك أحلى عرفاناً من المدرك .
   
و لو أننا رأينا نقشاً عجيباً لاستغرقنا تعظيم النقاش و تهويل شأنه ، و ظريف حكمته عن حب المنقوش ، و هذا مما تترقى إليه الأفكار الصافية ، إذا خرق نظرنا الحسيات ، و نفذ إلى ما وراءها ، فحينئذ تقع محبة الخالق ضرورة . و على قدر رؤية الصانع في المصنوع يقع الحب له .
   
فإن قوي أوجب قلقاً و شوقاً . و إن مال بالعارف لى مقام الهيبة ، أوجب خوفاً . و إن انحرف به إلى تلمح الكرم أوجب رجاء قوياً قد علم كل أناس مشربهم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

·       فصل : إذعان العقل فحكمة الله


   
تأملت حالا عجيبة ، و هي أن الله سبحانه تعالى قد بنى هذه الأجسام متقنه على قانون الحكمة .
   
فدل بذلك المصنوع على كمال قدرته ، و لطيف حكمته .
   
ثم عاد فنقضها فتحيرت العقول بعد إذعانها له بالحكمة ، في سر ذلك الفعل .
   
فأعلمت أنها ستعاد للمعاد و أن هذه البنية لم تخلق إلا لتجوز في مجاز المعرفة ، و تتجر في موسم المعاملة ، فسكنت العقول لذلك .
   
ثم رأت أشياء من هذا الجنس أظرف منه ، مثل احترام شاب ما بلغ بعض المقصود بنياته .
   
و أعجب من ذلك أخذ طفل من أكف أبويه يتململان . و لا يظهر سر سلبه ، و الله الغني عن أخذه ، و هما أشد الخلق فقراً إلى بقائه .
   
و أظرف منه إبقاء هرم لا يدري معنى البقاء ، و ليس له فيه إلا مجرد أذى .
   
و من هذا الجنس تقتير الرزق على المؤمن الحكيم ، و توسعته على الكافر الأحمق .
   
و في نظائر لهذه المذكورات يتحير العقل في تعليلها ، فيبقى مبهوتاً .
   
فلم أزل أتلمح جملة التكاليف ، فإذا عجزت قوى العقل عن الاطلاع على حكمه ذلك ، و قد ثبت لها حكمة الفاعل ، علمت قصورها عن درك جميع المطلوب ، فأذعنت مقرة بالعجز . و بذلك تؤدي مفروض تكليفها .
   
فلو قيل للعقل : قد ثبت عندك حكمة الخالق بما بنى أفيجوز أن ينقدح في حكمته أنه نقض ؟ لقال : لأني عرفت بالبرهان أنه حكيم ، و أنا أعجز عن إدراك علله فأسلم على رغمي مقرأ بعجزي .

 

 

 

·       فصل : تخيروا لنطفكم


   تأملت في فوائدالنكاح و معانيه و موضوعه ، فرأيت أن الأصل الأكب في وضعه وجود النسل ، لأن الحيوان لايزال يتحلل ، ثم يختلف من المتحلل الغذاء ، ثم يتحلل من الأجزاء الأصلية ما لا يخلفه شيء ، فإذا لم يكن بد من فنائه ، و كان المراد امتداد أزمان الدنيا جعل النسل خلفاً عن الأصل . و لما كانت صورة النكاح تأباها النفوس الشريفة من كشف العورة و ملا قاة ما لا يستحسن لنفسه ، جعلت الشهور تحث عليه ليحصل المقصود .
   
ثم رأيت هذا المقصود الأصلي يتبعه شيء آخر ، و هو استفراغ هذا الماء الذي يؤذي دوام احتقانه .
   
فإن المني ينفصل من الهضم الرابع ، فهو من أصفى جوهر الغذاء و أجوده ، ثم يجتمع ، فهو أحد الذخائر للنفس فإنها تدخر ـ لبقائها و قوتها ـ الدم ثم المني ، ثم تدخر التفل الذي هو من أعمدة البدن كأنه لخوف عدم غيره .
   
فإذا زاد اجتماع المني أقلق على نحو الإقلاق البول للحاقن ، إلا أن إقلاقه من حيث المعنى أكثر من إقلاق البول من حيث الصورة ، فتوجب كثرة اجتماعه ، و طول احتباسه ، أمراضاً صعبة ، لأنه يترقى من بخاره إلى الدماغ فيؤذي ، و ربما أحدث سمية .
   
و متى كان المزاح سليماً فالطبع يطلب بروز المني إذا اجتمع كما يطلب بروز البول ، وقد ينحرف بعض الأمزجة ، فيقل اجتماعه عنده فيندر طلبه لإخراجه ، و إنما نتكلم عن المزاج الصحيح ، فأقول : قد بينت أنه إذا وقع به احتباسه أوجب أمراضاً و جدد أفكاراً رديئة ، و جلب العشق و الوسوسة إلى غير ذلك من الآفات .
   
و قد نجد صحيح المزاج يخرج ذلك إذا اجتمع و هو بعد متقلقل ، فكأنه الأكل الذي لا يشبع .
   
فبحثت عن ذلك فرأيته وقوع الخلل في المنكوح ، إما لدمامته ، و قبح منظره ، أو لآفة فيه ، أو لأنه غير مطلوب للنفس ، فحينئذ يخرج منه و يبقى بعضه .      
   
فإذا أردت معرفة ما يدلك على ذلك ، فقس مقدار خروج المني في المحل المشتهى .
   
و في المحل الذي هو دونه ، كالوطء بين الفخذين بالإضافة إلى الوطء في محل النكاح ، و كوطء البكر بالإضافة إلى وطء الثيب .
   
فعلم حينئذ أن تخير المنكوح يستقضي فضول المني ، فيحصل للنفس كمال اللذة ، لموضع كمال بروز الفضول .
   
ثم قد يؤثر هذا في الولد أيضاً ، فإنه إذا كان من شابين قد حبسا أنفسهما عن النكاح مدة مديدة كان الولد أقوى منه من غيرهما ، أو من المدمن على النكاح في الأغلب .
   
و لهذا كره نكاح الأقارب ، لأنه مما يقبض النفس عن انبساطها ، فيتخيل الإنسان أنه ينكح بعضه ، و مدح نكاح الغرائب لهذا المعنى .
   
و من هذا الفن يحصل كثير من المقصود من دفع هذه الفضول المؤذية بمنكوح مستجد ، و إن كان مستقبح الصورة ما لا يحصل به في العادة .
   
و مثال هذا أن الطاعم إذا سلأ خبزاً و لحماً حيث لم يبق فيه فضل لتناول لقمة ، قدمت إليه الحلوى فيتناول ، فلو قدم أعجب منها لتناول ، لأن ، الجدة لها معنى عجيب ، و ذلك أن النفس لا تميل إلى ما ألفت ، و تطلب غير ما عرفت ، و يتخايل لها في الجديد نوع مراد .
   
فإذا لم تجد مرادها صدفت إلى جديد آخر ، فكأنها قد علمت وجود غرض تام بلا كدر ، و هي تتخايله فيما تراه .
   
و في هذا المعنى دليل مدفون على البعث ، لأن في خلق همته متعلقة بلا متعلق نوع عبث . فافهم هذا . فإذا رأت النفس عيوب ما خالطت في الدنيا عادت تطلب جديداً . و لذلك قال الحكماء : العشق ، العمى عن عيوب المحبوب ، فمن تأمل عيوبه سلا .
   
و لذلك يستحب للمرآة ألا تبعد عن زوجها بعداً تنسيه إياها ، و لا تقرب منه قرباً يملها معه ، و كذلك يستحب ذلك له ، لئلا يملها أو تظهر لديه مكنونات عيوبها .
   
و ينبغي له ألا يطلع منه على عورة ، و يجتهد في ألا يشم منها إلا طيب ريح ، إلى غير ذلك من الخصال التي تستعملها النساء الحكيمات ، فإنهن يعلمن ذلك بفطرهن من غير احتياج إلى تعليم .
   
فأما الجاهلات فإنهن لا ينظرن في هذا فيتعجل التفات الأزواج عنهن . فمن أراد نجابة الولد و قضاء الوطر فليتخير المنكوح ، إن كان زوجة فلينظر إليها ، فإذا وقعت في نفسه فليتزوجها ، و لينظر في كيفية وقوعها في نفسه ، فإن علامة تعلق حبها بالقلب ألا يصرف الطرف عنه ، فإذا انصرف الطرف قلق القلب بتقاضي النظرة ، فهذا الغاية .
   
و دونه مراتب على مقاديرها يكون بلوغ الأغراض و إن كان جارية تشترى فلينظر إليها أبلغ من ذلك النظر و من قدر مناطقة المرآة أو مكالمتها بما يوجب التنبيه ، ثم ليرى ذلك منها ، فإن الحسن في الفم و العينيين .
   
و قد نص أحمد : على جواز أن يبصر الرجل من المرآة التي يريد نكاحها ما هو عورة ، يشير إلى ما يزيد على الوجه .
   
و من أمكنه أن يؤخر العقد أو شراء الجارية لينظر كيف توقان قلبه ، فإنه لا يخفى على العاقل توقان النفس لأجل المستجد و توقانها لأجل الحب فإذا رأى قلق الحب أقدم . فإنه قد أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال : أخبرنا حمد بن أحمد قال : أخبرنا أبو نعيم قال : حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا عبد الجبار بن أبي عامر قال : حدثني أبي قال : حدثني خالد بن سلام قال : حدثنا عطاء الخرساني قال [ مكتوب في التوراة : كل تزويج على غير هوى حسرة و ندامة إلى يوم القيامة ] .
   
ثم ينبغي للمتخير أن يتفرس في الأخلاق فإنها من الخفي ، و إن الصورة إذا خلت من المعنى كانت كخضراء الدمن .
   
و نجابة الولد مقصودة ، و فراغ النفس من الاهتمام بما حصلت من الرغبات أصل عظيم ، يوجب إقبال القلب على المهمات .
   
و من فرغ من المهمات العارضة أقبل على المهمات الأصلية .
   
و لهذا جاء في الحديث : لا يقضي القاضي بين اثنين و هو غضبان .
   
و إذا وضع العشاء و حضرت العشاء فابدءوا بالعشاء .
   
فمن قدر على امرآة صالحة في الصورة و المعنى فليغمض عن عوراتها ، و لتجتهد هي في مراضية من غير قرب يمل ، و لا بعد ينسى .
   
و لتقدم على التصنع ، له يحصل الغرضان منها ، و قضاء الوطر .
   
و مع الإحتراز الذي أوصيت به ، تدوم الصحبة ، و يحصل الغناء بها عن غيرها .
   
فإن قدر على الإستكثار فأضاف إليها سواها عالماً أنه بذلك يبلغ الغرض الذي يفرغ قلبه زيادة تفريغ كان أفضل لحاله .
   
فإن خاف من وجود الغيرة ما يشغل القلب الذي قد اهتممنا بجمع همته ، أو خاف وجود مستحسنة تشغل قلبه عن ذكر الآخرة ، أو تطلب منه ما يوجب خروجه عن الورع ، فحسبه واحدة .
   
و يدخل فيما أوصيت به أنه يبعد في المستحسنات العفاف . فليبالغ الواجد لهن في حفظهن و سترهن .
   
فأن وجد ما لا يرضيه عجل الاستبدال ، فإنه سبب السلو ، و إن قدر على الاقتصار فإن الاقتصار على الواحدة أولى ، فإن كانت على الغرض قنع ، و إن لم تكن استبدل ، و نكاح المرأة المحبوبة يفرغ الماء المجتمع ، فيوجب نجابة الولد و تمامه ، و قضاء الوطر بكماله .
   
و من خاف وجود الغيرة فعليه بالسراري ، فإنهن أقل غيرة ، و الاستظراف لهن أمكن من استظراف الزوجات .
   
و قد كان جماعة يمكنهم الجمع ، و كان النساء يصبرن ، فكان لداود عليه الصلاة و السلام مائة امرأة ، و لسليمان عليه الصلاة و السلام ألف امرأة ، و قد علم حال نبينا صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، و كان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه أربع حرائر ، و سبع عشرة سرية ، و تزوج ابنه الحسن رضي الله عنه بنحو من أربعمائة ، إلى غير هذا مما يطول ذكره .
   
فافهم ما أشرت إليه ، تفز به إن شاء الله تعالى .

 

·       فصل : لماذا تكثر الحسنات و السيئات ؟

 
   
كل شيء خلق الله تعالى في الدنيا فهو أنموذج في الآخرة و كل شيء يجري فيها أنموذج ما يجري في االآخرة . فأما المخلوق منها فقال ابن عباس رضي الله عنهما : [ ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء ] .
   
وهذا لأن الله تعالى شوق بنعيم إلى نعيم ، و خوف بعذاب من عذاب .
   
فأما ما يجري في الدنيا فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل ، و كذلك كل مذهب ذنباً ، وهو معنى قوله تعالى : من يعمل سوءاً يجز به .
   
و ربما رأى العاصي سلامة بدنه و ماله فظن أن لا عقوبة ، و غفلة عما عوقبت به عقوبة .
   
و قد قال الحكماء : المعصية ، و الحسنة بعد الحسنه ثواب الحسنه .
   
و ربما كان العقاب العاجل معنوياً كما قال بعض أحبار بني إسرائيل : [ يا رب كم أعصيك و لا تعاقبني ؟ ] فقيل له : [ كم أعاقبك وأنت لا تدري أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي ؟ ] .
   
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد ، حتى قال وهب بن الورد و قد سئل : أيجد لذة الطاعة من يعصي ؟ فقال : و لا من هم .
   
فرب شخص أطلق بصره فحرمه الله اعتبار بصيرته أو لسانه فحرم صفاء قلبه ، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره ، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة ، إلى غير ذلك .
   
و هذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس و على ضده يجد من يتقي الله تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلاً ، كما في حديث أبي أمامة : عن النبي صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى : النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام الشيطان ، من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيماناً يجد حلاوته في قلبه .
   
فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها .
   
فأما المقابلة الصريحة في الظاهر فقل أن تحتبس ، و من ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم : الصبحة تمنع الرزق ، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه .
   
و قد روى المفسرون : أن كل شخص من الأسباط جاء باثني عشر ولداً ، و جاء يوسف بأحد عشر بالهمة ، و مثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة رأى الجزاء و فهم كما قال الفضيل : [ إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي ] .
   
و عن أبي العثمان النيسابوري : أنه انقطع شسع نعله في مضيه إلى الجمعة فتعوق لإصلاحه ساعة ، ثم قال : [ ما انقطع إلا لأني ما اغتسلت غسل الجمعة ] .
   
و من عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف و شروه بثمن بخس امتدت أكفهم بين يديه بالطلب ، يقولون : و تصدق علينا .
   
و لما صبر هو يوم الهمة ملك المرأة حلالاً ، و لما بغت عليه بدعواها : ما جزاء من أراد بأهلك سوء أنطقها الحق بقولها أنا راودته .
   
ولو أن شخصاً ترك معصية لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك ، وكذلك إذا فعل طاعة . و في الحديث : إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة ، أي عاملوه لزيادة الأرباح العاجلة .
   
و لقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع ، طلباً للراحة العاجلة ، انقلبت أحواله إلى التنغص العاجل ، و عكست عليه المقاصد .
   
حكى بعض المشايخ : أنه اشترى في زمن شبابه جارية ، قال : [ فلما ملكتها تاقت نفسي إليها ، فما زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقا يرخص لي ] .
   
فكلهم قال : [ لا يجوز النظر إليها بشهوة ، و لا لمسها ، و لا جماعها إلا بعد حيضها ] .
   
قال : فسألتها فأخبرتني أنها اشتريت و هي حائض ] ، فقلت : [ قرب الأمر ] .
   
فسألت الفقهاء فقالوا : [ لا يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في ملكه ] .
   
قال : فقلت لنفسي و هي شديدة التوقان لقوة الشهوة ، و تمكن القدرة و قرب المصاقبة : [ ما تقولين ؟ ] .
   
فقالت : [ الإيمان بالصبر على الجمر ، شئت أم أبيت ] .
   
فصبرت إلى أن حان ذلك ، فأثابني الله تعالى على ذلك الصبر بنيلي ما هو أعلى منها وأرفع .

 

·       فصل : لا يخفى على الله شيء

 
   
نظرت في الأدلة على الحق سبحانه و تعالى فوجدتها أكثر من الرمل ، و رأيت من أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز و جل ، فيظهره الله سبحانه عليه وحده و لو بعد حين ، و ينطق الألسنة به و إن لم يشاهده الناس .
   
و ربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق ، فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب ، و ذلك ليعلم الناس أن هنالك من
   
يجازي على الزلل ، و لا ينفع من قدره وقدرته حجاب ولا استتار ، و لا يصاغ لديه عمل .
   
و كذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه ، و يتحدث الناس بها و بأكثر منها ، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً و لا يذكرونه إلا بالمحاسن ، ليعلم أن هنالك رباً لا يضيع عمل عامل .
   
و إن قلوب الناس لتعرف حال الشخص و تحبه ، أو تأباه ، و تذمه ، أو تمدحه وفق ما يتحقق بينه و بين الله تعالى ، فإنه يكفيه كل هم ، و يدفع عنه كل شر .
   
و ما أصلح عبد ما بينه و بين الخلق دون أن ينظر الحق ، إلا انعكس مقصوده وعد حامده ذاماً .

 

·       فصل : الشر و الخير

 
   تأملت الأرض و من عليها بعين فكري ، فرأيت خرابها أكثر من عمرانها .
   
ثم نظرت في المعمور منها فوجدت الكفار مستولين على أكثره ، و وجدت أهل الإسلام في الأرض قليلاً بالإضافة إلى الكفار .
   
ثم تأملت المسلمين فرأيت المكاسب قد شغلت جمهورهم عن الرازق ، و أعرضت بهم عن العلم الدال عليه .
   
فالسلطان مشغول بالأمر و النهي و اللذات العارضة له ، و مياه أغراضه جارية لا شكر لها .
   
و لا يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوي عنده هوى النفس .
   
و إنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها .
   
كما قال عمر بن المهاجر : قال لي عمر بن عبد العزيز : [ إذا رأيتني قد حدت عن الحق فخذ بثيابي و هزني ، و قل : مالك يا عمر ؟ ] .
   
و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : [ رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا ] .
   
فأحوج الخلق إلى النصائح و المواعظ ، السلطان .
   
و أما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى ، و زينة الدنيا ، و قد انضاف إلى ذلك الجهل ، و عدم العلم ، فلا يؤلمهم ذنب ، و لا ينزعجون من لبس حرير ، أو شرب خمر ، حتى ربما قال بعضهم : [ إيش يعمل الجندي ، أيلبس القطن ؟ ] .
   
ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها ، فالظلم معهم كالطبع .
   
و أرباب البوادي قد غمرهم الجهل ، و كذلك أهل القرى . ما أكثر تقلبهم في الأنجاس و تهوينهم لأمر الصلوات ، و ربما صلت المرأة منهن قاعدة .
   
ثم نظرت في التجار ، فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص ، حتى لا يرون سوى وجوه الكسب كيف كانت ، و صار الربا في معاملتهم فاشياً ، فلا يبالي أحدهم من أي تحصل له الدنيا ؟
   
و هم في باب الزكاة مفرطون ، و لا يستوحشون من تركها ، إلا من عصم الله .
   
ثم نظرت في أرباب المعاش ، فوجدت الغش في معاملاتهم عاماً ، و التطفيف و البخس ، و هم مع هذا مغمورون بالجهل .
   
و رأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلباً للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه و ما يتأدب به .
   
ثم نظرت في أحوال النساء ، فرأيتهن قليلات الدين ، عظيمات الجهل ، ما عندهم من الآخرة خبر إلا من عصم الله .
   
فقلت : واعجباً فمن بقي لخدمة الله عز وجل و معرفته ؟
   
فنظرت فإذا العلماء ، و المتعلمون ، و العباد ، و المتزهدون . فتأملت العباد ، و المتزهدين فرأيت جمهورهم يتعبد بغير علم ، و يأنس إلى تعظيمه ، و تقبيل يده و كثرة أتباعه ، حتى إن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل لئلا ينكسر جاهه .
   
ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى ألا يعودوا مريضاً ، و لا يشهدوا جنازة ، إلا أن يكون عظيم القدر عندهم . و لا يتزاورون ، بل ربما ضن بعضهم على بعض بلقاء ، فقد صارت النواميس كلأوثان يعبدونها و لا يعلمون .
   
و فيهم من يقدم على الفتوى و هو جاهل لئلا يخل بناموس التصدر ثم يعيبون العلماء لحرصهم على الدنيا و لا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه ، إلا تناول المباحات .
   
ثم تأملت العلماء المتعلمين ، فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة ، لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به . و جمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب ، إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به قاضي بلد ، أو قدر ما يتميز به عن عن أبناء جنسه لم يكتفي .
   
ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى و يستخدمه ، فهو يؤثر ما يصده العلم عنه ، و يقبل على ما ينهاه ، و لا يكاد يجد ذوق معاملة الله سبحانه ، و إنما همته أن يحدث و حسب .
   
إلا أن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة ، جامع بين العلم و العمل . غارف بحقوق الله تعالى ، خائف منه . فذلك قطب الدنيا ، و متى مات أخلف الله عوضه .
   
و ربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة .
   
و مثل هذا لا تخلو الأرض منه ، فهو بمقام النبي في الأمة .
   
و هذا الذي أصفه يكون قائماً بالأصول ، حافظاً للحدود ، و ربما قل علمه أو قلت معاملته .
   
فأما الكاملون في جميع الأدوات فيندر وجودهم ، فيكون في الزمان البعيد منهم واحد .
   
و لقد سبرت السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين ، و بين العمل حتى صار قدوة للعابدين ، فلم أر أكثر من ثلاثة : أولهم الحسن البصري ، و ثانيهم سفيان الثوري ، و ثالثهم أحمد بن حنبل .
   
و قد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتاباً ، و ما أنكر على من ربعهم بسعيد بن المسيب .
   
و إن كان في السلف سادات إلا أن أكثرهم غلب عليه فن ، فنقص من الآخر ، فمنهم من غلب عليه العلم ، و منهم من غلب عليه العمل ، و كل هؤلاء كان هؤلاء كان له الحظ الوافر من العلم ، و النصيب الأوفى من المعاملة و المعرفة .
   
و لا يأس من و جود من يحذو حذوهم ، و إن كان الفضل بالسبق لهم . فقد أطلع الله عز وجل الخضر على ما خفى من موسى عليهما السلام .
   
فخزائن الله مملوءة ، و عطاؤه لا يقتصر على شخص .
   
و قد حكي لي عن ابن عقيل أنه كان يقول عن نفسه : [ أنا عملت في قارب ثم كسر ] .
   
و هذا غلط فمن أين له ؟ فكم معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه على ذلك و كم من متأخر سبق متقدماً ، و قد قيل :
   
إن الليالي و الأيام حاملة       و ليس يعلم غير الله ما تلد

 

·       فصل : في قوة قهر الهوى لذة كبرى


   
رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائداً في المقدار حتى إنها إذا مالت ، مالت بالقلب و العقل و الذهن ، فلا يكاد المرء ينتفع بشيء من النصح .
   
فصحت بها يوماً و قد مالت بكليتها إلى شهوة : ويحك ! ففي لحظة أكلمك كلمات ثم افعلي ما بدا لك .
   
قالت : قل اسمع .
   
قلت : قد تقرر قلة ميالك إلى المباحات من الشهوات ، و أما جل ميلك فإلى المحرمات .
   
و أنا أكشف لك عن الأمرين ، فربما رأيت الحلوين مرين .
   
أما المباحات من الشهوات ، فمطلقة لك و لكن طريقها صعب ، لأن المال قد يعجز عنها ، و الكسب قد لا يحصل معظمها ، و الوقت الشريف يذهب بذلك .
   
ثم شغل القلب بها وقت التحصيل ، و في حالة الحصول ، و بحذر الفوات .
   
ثم ينغصها من النقص ما لا يخفى على مميز ، و أن كان مطعماً فالشبع يحدث آفات ، و إن كان شخصياً فالملل أو الفراق ، أو سوء الخلق . ثم ألذ النكاح أكثره إهاناً للبدن ، إلى غير ذلك مما يطول شرحه .
   
و أما المحرمات : فتشتمل على ما أشرنا إليه من المباحات و تزيد عليها بأنها آفة العرض و مظنة عقاب الدنيا و فضيحتها ، و هناك و عيد الآخرة ، ثم الجزع كلما ذكرها التائب .
   
و في قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة . ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً ؟ لأنه قهر . بخلاف غلب الهوى فأنه يكون قوي القلب ، عزيزاً لأنه قهر .
   
فالحذر الحذر من رؤية المشتهي بعين الحسن ، كما يرى اللص لذة أخذ المال من الحرز ، و لا يرى بعين فكره القطع .
   
و ليفتح عين البصيرة لتأمل العواقب و استحلة اللذة نغصة ، و انقلابها عن ، كونها لذة ، إما لملل أو لغيره من الآفات ، أو لا نقطاعها بامتناع الحبيب . فتكون المعصية الأولى كلقمة تناولها جائع ، فما ردت كلب الجوع ، بل شهت الطعام .
   
و ليتذكر الانسان لذة قهر الهوى ، مع تأمل فوائد الصبر عنه .
   
فمن وقف لذلك ، كانت سلامه قريبة منه . .

 

·       فصل : شغل الحياة


   
خطر لي خاطر و المجلس قد طيب ، و القلوب قد حضرت ، والعيون جارية ، و الرؤوس مطرقة ، و النفوس قد ندمت على تفريطها ، و العزائم قد نهضت لإصلاح شؤونها ، و ألسنة اللوم تعمل في الباطن على تضييع الحزم و ترك الحذر ، فقلت لنفسي : ما بال هذه اليقظة لا تدوم فإني أرى النفس و اليقظة في المجلس متصادقين متصافيين ، فإذا قمنا عن هذه التربة ، و قعت الغربة .
   
فتأمت ذلك فرأيت أن النفس ما تزال متيقظة ، و القلب ما يزال عارفاً ، غير أن القواطع كثيرة ، و الفكر الذي ينبغي استعماله في معرفة الله سبحانه تعالى قد كل مما يستعمل في اجتلاب الدنيا ، و تحصيل حوائج النفوس ، و القلب منغمس في ذلك ، و البدن أسير مستخدم .
   
و بينا الفكر يجول في اجتلاب الطعام و الشراب و الكسوة ، و ينظر في صدد ذلك ، و ما يدخر لعده و سنته ، إذا هو مهتم بخروج الفضلات المؤذية ـ و منها المني فاحتاج إلى النكاح ، فعلم أنه لا يصح إلا باكتساب كسب الدنيا فتفكر في ذلك وعمل بمقتضاه .
   
ثم جاء الولد فاهتم به وله ، و إذا الفكر عامل في أصول الدنيا و فروعها . فإذا حضر الإنسان المجلس فإنه لا يحضر جائغاً و لا حاقناً . بل يحضره جائعاً لهمه ، ناسياً ما كان من الدنيا على ذكره فيخلو الوعظ بالقلب فيذكره بما ألف ، و بجذبه بما عرف ، فينهض عمال القلب في زوارق عرفانه . فيحضرون النفس إلى باب المطالبة بالتفريط ، و يؤاخذون الحس بما مضى من العيوب ، فتجري عيون الندم ، و تنعقد عزائم الاستدراك .
   
و لو أن هذه النفس خلت عن المعهودات التي وصفتها ، لتشاغلت بخدمة باريها .
   
و لو وقعت في سورة حبه ، لاستوحشت عن الكل شغلاً بقربه .
   
و لهذا سكن الزهاد الخلوات ، و تشاغلوا بقطع المعوقات ، و على قدر مجاهدتهم في ذلك نالوا من الخدمة مرادهم ، كما أن الحصاد على مقدار البذر .
   
غير أن تلمحت في هذه الحالة ـ دقيقة ـ و هو أن النفس لو دامت لها اليقظة لوقعت فيما هو شر من فوت ما فاتها ، و هو العجب بحالها ، و الاحتقار لجنسها .
   
و ربما ترقت بقوة علمها و عرفانها ، إلى دعوى قولها : لي ، و عندي ، و أستحق . فتركها في حومة ذنوبها تتخبط .
   
فإذا وقفت على الشاطئ قامت بحق ذلة العبودية ، و ذلك أولى لها .
   
هذا حكم الغالب من الخلق ، و لذلك شغلوا عن هذا المقام ، فمن بذر فصلح له فلا بد له من هفوة تراقبها عين الخوف بها تصح عبوديته ، و تسلم له عبادته .
   
و إلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم و جاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم .

 

·       فصل : نقد الصوفية


   
تفكرت فرأيت أن حفظ المال من المتعين ، و ما يسميه جهلة المتزهدين توكلا من إخراج ما في اليد ليس بالمشروع . فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال لكعب بن مالك : أمسك عليك بعض مالك أو كما قال له ، و قال لسعد : لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس .
   
فإن اعترض جاهل فقال : فقد جاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله .
   
فالجواب أن أبا بكر صاحب جأش و تجارة ، فإذا أخرج الكل أمكنه أن يستدين عليه ، فيتعيش .
   
فمن كان على هذه الصفة لا أذم إخراجه لماله ، و إنما الذم متطرق إلى من يخرج ماله و ليس من أرباب المعائش .
   
أو يكون من أولئك ، إلا أنه ينقطع عن المعاش فيبقى كلا على الناس ، يستعطهم و يعتقد أنه على الفتوح ، و قلبه متعلق بالخلق ، و طعمه ناشب فيهم .
   
و مت حرك بابه نهض قلبه . و قال : رزق قد جاء .
   
و هذا أمر قبيح بمن يقدر به على المعاش ، و إن لم يقدر كان إخراج ما يملك أقبح ، لأنه يتعلق قلبه بما في أيدي الناس .
   
و ربما ذل لبعضهم ، أو تزين له بالزهد ، و أقل أحواله أن يزاحم الفقراء و المكافيف و الزمني في الزكاة .
   
فعليك بالشرب الأول ، فانظر هل فيهم من فعل ما يفعله جهلة المتزهدين ؟
   
و قد أشرت في أول هذا إلى أنهم كسبوا و خلفوا الأموال .
   
فرد إلى الشرب الأول ، الذي لم يطرق فإنه الصافي .
   
و احذر من المشارع المطروقة بالآراء الفاسدة الخارجة في المعنى على الشريعة مذعنة بلسان حالها أن الشرع ناقص يحتاج إلى ما يتم به .
   
واعلم ـ وفقك الله تعالى ـ أن البدن كالمطية ، و لا بد من علف المطية ، و الاهتمام به .
   
فإذا أهملت ذلك كان سببا لوقوفك عن السير .
   
وقد رئي سلمان رضي الله عنه يحمل طعاما على عاتقه ، فقيل له : أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : [ إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت ] .
   
و قال سفيان الثوري : [ إذا حصلت قوت شهر فتعبد ] .
   
و قد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوي فقالوا : هذا شك في الرازق والثقة به أولى . فإياك وإياهم .
   
و ربما ورد مثل هذا عن بعض صدور الزهاد من السلف فلا يعول عليه ، ولا يهولنك خلافهم .
   
فقد قال أبو بكر المروذي : سمعت أحمد بن حنبل يرغب في النكاح . فقلت له : قال ابن أدهم ، فما تركني أتمم حتى صاح علي ، و قال : أذكر لك حال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ، وتأتيني ببنيات الطريق ؟
   
و اعلم وفقك الله : أنه لو رفض الأسباب شخص يدعي التزهد . و قال : لا آكل و لا أشرب ، و لا أقوم من الشمس في الحر ، و لا استدفئ من البرد ، كان عاصياً بالإجماع .
   
و كذلك لو قال و له عائلة : لا أكتسب و رزقهم على الله تعالى ، فأصابهم أذى ، كان آثماً .
   
كما قال عليه الصلاة والسلام : كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يوقت .
   
و اعلم أن الاهتمام بالكسب يجمع الهم ، و يفرغ القلب ، ويقطع الطمع في الخلق ، فإن الطبع له حق يتقاضاه .
   
وقد بين الشرع ذلك فقال : إن لنفسك عليك حقاً ، و إن لعينك عليك حقاً .
   
و مثال الطبع من المريد السالك ، كمثل كلب لا يعرف الطارق ، فكل من رآه يمشي ، نبح عليه ، فإن ألقى إليه كسرة سكت عنه .
   
فالمراد من الاهتمام بذلك جمع الهم لا غير ، فافهم هذه الأصول ، فإن فهمها مهم . .

 

·       فصل : الإنسان والشهوة

 

   تأملت في شهوات الدنيا فرأيتها مصائد و هلاك ، و فخوخ تلف .
   
فمن قوي عقله على طبعه و حكم عليه سلم ، و من غلب طبعه فيا سرعة هلكته .
   
و لقد رأيت بعض أبناء الدنيا كان يتوق إلى التسري . ثم يستعمل الحرارات المهيجة للباه ، فما لبث أن انحلت حرارته الغريزية و تلف .
   
و لم أر في شهوات النفس أسرع هلاكاً من هذه الشهوة ، فإنه كلما مال الإنسان إلى شخص مستحسن أوجب ذلك حركة الباه زائداً عن العادة .
   
و إذا رأى أحسن منه زادت الحركة وكثر خروج المني زائداً عن الأول ، فيفنى جوهر الحياة أسرع شيء .
   
و بالضد من هذا أن تكون المرأة مستقبحة فلا يوجب نكاحها خروج الفضلة المؤذية كما ينبغي ، فيقع التأذي بالاحتباس و قوة التوق إلى المنكوح .
   
و كذلك المفرط في الأكل فإنه يجني على نفسه كثيراً من الجنايات ، و المقصر في مقدار القوت كذلك ، فعلمت أن أفضل الأمور أوسطها
   
و الدنيا مفازة فينبغي أن يكون السابق فيها العقل ، فمن سلم زمام راحلته إلى طبعه و هواه ، فيا عجلة تلفه ـ هذا فيما يتعلق بالبدن و الدنيا ـ فقس عليه أمر الآخرة فافهم .

 

·       فصل : حقيقة الذهد


   بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام فقال : لا آكل . فقيل له : لم ؟ قال : لأن نفسي تشتهيه ، و أنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي .
   
فقلت : لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين ، و سبب خفائها عدم العلم .
   
أما الوجه الأول : فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن على هذا و لا أصحابه ، و قد كان عليه الصلاة و السلام يأكل لحم الدجاج ، و يحب الحلوى و العسل .
   
و دخل فرقد السبخي على الحسن و هو يأكل الفالوذج . فقال : [ يا فرقد ما تقول في هذا ] ؟ فقال [ لا آكله و لا أحب من أكله ] . فقال الحسن : [ لعاب النحل ، بلباب البر ، مع سمن البقر ، هل يعيبه مسلم ؟ ] .
   
و جاء رجل إلى الحسن فقال : [ إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج ] فقال [ و لم ؟ ] قال يقول : [ لا أؤدي شكري ] ، فقال [ إن جارك جاهل و هل شكر الماء البارد ؟ ] .
   
و كان سفيان الثوري يحمل في سفره الفالوذج . و الحمل المشوي ، و يقول : [ إن الدابة إذا أحسن إليها عملت ] .
   
و ما حدث في الزهاد بهدهم من هذا الفن فأمور مسروقة من الرهبانية . و أنا خائف من قوله تعالى : لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم و لا تعتدوا .
   
و لا نحفظ عن أحمد من السلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء أن يكون ذلك لعارض .
   
و سبب ما يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه اشتهى شيئاً فآثر به فقيراً ، و أعتق جاريته رميثة ، و قال : [ إنها أحب الخلق إلي ] ، فهذا و أمثاله حسن ، لأنه إيثار بما هو أجود عند النفس من غيره ، و أكثر لها من سواه .
   
فإذا وقع في بعض الأوقات ، كسرت الفعل سورة هواها أن تطغى بنيل كل ما تريد .
   
فأما من دام على مخالفتها على الإطلاق ، فإنه يعمي قلبها ، و يبلد خواطرها ، و يشتت عزائمها ، فيؤذيها أكثر مما ينفعها .
   
و قد قال إبراهيم بن أدهم : إن القلب إذا أكره عمى . و تحت مقالته سر لطيف و هو أن الله عز وجل قد وضع طبيعة الآدمي على معنى عجيب ، و هو أنها تختار الشيء من الشهوات مما يصلحها ، فتعلم باختيارها له صلاحه ، و صلاحها به .
   
و قد قال حكماء الطب : ينبغي أن يفسح للنفس فيما تشتهي من المطاعم ، و إن كان فيه نوع ضرر ، لأنها إنما تختار ما يلائمها ، فإذا قمعها الزاهد في مثل هذا عاد على بدنه بالضرر .
   
و لولا جواذب الباطن من الطبيعة ما بقي البدن فإن الشهوة للطعام تثور ، فإذا وقعت الغنية بما يتناول كفت الشهوة .
   
فاشهوة مريد و رائد ، و نعم الباعث هي على مصلحة البدن .
   
غير أنها إذا أفرطت وقع الأذى ، و متى منعت ما تريد على الإطلاق مع الأمن من فساد العاقبة عاد ذلك على النفس بالفساد ، و وهن الجسم ، و اختلاف السقم الذي تتداعى به الجملة ، مثل أن يمنعها الماء عند اشتداد العطش ، و الغذاء عند الجوع ، و الجماع عند قوة الشهوة ، و النوم عند غلبته ، حتى إن المغتم إذا لم يتروح بالشكوى قتله الكمد .
   
قهذا أصل إذا فهمه هذا الزاهد . علم أنه قد خالف طريق الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه . من حيث النقل ، و خالف الموضوع من حيث الحكمة .
   
و لا يلزم على هذا قول القائل : فمن أين يصفو المطعم ؟ لأنه إذا لم يصف كان الترك ورعاً ، و إنما الكلام في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع و كان ما شرحته جواباً للقائل : ما أبلغ نفسي شهوة على الإطلاق .
   
و الوجه الثاني : أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار يشتهي ألا يتناول ، و للنفس في هذا مكر خفي ، و رياء دقيق ، فإن سلمت من الرياء للخلق ، كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل ، و إدلاها في الباطن به ، فهذه مخاطرة و غلط .
   
و ربما قال بعض الجهال : هذا صد عن الخير و عن الزهد . و ليس كذلك ، فإن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد .
   
و لا ينبغي أن يغتر بعبادة جريح ، و لا بتقوى ذي الحويصرة ، و لقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه و سلم ، و لا أصحابه ، من إظهار التخشع الزائد في الحد ، و التنوق في تخشين الملبس ، و أشياء صار العوام يستحسونها .
   
و صارت لأقوام كالمعاش يجتنون من أرباحها : تقبيل اليد ، و توفير التوقير و حراسة الناموس .
   
و أكثرهم في خلوته ، على غير حالته في جلوته .
   
و قد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قهقهة ، و إذا خلا بالليل فكأنه قتل أهل القرية .
   
فنسأل الله تعالى علماً نافعاً فهو الأصل ، فمتى حصل أوجب معرفة المعبود عز وجل ، و حرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه و أحبه ، و سلك بصاحبه طريق الإخلاص .
   
و أصل الأصول ـ العلم ، و أنفع العلوم النظر في سير الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده .

 

·       فصل : جهاد النفس


   
تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد ، و رأيت خلقاً من العلماء و الزهاد لا يفهمون معناه ، لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق ، و ذلك غلط من وجهين :
   
أحدهما : أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها .
   
مثل أن يمنعها مباحاً فيشتهر بمنعه إياها ذلك ، فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح .
   
و أخفى من ذلك أن يرى ـ بمنعه إياها ما منع ـ أنه قد فصل سواه ممن لم يمنعها ذلك و هذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها .
   
و الوجه الثاني ، أننا قد كلفنا حفظها ، و من أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء التي تقيمها ، فلا بد من إعطائها ما يقيمها ، و أكثر ذلك أو كله ما تشتهيه .
   
و نحن كالوكلاء في حفظها . لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا ، فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر .
   
ثم رب شد أوجب استرخاء ، و رب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها .
   
و إنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل ، يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية ، و يذوب في المرارة قليلاً من الحلاوة ، و يتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب . و لا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعاً ، و من لقمة ربما حرمت لقمات .
   
فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها ، و لا يهمل مقودها ـ بل يرخى لها في وقت و الطول بيده .
   
فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها .
   
فإذا رآها مالت ردها باللطف ، فإن ونت و أبت فبالعنف .
   
و يحبسها في مقام المداراة ، كالزوجة التي مبنى عقلها على الضعف و القلة ، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ ، فإن لم تصلح فبالهجر ، فإن لم تستقم فبالضرب .
   
و ليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم .
   
هذه مجاهده من حيث العمل ، فأما من حيث وعظها و تأنيبها ، فينبغي لمن رآها تسكن للخلق ، و تتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها فيقول :
   
ألست التي قال فيك : خلقتك بيدي ، و اسجدت لك ملائكتي ، و ارتضاك للخلافة أرضه ، و راسلك و اقترض منك و اشترى .
   
فإن رآها تتكبر ، قال لها : هل أنت إلا قطرة من ماء مهين ، تقتلك شرقة ، تؤلمك بقة ؟
   
و إن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد .
   
و أن ونت في العمل ، حدثها بجزيل الأجر .
   
و إن مالت إلى الهوى ، خوفها عظيم الوزر . ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية ، كقوله تعالى : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم و أبصاركم و المعنوية كقوله تعالى : سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق .
   
فهذا جهاد بالقول ، و ذاك جهاد بالفعل .

 

·       فصل : لا تجزع إذا تأخرت إجابة الدعاء

 
   
رأيت من البلاء أن المؤمن يدعو فلا يجاب ، فيكرر الدعاء و تطول المدة ، و لا يرى أثراً للإجابة ، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر .
   
و ما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب ، و لقد عرض لي من هذا الجنس . فإنه نزلت بي نازلة ، فدعوت ، فلم أر الإجابة ، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده .
   
فتارة يقول : الكلام واسع و البخل معدوم ، فما فائدة تأخير الجواب ؟
   
فقلت له : إخسأ يا لعين ، فما أحتاج إلى تقاضي ، و لا أرضاك وكيلاً .
   
ثم عدت إلى نفسي فقلت : إياك و مساكنة وسوسته ، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفي في الحكمة .
   
قالت : فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة .
   
فقلت : قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك ، و للمالك التصرف بالمنع والعطاء ، فلا وجه الاعتراض عليه .
   
و الثاني : أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة ، فربما رأيت الشيء مصلحة و الحكمة لا تقتضيه ، و قد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب ، من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة ، فلعل هذا من ذاك .
   
و الثالث : أنه قد يكون التأخير مصلحة ، و الاستعجال مضرة ، و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لي .
   
الرابع : أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في مأكولك شبهة ، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة ، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه .
   
فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك تقفي بالمقصود كما روى عن أبي يزيد رضي الله عنه : أنه نزل بعض الأعاجم في داره فجاء ، فرأه فوقف بباب الدار ، و أمر بعض أصحابه فدخل ، فقلع طيناً جديداً قد طينه ، فقام الأعجمي و خرج . فسئل أبو يزيد عن ذلك فقال : [ هذا الطين من وجه شبهة ، فلما زالت الشبهة زال صاحبها ] .
   
و عن إبراهيم الخواص رحمه الله عليه أنه خرج لإنكار منكر ، فنبحه كلب له فمنعه أن يمضي ، فعاد ودخل المسجد ، و صلى ثم خرج ، فسئل فبصبص الكلب له فمضى ، و أنكر فزال المنكر .
   
فسئل عن تلك الحال فقال : [ كان عندي منكر ، فمنعني الكلب ، فلما عدت تبت من ذلك ، فكان ما رأيتم ] .
   
و الخامس : أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب ، فربما كان في حصوله زيادة إثم ، أو تأخير عن مرتبة خير ، فكان المنع أصلح .
   
و قد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو ، فهتف به هاتف : [ إنك إن غزوت أسرت ، و إن أسرت تنصرت ] .
   
و السادس : أنه ربما كان فقد ما فقدته سبباً للوقوف على الباب و اللجأ و حصوله سبباً للاشتغال به عن المسؤول .
   
و هذا الظاهر بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ .
   
فالحق عز وجل من الخلق اشتغالهم بالبر عنه فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه ، يستغيسون به ، فهذا من النعم في طي البلاء .
   
و إنما البلاء المحض ، ما يشغلك عنه ، فأما ما يقيمك بين يديه ، ففيه جمالك .
   
و قد حكي عن يحي البكاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام ، فقال : [ يارب كم أدعوك و لا تجيبني ] ؟ فقال : [ يا يحي إني أحب أن أسمع صوتك ] .
   
و إذا تدبرت هذه الأشياء ، تشاغلت بما هو أنفع لك ، من حصول ما فاتك من رفع خلل ، أو اعتزار من زلل ، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب

 

·       فصل : السخط على البلايا


   
من نزلت به بلية ، فأراد تمحيقها ، فليتصورها أكثر مما هي تهن .
   
و ليتخايل ثوابها و ليتوهم نزول أعظم منها ، يرى الربح في الاقتصار عليها و ليتلمح سرعة زوالها ، فإنه لولا كرب الشدة ، ما رجيب ساعات الراحة .
   
و ليعلم أن مدة مقامها عنده كمدة مقام الضيف فليتفقد حوائجه في كل لحظة ، فيا سرعة انقضاء مقامه ، و يا لذة مدائحه و بشره في المحافل ، و وصف المضيف بالكرم .
   
فكذلك المؤمن في الشدة ينبغي أن يراعي الساعات ، و يتفقد فيها أحوال النفس .
   
و يتلمح الجوارح ، مخافة أن يبدو من اللسان كلمة ، أو من القلب تسخط . فكأن قد لاح فجر الأجر ، فانجاب ليل البلاء ، و مدح الساري بقطع الدجي فما طلعت شمس الجزاء ، إلا و قد وصل إلى منزل السلامة .
   

·       فصل : العلم و العمل


   
لما رأيت نفسي في العلم حسناً ، فهي تقدمه على كل شيء و تعتقد الدليل و تفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل ، و تقول : أقوى دليل لي على فضله على النوافل ، أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم نوافل الصلاة و الصوم عن نوافل العلم ، عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول ، فرأيتها في هذا الاتجاه على الجادة السهلة و الرأي الصحيح .
   
إلا أني رأيتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم ، فصحت بها : فما الذي أفادك العلم ؟ أين الخوف ؟ أين القلق ؟ أين الحذر ؟
   
أو ما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم و اجتهادهم ؟
   
أما كان الرسول صلى الله عليه و سلم سيد الكل ، ثم إنه قام حتى ورمت قدماه ؟
   
أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج ، كثير البكاء ؟
   
أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع ؟
   
أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة ؟
   
أما كان علي رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع ؟ و يقول : [ يا دنيا عري غيري ؟ ] .
   
أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق ؟
   
أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة ؟
   
أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر و اصفر ؟
   
أما قالت بنت الربيع بن خيثم له : [ مالي أرى الناس ينامون و أنت لا تنام ] ؟ فقال : [ إن أباك يخاف عذاب البيات ] .
   
أما كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطا في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر ؟
   
أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة ؟ و كان يقول : و الهفاة سبقني العابدون ، و قطع بي .
   
أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة ؟
   
أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف ؟
   
أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف ؟
   
أما تعلمين أخيار الأئمة الأربعة في زهدهم و تعبدهم : أبو حنيفة ، و مالك ، و الشافعي ، و أحمد ؟ فاحذري من الإخلاد إلى صورة العلم ، مع ترك العمل به فإنها حالة الكسالى الزمنى :
   
و خذ لك منك على مهلة       و مقبل عيشك لم يدبر
   
و خف هجمة لا تقبل العثا       ر و تطوي الورود علىالمصدر
   
و مثل لنفسك أي الرعيل       يضمك في حلبة المحشر
   

·       فصل : السبب و المسبب


   
مما يزيد العلم عندي فضلاً ، أن قوماً تشاغلوا بالتعبد عن العلم ، فوقفوا عن الوصول إلى حقائق الطلب .
   
فروى عن عن بعض القدماء أنه قال لرجل : [ يا أبا الوليد ،إن كنت أبا الوليد ، يتورع أن يكنيه و لا و لد له ! ! ]
   
و لو أوغل هذا في العلم لعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم : كنى صهيباً أبا يحي ، و كنى طفلاً فقال : يا أبا عمير ، ما فعل النغير ؟
   
و قال بعض المتزهدين : [ قيل لي يوماً : كل من هذا اللبن . فقلت : هذا يضرني ، ثم و قفت بعد مدة عند الكعبة فقلت : اللهم إنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين ، فهتف بي هاتف ، و لا يوم اللبن ؟ ]
   
و هذا لو صح أن جاز أن يكون تأديباً له ، لئلا يقف مع الأسباب ناسياً للمسيب و إلا فالرسول صلى الله عليه و سلم قد قال : ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى الآن قطعت أبهري . و قال ما نفعني مال كمال أبي بكر .
   
و من المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها ، و هذا جهل بالعلم فإن النبي صلى الله عليه و سلم : دخل الغار ، و شاور الطبيب ، و لبس الدرع ، و حفر الخندق ، و دخل مكة في جوار المطعم بن عدي و كان كافراً ، و قال لسعد : لأن تدع و رثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس .
   
فالوقوف مع الأسباب مع نسيان المسبب غلط .
   
و كل هذه الظلمات إنما تقطع بمصباح العلم .
   
و لقد ضل من مشى في ظلمة الجهل أو في زقاق الهوى .

 

·       فصل : الإنسان و الملك

 
   
ما أزال اتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء و الأولياء ، فإن كان التفضيل بالصورة ، فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة .
   
و إن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها ، فالصورة ليست الآدمي ، إنما هي قالب . ثم استحسن منها ما يستقبح في العبادة مثل خلوف فم الصائم ، و دم الشهداء ، و النوم في الصلاة فبقيت صورة معمورة و صار الحكم للمعنى .
   
ألهم مرتبة يحبهم ، أو فضيلة يباهى بهم ، و كيف دار الأمر فقد سجدوا لنا .
   
و هو صريح في تفضيلنا عليهم ، فإن كانت الفضيلة بالعلم فقد علمت القصة ، يوم لا علم لنا يا آدم أنبئهم .
   
و إن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس ، و علينا أثقال أعباء الجسم .
   
بالله لولا احتياج الراكب إلى الناقة فهو يتوقف لطلب علفها ، و يرفق في السير بها لطرق أرض منى قبل العشر .
   
واعجباً أتفضل الملائكة بكثرة التعبد ! فما ثم صعاد .
   
أو يتعجب من الماء إذا جرى ، أو من منحدر يسرع ؟ إنما العجب من مصاعد يشق الطريق و يغالب العقبات .
   
بلى قد يتصور منهم الخلاف ، و دعوى الإلهية لقدرتهم على دك الصخور ، و شق الأرض لذلك توعدوا : و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ، لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه .
   
فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية و ضعف يقيننا بالناهي ، و غلبة شهوتنا مع الغفلة يحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم .
   
تالله لو ابتلى أحد المقربين بما ابتلينا به ، لم يقدر على التماسك .
   
يصبح أحدنا و خطاب الشرع يقول له : الكسب لعائلتك ، و احذر في كسبك . و قد تمكن منه ما ليس من فعله ، كحب الأهل ، و علوق الولد بنياط القلب ، و احتياج بدنه إلى ما لا بد منه .
   
فتارة يقال للخليل عليه السلام : [ اذبح ولدك بيدك ، و اقطع ثمرة فؤادك بكفك ، ثم قم إلى المنجنيق لترمي في النار ] .
   
و تارة يقال لموسى عليه السلام : [ صم شهراً ، ليلاً و نهاراً] .
   
ثم يقال للغضبان : اكظم ، و للبصير اغضض ، و لذي المقول اصمت ، و لمستلذ النوم تهجد ، و لمن مات حبيبه اصبر ، و لمن أصيب في بدنه أشكر ، و للواقف في الجهاد بين اثنين لا يحل أن تفر .
   
ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات ، فينزع الروح عن البدن فإذا نزل فاثبت .
   
و اعلم أنك ممزق في القبر فلا تتسخط لأنه مما يجري به القدر .
   
و إن وقع بك مرض فلا تشك إلى الخلق .
   
فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء ؟ و هل ثم إلا عبادة ساذجة ليس فيها مقاومة طبع ، و لا رد هوى ؟
   
و هل هي إلا عبادة صورية بين ركوع و سجود و تسبيح ؟ فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا ؟ ثم أكثرهم في خدمتنا بين كتبة علينا ، و دافعين عنا ، و مسخرين لإرسال الريح و المطر ، و أكبر وظائفهم الاستغفار لنا .
   
فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة ؟ .
   
و إذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم مثل ما روى عن هاروت و ماروت ، فخرجوا أقبح من بهرج .
   
و لا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير ، لأنهم شديد و الإشفاق و الخوف ، لعلمهم بعظمة الخالق . لكن طمأنينة من لم يخطئ تقوى نفسه . و انزعاج الغائص في الزلل يرقي روحه إلى التراقي .
   
فاعرفوا إخواني شرف أقداركم ، و صونوا جواهركم عن تدنيسها بلوم الذنوب ، فأنتم معرض الفضل على الملائكة ، فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم ، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 

·       فصل : أصول الأشياء


   رأيت كثيراً من الخلق ، و عالماً من العلماء لا ينتهون عن البحث عن أصول الأشياء التي أمروا بعلم جلها من غير بحث عن حقائقها كالروح مثلاً فالله تعالى سترها بقوله : قل الروح من أمر ربي فلم يقنعوا ، و أخذوا يبحثون عن ما هيتها و لا يقعون بشيء، و لا يثبت لأحد منهم برهان على ما يدعيه ، و كذلك العقل ، فإنه موجود بلا شك ، كما أن الروح موجودة بلا شك ، كلاهما يعرف بآثاره لا بحقيقة ذاته .
   
فإن قال قائل : فما سرفي كتم هذه الأشياء؟ قلت : لأن النفس ما تزال تترقى من حلة إلى حالة فلو اطلعت على هذه الأشياءلترقت إلى خالقها . فكان ستر ما دونه زيادة في تعظيمه ، لأنه إذا كان بعض مخلوقاته يعلم جملة ، فهو أجل و أعلى .
   
و لو قال قائل : ما الصواعق ؟ و ما البرق ؟ و ما الزلازل ؟
   
قلنا : شيء مزعج ، و يكفي .
   
و السر في ستر هذا لكشفت حقائقه ، خف مقدار تعظيمه .
   
و من تلمح هذا الفصل علم أنه فصل عزيز ، فإذا ثبت هذا في المخلوقات فالخالق أجل و أعلى .
   
فينبغي أن يوقف على إثباته على دليل وجوده ، ثم يستدل على جواز بعثه رسله ، ثم تتلقى أوصافه من كتبه و رسله ، و لا يزاد على ذلك .
   
و لقد بحث خلق كثير عن صفاته بآرائهم ، فعاد وبال ذلك عليهم .و إذا قلنا : إنه موجود ، و علمنا من كلامه أنه سميع ، بصير ، حي ، قادر كفانا هذا في صفاته ، و لا نخوض في شيء آخر .
   
و كذلك نقول : متكلم القرآن كلامه ، و لا نتكلف ما فوق ذلك .
   
و لم يقل السلف : تلاوة و متلو ، و قراءة و مقروء ، و لا قالوا : استوى على العرش بذاته ، و لا قالوا : ينزل بذاته ، بل أطلقوا ما ورد من غير زيادة .
   
و هذه كلمات كالمثال ، فقس عليها جميع الصفات ، تفز سليماً من تعطيل ، متخلصاً من تشبيه .

 

·       فصل : للجاهل فائدة


   
رأيت أكثرالخلق في وجودهم كالمعدومين ، فمنهم من لا يعرف الخالق ، و منهم من يثبته على مقتضى حسه ، و منهم من لا يفهم المقصود من التكليف .
   
فترى المتوسمين بالزهد يدأبون في القيام و القعود ، و يتركون الشهوات و ينسون ما قد أنسوا به من شهوة الشهرة ، و تقبيل الأيادي .
   
و لو كلم أحدهم لقال : ألمثلي يقال هذا ؟ و من فلان الفاسق ؟
   
فهؤلاء لا يفهمون المقصود ، و كذلك كثير من العلماء في احتقارهم غيرهم ، و التكبر في نفوسهم .
   
فتعجبت كيف يصلح هؤلاء لمجاورة الحق ، و سكنى الجنة ! ؟
   
فرأيت أن الفائدة في و جودهم في الدنيا ، تجانس الفائدة في دخولهم الجنة فإنهم في الدنيا بين معتبر به ، يعرف عارف الله سبحانه نعمة الله عليه ، بما كشف له مما غطى عن ذلك ، [ و يتم النظام بالإقتداء تصور أولئك ] .فإن العارف لا يتسع وقته لمخالطة من يقف مع الصور ، فالزاهد كراعي البهم ، و العلم كمؤدب الصبيان ، و العارف كملقن الحكمة .
   
و لولا نفاط الملك و حارسه ، و وقاد أتونه ، ما تم عيشه .
   
فمن تمام عيش العارف استعمال أولئك بحسبهم ، فإذا وصلوا إليه حرر مانعهم ، و فيهم من لا يصل إليه ، فيكون وجود أولئك كزيادة ـ لا ـ في الكلام . هي حشو ، و هي مؤكدة .
   
فإن قال قائل : فهب هذا يصح في الدنيا . فكيف في الجنة ؟
   
و الجواب : أن الأنس بالجيران مطلوب ، و رؤية القاصر من تمام لذة الكامل ، و لكل شرب .
   
و من تأمل ما أشرب إليه ، كفاه رمز لفظي عن تطويل الشرح .

 

·       فصل : تحقيق القصد

 
   
لم تلمحت تدبير الصانع في سوق رزقي ، بتسخير السحاب ، و إنزال المطر برفق ، و البذر دفين تحت الأرض ، كالموتى ، قد عفن ينظر نفخه من صور الحياة ، فإذا أصابته اهتز خضراً .
   
و إذا انقطع عنه الماء مد يد الكلب يستعطي ، و أمال رأسه خاضعاً ، و لبس حلل التغير ، فهو محتاج إلى ما أنا محتاج إليه من حرارة الشمس ، و برودة الماء و لطف النسيم ، و تربية الأرض ، فسبحان من أراني ـ فيما يربيني به ـ كيف تربيتي في الأصل .
   
فيا أيتها النفس التي قد إطلعت على بعض حكمه ، قبيح بك ـ الله ـ الإقبال علىغيره .
   
ثم العجب كيف تقبلين على فقير مثلك ، يناديني لسان حاله بي مثل ما بك ، يا حمام !
   
فارجعي إلى الأصل الأول ، و اطلبي من المسبب .
   
و ياطوبي لك إن عرفتيه ، فإن عرفانه ملك الدنيا و الآخرة .

 

·       فصل : الانقطاع إلى الله


   
كنت في بداية الصبوة ، قد ألهمت سلوك طريف الزهاد ، بإدامة الصوم و الصلاة .
   
و حببت إلي الخلوة فكنت أجد قلباً طيباً . و كانت عين بصيرتي قوية الحدة ، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة ، و تبادر الوقت في اغتنام الطاعات .
   
و لى نوع أنس ، و حلاوة مناجاة ! !
   
فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي ، فأمالني إليه ، فمال الطبع ، ففقدت تلك الحلاوة .
   
ثم استمالني آخر ، فكنت أتقي مخالطته و مطاعمه ، لخوف الشبهات ، و كانت حالتي قريبة .
   
ثم جاء التأويل فانبسطت فيما يباح فعدم ما كنت أجد من استنارة و سكينة .
   
و صارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله .
   
فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس ، فيتوبون و يصلحون ، و أخرج مفلساً فيما بيني و بين حالي .
   
و كثر ضجيجي من مرضي ، و عجزت عن طب نفسي ، فلجأت إلى قبور الصالحين ، و توسلت في صلاحي ، فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهةمني ، ورد قلبي علي بعد نفور مني ، وأراني عيب ما كنت أوثره .
   
فأفقت من مرض غفلتي ! و قلت في مناجاة خلوتي : سيدي كيف أقدر على شكرك ؟ و بأي لسان أنطق بمدحك ؟ إذ لم تؤاخذني على غفلتي ، و نبهتني من رقدتي ، و أصلحت حالي على كره من طبعي .
   
فما أربحني فيما سلب مني إذ كانت ثمرته اللجأ إليك !
   
و ما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي علىالخلوة بك .
   
و ما أغناني إذ أفقرتني إليك ، و ما آنسني إذ أوحشتني من خلقك .
   
آه على زمان ضاع في غير خدمتك ! أسفاً لوقت مضى في غير طاعتك .
   
قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لا يؤلمني نومي طول الليل .
   
و إذا انسلخ عني النهار لا يوجعني ضياع ذلك اليوم .
   
و ما علمت أن عدم الإحساس لقوة المرض .
   
فالآن قد هبت نسائم العافية ، فأحسست بالألم فستدللت على الصحة . فيا عظيم الإنعام تمم لي العافية .
   
آه من سكير لم يعلم قدر عربدته إلا في و قت الإفاقة ؟
   
لقد فتقت ما يصعب رتقه ، فوا أسفاً على بضاعة ضاعت ، و على ملاح تعب في موج الشمال مصاعداً مدة ، ثم غلبه النوم فرد إلى مكانه الأول .
   
يا من يقرأ تحذيري من التخطيط فإني ـ و إن كنت خنت نفسي بالفعل ـ نصيح لإخوتي بالقول احذروا إخواني من الترخص فيما لايؤمن فساده .
   
فإن الشيطان يزين      ، في أول مرتبة ، ثم يجر إلي النجاح ، فتلمحوا المآل ، و افهموا الحال .
   
و ربما أراكم الغاية الصالحة ، و كان في الطريق إليها نوع مخالفة ، فيكفي الإعتبار في تلك الحال ، بأبيكم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى .
   
إنما تأمل آدم الغاية و هي الخلد ، و لكنه غلط في الطريق ، و هذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء .
   
يتأولون لقوالب المصالح ، فيستعجلون ضرر المفاسد . مثاله أن يقول للعالم : ادخل على هذا الظالم فاشفع في مظلوم ، فيستعجل الداخل رؤية المنكرات ، و يتزلزل دينه .
   
وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم .
   
فمن لم يثق بدينه فليحذر من المصائد ، فإنها خفية .
   
و أسلم ما للجان العزلة ، خصوصاً في زمان قد مات فيه المعروف ، و عاش المنكر ، و لم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة .
   
فمن داخلهم دخل معهم فيما لا يجوز ، و لم يقدر على جذبهم مما هم فيه .
   
ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات يراهم منسلخين من نفع العلم قد صاروا كالشرطة .
   
فليس إلا العزلة عن الخلق ، و الإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة . و لأن أنفع نفسي وحدي ، خير لي من أن أنفع غيري و اتضرر.
   
فالحذر الحذر من خوادع التأويلات ، و فواسد الفتاوى ، و الصبر الصبر على ما توجبه العزلة . فإنه إن انفردت بمولاك فتح لك باب معرفته . فهان كل صعب ، و طاب كل مر ، و تيسر كل عسر و حصلت كل مطلوب .
   
و الله الموفق بفضله ، و لا حول و لا قوة إلا به .

 

·       فصل : الورع


   
تاملت على نفسي تأويلاً في مباح أنال به شيئاً من الدنيا ، إلا أنه في باب الورع كدر .
   
فرأيته أولاً قد احتلب در الدين فذهبت حلاوة المعاملة الله تعالى .
   
ثم عاد فقلص ضرع حلبي له ، فوقع الفقد للحالين .
   
فقلت لنفسي : ما مثلك إلا كمثل وال ظالم ، جمع مالا من غير حله ، فصودر فأخذ منه الذي جمع ، و ألزم مالم يجمع .
   
فالحذر الحذر من فساد التأويل ، فإنه الله تعالى لا يخادع ، و لا ينال ما عنده بمعصيته .

 

·       فصل : إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين

 
   
رأيت نفسي كلما صفا فكرها ، أو اتعظت بدارج ، او زادت قبور الصالحين ، تترك همتها في طلب العزلة ، و الإقبال على معاملة الله تعالى .
   
فقلت لها يوماً ، و قد كلمتني في ذلك : حدثني ما مقصودك ؟ و ما نهاية مطلوبك ؟
   
اتراك تريدين مني أن أسكن قفراً لا أنيس به ، فتفوتني صلاة الجماعة ، و يضيع مني ما قد علمته لفقد من أعلمه ؟
   
و أن آكل الجشب الذي أتعوده فيقع نضوى طلحاً في يومين ؟
   
و أن ألبس الخشن الذي لا أطيقه . فلا أدري من كرب محمولي من أنا ؟ و أن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي بقاء القدرة على الطلب .
   
با الله ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك ، و أنا أعرفك غلط ما وقع لك بالعلم .
   
اعلمي أن البدن مطية ، و المطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل . و ليس مرادي بالرفق الإكثارمن الشهوات ، و إنما أغنى أخذ البلغة الصالحة للبدن ، فحينئذ يصفو الفكر ، و يصح العقل ، و يقوى الذهن .
   
ألاترى إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة و السلام : لا يقضي القاضي بين اثنين و هو غضبان ، و قاس العلماء على ذلك الجوع و ما يجري مجراه من كونه حاقناً ، او حاقباً .
   
و هل الطبع إلا ككلب يشغله الآكل ؟ ، فإذا رمى له ما يتشاغل به طاب له الكل .فأما الإنفراد و العزلة فعن الشر لا عن الخير .
   
و لو كان فيها لك وقع خير لنقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و عن أصحابه رضي الله عنهم .
   
هيهات لقد عرفت أن أقواماً ما دام بهم التقلل و اليبس إلى تغير فكرهم ، و قوى الخلط السوداوي عليهم ، فاستوحشوا من الناس ، و منهم من اجتمعت له من المآكل الردية أخلاط مجة ، فبقي اليوم و اليومين و الثلاثة لا يأكل و هو يظن ذلك من أمداد اللطف ، و إذا به من سوء الهضم .
   
و فيهم من ترقي به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة .
   
فا الله الله في العلم ، وا الله الله في العقل ، فإن نور العقل لا ينبغي أن يتعرض لإطفائه ، و العلم لا يجوز الميل إلىتنقيصه .
   
فإذا حفظا حفظا و ظائف الزمان ، و دفعا ما يؤذي ، و جلباً ما يصلح ، و صارت القوانين مستقيمة في المطعم و المشرب و المخالطة .
   
فقالت لي النفس : فوظف لي و ظيفة و احسبني مريضاً قد كتبت له بشربه .
   
فقلت لها : قد دللتك على العلم و هو طبيب ملازم ، يصف كل لحظة لكل داء يعرض دواء يلائم .
   
و في الجملة ينبغي لك ملازمة تقوى الله عز وجل في المنطق و النظر ، و جميع الجوارح و تحقق الحلال في المطعم و إيداعي كل لحظة ما يصلح لها من الخير ، و مناهبة الزمان في الأفضل ، و مجانبة [ ما يؤدي إلى ] ما يؤدي من نقص ربح أو وقوع خسران .
   
و لا تعملي عملاً إلا بعد تقديم النية .
   
تأهبي لمزعج الموت فكان قدوما عندك من مجيئه في أي و قت يكون .
   
و لا تتعرض لمصالح البدن ، بل وفريها عليه و ناوليه إياها على قانون الصواب ، لا على مقتضى الهوى ، فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين .
   
و دعي الرعونة التي يدل عليها الجهل لا العلم ، من قول النفس فلان يأكل الخل و البلق ، وفلان لا ينام الليل ، فاحملي ما تطيقين ، و ما قد علمت قوة البدن عليه .
   [
فإن البهيمة إذا أقبلت إلى نهر أو ساقية فضربت لتقفز لم تفعل حتى تزن نفسها .
   
فإن علمت فيها قوة الطفر طفرت و إن علمت أنها لا تطيق لم تفعل ] و لو قتلت .
   
و ليس كل الأبدان تتساوى في افطاقة ، و لقد حمل اقوام من المجاهدات في بداياتهم أشياء أوجبت أمراضاً قطعتهم عن خير ، و تسخطت قلوبهم بوقوعها فعليك بالعلم فإنه شفاء من بالعلم فإنه شفاء من كل داء ، و الله الموفق .

 

·       فصل : أدعياء العلم


   عجبت من أقوام يدعون العلم ، و يميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها ، فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا ، لأن من أمر ما جاء و مر من غير اعتراض [ و لا تعرض ] ؟ فما قال شيئاً لا له و لا عليه .
   
و لكن أقواماً قصرت علومهم ، فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهرة نوع تعطيل ، و لو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا .
   
و ما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكتابه و قد مدحته الخنساء فقالت :
   
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة       تتبع أقصى دائها فشفاها
   
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة شفاها
   
فلما أتمت القصيدة ، قال لكاتبه : اقطع لسانها ، فجاء ذلك الكاتب المغفل بالموس .
   
قالت له : و يلك إنما قال : أجزي لها العطاء .
   
ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت : كاد و الله يقطع مقولي .
   
فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم ، فإنه من قرأ الآيات و الأحاديث و لم يزد ، ألمه ، و هذه طريقة السلف .
   
فأما من قال : الحديث يقتضي كذا ، و يحمل على كذا ، مثل أن يقول : استوى على العرش بذاته ، ينزل إلى السماء الدنيا بذاته ، فهذه زيادة فهمها قائلة من الحس لا من النقل .
   
و لقد عجبت لرجل أندلس يقال له ابن عبد البر ، صنف كتاب التمهيد ، فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال : هذا يدل على أن الله تعالى على العرش لأنه لو لا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى .
   
و هذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل . لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الجسام . فقاس صفة الحق عليه .
   
فأين هؤلاء و اتباع الأثر ؟
   
و لقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون ، ثم عابوا المتكلمين .
   
و اعلم أيها الطالب للرشاد ، أنه سبق إلينا من العقل و النقل أصلان راسخان عليهما مر الأحاديث كلها .
   
أما النقل فقوله سبحانه و تعالى : ليس كمثله شيء . و من فهم هذا لم يحمل وصفاً له على ما يوجبه الحس .
   
و أما العقل ، فإنه قد علم مباينه الصانع للمصنوعات ، و استدل على حدوثها بتغيرها ، و دخول الإنفعال عليها ، فثبت له قدم الصانع .
   
واعجباً كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام .
   
أليس في الحديث الصحيح ، أن الموت يذبح بين الجنة و النار ؟
   
أو ليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته ؟
   
لما ثبت عند من يفهم ما هية الموت .
   
فقال : الموت عرض يوجب بطلان الحياة . فكيف يمات الموت ؟
   
فإذا قيل له : فما تصنع بالحديث ؟
   
قال : هذا ضرب مثلاً بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى .
   
قلنا له : فقد روى في الصحيح : [ تأتي البقرة و آل عمران كأنهما غمامتان ] ،
   
فقال : الكلام لايكون غمامة ، و لا يتشبه بها .
   
قلنا له أفتعطل النقل ؟ قال : لا ، و لكن يأتي ثوابهما .
   
قلنا فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق ؟
   
فقال : علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام ، و الموت لا يذبح ذبح الأنعام . و لقد علمتم سعة لغة العرب .
   
ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا .
   
فقال العلماء : صدقت . هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة ، و في ذبح الموت .
   
فقال واعجباً لكم ، صرفتم عن الموت و الكلام ما لا يليق بهما ، حفظاً لما علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه ، بما قددل الدليل على تنزيهه عنه ؟
   
فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة . و يقول : لا أقطع حتى أقطع ، فما قطع حتى قطع .

 

·       فصل : لم لم يواجه الله عباده بالرحم ؟

 
   
تفكرت في السر الذي أوجب حذف آية الرجم من القرآن لفظاً ، مع ثبوت حكمها إجماعاً ، فوجدت لذلك معنيين :
   
أحدهما : لطف الله تعالى بعباده في أنه لا يواجههم بأعظم المشاق ، بل ذكر الجلد ، و ستر الرجم ، و من هذا المعنى قال بعض العلماء : إن الله تعالى قال في المكروهات كتب عليكم الصيام ، على لفظ لم يسم فاعله و إن كان قد علم أنه هو الكاتب .
   
فلما جاء إلى ما يوجب الراحة قال كتب ربكم على نفسه الرحمة .
   
و الوجه الثاني : أنه يبين بذلك فضل الأمة في بذلها بالنفوس قنوعاً ببعض الأدلة .
   
فإن الإتفاق لما وقع على ذلك الحكم كان دليلاً . إلا أنه ليس كالدليل المتفق لأجله .
   
و من هذا الجنس شروع الخليل عليه الصلاة و السلام ، في ذبح ولده بمنام ، و إن كان الوحي في اليقظة آكد .

 

·       فصل : السبب و المسبب


   عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى الله تعالى وحده ، عالماً بأنه لا يقدر على جلب نفعي و دفع ضري سواه .
   
ثم قمت أتعرض بالأسباب ، فأنكر علي يقيني ، و قال : هذا قدح في التوكل .
   
فقلت : ليس كذلك فإن الله تعالى وضعها من الحكم .
   
و كان معنى حالي أن ما وضعت لا يفيد و إن وجوده كالعدم .
   
و ما زالت الأسباب في الشرع كقوله تعالى : و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك و ليأخذوا أسلحتهم .
   
و قال تعالى : فذروه في سنبله .
   
و قد ظاهر النبي صلى الله عليه و سلم بين درعين ، و شاور طبيبين ، و لما خرج إلى الطائف لم يقدر على دخول مكة ، حتى بعث إلى المطعم بن عدي فقال : أدخل في جوارك .
   
و قد كان يمكنه أن يدخل متوكلاً بلا سبب .
   
فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب ، كان إعراضي عن الأسباب دفعاً للحكمة .
   
و لهذا أرى أن التداوي مندوب إليه ، و قد ذهب صاحب مذهبي إلى أن ترك التداوي أفضل ، و منعني الدليل من اتباعه في هذا فإن الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما أنزل الله داء إلا و أنزل له دواء فتداووا .
   
و مريبة هذه اللفظة الأمر ، و الأمر إما أن يكون واجباً ، أو ندباً . و لم يسبقه حظر ، فيقال : هو إباحة .
   
و كانت عائشة رضي الله عنها تقول : [ تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ما ينعت له ] .
   
و قال عليه الصلاة و السلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : كل من هذا فإنه أوفق لك من هذا .
   
و من ذهب إلى تركه أفضل احتج بقوله عليه الصلاة السلام : يدخل الجنة سبعون ألفاً بلا حساب . ثم وصفهم فقال : لا يكتون ، و لا يسترقون ، و لا يتطيرون ، و على ربهم يتوكلون .
   
و هذا لا ينافي التداوي ، لأنه قد كان أقوام يكتوون لئلا يمرضوا و يسترقون لئلا تصبهم نكبة ، و قد كوى عليه الصلاة السلام بن زرارة و رخص في الرقية في الحديث الصحيح . فعلمنا أن المراد ما أشرنا أليه .
   
و إذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع ، رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمي ، و شرب ماء التمر هندي أوفق ، و هذا طب .
   
فإذا لم أشرب ما يوافقني ، ثم قلت : اللهم عافني ، قالت لي الحكمة ، أما سمعت : [ اعقلها و توكل ؟ ] اشرب و قل عافني ، و لا تكن كمن بين زرعه و بين النهر كف من تراب ، تكاسل أن يرفعه بيده ، ثم قام يصلي صلاة الإستسقاء . و ما هذه الحالة إلا كحال من سافر على التجريد ، و إنما سافر على التجريد لأنه يجرب بربه عز وجل هل يرزقه أولا ، و قد تقدم الأمر إليه : و تزودوا فقال : لا أتزود ، فهذا هالك قبل أن ، يهلكه .
   
و لو جاء وقت صلاة و ليس معه ماء ، ليم على تفريطه ، و قيل له : هلا استصحبت الماء قبل المفازة .
   
فالحذر الحذر من أفعال أقوام دققوا فمرقوا عن الأوضاع الدينية ، و ظنوا أن كمال الدين بالخروج عن الطباع ، و المخالفة للأوضاع .
   
و لولا قوة العلم و الرسوخ فيه ، لما قدرت على شرح هذا و لا عرفته ، فافهم ما أشرت إليه ، فهو أنفع لك من كراريس تسمعها ، و كن مع أهل المعاني لا مع أهل الحشو .

 

·       فصل : الإسلام نظافة

 
   
تلمحت على خلق كثير من الناس إهمال إبدانهم ، فمنهم من لا ينظف فمه بالخلال بعد الأكل .
   
و منهم من لا ينفي يديه في غسلها من الزهم ، و منهم من لا يكاد يستاك ، و فيهم من لا يكتحل ، و فيهم من لا يراعي الإبط ، إلى غير ذلك ، فيعود هذا الإهمال بالخلل في الدين و الدنيا .
   
أما الدين فإنه قد أمر المؤمن بالتنظف و الإغتسال للجمعة لأجل اجتماعه بالناس ، و نهى عن دخول المسجد إذا أكل الثوم ، و أمر الشرع بتنقية البراجم و قص الأظافر ، و السواك ، و الإستحداد و غير ذلك من الآداب . فإذا أهمل ذلك ترك مسنون الشرع ، و ربما تعدى بعض ذلك إلى فساد العبادة ، مثل أن يهمل أظفاره فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل .
   
و أما الدنيا فإني رأيت جماعة من المهملين أنفسهم ، يتقدمون إلى السرار ، و الغفلة التي أوجبت إهمالهم أنفسهم ، أوجبت جهلهم بالأذى الحادث عنهم .
   
فإذا أخذوا في مناجاة السر ، لم يمكن أن أصدف عنهم ، لأنهم يقصدون السر ، فألقى الشدائد من ريح أفواههم .
   
و لعل أكثرهم من وقت انتباههم ما أمر أصبعه على أسنانه .
   
ثم يوجب مثل هذا نفور المرأة ، و قد لا تستحسن ذكر ذلك للرجل ، فيثمر ذلك التفافها عنه .
   
و قد كان ابن عباس رضي الله عنها يقول : [ إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي ] . و في الناس من يقول : هذا تصنع . و ليس بشيء فإن الله تعالى زيننا لما خلقنا ، لأن للعين حظاً في النظر ، و من تأمل أهداب العين و الحاجبين ، و حسن ترتيب الخلقة ، علم أن الله زين الأدمي .
   
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم أنظف الناس و أطيب الناس ، و في الحديث عنه يرفع يديه حتى تبين عفرة إبطيه ، و كان ساقه ربما انكشفت فكأنهما جمارة .
   
و كان لا يفارقه السواك ، و كان يكره أن يشم منه ريح ليست طيبة .
   
و في حديث أنس الصحيح : [ ما شأنه الله ببيضاء ] .
   
و قد قالت الحكماء : [ من نظف ثوبه قل همه ، و من طاب ريحه زاد عقله ] .
   
و قال عليه الصلاة السلام لأصحابه : ما لكم تدخلون علي قلحاً ، استاكوا .
   
و قد فضلت الصلاة بالسواك ، على الصلاة بغير سواك ، فالمتنظف ينعم نفسه ، و يرفع منها عندها .
   
و قد قال الحكماء : [ من طال ظفره قصرت يده ، ثم إنه يقرب من قلوب الخلق ، و تحبه النفوس ، لنظافته و طيبه ] .
   
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب الطيب .
   
ثم إنه يؤنس الزوجة بتلك الحال . فإن النساء شقائق الرجال ، فكما أنه يكره الشيء منها ، فكذلك هي تكرهه ، و ربما صبر هو على ما يكره و هي لا تصبر .
   
و قد رأيت جماعة يزعمون أنهم زهاد . و هم من أقذر الناس ، و ذلك أنهم ما قومهم العلم .
   
و أما ما يحكى عن داود الطائي أنه قيل له : لو سرحت لحيتك ، فقال : إني عنها مشغول .
   
فهذا قول معتذر عن العمل بالسنة ، و الإخبار عن غيبته عن نفسه بشدة خوفه من الآخرة و لو كان مفيقاً لذلك لم يتركه ، فلا يحتج بحال المغلوبين .
   
و من تأمل خصائص الرسول صلى الله عليه و سلم ، رأى كاملاً في العلم و العمل ، فيه يكون الإقتداء و هو الحجة على الخلق .

 

·       فصل : خطر الرفاهية


   
تأملت مبالغة أرباب الدنيا في اتقاء الحر و البرد . فرأيتها تعكس المقصود في باب الحكمة . و إنما تحصل مجرد لذة و لا خير في لذة تعقب ألما .
   
فأما في الحر فإنهم يشربون الماء المثلوج ، و ذلك على غاية في الضرر ، و أهل الطب يقولون : إنه يحدث أمراضاً صعبة يظهر أثرها في وقت الشيخوخة و يضعون الخيوش المضاعفة . و في البرد يصنعون اللبود المانعة للبرد .
   
و هذا من حيث الحكمة يضاد ما وضعه الله تعالى . فإنه جعل الحر لتحلل الأخلاط ، و البرد لجمودها ، فيجعلون هم جميع السنة ربيعاً . فتنعكس الحكمة التي وضع الحر و البرد لها ، و يرجع الأذى على الأبدان .
   
و لا يظنن سامع هذا أني آمره بملاقاة الحر و البرد .
   
و إنما أقول له : لا يفرط في التوقي ، بل يتعرض في الحر لما يحلل بعض الأخلاط ، إلى حد لا يؤثر في القوة ، و في البرد بأن يصيبك منه الأمر القريب لا المؤذي ، فإن الحر و البرد لمصالح البدن .
   
و قد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر و البرد فتغيرت حالته فمات عاجلاً ، و قد ذكرت قصته في كتاب لقط المنافع في علم الطب .

 

·       فصل : الصبر و الرضى

 
   
ليس في التكاليف أصعب من الصبر على القضاء ، و لا فيه أفضل من الرضى به . فأما الصبر : فهو فرض . و أما الرضى فهو فضل .
   
و إنما الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس ، و ليس مكروه النفس يقف على المرض و الأذى في البدن ، بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر .
   
فمن ذلك أنك إذا رأيت مغموراً بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما يصنع بالمال ، فهو يصوغه أواني يستعملها . و معلوم أن البلور و العقيق و الشبة ، قد يكون أحسن منها صورة ، غير أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه . و يلبس الحرير ، و يظلم الناس ، و الدنيا منصبة عليه .
   
ثم يرى خلقاً من أهل الدين ، و طلاب العلم ، مغمورين بالفقر و البلاء ، مقهورين تحت ولاية ذلك الظالم . فحينئذ يجد الشيطان طريقاً للوسواس ، و يبتدئ بالقدح في حكمة القدر .
   
فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر في الدنيا ، و على جدال إبليس في ذلك .
   
و كذلك في تسليط الكفار على المسلمين ، و الفساق على أهل الدين .
   
و أبلغ من هذا إيلام الحيوان ، و تعذيب الأطفال ، ففي مثل هذه المواطن يتمحض الإيمان و مما يقوي الصبر على الحالتين النقل و العقل .
   
أما النقل فالقرآن و السنة ، أما القرآن فمنقسم إلى قسمين :
   
أحدهما : بيان سبب إعطاء الكافر و العاصي ، فمن ذلك قوله تعالى : إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً .
   
و لولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة .
   
و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها .
   
و في القرآن من هذا كثير .
   
و القسم الثاني : ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم .
   
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء و الضراء و زلزلوا .
   
أم حسبتم أن تتركوا و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم .
   
و في القرآن من هذا كثير .
   
و أما السنة فمنقسمة إلى قول و حال .
   
أما الحال : فإنه صلى الله عليه و سلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه ، فبكى عمر رضي الله عنه . و قال : كسرى و قيصر في الحرير و الديباج ، فقال له صلى الله عليه و سلم : أفي شك أنت يا عمر ؟ ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة و لهم الدنيا .
   
أما القول فقوله عليه الصلاة و السلام : لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
   
و أما العقل : فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود ، منها أن يقول : قد ثبت عندي الأدلة القاطعة على حكمة المقدر . . فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللا .
   
و منها أن يقول : ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في المعنى ، و ما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى ، لأن ذلك البسط يوجب عقاباً طويلاً ، و هذا القبض يؤثر انبساطاً في الأجر جزيلاً ، فزمان الرجلين ينقضي عن قريب و المراحل تطوى و الركبان في الحثيث .
   
و منها أن يقول : قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير ، و أن زمن التكليف كبياض نهار ، و لا ينبغي للمستعمل في الطين أن يلبس نظيف الثياب ، بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل ، فإذا فرغ تنظف و لبس أجود ثيابه ، فمن ترفه وقت العمل ندم وقت تفريق الأجرة ، و عوقب على التواني فيما كلف ، فهذه النبذة تقوي أزر الصبر .
   
و أزيدها بسطاً فأقول : أترى إذا أريد اتخاذ شهداء ، فكيف لا يخلق أقوام يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين ، أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة ؟ و بعلي مثل ابن ملجم : أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا إلا جبار كافر ، و لو أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا ، لرأيت المسبب لا الأسباب ، و المقدر لا الأقدار ، فصبرت على بلائه ، إيثاراً لما يريد ، و من ههنا ينشأ الرضى .
   
كما قيل لبعض أهل البلاء : ادع الله بالعافية ، فقال : أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل .
   
إن كان رضاكم في سهري       فسلام الله على وسني

 

·       فصل : من ذاق طعم المعرفة وجد طعم المحبة


   
لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم ، هتف بي هاتف من باطني : دعني من شرح الصبر على الأقدار ، فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت .
   
وصف حال الرضى ، فإني أجد نسيماً من ذكره فيه روح للروح .
   
فقلت : أيها الهاتف اسمع الجواب . و افهم الصواب .
   
إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة ، فإذا عرفته رضيت بقضائه ، و قد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي .
   
أما العارف فتقل عنده المرارة ، لقوة حلاوة المعرفة .
   
فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة ، صارت مرارة الأقدار ، حلاوة ، كما قال القائل :
   
عذابه فيك عذب       و بعده فيك قرب
   
و أنت عندي كروحي بل أنت منها أحب
   
حسبي من الحب أني لما تحب أحب
   
و قال بعض المحبين في هذا المعنى :
   
و يقبح من سواك الفعل عندي       فتفعله فيحسن منك ذاكا
   
فصاح بي الهاتف : حدثني بماذا أرضى ؟ قدر أني أرضى في أقداره بالمرض و الفقر ، أفأرضى بالكسل عن خدمته ، و البعد عن أهل محبته ؟ فبين لي ما الذي يدخل تحت الرضى ، مما لا يدخل ؟
   
فقلت له : نعم ما سألت فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع و هو شهيد .
   
إرض بما كان منه ، فأما الكسل و التخلف فذاك منسوب إليك ، فلا ترض به من فعلك .
   
و كن مستوفياً حقه عليك ، مناقشاً نفسك فيما بقربك منه ، غير راض منها بالتواني في المجاهدة .
   
فأما ما يصدر من أقضيته المجردة التي لا كسب لك فيها ، فكن راضياً بها ، كما قالت رابعة ـ رحمة الله عليها ـ و قد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة فيأكل ، فقيل : هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا ؟ فقالت : إن الراضي لا يتحيز و من ذاق طعم المعرفة ، وجد فيه طعم المحبة ، فوقع الرضى عنده ضرورة .
   
فينبغي الإجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة ، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة ، لعل ذلك يورث المحبة .
   
فقد قال سبحانه و تعالى : لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه . فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به .
   
فذلك الغنى الأكبر .. و وافقراه ... !!!

 

·       فصل : لا تشغل عن معاشك


   رأيت جمهور العلماء يشغلهم طلبهم للعلم من زمن الصبا عن المعاش ، فيحتاجون إلى ما لا بد منه ، فلا يصلهم من بيت المال شيء ، و لا من صلات الإخوان ما يكفي ، فيحتاجون إلى التعرض بالإذلال ، فلم أر في ذلك من الحكمة إلا سببين :
   
أحدهما : قمع إعجابهم بهذا الإذلال ، و الثاني : نفع أولئك بثوابهم .
   
ثم أمعنت الفكر فتلمحت نكتة لطيفة ، و هو أن النفس الأبية إذا رأت حال الدنيا كذلك ، لم تساكنها بالقلب ، ونبت عنها بالعزم ، و رأت أقرب الأشياء شبهاً بها ، مزبلة عليها الكلاب ، أو غائطاً يؤتي لضرورة .
   
فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه الدار ، لم يكن للقلب بها متعلق متمكن فتهون حينئذ .

 

·       فصل : روحوا القلوب تعي الذكر

 
   
ما زال جماعة من المتزهدين يزرون على كثير من العلماء إذاانبسطوا في مباحات . و الذي يحملهم على هذا الجهل . فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم . و هذا لأن الطياع لا تتساوى ، قرب شخص يصلح على خشونة العيش ، و اخر لا يصلح على ذلك ، و لا يجوز لحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو .
   
غير أن لنا ضابطاً هو الشرع ، فيه الرخصة و فيه العزيمة . فلا ينبغي أن يلام من حصر نفسه في ذلك الضابط . و رب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها .
   
و لو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة با الله فتنبت القلوب من خوفه ، و تنحل الأجسام للحذر منه فوجب التلطف بالأجسام حفظاً لقوة الراحة .
   
و لأن آلة العلم و الحفظ : القلب و الفكر ، فإذا رفهت لآلة جاد العمل ، و هذاأمر لا يعلم إلا بالعلم .
   
فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا ، و ظنوا أن المراد إتعاب الأبدان ، و إنضاء الرواحل ، و ما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى راحة مقاومة ، كما قال القائل : روحوا القلوب تعي الذكر .

 

·       فصل : من أخطاء الصوفية


   
ليس في الوجود شيء أشرف من العلم ، كيف لا و هو الدليل ، فإذا عدم و قع الضلال .
   
و ان من خفي مكايد الشيطان أن يزين في نفس الإنسان التعبد ليشغله عن أفضل التعبد و هو العلم ، حتى إنه زين لجماعة من القدماء أنهم دفنوا كتبهم و رموها في البحر . و هذا قد ورد عن جماعة . و أحسن ظني بهم أن أقول :كان فيها شيء من رأيهم و كلامهم فما حبوا انتشاره.
   
و إلا فمتى كان فيها علم مفيد صحيح لا يخاف عواقبه ، كان رميها إضاعة . للمال لا يحل .
   
و قد دنت حيلة إبليس إلى جماعة من المتصوفة حتى منعوا من حمل المحابر تلامذتهم .
   
و حتى قال جعفر الخلدي : لو تركني الصوفية جئتكم بإسناد الدنيا ، كتبت مجلساً عن أبي العباس الدوري فلقيني بعض الصوفية فقال : [ دع علم الورق ، و عليك بعلم الخرق ] .
   
و رأيت محبرة مع بعض الصوفية . فقال له صوفي آخر : [ استر عورتك ] ـ و قد انشدوا للشبلي :
   
إذا طالبوني بعلم الورق       برزت عليهم بعلم الخرق
   
و هذا من خفي حيل إبليس ، و لقدصدق عليهم إبليس ظنه ، و إنما فعل و زينة عندهم لسببين :
   
أحدهما : أنه أرادهم يمشون في الظلمة .
   
و الثاني : أن تصفح العلم كل يوم يزيد في العالم . و يكشف له ما كان خفي عنه ، و يقوي إيمانه و معرفته ، و يريه عيب كثير من مسالكه ، إذا تصفح منهاج الرسول صلى الله عليه و سلم ، و الصحابة .
   
فأراد إبليس سد تلك الطرق بأخفى حيلة ، فأظهر أن المقصود العمل ، لا العلم لنفسه ، و خفي على المخدوع أن العلم عمل و أي عمل .
   
فاحذر من هذه الخديعة الخفية ، فإن العلم هو الأصل الأعظم ، و النور الأكبر .
   
و ربما كان تقليب الوراق أفضل من الصوم و الصلاة ، و الحج و الغزو .
   
و كم من معرض عن العلم يخوض في عذاب من الهوى في تعبده ، و يضيع كثيراً من الفرض بالنقل ، و يشتغل بما يزعمه الأفضل عن الواجب .
   
و لو كانت عنده شعلة من نور العلم لا هتدى ، فتأمل ما ذكرت لك ترشد إن شاء الله تعالى .

 

·       فصل : كيف تقوى النفس


   
مر بي حمالان جذع ثقيل ، و هما يتجاوبان بانشاد النغم ، و كلمات الإستراحة .
   
فأحدهما يصغى إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله ، و الآخر همته مثل ذلك .
   
فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما ، و ثقل الأمر ، و كلما فعلا هذا هان الأمر .
   
فتأملت السبب في ذلك ، فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما يقوله الآخر ، و طربه به ، و إحالة فكره في الجواب بمثل ذلك ، فينقطع الطريق ، و ينسى ثقل المحمول .
   
فأخذت من هذا إشارة عجيبة ، و رأيت الإنسان قد حمل من التكليف أموراً صعبة ، و من أثقل ما حمل مداراة نفسه ، و تكليفها الصبر عما تحب ، و على ماتكره . فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية و التلطف للنفس ، كما قال الشاعر :
   
فإن تشكت فعللها المجرة من       ضوء الصباح و عدها بالروح ضحى
   
و من هذا ما يحكى عن بشر الحافي رحمه الله عليه ، سار و معه رجل في طريق فعطش صاحبه ، فقال له : نشرب من هذا البئر ؟ فقال بشر : اصبر إلى البئر الأخرى ، فلما و صلا إليها قال له : البئر الأخرى .
   
فما زال يعلله . . . ثم التفت إليه فقال له : [ هكذا تنقطع الدنيا ] .
   
و من فهم هذا الأصل علل النفس و تلطف بها و وعدها الجميل لتصبر على ما قد حملت ، كما كان بعض السلف يقول لنفسه : و الله ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك .
   
و قال أبو يزيد رحمه الله عليه : ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى و هي تبكي حتى سقتها و هي تضحك .
   
و اعلم أن مداراة النفس و التلطف بها لازم ، و بذلك ينقطع الطريق ، فهذا رمز إلى الإشارة ، وشرحه يطول .

 

·       فصل : دع التصنع في الوعظ

 
   تأملت أشياء تجري في مجالس الوعظ ، يعتقدها العوام و جهال العلماء قربة و هي منكر و بعد .
   
و ذاك أن المقرئ يطرب و يخرج الألحان إلى الغناء ، و الواعظ ينشد بتطريب أشعار المجنون و ليلى ، فيصفق هذا ، و يخرق ثوبه هذا ، و يعتقدون أن ذلك قربة و معلوم أن هذه الألحان كالموسيقى ، توجب طرباً للنفوس و نشوة ، فالتعرض بما يوجب الفساد غلط عظيم .
   
و ينبغي الإحتساب على الوعاظ في هذا ، و كذلك المقابريون منهم فإنهم يهيجون الأحزان ليكثر بكاء النساء ، فيعطون على ذلك الأجرة .
   
و لو أنهم أمروا بالصبر لم ترد النسوة ذلك ، و هذه أضداد للشرع .
   
قال ابن عقيل : [ حضرنا عزاء رجل قد مات ، فقرأ المقرئ : يا أسفى على يوسف فقلت له : [ هذه نياحة بالقرآن ] .
   
و في الوعاظ من يتكلم على طريق المعرفة و المحبة ، فترى الحائك و السوقي الذي لا يعرف فرائض تلك الصلاة يمزق أثوابه دعوى لمحبة الله تعالى .
   
و الصافي حالاً منهم ـ و هو أصلحهم ـ يتخايل بوهمه شخصاً هو الخالق فيبكيه شوقه إليه لما يسمع من عظمته و رحمته و جماله .
   
و ليس ما يتخايلونه المعبود ، لأن المعبود لا يقع في خيال .
   
و بعد هذا فالتحقيق مع العوام صعب ، و لا يكادون ينتفعون بمر الحق إلا أن الواعظ مأمور بألا يتعدى الصواب ، و لا يتعرض لما يفسدهم ، بل يجذبهم إلى ما يصلح بألطف وجه ، و هذا يحتاج إلى صناعة ، فإن من العوام من يعجبه حسن اللفظ ، و منهم من يعجبه الإشارة ، و منهم من ينقاد ببيت من الشعر .
   
و أحوج الناس إلى البلاغة الواعظ ليجمع مطالبهم ، لكنه ينبغي أن ينظر في اللازم الواجب ، و أن يعطيهم من المباح في اللفظ ، قدر الملح في الطعام ، ثم يجتذبهم إلى العزائم ، و يعرفهم الطريق الحق .
   
و قد حضر أحمد بن حنبل ، فسمع كلام الحارث المحاسبي فبكى ، ثم قال : [ لا يعجبني الحضور ] ، و إنما بكى لأن الحال أوجبت البكاء .
   
و قد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص ، فينهون عن الحضور عندهم .
   
و هذا على الإطلاق لا يحسن اليوم ، لأنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين بالعلم ، فرأوا حضور القصص صاداً لهم ، و اليوم كثر الإعراض عن العلم ، فأنفع ما للعامي مجلس الوعظ ، يرده عن ذنب ، و يحركه إلى توبة ، و إنما الخلل في القاص ، فليتق الله عز وجل .

 

·       فصل : إحذر من مزالق علم الكلام

 
   من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين ، و النفاة للصفات و الإضافات فإن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بالغوا في الإثبات ليتقرر في أنفس العوام وجود الخالق ، فإن النفوس تأنس بالإثبات ، فإذا سمع العامي ما يوجب النفي ، طرد عن قلبه الإثبات ، فكأن أعظم ضرر عليه ، و كان هذا المنزه من العلماء على زعمه ، مقاماً لإثبات الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بالمحو و شارعاً في إبطال ما يفتون به .
   
و بيان هذا أن الله تعالى أخبر باستوائه على العرش ، فأنست النفوس إلى إثبات الإله و وجوده ، قال تعالى : و يبقى وجه ربك و قال تعالى : بل يداه مبسوطتان و قال غضب الله عليهم رضي الله عنهم و أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا ، و قال : [ قلوب العباد بين أصبعين ، ] و قال : كتب التوراة بيده ، و كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش ، إلى غير ذلك مما يطول ذكره .
   
فإذا امتلأ العامي و الصبي من الإثبات ، و كاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس ، قيل له : ليس كمثله شيء فمحا من قلبه ما نقشه الخيال ، و تبقى ألفاظ الإثبات متمكنة .
   
و لهذا أقر الشرع مثل هذا ، فسمع منشداً يقول : و فوق العرش رب العالمين ، فضحك .
   
و قال له آخر : أو يضحك ربنا ؟ فقال : نعم . و قال : إنه على عرشه هكذا . كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس .
   
و أكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يعلمون من الشاهد ، فيقنع منهم بذلك إلى أن يفهموا التنزيه .
   
فأما إذا ابتدئ بالعامي الفارغ من فهم الإثبات ، فقلنا : ليس في السماء و لا على العرش ، و لا يوصف بيد ، و كلامه صفة قائمة بذاته ، و ليس عندنا منه شيء ، و لا يتصور نزوله ، انمحى من قلبه تعظيم المصحف ، و لم يتحقق في سره إثبات إله .
   
هذه جناية عظيمة على الأنبياء ، توجب نقض ما تعبوا في بيانه ، و لا يجوز لعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيهوشها ، فإنه يفسده و يصعب صلاحه .
   
فأما العالم فإنا قد أمناه لأنه لا يخفي عليه استحالة تجدد صفة الله تعالى ، و أنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم ، و لا يجوز أن يكون محمولاً ، و لا يوصف بملاصقة و مس ، و لا أن ينتقل .
   
لا يخفي عليه أن المراد بتقليب القلوب بين أصبعين الإعلام بالتحكم في القلوب فإن ما يديره الإنسان بين أصبعين هو متحكم فيه إلى الغاية .
   
و لا يحتاج إلى تأويل من قال : الإصبع الأثر الحسن ، فالقلوب بين أثرين من آثار الربوبية ، و هما : الإقامة ، و الإزاغة .
   
و لا إلى تأويل من قال : يداه نعمتاه ، لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات و قد حدثنا بما نعقل ، و ضربت لنا الأمثال بما نعلم ، و قد ثبت عندنا بالأصل المقطوع به أنه لا يجوز عليه ما يعرفه الحس ، علمنا المقصود بذكر ذلك .
   
و أصلح ما نقول للعوام : أمروا هذه الأشياء كما جاءت ، و لا تتعرضوا لتأويلها ، بل ذلك يقصد به حفظ الإثبات ، و هذا الذي قصده السلف .
   
و كان أحمد يمنع من أن يقال : لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق ، كل ذلك ليحمل على الأتباع ، و تبقى ألفاظ الإثبات على حالها .
   
و أجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى الله عليه و سلم تعظيمه ، فأضعف في النفوس قوى التعظيم .
   
قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ـ يشير إلى المصحف ـ .
   
و منع الشافعي أن يحمله المحدث بعلاقته تعظيماً له .
   
فإذا جاء متحذلق فقال : الكلام صفة قائمة بذات المتكلم فمعنى قوله هذا أن ما ههنا شيء يحترم ، فهذا قد ضاد بما أتى به مقصود الشرع . ينبغي أنم يفهم أوضاع الشعر و مقاصد الأنبياء عليهم الصلاة و السلام ، و قد منعوا من كشف ما قد قنع الشرع ، فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الكلام في القدر و نهى عن الإختلاف ، لأن هذه الأشياء تخرج إلى ما يؤذي فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول : قضى و عاقب ، تزلزل إيمانه بالعدل .
   
و إن قال : لم يقدر و لم يقض . تزلزل بالقدرة ، و الملك ، فكان الأولى ترك الخوض في هذه الأشياء .
   
و لعل قائلاً يقول : هذا منع لنا عن الإطلاع على الحقائق ، و أمر بالوقوف مع التقليد .
   
فأقول : لا ، إنما أعلمك أن المراد منك الإيمان بالجمل ، و ما أمرت بالتنقير مع أن قوى فهمك تعجز عن إدراك الحقائق .
   
فإن الخليل عليه الصلاة و السلام قال : أرني كيف تحي ، فأراه ميتاً حي و لم يره كيف أحياه ، لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك .
   
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم و هو الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم ، يقنع من الناس بنفس الإقرار و اعتقاد الجمل .
   
كذلك كانت الصحابة ، فما نقل عنهم إنهم تكلموا في تلاوة و متلو ، و قراءة و مقروء ، و لا إنهم قالوا استوى بمعنى استولى ، و يتنزل بمعنى يرحم .
   
بل قنعوا بإثبات الجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس ، و كفوا كف الخيال بقوله : ليس كمثله شيء .
   
ثم هذا منكر و نكير إنما يسألان عن الأصول المجملة فيقولان : من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ .
   
و من فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة ، و تعطيل العطلة ، و وقف علىجادة السلف الأول ، و الله الموفق .

 

·       فصل : السمع و البصر


   
قرأت هذه الآية : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم و أبصاركم و ختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به فلاحت لي فيها إشرة كدت أطيش منها .
   
و ذلك أنه إن كان عني بالآية نفس السمع و البصر ، فإن السمع آلة لإدراك المسموعات ، و البصر آلة لإدراك المبصرات ، فهما يعرضان ذلك على القلب ، فيتدبر ، و يعتبر .
   
فإذا عرضت المخلوقات على السمع و البصر ، أوصلا إلى القلب أخبارها من أنها تدل على الخالق ، و تحمل على طاعة الصانع ، و تحذر من بطشه عند مخالفته .
   
و إن عنى معنى السمع و البصر ، فذلك يكون بذهولها عن حقائق ما أدركا ، شغلا بالهوى ، فيعاقب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات ، فيرى و كأنه ما رأى ، و يسمع كأنه ما سمع ، و القلب ذاهل عما يتأدى به لا يدري ما يراد به ، لا يؤثر عنده أنه يبلى ، و لا تنفعه موعظة تجلى ، و لا يدري أين هو ، و لا ما المراد منه ، و لا إلى أين يحمل ، و إنما يلاحظ بالطبع مصالح عاجلته و لا بتفكر في خسران آجلته ، لا يتعبر برفيقه ، و لا يتعظ بصديقه ، و لا يتزود لطريقة كما قال الشاعر :
   
الناس في غفلة و الموت يوقظهم       و ما يفيقون حتى ينفذ العمر
   
يشيعون أهاليهم بجمعهم       و ينظرون ما فيه قد قبروا
   
و يرجعون إلى أحلام غفلتهم       كأنهم ما رأوا شيئاً و لا نظروا
   
و هذه حالة أكثر الناس ، فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات ، فإنها أقبح الحالات .

 

·       فصل : العشق الإلهي

 
   
نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق و أسبابه و أدويته و صنفت في ذلك كتاباً سميته بذم الهوى .
   
و ذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا : سبب العشق حركة نفس فارغة ، و أنهم اختلفوا .
   
فقال قوم منهم : لا يعرض العشق إلا لظراف الناس .
   
و قال آخرون : بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق .
   
إلا أنه خطر لي بعد ذلك معنى عجيب أشرحهه ههنا :
   
و هو أنه لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد . فأما أرباب صعود الهمم فإنها كلما تخايلت ما توجبه المحبة فلاحت عيوبه لها ، إما بالفكر فيه أو بالمخالطة له ، تسلت أنفسهم و تعلقت بمطلوب آخر .
   
فلا يقف على درجة العشق الموجب للتمسك بتلك الصورة ، العامي عن عيوبها ، إلا جامداً واقفاً .
   
و أما أرباب الأنفة من النقائص ، فإنهم أبداً في الترقي ، لا يصدهم صاد ، فإذا علقت الطباع محبة شخص لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر ، بل ربما مالوا ميلاً شديداً إما في البداية لقلة التفكر أو لقلة المخالطة و الاطلاع على العيوب ، و إما لتشتت بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين ، كالظريف مع الظريف ، و الفطن مع الفطن ، فيوجب ذلك المحبة .
   
فأما العشق فلا فهم أبداً في السير فلا يوقف وابل الطبع تتبع حادي الفهم ، فإن للطبع متعلقاً لا تجده في الدنيا ، لأنه يروم مالا يصح وجوده من الكمال في الأشخاص ، فإذا تلمح عيوبها نفر .
   
و أما متعلق القلوب من محبة الخالق البارئ ، فهو مانع لها من الوقوف مع سواء . و إن كانت محبة لا تجانس محبة المخلوقين ، غير أن أرباب المعرفة ولهى قد شغلهم حبه عن حب غيره .
   
و صارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب و محبتها كما قالت رابعة :
   
أحب حبيباً لا أعاب بحبه       و أحببيهم من في هواه عيوب
   
و لقد روي عن بعض فقراء الزهاد أنه مر بإمرأة فأعجبته ، فخطبها إلى أبيها ، فزوجه و جاء به إلى المنزل و ألبسه غير خلقانه .
   
فلما جن الليل صاح الفقير : ثيابي ثيابي . فقدت ما كنت أجده ، فهذه عثرة في طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة .
   
و إنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله عز وجل و أهل الأنفة من الرذائل .
   
و قد قال ابن مسعود : [ إذا أعجبت أحدكم إمرأة فليتذكر مثانتها ] .
   
و مثال هذه الحال أن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام عن التفكر في تقلبه في الفم و بلعه .
   
و يذهل عند الجماع عن ملاقات القاذورات لقوة غلبة الشهوة ، و ينسى عند بلع الرضاب إستحالته عن الغذاء ، و في تغطية تلك الأحوال مصالح .
   
إلا أن أرباب اليقظة يعتريهم من غير طلب له في غالب أحوالهم ، فينغض لذيذ العيش ، و يوجب الأنفة من رذالة الهوى .
   
و على قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق ، و على قدر جمود الذهن يقوى القلق ، قال المتنبي :
   
لو فكر العاشق في منتهى       حسن الذي يسببه لم يسبه
   
و مجموع ما أرادت شرحه ، أن طباع المتيقظين تترقى فلا تقف مع شخص مستحسن .
   
و سبب ترقيها التفكر في نقص ذلك الشخص و عيوبه ، أو في طلب ما هو أهم منه .
   
و قلوب العارفين تترقى إلى معروفها ، فتعبر في معبر الإعتبار .
   
فأما أهل الغفلة فجمودهم في الحالتين ، و غفلتهم عن المقامين ، يوجب أسرهم و قسرهم و حيرتهم .

 

·       فصل : دعاء الخاشعين


   
عرض لي أمر يحتاج إلى سؤال الله عز وجل و دعائه ، فدعوت و سألت فأخذ بعض أهل الخير يدعون معي ، فرأيت نوعاً من أثر الإجابة .
   
فقالت لي نفسي : هذا بسؤال ذلك العبد لا بسؤالك ، فقلت لها : أما أنا فإني أعرف من نفسي من الذنوب و التقصير ما يوجب منع الجواب ، غير أنه لا يجوز أن يكون أنا الذي أجبت ، لأن هذا الداعي الصالح سليم مما أظنه من نفسي ، لأن معي إنكسار تقصيري و معه الفرح بمعاملته .
   
و ربما كان الإعتراف بالتقصير أنجح في الحوائج ، على أنني أنا و هو نطلب من الفضل ، لا بأعمالنا ، فإذا وقفت أنا على قدم الإنكسار معترفاً بذنوبي و قلت أعطوني بفضلكم فمالي في سؤالي شيء أمت به . و ربما تلمح ذاك حسن عمله و كان صاداً له . فلا تكسريني أيتها النفس فيكفيني كسر علمي بي لي .
   
و معي من العلم للأدب ، و الإعتراف بالتقصير ، و شدة الفقر إلى ما سألت ، و يقيني بفضل المطلوب عنه ، ما ليس مع ذلك العابد . فبارك الله في عبادته . فربما كان إعترافي بتقصيري أوفى .

 

·       فصل : قمة التدبر


   
قرأت من غرائب العلم ، و عجائب الحكم ، على بعض من يدعي العلم ، فرأيته يتلوى من سماع ذلك ، و لا يطلع على غوره ، و لا يشرئب إلى ما يأتي ، فصدفت عن إسماعه شيئاً آخر و قلت : إنما يصلح مثل هذا الذي لب يتلقاه تلقي العطشان الماء .
   
ثم أخذت من هذه إشارة هي أنه لو كان هذا يفهم ما جرى و مدحني لحسن ما صنعت لعظم قدره عندي ، و لأريته محاسن مجموعاتي و كلامي . و لكنه لما لم أره لها أهلاً صرفتها عنه ، و صدفت بنظري إليه .
   
و كانت الإشارة : أن الله عز وجل ، قد صنف هذه المخلوقات فأحسن التركيب ، و أحكم الترتيب ، ثم عرضها على الألباب ، فأي لب أو غل في النظر مدح على قدر فهمه فأحبه المصنف ، و كذلك أنزل القرآن يحتوي على عجائب الحكم ، فمن فتشه بيد الفهم . و حادثة في خلوة الفكر ، استجلب رضى المتكلم به و حظي بالزلفى لديه .
   
و من كان للذهن مستغرق الفهم بالحسيات ، صرف عن ذلك المقام . قال الله عز وجل : سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق .

 

·       فصل : الهمة العالية

 
   
دعوت يوماً فقلت : اللهم بلغني آمالي من العلم و العمل ، و أطل عمري لأبلغ ما أحب من ذلك .
   
فعارضني وسواس من إبليس ، فقال : ثم ماذا ؟ أليس الموت ؟ فما الذي ينفع طول الحياة ؟ .
   
فقلت له : يا أبله : لو فهمت ما تحت سؤالي علمت أنه ليس بعبث .
   
أليس في كل يوم يزيد علمي و معرفتي فتكثر ثمار غرسي ، فأشكر يوم حصادي ؟ .
   
أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة ؟ لا و الله ، لأني ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتي به اليوم .
   
كل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية ، و ارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة ، و اطلعت على علوم زاد بها قدري ، و تجوهرت بها نفسي .
   
ثم زاد غرسي لآخرتي ، و قويت تجارتي في إنفاذ المباضعين من المتعلمين و قد قال الله لسيد المرسلين : و قل رب زدني علماً .
   
و في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً .
   
و في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن من السعادة أن يطول عمر العبد و يرزقه الله عز وجل الإنابة .
   
فيا ليتني قدرت على عمر نوح ، فإن العلم كثير ، و كلما حصل منه حاصل رفع و نفع .

 

·       فصل : في الأسباب و المسببات


   
قلوب العارفين يغار عليها من الأسباب و إن كانت لا تساكنها لأنها لما إنفردت لمعرفتها أنفرد لها بتولي أمورها .
   
فإذا تعرضت بالأسباب محى أثر الأسباب : و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً .
   
و تأمل في حال يعقوب و حذره على يوسف عليهم السلام ، حتى قال : أخاف أن يأكله الذئب فقالوا : أكله الذئب .
   
فلما جاء أوان الفرج ، خرج يهوذا بالقميص فسبقه الريح إني لأجد ريح يوسف .
   
و كذلك قول يوسف عليه السلام للساقي : اذكرني عند ربك فعوقب بأن لبث سبع سنين ، و إن كان يوسف عليه السلام يعلم أنه لا خلاص إلا بإذن الله ، و أن التعرض بالأسباب مشروع ، غير أن الغيرة أثرت في العقوبة .
   
و من هذا قصة مريم عليها السلام و كفلها زكريا فغار المسبب من مساكنة الأسباب كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً .
   
و من هذا القبيل ما يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب .
   
و الأسباب طريق ، و لا بد من سلوكها . و العارف لا يساكنها غير أنه يجلي له من أمرها ما لا يجلي لغيره ، من أنها لا تساكن ، و ربما عوقب إن مال إليها و إن كان ميلاً لا يقبله ، غير أن أقل الهفوات يوجب الأدب ، و تأمل عقبي سليمان عليه السلام لما قال : [ لأطوقن الليلة على مائة إمرأة ، تلد كل واحدة منهن غلاماً و لم يقل : إن شاء الله ، فما حملت إلا واحدة جاءت بشق غلام ] .
   
و لقد طرقني حالة أوجبت التشبث ببعض الأسباب إلا أنه كان من ضرورة ذلك لقاء بعض الظلمة ، و مداراته بكلمة . فبينا أنا أفكر في تلك الحال دخل علي قارئ فاستفتح فتفاءلت بما يقرأ فقرأ و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون .
   
فبهت من إجابتي على خاطري ، و قلت لنفسي : إسمعي فإنني طلبت النصر في هذه المداراة فأعلمني القرآن أنني إذا ركنت إلى ظالم فاتنى ما ركنت لأجله من النصر .
   
فيا طوبى لمن عرف المسبب و تعلق به ، فإنها الغاية القصوى ، فنسأل الله أن يرزقنا .

 

·       فصل : المؤمن و الذنب


   
المؤمن لا يبالغ في الذنوب و إنما يقوى الهوى و تتوقد نيران الشهوة فينحدر .
   
و له مداد لا يعزم المؤمن على مواقعته ، و لا على العود بعد فراغه . و لا يستقصي في الإنتقام إن غضب ، و ينوي التوبة قبل الزلل .
   
و تأمل إخوة يوسف عليهم السلام فإنهم عزموا على التوبة قبل إبعاد يوسف فقالوا : اقتلوا يوسف ثم زاد ذلك تعظيماً فقالوا : أو اطرحوه أرضاً ثم عزموا على الإنابة فقالوا : و تكونوا من بعده قوماً صالحين . فلما خرجوا إلى الصحراء هموا بقتله بمقتضى ما في القلوب من الحسد .
   
فقال كبيرهم : لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابة الجب و لم يرد أن يموت بل يلتقطه بعض السيارة ، فأجابوا إلىذلك .
   
و السبب في هذه الأحوال أن الإيمان على حسب قوته ، فتارة يردها عند الهم ، و تارة يضعف فيردها عند العزم ، و تارة عن بعض الفعل ، فإذا غلبت الغفلة ، و واقع لذنب ، فتر الطبع ، فنهض الإيمان للعمل ، فينغص بالندم أضعاف ما التذ .

 

·       فصل : الغرور في العلم


   
أفضل الأشياء التزيد من العلم ، فإنه من اقتصر على ما يعلمه فظنه كافياً استبد برأيه ، و صار تعظيمه لنفسه مانعاً له من الاستفادة . و المذاكرة تبين له خطأه ، و ربما كان معظماً في النفوس فلم يتجاسر على الرد عليه .
   
و لو أنه أظهر الاستفادة لأهديت إليه مساويه فعاد عنها .
   
و لقد حكى ابن عقيل عن أبي المعالي الجويني أنه قال : [ إن الله تعالى يعلم جمل الأشياء و لا يعلم التفاصيل ] ، و لا أدري أي شبهة وقعت ، في وجه هذا المسكين حتى قال هذا .
   
و كذلك أبا حامد حين قال : النزول التنقل ، و الاستواء مماسة ـ و كيف أصف هذا بالفقه ، أو هذا بالزهد ، و هو لا يدري ما يجوز على الله مما لا يجوز .
   
و ل أنه ترك تعظيم نفسه لرد صبيان الكتاب رأيه عليه ، فبان له صدقهم .
   
و من هذا الفن أبو بكر بن مقسم : فإنه عمل كتاب الاحتجاج للقراء ، فأتى فيه بفوائد ، إلا أنه أفسد علمه بإجازته أن يقرأ بما لم يقرأ به ، ثم تفاقم ذلك منه حتى أجاز ما يفسد المعنى ، مثل قوله تعالى : فلما استيأسوا منه خلصوا . فقال : يصلح أن يقال هنا نجياً أي خلصوا كراماً براد من السرقة .
   
و هذا سوء فهم للقصة ، فإن الذي نسب إلى السرقة فظهرت معه ما خلص ، فما الذي ينفع خلاصهم ؟
   
و إنما سيقت القصة ليبين أنهم انفردوا و تشاوروا فيما يصنعون ، و كيف يرجعون إلى أبيهم و قد احتبس أخوهم .
   
فأي وجه للنجاة ها هنا ؟
   
و من تأمل كتابه رأى فيه من هذا الجنس ما يزيد على الإحصاء من هذا الفن القبيح ، و لو أنه أصغى إلىعلماء وقت ، و ترك تعظيم نفسه لبان له الصواب ، غير أن إقتصار الرجل على علمه إذا مازجه نوع رؤية للنفس حبس عن إدراك الصواب نعوذ بالله من ذلك .

 

·       فصل : المن بالعبادة


   
تأملت قوله عز وجل : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان فرأيت فيه معنى عجيباً .
   
و هو أنهم لما و هبت لهم العقول فتدبروا بها عيب الأصنام ، و علموا أنها لا تصلح للعبادة ، فوجهوا العبادة إلى من فطر الأشياء ، كانت هذه المعرفة ثمرة العقل الموهوب الذي به باينوا البهائم .
   
فإذا آمنوا بفعلهم الذي ندب إليه العقل الموهوب ، فقد جهلوا قدر الموهوب ، و غفلوا عن وهب .
   
و أي شيء لهم في الثمرة و الشجرة ليس ملكاً لهم ؟
   
فعلى هذا كل متعبد و مجتهد في علم إنما رأى بنور اليقظة ، و قوة الفهم و العقل صوابا ،فوقع على المطلوب ، فينبغي أن يوجه الشكر إلى من بعث له في ظلام الطبع القبس .
   
و من هذا الفن حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار ، فانحطت عليهم صخرة فسدت باب الغار ، فقالوا : تعالوا نتوسل بصالح أعمالنا ، فقال كل منهم : فعلت كذا وكذا . و هؤلاء إن كانوا لاحظوا نعمة الواهب للعصمة عن الخطأ فتوسلوا بإنعامه عليهم الذي أوجب تخصيصهم بتلك النعمة عن أبناء جنسهم ، فبه توسلواإليه .
   
و إن كانوا لا حظوا أفعالهم ، فلمحوا جزاءها ظناً منهم أنهم هم الذين فعلوا فهم أهل غيبة لا حضور .
   
و يكون جواب مسألتهم لقطع مننهم الدائمة .
   
و مثل هذا رؤية المتقي تقواه حتى إنه يرى أنه أفضل من كثير من الخلق .
   
و ربما احتقر أهل المعاصي و تشمخ عليهم . و هذه غفلة عن طريق السلوك ، و ربما أخرجت .
   
و لا أقول لك خالط الفساق احتقاراً لنفسك . بل أغضب عليهم في الباطن و أعرض عنهم في الظاهر . ثم تلمح جريان الأقدار عليهم . فأكثرهم لا يعرف من عصى .
   
و جمهورهم لا يقصد العصيان ، بل يريد موافقة هواه ، و عزيز عليه أن يعصي . و فيهم من غلب تلمح العفو و الحلم فاحتقر ما يأتي لقوة يقينه بالعفو .
   
و هذه كلها ليست بأعذار لهم ، و لكن تلمحه أنت يا صاحب التقوى ، و اعلم أن الحجة عليك أوفى من الحجة عليهم ، لأنك تعرف من تعصى ، و تعلم ما تأتي .
   
بل انظر إلى تقليب القلوب بين إصبعين فربما دارت الدائرة فصرت المنقطع و وصل المقطوع .
   
فالعجب ممن يدل بخير عليه ، و ينسى من أنعم و وفق .

 

·       فصل : أهل البدع و التشبيه


   
اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول ، محروس القواعد ، لا خلل فيه و لا دخل ، و كذلك كل الشرائع .
   
إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال .
   
مثل ما أثر عند النصارى حين رأوا إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام فتأملوا الخارق للعادة الذي لا يصلح للبشر ، فنسبوا الفاعل إلى الإلهية .
   
و لو تأمل ذاته لعلموا أنها مركبة على النقائص و الحاجات ، و هذا القدر يكفي في عدم صلاح إلهية ، فيعلم حينئذ ما جرى على يديه فعل غيره .
   
وقد يؤثر ذلك في الفروع . مثل ما روي أنه فرض على النصارى صوم شهر فزادوه عشرين يوماً ، ثم جعلوه في فصل من السنة بآرائهم .
   
و من هذا الجنس تخبيط اليهود في الأصول و الفروع ، و قد قارب الضلال في أمتنا هذه المسالك ، و إن كان عمومهم قد حفظ من الشرك و الشك و الخلاف الظاهر الشنيع لأنهم أعقل الأمم و أفهمها .
   
غير أن الشيطان قارب بهم و لم يطمع في إغراقهم ، و إن كان قد أغرق بعضهم في بحار الضلال . فمن ذلك أن الرسول صلى الله عليه و سلم : جاء بكتاب عزيز من الله عز وجل قيل في صفته : ما فرطنا في الكتاب من شيء و بين ما عساه بشكل مما يحتاج إلى بيانه بسنته كما قيل له : لتبين للناس ما نزل إليهم فقال بعد البيان : تركتكم على بيضاء نقية . فجاء أقوام فلم يقنعوا بتبيينه ، و لم يرضوا بطريقة أصحابه ، فبحثوا ثم إنقسموا .
   
فمنهم : من تعرض لما تعب الشرع في إثباته في القلوب فمحاه منها ، فإن القرآن و الحديث يثبتان الإله عز وجل بأوصاف تقرر وجوده في النفوس كقوله تعالى : استوى على العرش و قوله تعالى : بل يداه مبسوطتان و قوله تعالى و لتصنع على عيني و قول النبي صلى الله عليه و سلم : ينزل الله إلى السماء الدنيا و يبسط يده لمسيء الليل و النهار ، و يضحك و يغضب .
   
كل هذه الأشياء ـ و إن كان ظاهراً يوجب تخايل التشبيه ، فالمراد منها إثبات موجود فلما علم الشرع ما يطرق القلوب من التوهمات عند سماعها ، قطع ذلك بقوله : ليس كمثله شيء .
   
ثم إن هؤلاء القوم عادوا إلى القرآن الذي هو المعجز الأكبر ، و قد قصد الشرع تقرير وجوده فقال : إنا أنزلناه نزل به الروح الأمين فذرني و من يكذب بهذا الحديث و هذا كتاب أنزلناه و أثبته في القلوب بقوله تعالى : في صدور الذين أوتوا العلم و في المصاحف قوله تعالى : في لوح محفوظ و قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو .
   
فقال قوم من هؤلاء : مخلوق فأسقطوا حرمته من النفوس ، و قالوا : لم ينزل ، و لا يتصور نزوله و كيف تنفصل الصفة عن الموصوف ، و ليس في المصحف إلا حبر و ورق ؟ فعادوا على ما تعب الشرع في إثباته بالمحو .
   
كما قالوا : إن الله عز وجل ليس في السماء ، و لا يقال إستوى على العرش . و لا ينزل إلى السماء الدنيا ، بل ذاك رحمته ، فمحوا من القلوب ما أريد إثباته فيها ، و ليس هذا مراد الشرع .
   
و جاء آخرون فلم يقفوا على ما حده الشرع ، بل عملوا فيه بآرائهم فقالوا : الله على العرش ، و لم يقنعوا بقوله : ثم استوى على العرش .
   
و دفن لهم أقوام من سلفهم دفائن ، و وضعت لهم الملاحدة أحاديث ، فلم يعلموا ما يجوز عليه ممالا يجوز ، فأثبتوا بها صفاته ، و جمهور الصحيح منها آت على توسع العرب ، فأخذوهم على الظاهر ، فكانوا في ضرب المثل كجحا فإن أمه قالت له : إحفظ الباب ، فقلعه و مشى به ، فأخذ ما في الدار ، فلامته أمه . فقال : إنما قلت إحفظ الباب ، و ما قلت إحفظ الدار .
   
و لما تخايلوا صورة عظيمة على العرش ، أخذوا يتأولون ما ينافي وجودها على العرش ، مثل قوله : [ و من أتاني يمشي ، أتيته هرولة ] . فقالوا : ليس المراد به دنو الإقتراب ، و إنما المراد قرب المنزل و الحظ .
   
و قالوا في قوله تعالى : إلا أن يأتيهم الله في ظلل : هو محمول على ظاهرها في مجيء الذات . فهم يحلونه عاماً و يحرمونه عاماً .
   
و يسمون الإضافات إلى الله تعالى صفات ، فإنه قد أضاف إليه النفخ و الروح .
   
و أثبتوا خلقه باليد ، فلو قالوا خلقه لم يمكن إنكار هذا بل قالوا هي صفة تولى بها خلق آدم دون غيره .
   
فأي مزية كانت تكون لآدم ؟
   
فشغلهم النظر في فضيلة آدم ، عن النظر إلى ما هو يليق بالحق مما لا يليق به .
   
فإنه لا يجوز عليه المس ، و لا العمل بالآلات ، و إنما آدم أضافه إليه ، فقالوا : نطلق على الله تعالى إسم الصورة لقوله : خلق آدم على صورته .
   
و فهموا هذا الحديث و هو قوله عليه السلام : إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ، و لا يقل قبح الله وجهك و لا وجهاً أشبه وجهك ، فإن الله خلق آدم على صورته .
   
فلو كان المراد به الله عز وجل لكان وجه الله سبحانه يشبه وجه هذا المخاصم لأن الحديث كذا جاء ـ و لا وجهاً أشبه وجهك ـ و رووا حديث خولة بنت حكيم : و إن آخر وطئة وطئها الله بوج و ما علموا النقل و لا السير و قول الرسول صلى الله عليه و سلم : اللهم أشدد وطأتك على مضر ، و أن المراد به آخر وقعة قاتل فيها المسلمون بوج ، و هي غزاة حنين . فقالوا : نحمل الخبرعلى ظاهره ، و أن الله وطئ ذلك المكان .
   
و لا شك أن عندهم أن الله تعالى كان في الأرض ثم صعد إلى السماء ، و كذلك قالوا في قوله إن الله لا يمل حتى تملوا قالوا : يجوز أن الله يوصف بالملل فجهلوا اللغة و ما علموا أنه لو كانت حتى ههنا للغاية لم تكن بمدح لأنه إذا مل حين يمل فأي مدح ، و إنما هو كقول الشاعر :
   
جلبت مني هزيل بخرق       لا يمل الشر حتى يملوا
   
و المعنى لا يمل و إن ملوا .
   
و قالوا في قوله عليه الصلاة السلام : الرحم شجنة من الرحمن تتعلق بحقوي الرحمن . فقالوا ـ الحقوا ـ صفة ذات و ذكروا أحاديث لو رويت في نقض الوضوء ما قبلت .
   
و عمومها وضعته الملاحدة كما يروى عن عبد الله بن عمرو . و قال : [ خلق الله الملائكة من نور الذراعين و الصدر ] فقالوا : نثبت هذا على ظاهره . ثم أرضوا العوام بقولهم : و لا نثبت جوارح ، فكأنهم يقولون فلان قائم و ما هو قائم .
   
فاختلف قولهم هل يطلق على الله عز وجل إنه جالس أو قائم كقوله تعالى : قائماً بالقسط .
   
و هؤلاء أخس فهماً من جحا لأن قوله قائماً بالقسط لا يراد به القيام و إنما هو كما يقال : الأمير قائم بالعدل .
   
و إنما ذكرت بعض أقوالهم لئلا يسكن إلى شيء منها . فالحذر من هؤلاء عبادة .
   
و إنما الطريق طريق السلف . على أنني أقول لك قد قال أحمد بن حنبل رحمه الله عليه [ من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال ] .
   
فلا ينبغي أن تسمع من معظم في النفوس شيئاً في الأصول فتقلده فيه .
   
و لو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة فقل : هذا من الراوي ، لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من رأيه .
   
فلو قدرنا صحته عنه فإنه لا يقلد في الأصول و لا أبوبكر و لا عمر رضي الله عنهما .
   
فهذا أصل يجب البناء عليه فلا يهولنك ذكر معظم في النفوس .
   
و كان المقصود من شرح هذا أن ديننا سليم ، و أنما أدخل أقوام فيه ما تأذينا به .
   
و لقد أدخل المتزهدون في الدين ما ينفر الناس ، حتى إنهم يرون أفعالهم فيستعبدون الطريق .
   
و أكثر أدلة هذه الطريق القصاص ، فإن العامي إذا دخل إلى مجلسهم و هو لا يحسن الوضوء كلموه بدقائق الجنيد ، و إرشادات الشبلي . فرأى ذلك العامي أن الطريق الواضح لزوم زاوية و ترك الكسب للعائلة و مناجاة الحق في خلوة على زعمه .
   
مع كونه لا يعرف أركان الصلاة ، و لا أدبه العلم ، و لا قوم أخلاقه شيء من مخالطة العلماء .
   
فلا يستفيد من خلوته إلا كما يستفيد الحمار من الإصطبل.
   
فأن امتد عليه الزمان في تقلله زاد يبسه فربما خايلت له الماليخوليا أشباحاً يظنهم الملائكة ثم يطأطئ رأسه ، و يمد يده للتقبيل .
   
فكم قد رأينا من أكار ترك الزرع و قعد في زاوية ، فصار إلى هذه الحالة فاستراح من تعبه .
   
فلو قيل له : عد مريضاً ، قال : مالي عادة . فلعن الله عادة تخالف الشريعة .
   
فيرى العامة بما يورده القصاص أن طريق الشرع هذه ، لا التي عليها الفقهاء ، فيقعون في الضلال .
   
و من المتزهدين من لا يبالي عمل بالشرع أم لا .
   
ثم يتفاوت جهالهم ، فمنهم من سلك مذهب الإباحة و يقول : الشيخ لا يعارض ، و ينهمك في المعاصي .
   
و منهم : من يحفظ ناموسه فيفي بغير علم ، لئلا يقال : الشيخ لا يدري .
   
و لقد حدثني الشيخ أبو حكيم رحمه الله : أن الشريف الدحالتي ـ و كان يقصد فيزار و يتبرك به ـ حضر عنده يوماً فسأل أبو حكيم : هل تحل المطلقة ثلاثاً إذا ولدت ذكراً ؟ قال :
   
فقلت : لا و الله ، فقال لي الشريف : اسكت فو الله لقد أفتيت الناس بأنها تحل من ههنا إلى البصرة .
   
و حكى لي الشيخ أبو حكيم : أن جد آذاذ الحداد ، و كان يتوسم بالعلم ، جاءت إليه امرأة فزوجها من رجل ، و لم يسأل عن انقضاء العدة ، فاعترضها الحاكم و فرق بينها و بين الزوج ، و أنكر على المزوج ، فلقيته المرأة . فقالت يا سيدي ، أنا امرأة لا أعلم ، فكيف زوجتني ؟ فقال [ دعي حديثهم ، ما أنت إلا طاهرة مطهرة ] .
   
و حدثني بعض الفقهاء عن رجل من العباد أنه كان يسجد للسهو سنين ، و يقول : و الله ما سهوت ، و لكن أفعله احترازاً ، فقال له الفقيه : قد بطلت صلاتك كلها ، لأنك زدت سجوداً غير مشروع .
   
ثم من الدخل الذي دخل ديننا طريق المتصرفة فإنهم سلكوا طرقاً أكثرها تنافي الشريعة ، و أهل التدين منهم يقللون و يخففون .
   
و هذا ليس بشرع ، حتى إن رجلاً كان قريباً من زماني يقال له كثير ، دخل إلى جامع المنصور و قال : عاهدت الله عهداً و نقضته ، فقد ألزمت نفسي ألا تأكل أربعين يوماً .
   
فحدثني من رآه أنه بقي عشرة أيام في العشر الرابع ، أشرف على الموت ، قال : فما إنقضت حتى تفرغ ، فصب في حلقه ماء فسمعنا له نشيشاً كنشيش المقلاة ، ثم مات بعد أيام .
   
فأنظروا إلى هذا المسكين و ما فعله به جهلة .
   
و منهم من فسح لنفسه في كل ما يحب من التنعم و اللذات ، و اقتنع من التصوف بالقميص و الفوطة و العمامة اللطيفة و لم ينظر من أين يأكل و لا من أين يشرب ، و خالط الأمراء من أرباب الدنيا ، و لباس الحرير ، و شراب الخمور ، حفظاً لماله و جاهه .
   
و منهم أقوام سنناً لهم تلقوها من كلمات أكثرها لا يثبت .
   
و منهم من أكب على سماع الغناء و الرقص و اللعب ، ثم إنقسم هؤلاء ، فمنهم من يدعي العشق فيه ، و منهم من يقول بالحلول ، و منهم من يسمع على وجه الهوى و اللعب .
   
و كلا الطريقين يفسد العوام الفساد العام .
   
و هذا الشرح يطول . و قد صنفت كتباً ترى فيها البسط الحسن إن شاء الله تعالى ، منها [ تلبيس إبليس ] .
   
و المقصود أن تعلم أن الشرع تام كامل فإن رزقت فهماً له فأنت تتبع الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، و تترك بنيات الطريق و لا تقلد في دينك الرجال . فإذا فعلت فإنك لا تحتاج إلى وصية أخرى .
   
و إحذر جمود النقلة ، و إنبساط المتكلمين ، و جموع المتزهدين ، و شره أهل الهوى ، و وقوف العلماء على صورة العلم من غيل عمل ، و عمل المتعبدين بغير علم .
   
و من أيده الله تعالى بلطفه ، رزقه الفهم و أخرجه عن ربقة التقليد ، و جعله أمة وحده في زمانه ، لا يبالي بمن عبث ، و لا يلتفت إلى من لام ، قد سلم زمامه إلى دليله في واضح السبيل .
   
عصمنا الله و إياكم من تقليد المعظمين ، و ألهمنا إتباع الرسول صلى الله عليه و سلم ، فإنه درة الوجود ، و مقصود الكون صلى الله عليه و سلم و على آله و أصحابه و أتباعه ، و رزقنا إتباعه مع أتباعه .

 

·       فصل : طبيعة الزمن

 
   اعلم أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل : و تلك الأيام نداولها بين الناس .
   
فتارة فقر و تارة غنى ، و تارة عز ، و تارة ذل ، و تارة يفرح الخوالي ، و تارة يشمت الأعادي .
   
فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال ، و هو تقوى الله عز وجل فإنه إن استغنى زانته ، و إن إفتقر فتحت له أبواب الصبر ، و إن عوفي تمت النعمة عليه ، و إن إبتلى حملته ، و لا يضره إن نزل به الزمان أو صعد ، أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه .
   
لأن جميع تلك الأشياء تزول و تتغير . و التقوى أصل السلامة حارس لا ينام ، يأخذ باليد عند العثرة و يواقف على الحدود .
   
و المنكر من غرته لذة حصلت مع عدم التقوى فإنها ستحول و تخلية خاسراً .
   
و لازم التقوى في كل حال فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة ، و في المرض إلا العافية . هذا نقدها العاجل . و الآجل معلوم .

 

·       فصل : جاهد هواك

 
   تأملت أمراً عجيباً ، و أصلاً ظريفاً ، و هو انهيال الابتلاء على المؤمن ، و عرض صورة اللذات عليه مع قدرته على نيلها . و خصوصاً ما كان في غير كلفة من تحصيله كمحبوب موافق في خلوة حصينة .
   
فقلت : سبحان الله ، ههنا يبين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين .
   
و الله ما صعد يوسف عليه السلام و لا سعد إلا في مثل ذلك المقام ، فبالله عليكم يا إخواني ، تأملوا حاله لو كان وافق هواه ، من كان يكون ؟
   
و قيسوا بين تلك الحالة ، و حالة آدم عليه السلام ، ثم زنوا بميزان العقل عقبي تلك الخطيئة ، و ثمرة هذا الصبر ، و اجعلوا فهم الحال عدة لكم عند كل مشتهى .
   
و إن اللذات لتعرض على المؤمن ، فمتى لقيها في صف حربه و قد تأخر عنه عسكر التدبر للعواقب هزم .
   
و كأني أرى الواقع في بعض أشراكها ، و لسان الحال يقول له : قف مكانك ، أنت و ما إخترت لنفسك .
   
فغاية أمره الندم و البكاء .
   
فإن أمن إخراجه من تلك الهوة لم يخرج إلا مدهوناً بالخدوش .
   
و كم من شخص زلت قدمه ، فما ارتفعت بعدها .
   
و من تأمل ذل إخوة يوسف عليهم السلام يوم قالوا : و تصدق علينا عرف شؤم الزلل .
   
و من تدبر أحوالهم قاس ما بينهم و بين أخيهم من الفروق . و إن كانت توبتهم قبلت ، لآنه ليس من رقع و خاط ، كمن ثوبه صحيح .
   
و رب عظم هيض لم ينجبر ، فإن جبر فعلى و هي .
   
فتيقظوا إخواني لعرض المشتبهات على النفوس ، و استوثقوا من لجم الخيل ، و انتبهوا للغيم إذا تراكم بالصعود إلى تلعة .
   
فربما مد الوادي فراح بالركب .

 

·       فصل : سر إجابة الدعاء

 
   
تأملت حالة عجيبة ، و هي : أن المؤمن تنزل به النازلة فيدعو ، و يبالغ ، فلا يرى أثراً للاجابة .
   
فإذا قارب اليأس نظر حينئذ إلى قلبه ، فإن كان راضياً بالأقدار ، غير قنوط من فضل الله عز وجل ، فالغالب تعجيل الإجابة حينئذ ، لأن هناك يصلح . الإيمان و يهزم الشيطان ، و هناك تبين مقادير الرجال .
   
و قد أشير إلى هذا في قوله تعالى : حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه : متى نصر الله .
   
و كذلك جرى ليعقوب عليه السلام فإنه لما فقد ولداً ، و طال الأمر عليه ، لم ييأس من الفرج ، فأخذ ولده الآخر ، و لم ينقطع أمله من فضل ربه أن يأتيني بهم جميعاً .
   
و كذلك قال زكريا عليه السلام و لم أكن بدعائك رب شقيا .
   
فإياك أن تستطيل مدة الإجابة ، و كن ناظراً إلى أنه المالك ، و إلى أنه الحكيم في التدبير ، و العالم بالمصالح ، و إلى أنه يريد اختبارك ليبلو أسرارك ، و إلى أنه يريد أن يرى تضرعك ، و إلى أنه يريد أن يأجرك بصبرك ، إلى غير ذلك . و إلى أنه يبتليك بالتأخير لتجارب وسوسة إبليس .
   
و كل واحدة من هذه الأشياء تقوي الظن في فضله ، و توجب الشكر له ، إذ أهلك بالبلاء للالتفاف إلى سؤاله ، و فقر المضطر إلى اللجأ إليه غنى كله .

 

·       فصل : الغريزة

 
   
لما كان بدن الآدمي لا يقوم إلا باجتلاب المصالح و دفع المؤذي ، ركب فيه الهوى ، ليكون سبباً لجلب النافع . و الغضب ليكون سبباً لدفع المؤذي .
   
و لولا الهوى في المطعم ، ما تناول الطعام ، فلم يقم بدنه ، فجعل له إليه ميل و توق .
   
فإذا حصل له قدر ما يقيم بدنه زال التوق ، و كذلك في المشرب و الملبس و المنكح .
   
و فائدة المنكح من وجهين : أحدهما : إبقاء الجنس ، و هو معظم المقصود . و الثاني : دفع الفضلة المحتقنة المؤذي احتقانها .
   
و لولا تركيب الهوى المائل بصاحبه إلى النكاح ما طلبه أحد ، فمات النسل و آذى المحتقن .
   
فأما العارفون فإنهم فهموا المقصود ، و أما الجاهلون فإنهم مالوا مع الشهوة ، و الهوى ، و لم يفهموا مقصود وضعها ، فضاع زمانهم فيما لا طائل فيه ، و فاتهم ما خلقوا لأجله ، و أخرجهم هواهم إلىفساد المال ، و ذهاب العرض و الدين ، ثم أداهم إلى التلف .
   
و كم قد رأينا من متنعم يبالغ في شراء الجواري ، ليحرك طبعه بالمتجسد ، فما كان أسرع من أن وهنت قواه الأصلية فتعجل تلفه .
   
و كذلك رأينا من زاد غضبه فخرج عن الحد ففتك بنفسه و بمن يحبه .
   
فمن علم أن هذه الأشياء إنما خلقت إعانة للبدن على قطع مراحل الدنيا ، و لم تخلق لنفس الألتذاذ ، و إنما جعلت اللذة فيها كالحيلة في إيصال النفع بها إذ لو كان المقصود التنعم بها لما جعلت الحيوانات البهيمة أو في حظاً من الآدمي منها .
   
فطوبى لمن فهم حقائق الوضع ، و لم يمل له الهوى عن فهم حكم المخلوقات

 

·       فصل : سمة العصاة


   
من تأمل عواقب المعاصي رآها قبيحة .
   
و لقد تفكرت في أقوام أعرفهم يقرون بالزنا و غيره ، فأرى من تعثرهم في الدنيا مع جلادتهم ما لا يقف عند حد ، و كأنهم قد لبسوا ظلمة ، فالقلوب تنفر عنهم .
   
فإن اتسع لهم شيء فأكثره من مال الغير ، و إن ضاق بهم أمر أخذوا يتسخطون علىالقدر .
   
هذا و قد شغلوا بهذه الأوساخ عن ذكرالآخرة .
   
ثم عكست فتفكرت في أقوام صابروا الهوى ، و تركوا ما لا يحل .
   
فمنهم من قد أينعت له ثمرات الدنيا من قوت مستلذ ، و مهاد مستطاب ، و عيش لذيذ ، و جاء عريض ، فإن ضاق بهم أمر وسعه الصبر ، و طيبة الرضى ففهمت بالحال معنى قوله تعالى : إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .

 

·       فصل : إلزم باب مولاك

 
   
ينبغي للعاقل أن يلازم باب مولاه على كل حال و أن يتعلق بذيل فضله إن عصى و إن أطاع .
   
و ليكن له أنس في خلوته به ، فأن وقعت وحشة فليجتهد في رفع الموحش كما قال الشاعر :
   
أمستوحش أنت مما جنيت       فأحسن إذا شئت و استأنس
   
فإن رأى نفسه مائلاً إلى الدنيا طلبها منه ، أو إلى الآخرة سأله التوفيق للعمل لها .
   
فإن خاف ضرر ما يرومه من الدنيا سأل الله إصلاح قلبه ، وطب مرضه فإنه إذا صلح لم يطلب ما يؤذيه .
   
و من كان هكذا كان في العيش الرغد ، غير أن من ضرورة هذه الحال ملازمة التقوى ، فإنه لا يصلح الأنس إلا بها .
   
و قد كان أرباب التقوى يتشاغلون عن كل شيء إلا عن اللج و السؤال .
   
و في الخبر : أن قتيبة بن مسلم لما صاف الترك هاله أمرهم فقال : أين محمد بن واسع ؟ فقيل : هو في أقصى الميمنة جنح على سية قوسه ، يومي بأصبعه نحو السماء ، فقال قتيبة : تلك الإصبع الفاردة أحب إلي من مائة ألف سيف شهير ، و سنان طرير ، فلما فتح عليهم قال له : ما كنت تصنع ؟ قال : آخذ لك بمجامع الطرق .

 

·       فصل : كن حكيماً إزاء النعم

 
   
ينبغي لمن تظاهرة نعم الله عز وجل عليه أن يظهر منها ما يبين أثرها ، و لا يكشف جملتها ، و هذا من أعظم لذات الدنيا التي يأمر الحزم بتركها ، فإن العين حق .
   
و إني تفقدت النعم فرأيت إظهارها حلواً عند النفس ، إلا أنها إن أظهرت الوديد لم يؤمن تشعث باطنه بالغيظ .
   
و إن أظهرت لعدو فالظاهر غصابته بالعين لموضع الحسد ، إلا أنني رأيت شر الحسود كاللازم ، فإنه في حال البلاء يتشفى ، و في حال النعم يصيب بالعين .
   
و لعمري إن المنعم عليه يشتهي غيظ حسوده ، و لكنه لا يؤمن أن يخاطر بنعمته ، فإن الغالب إصابة الحاسد لها بالعين فلا يساوي الا لتذاذ بإظهار ما غيظ به ما أفسدت عينه بإصابتها .
   
و كتمان الأمور في كل حال فعل الحازم ، فإنه إن كشف مقدار سنة استهرموه إن كان كبيراً و إحتقروه إن كان صغيراً ، و إن كشف ما يعتقدناصبه الأضداد بالعداوة .
   
و إن كشف قدر ماله استحقروه إن كان قليلاً و حسدوه إن كان كثيراً و في هذه الثلاثة يقول الشاعر .
   
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة       سن و مال ما استطعت و مذهب
   
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة       بمموه و ممخرق و مكذب
   
و قس على ماذكرت مالم أذكره و لا تكن من المذاييع الغر الذين لا يحملون أسرارهم حتى يفشوها إلى من لا يصلح .
   
و رب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان .

 

·       فصل : لا تغتر بالظواهر

 
   رأيت كل من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلي ما عثر به ، فينظر إليه ، طبعاً موضوعاً في الخلق .
   
إما ليحذر منه أن جاز عليه مرة أخرى ، أو لينظر ـ مع احترازه و فهمه ـ كيف فاته التحرز من مثل هذا .
   
فأخذت من ذلك إشارة و قلت : يا من عثر مراراً هلا أبصرت ما الذي عثرك فاحترزت من مثله ، أو قبحت لنفسك مع حزمها تلك الواقعة .
   
فإن الغالب ممن يلتفت أن معنى التفاته كيف عثر مع احترازه بمثل ما أرى .
   
فالعجب لك كيف عثرت بمثل الذنب الفلاني و الذنب الفلاني ؟.
   
كيف غرك زخرف تعلم بعقلك باطنه ، و ترى بعين فكرك مآله ؟ كيف آثرت فانياً على باق ؟
   
كيف بعت بوكس ؟ كيف اخترت لذة رقدة على انتباه معاملة ؟.
   
آه لك لقد اشتريت بما بعت أحمال ندم لا يفلها ظهر ، و تنكيس رأس أمسى بعيد الرفع ، و دموع حزن على قبح فعل ما لمددها انقطاع .
   
و أقبح الكل ، أن يقال لك : بماذا ؟ و من أجل ماذا ؟ و هذا على ماذا ؟ يا من قلب الغرور عليه الصنجة ، و وزن له و الميزان راكب .

 

·       فصل : الهوى النور

 
   
تأملت قوله تعالى : فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى .
   
قال المفسرون : هداي رسول الله صلى الله عليه و سلم و كتابي .
   
فوجدته على الحقيقة أن كل من اتبع القرآن و السنة و عمل بما فيهما ، فقد سلم من الضلال بلا شك ، و ارتفع في حقه شقاه الآخرة بلا شك ، إذا مات على ذلك .
   
و كذلك شقاء الدنيا فلا يشقى أصلاً ، و يبين هذا قوله تعالى : و من يتق الله يجعل له مخرجاً .
   
فإن رأيته في شدة فله من اليقين بالجزاء ما يصير الصاب عنده عسلا ، و إلا غلب طيب العيش في كل حال .
   
و الغالب أنه لا ينزل به شدة إلا إذا انحرف عن جادة التقوى .
   
فأما الملازم لطريق التقوى فلا آفة تطرقه ، و لا بلية تنزل به ، هذا هو الأغلب .
   
فإن تدر من تطرقه مع التقوى ، فذاك في الأغلب لتقدم ذنب يجازي عليه ، فإن قدرنا عدم الذنب . فذاك لإدخال ذهب صبره كير البلاء ، حتى يخرج تبرأ أحمر ، فهو يرى عذوبه العذاب . لأنه يشاهد المبتلي في البلاء الآلم .
   
قال الشبلي : [ أحب الناس لنعمائك ، و أنا أحبك لبلائك ] .

 

·       فصل : آثار الذنوب

 
   
لا ينال لذة المعاصي إلا سكراناً بالغفلة .
   
فأما المؤمن فإنه لا يلتذ ، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علم التحريم ، و حذر العقوبة .
   
فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي ، فيتنغص عيشه في حال التذاذه .
   
فإن غلب سكر الهوى كان القلب متنغصاً بهذه المراقبات ، و إن كان الطبع في شهوته .
   
و ما هي إلى لحظة ، ثم خذ من غريم ، ندم ملازم ، و بكاء متواصل ، وأسف على ما كان من طول الزمان .
   
حتى إنه لو تيقن العفو و قف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها و ما أسوأ أخبارها ، و لا كانت شهوة لا تنال إلا بمقدار قوة الغفلة .

 

·       فصل : عزلة العالم عن الشر

 
   
بكرت يوماً أطلب الخلوة إلى جامع الرصافة ، فجعلت أجول و حدي و أتفكر في ذلك المكان و من كان به من العلماء و الصالحين .
   
و رأيت أقواماً قد جاوروا فيه فسألت أحدهم : منذ كم أنت ها هنا ؟ فأومأ إلي قريب من أربعين سنة .
   
فرأيته في بيت كثير الدرن و الوسخ ، و جعلت أتفكر في حبسه لنفسه عن النكاح هذه المدة ، فأخذت النفس تحسن ذلك ، و تذم الدنيا و الاغترار بها .
   
فأقبل العلم ينكر على النفس ، و نهض الفهم لحقائق الأمور ، و موضوع الشرع يقوي ما قال العلم . فينحل من ذلك أن قلت للنفس : اعلمي أن هؤلاء على ضربين . منهم من يجاهد نفسه في الصبر على هذه الأحوال ، فتفوته فضائل المخالطة لأهل العلم و العمل و طلب الولد ، و نفع الخلق ، و انتفاع نفسه بمجالسة أهل الفهم ، فيحدث له من حاله تشابه فيها الوحش فيؤثر الانفراد .
   
و ربما يبس الطبع ، و ساء الخلق ، و ربما حدث من حبس مائة المحتقن سميه من أفسدت بدنه وعقله ، و ربما أورثته الخلوة وسوسة ، و ربما ظن أنه من الأولياء واستغنى بما يعرفه ، و ربما خيل له الشيطان أشياء من الخيالات و هو يعدها كرامات ، ربما ظن أن الذي هو فيه الغاية لا يدري أنه إلى الكراهة أقرب .
   
فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم : نهى أن يبيت الرجل وحده ، و هؤلاء كل منهم يبيت وحده ، و نهى عن التبتل و هذا تبتل ، و نهىعن الرهبانية و هذا من خفىخدع إبليس التي يوقع بها في ورطات الضلالة بألطف وجه و أخفاه .
   
و الضرب الثاني : مشايخ قد فنوا فانقطعوا ضرورة ، إذ ليس لأحدهم مأوى . فهم في مقام الزمني .
   
و إن كان الضرب الأول قد قطعوا حبل نفوسهم في العلم و العمل و الكسب و تعلقت هممهم بفتوح يطرق عليهم الباب ، فرضوا بالعمى بعد البصر ، و بالزمن بعد الإطلاق قالت لي النفس : لا أرضى هذا الذي تقوله ، فإنك إنما تميل إلى إيثار نكاح المستحسنات و المطاعم المشتهيات . فإذا لم تكن من أهل التعبد فلا تطعن فيهم .
   
فقلت لها : إن فهمت حدثتك و إن كنت تقلدين صور الأحوال فلا فهم لك .
   
أما المستحسنات فإن المقصود من النكاح أشياء منها طلب الولد ، و منها شفاء النفس بإخراج الفضلة المؤذية ، و كمال خروجها لا يكون إلى بوجود المستحسن .
   
و اعتبر هذا بالوطء دون الفرج فإنه يخرج من الفضلات ما لا يخرج بالوطء في الفرج .
   
و بتمام خروج تلك الفضلة تفرغ النفس عن شواغلها فتدري أين هي .
   
كما نأمر القاضي بالأكل قبل الحكم ، و ننهاه عن الحكم و هو غضبان أو حاقن .
   
و بكمال بلوغ هذا الغرض يكون كمال الولد لتمام النطفة التي خلق منها .
   
ثم للنفس حظ فهو يستوفيه إستيفاء الناقة حظها من العلف في السفر ، و ذلك بعين على سيرها .
   
و أما المطاعم فالجاهل من يطلبها لذاتها أو لنفس لذاتها .
   
و إنما المراد إصلاح الناقة لجمع همها ، و نيل مرادها من غرضها الصارف لها عن الفكر في هواها .
   
و إذا تأملت حال الشرب الأول رأيت من هذا عجباً ، فإن النبي صلى الله عليه و سلم إختار لنفسه عائشة رضي الله عنها و كانت مستحسنة . [ و رأى زينب استحسنها ، فتزوجها ، و كذلك إختار صفية ، و كان إذا وصفت له إمرأة بعث يخطبها ] .
   
و كان لعلي رضي الله عنه أربع حرائر ، و سبع عشرة سرية مات عنهن .
   
و قبل هذه الأمة فقد كان لداود عليه السلام مائة إمرأة ، و لسليمان عليه السلام ألف إمرأة ، فمن ادعى خللاً في هذه الطرق ، أو أن هؤلاء آثروا هواهم ، و أنفقوا بضائع العمر في هذه الأغراض و غيرها أفضل ، فقد إدعى على الكاملين النقصان ، و إنما هو الناقص في فهمه لا هم .
   
و قد كان سفيان الثوري إذا سافر ففي سفرته حمل مشوية و فالوذج ، و كان حسن الطعم ، و كان يقول : [ إن الدابة إذا لم تحسن إليها لم تعمل ] .
   
و هذه الفنون التي أشرت إليها إن قصدت للحاجة إليها ، أو لقضاء و طر النفس منها ، أو لبلوغ الأغراض الدينية و الدنيوية منها ، فكله قصد صحيح لا يعكر عليه من يقوم و يقعد في ركعات لا يفهم معناها ، و في تسبيحات أكثر ألفاظها ردية .
   
كلا ليس إلا العلم الذي هو أفضل الصفات ، و أشرف العبادات ، و هو الأمر بالمصالح ، و الناطق بالنصائح .
   
ثم منفعة العلم معروفة ، و زهد الزاهد لا يتعدى عتبة بابه ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت الشمس .
   
ثم اعتبر فضل الرسل على الأنبياء عليهم الصلاة و السلام . و الجوارح على التي لا تصيد . و الطين منه ما ينتفع به على الطين في المقلع .
   
و غاية العلماء تصرفهم بالعلم في المباح ، و أكثر المتزهدين جهلة يستعبدهم تقبيل اليد لأجل تركهم ما أبيح .
   
فكم فوتت العزلة علماً يصلح به أهل الدين ، و كم أوقعت في بلية هلك بها الدين ، و إنما عزلة العالم عن الشر فحسب ، و الله الموفق .

 

·       فصل : عواقب المعاصي


   
يبغي لكل ذي لب و فطنة أن يحذر عواقب المعاصي . فإنه ليس بين الآدمي و بين الله تعالى قرابة و لا رحم ، و إنما هو قائم بالقسط ، حاكم بالعدل .
   
و إن كان حلمه يسع الذنوب . إلا أنه إذا شاء عفا فعفا كل كثيف من الذنوب ، و إذا شاء أخذ و أخذ باليسير ، فالحذر الحذر .
   
و لقد رأيت أقواماً من المترفين كانوا يتقلبون في الظلم و المعاصي باطنة و ظاهرة فتعبوا من حيث لم يحتسبوا .
   
فقلت أصولهم . و نقص ما بنوا من قواعد أحكموها لذراريهم .
   
و ما كان ذلك إلا لأنهم أهملوا جانب الحق عز وجل ، و ظنوا أن ما يفعلونه من خير يقاوم ما يجري من شر ، فمالت سفينة ظنونهم . فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم .
   
و رأيت أقواماً من المنتسبين إلى العلم أهملوا نظر الحق عز وجل إليهم في الخلوات .
   
فمحا محاسن ذكرهم في الخلوات . فكانوا موجودين كالمعدومين ، لا حلاوة لرؤيتهم ، و لا قلب يحن إلى لقائهم .
   
فالله الله في مراقبة الحق عز وجل . فإن ميزان عدله تبين فيه الذرة ، و جزاؤه مراصد للمخطئ و لو بعد حين .
   
و ربما ظن أنه العفو و إنما هو إمهال و للذنوب عواقب سيئة .
   
فالله الله الخلوات الخلوات .
   
البواطن البواطن . النيات النيات .
   
فإن عليكم من الله عيباً ناظرة .
   
و إياكم و الاغترار بحلمه و كرمه ، فكم قد استدرج .
   
و كونوا على مراقبة الخطايا ، مجتهدين في محوها .
   
و ما شيء ينفع كالتضرع مع الحمية عن الخطايا ، فلعله ...
   
و هذا فصل إذا تأمله المعامل لله تعالى نفعه .
   
و لقد قال بعض المراقبين لله تعالى : قدرت على لذة و ليست بكبيرة .
   
فنازعني نفسي إليه ، اعتماداً على صغرها ، و عظم فضل الله تعالى و كرمه .
   
فقلت لنفسي : إن غلبت هذه فأنت أنت ، و إذا أتيت هذه فمن أنت ؟
   
و ذكرتها حالة أقوام كانوا يفسحون لأنفسهم في مسامحة كيف انطوت أذكارهم ، و تمكن الإعراض عنهم .
   
فارعوت ، و رجعت عما همت به ، و الله الموفق .

 

·       فصل : استصغار الذنوب


   
كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها قريبة . و هي تقدح في الأصول كاستعارة طلاب العلم جزءاً لا يردونه .
   
و قصد الدخول يتسامحون على من يأكل ليأكل معه .
   
و التسامح بعرض العدو التذاذاً بذلك ، و استصغاراً لمثل هذا الذنب .
   
و إطلاق البصر استهانة بتلك الخطيئة .
   
و أهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطه من مرتبة المتميزين بين الناس ، و من مقام رفعه القدر عند الحق .
   [
أو فتوى من لا يعلم ، لئلا يقال : هو جاهل ، و نحو ذلك مما يظنه صغيراً و هو عظيم ] .
   
و ربما قيل له بلسان الحال : يا من اؤتمن على أمر يسير فخان . كيف ترجو بتدليك رضا الديان ؟
   
قال بعض السلف : [ تسامحت بلقمة فتناولتها ، فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف ] .
   
فالله الله ، اسمعوا ممن قد جرب ، كونوا على مراقبة . و انظروا في العواقب ، و اعرفوا عظمة الناهي . و احذروا من نفخة تحتقر ، و شررة تستصغر ، فربما أحرقت و بلداً . و هذا الذي أشرت إليه ، يسير يدل على كثير ، و أنموذج ، يعرف باقي المحقرات من الذنوب .
   
و العلم و المراقبة يعرفانك ما أخللت بذكره ، و يعلمانك إن تلمحت بعين البصيرة ، أثر شؤم فعله و لا حول و لا قوة إلا با الله العلي العظيم .

 

·       فصل : تب إلى الله ثم سله حوائجك

 
   رأيت من نفسي عجباً : تسأل الله عز وجل حاجاتها ، و تنسى جناياتها ؟
   
فقلت : يا نفس السوء أو مثلك ينطق ؟
   
فإن نطق فينبغي أن يكون السؤال فحسب .
   
فقالت : فممن أطلب مراداتي ؟ .
   
قلت : ما أمنعك من طلب المراد . إنما أقول حققي ، و انطقى .
   
كما نقول في العاصي بسفره إذا اضطر إلى الميتة لا يجوز له أن يأكل ، فإن قيل لنا : أفيموت ! قلنا : لا ، بل يتوب و يأكل .
   
فالله الله من جراءة على طلب الأغراض مع نسيان ما تقدم من الذنوب التي توجب تنكيس الرأس ، و لئن تشاغلت بإصلاح ما مضى و الندم عليه جاءتك مراداتك .
   
كما روى : [ من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ] .
   
و قد كان بشر الحافي يبسط يديه للسؤال ثم يسلبهما و يقول : مثلي لا يسأل [ ما أبقت الذنوب لي وجهاً ] .
   
و هذا يختص ببشر لقوة معرفته ، كان وقت السؤال كالمخاطب كفاحاً فإستحى للزلل .
   
فأما أهل الغفلة فسؤالهم على بعد ، فاقهم ما ذكرته ، و تشاغل بالتوبة من الزلل . ثم العجب من سؤالاتك فإنك لا تكاد تسأل مهما من الدنيا ، بل فضول العيش .
   
و لا تسأل صلاح القلب و الذين مثل ما تسأل صلاح الدنيا .
   
فاعقل أمرك فإنك من الانبساط و الغفلة على شفا جرف .
   
و ليكن حزنك على زلاتك شاغلاً لك عن مراداتك ، فقد كان الحسن البصري شديد الخوف ، فلما قيل له في ذلك قال :
   
و ما يؤمنني أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال اذهب لا غفرت لك .

 

·       فصل : دعوى المعرفة مع العبد عن العرفان


   
أعجب العجب دعوى المعرفة مع البعد عن العرفان .
   
بالله ، ما عرفه إلا من خاف منه ، فأما المطمئن فليس من أهل المعرفة .
   
و في المتزهدين أهل تغفيل ، يكاد أحدهم يوقن أنه ولي محبوب و مقبول .
   
و ربمات توالت [ عليه ] ألطاف ظنها كرامات و نسي الاستدراج الذي لفت مساكنته الألطاف .
   
و ربما احتقر غيره و ظن أن محلته محفوظة به ، تغره ركيعات ينتصب فيها ، أو عبادة ينصب بها .
   
و ربما ظن أنه قطب الأرض ، و أنه لا ينال مقامه بعده أحد .
   
و كأنه ما علم أنه نبينا موسى مكالم نبئ يوشع .
   
و بينا زكريا عليه السلام مجاب الدعوة نشر بالمنشار .
   
و بينا يحيى عليه السلام يوسف بأنه سيد سلط عليه كافر احتز رأسه .
   
و بينا بلعام معه الاسم الأعظم صار مثله كمثل الكلب .
   
و بينا الشريعة يعمل بها نسخت و بطل حكمها .
   
و بينا البدن معمور خرب و سلط البلى عليه .
   
و بينا العالم يدأب حتى ينال مرتبة يعتقدها ، نشأ طفل في زمانه ترقى إلى سبر عيوبه و غلطه .
   
كم من متكلم يقول : ما مثلي ! ! ، لو عاش فسمع ما حدث بعده من الفصاحة هد نفسه أخرساً .
   
هذا و عظ ابن السماك ، و ابن عمار ، و ابن سمعون ، لا يصلح لبعض تلامذتنا و لا يرضاه .
   
فكيف يعجب من ينفق شيئاً . و ربما أتى بعدنا من لا يعدنا ؟
   
فا الله الله من مساكنة مسكن ، و مخالفة مقام .
   
و ليكن المتيقظ على انزعاج ، محتقراً للكثير من طاعاته ، خائفاً على نفسه من تقلباته ، و نفوذ الأقدار فيه .
   
و اعلم أن تلمح هذه الأشياء التي أشرت إليها يضرب عنق العجب ، و يذهب كبر الكبر .

 

·       فصل : إنما يتباين الناس بنزول البلاء

 
   
من عاش مع الله عز وجل طيب النفس في زمن السلامة خفت عليه في زمن البلاء ، فهناك المحك .
   
إن الملك عز وجل بينا يعطي نقص ، و بينا يعطي سلب ، فطيب النفس و الرضى هناك يبين .
   
فأما من تواصلت لديه النعم فإنه يكون طيب القلب لتواصلها ، فإذا مسته نفحة من البلاء فبعيد ثيابه .
   
قال الحسن البصري : [ كانوا يتساوون في وقت النعم فإذا نزل البلاء تباينوا ] .
   
فالعقل من أعد ذخراً، و حصل زاداً ، من العدد للقاء حرب البلاء .
   
و لا بد من لقاء البلاء ، و لو لم يكن إلا عند صرعه الموت ، فإنها إن نزلت و العياذ بالله فلم تجد معرفة توجب الرضى أو الصبر ، أخرجت إلى الكفر .
   
و لقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة الخير و هو يقول في ليالي موته : ربي هو ذا يظلمني ، فلم أزل منزعجاً بتحصيل عدة ألقى بها ذلك اليوم .
   
كيف و قد روى أن الشيطان يقول لأعوانه في تلك الساعة : [ عليكم بهذا ، فإن فاتكم لم تقدروا عليه ] .
   
و أي قلب يثبت عند إمساك النفس ، و الأخذ بالكظم ، و نزع النفس و العلم بمفارقة المحبوبات إلى ما لا يدري ما هو ، و ليس في ظاهره إلا البقر و البلاء .
   
فنسأل الله عز وجل يقيناً يقيناً شر ذلك اليوم ، لعلنا نصبر للقضاء ، أو نرضى به .
   
و نر غب إلى مالك الأمور في أن يهب لنا من فواضل نعمه على أحبابه ، حتى يكون لقاؤه أحب إلينا من بقائنا ، و تفويضنا إلى تقديره أشهى لنا من اختيارنا .
   
و نعوذ بالله من اعتقاد الكمال لتدبيرنا ، حتى إذا انعكس علينا أمر عدنا إلى القدر بالتسخط .
   
و هذا هو الجهل المحض ، و الخذلان الصريح ، أعاذنا الله منه .

 

·       فصل : صفة العارف


   
ليس في الدنيا و لا في الآخرة أطيب عيشاً من العارفين بالله عز وجل ، فإن العارف به مستأنس به في خلوته .
   
فإن عمت نعمة علم من أهداها ، و إن مر مر حلا مذاقه في فيه ، لمعرفته بالمبتلي . و إن سأل فتعوق مقصوده ، صار مراده ما جرى به القدر ، علماً منه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة ، و ثقته بحسن التدبير .
   
و صفة العارف أن قلبه مراقب لمعروفه ، قائم بين يديه ، ناظر بعيز اليقين إليه ، فقد سرى من بركة معرفته إلى الجوارح ما هذبها .
   
فإن نطقت فلم أنطق بغيركم       و إن سكت فأنتم عقد إضماري
   
إذا تسلط على العارف أذى أعرض نظره عن السبب ، و لم ير سوى المسبب ، فهو في أطيب عيش معه . إن سكت تفكر في إقامة حقه ، و إن تكلم بما يرضيه ، لا يسكن قلبه إلى زوجة و لا إلى ولد ، و لا يتشبث بذيل محبة أحد .
   
و إنما يعاشر الخلق ببدنه ، و روحه عند مالك روحه ، فهذا الذي لا هم عليه في الدنيا ، و لا غم عنده وقت الرحيل عنها ، و لا وحشة له في القبر ، و لا خوف عليه يوم المحشر .
   
فأما من عدم المعرفة فإنه معثر لا يزال يضج من البلاء لأنه لا يعرف المبتلي ، و يستوحش لفقد غرضه لأنه لا يعرف المصلحة . و يستأنس بجنسه لأنه لا معرفة بينه و بين ربه ، و يخاف من الرحيل لأنه لا زاد له و لا معرفة بالطريق .
   
و كم من عالم و زاهد لم يرزقا من المعرفة إلا ما رزقه العامي البطال ، و ربما زاد عليهما .
   
و كم من عامي رزق منها ما لم يرزقاه مع اجتهادهما .
   
و إنما هي مواهب و أقسام ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

 

·       فصل : لا قيمة للجنة مع إعراض الحبيب

 
   
بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى ، لا تبع عزها بذل المعاصي .
   
و صابر عطش الهوى في هجير المشتهى و إن أمض و أرمض .
   
فإذا بلغت النهاية من الصبر فاحتكم و قل ، فهو مقام من لو أقسم على الله لأبره .
   
تالله لولا صبر عمر ما انبسطت يده يضرب الأرض بالدرة .
   
و لولا جد أنس بن النضير في ترك هواه ، و قد سمعت من آثار عزمته : [ لئن أشهدني الله مشهداً ليرين ما أصنع ، فأقبل يوم أحد يقاتل حتى قتل فلم يعرف إلا ببنانه ] . فلولا هذا العزم ما كان إنبساط وجهه يوم حلف و الله لا تكسر سن الربيع .
   
بالله عليك تذوق حلاوة الكف عن المنهى ، فإنها شجرة تثمر عز الدنيا و شرف الآخرة .
   
و متى اشتد عطشك إلى ما تهوى ، فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل .
   
و قل قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف ، فعجل لي العام الذي فيه أغاث و أعصر .
   
بالله عليك تفكر فيمن قطع أكثر العمر في التقوى و الطاعة ثم عرضت فتنة في الوقت الآخر ، كيف نطح مركبه الجرف فغرق وقت الصعود .
   
أف و الله للدنيا ، لابل للجنة إن أوجب نيلها إعراض الحبيب .
   
إنما نسب العامي باسمه و اسم أبيه ، فأما ذوو الأقدار فالألقاب قبل الأنساب .
   
قل لي : من أنت ؟ و ما عملك ؟ و إلى أي مقام ارتفع قدرك ؟ يا من لا يصبر لحظة عما يشتهي .
   
بالله عليك أتدري من الرجل ؟
   
الرجل و الله من إذا خلا بما يحب من المحرم و قدر عليه و تقلل عطشاً إليه ، نظر إلى نظر الحق إليه فاستحى من إجالة همه فيما يكرهه ، فذهب العطش .
   
كأنك لا تترك لنا إلا ما لا تشتهي ، أو مالا تصدق الشهوة فيه ، أو مالا تقدر عليه .
   
كذا و الله عادتك إذا تصدقت أعطيتك كسرة لا تصلح لك ، أو في جماعة
   
يمدحونك .
   
هيهات و الله و لا نلت ولايتنا حتى تكون معاملتك لنا خالصة . تبذل أطايبك . و تترك مشتهياتك ، و تصبر على مكرهاتك .
   
علماً منك تدخر ثوابك لدينا إن كنت معاملاً بأنك أجير و ما غربت الشمس فإن كنت محباً رأيت ذلك قليلاً في جنب رضى حبيبك عنك .
   
وما كلامنا مع الثالث ... !!

 

·       فصل : لا تنكر نور الشمس و نظرك ضعيف


   رأيت في العقل نوع منازعة للتطلع إلى معرفة جميع حكم الحق عز وجل في حكمه . فربما لم يتبين له منها ـ مثل النقض بعد البناء ـ فيقف متحيراً .
   
و ربما انتهز الشيطان تلك الفرصة ، فوسوس إليه : أين الحكمة من هذا ؟
   
فقلت له : احذر أن تخدع يا مسكين ، فإنه قد ثبت بالدليل القاطع لما رأيت من إتقان الصنائع مبلغ حكمة الصانع ، فإن خفى عليك بعض الحكم فلضعف إدراكك .
   
ثم ما زالت للمولك أسرار فمن أنت حتى تطلع بضعفك على جميع حكمه ؟
   
يكفيك الجمل و إياك إياك أن تتعرض لما يخفى عليك .
   
فإنك بعض موضوعاته ، و ذرة من مصنوعاته .
   
فكيف تتحكم على من صدرت عنه ؟
   
ثم قد ثبت عندك حكمته ، و حكمه و ملكه ، فأعمل آلتك على قدر قوتك في مطالعة ما يمكن من الحكم ، فإنه سيورثك الدهش .
   
و اغمض عما يخفى عليك ، فحقيق بذي البصر الضعيف ألا ياوي نور الشمس .

 

·       فصل : أعط نفسك حقها و استوف حقك منها

 
   
أعجب الأشياء مجاهدة النفس ، لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة .
   
فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب ، فأوقعتهم فيما كرهوا ، و إن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها ، و ظلموها .
   
و أثر ظلمهم لها في تعبداتهم ، فمنهم من أساء غذاءها فأثر ذلك ضعف بدنها عن إقامة واجبها .
   
منهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس و آلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض ، أو بر والدة .
   
و إنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد و حفظ الأصول . فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه .
   
فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده ، فإن لا ينبسط إليه الغلام . فإن انبسط ذكر هيبة المملكة .
   
فكذلك المحقق يعطيها حظها ، و يستوفي منها ما عليها .

 

·       فصل : في فهم معنى الوجود

 
   
رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً .
   
إن طال الليل فيحديث لا ينفع ، أو بقراءة كتاب فيه غزاة و سمر .
   
وإن طال النهار فالبالنوم .
   
و هم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة و هي تجري بهم ، و ما عندهم خبر .
   
و رأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود ، فهم في تعبئة الزاهد و التأهب للرحيل .
   
إلا أنهم يتفاوتون ، و سبب تفاوتهم قلة العلم و كثرته بما ينفق في بلد الإقامة .
   
فالمتيقظون منهم يتطلعون ، إلى الأخبار بالنافق هناك ، فيستكثرون منه فيزيد ربحهم .
   
و الغافلون منهم يحملون ما إتفق ، و ربما خرجوا لا مع خفير .
   
فكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلساً .
   
فا الله الله في مواسم العمر .
   
و البدار قبل الفوات .
   
و استشهدوا العلم ، و استدلوا الحكمة ، و نافسوا الزمان ، و ناقشوا النفوس ، و استظهروا بالزاد .
   
فكان قد حدا الحادي فلم يفهم صوته من وقع دمع الندم .

 

·       فصل : الصدق في القلب


   
أضر ما على المريض التخليط ، و ما من أحد إلا و هو مريض بالهوى ، و الحمية هي رأس الدواء .
   
و التخليط يديم المرض ، و تخليط أرباب الآخرة على ضربين : أحدهما : تخليط العلماء ، و هو إما لمخالطة الأضدادكالسلاطين ، فإنهم يضعفون قوى يقينهم . وكما زادت المخالطة ، يفقدون دليلهم عند المريدين .
   
فإني إذا رأيت طبيباً يخلط و يحميني شككت أو وقفت .
   
و الثاني : تخليط الزهاد ، و قد يكون بمخالطة أرباب الدنيا ، و قد يكون بحفظ الناموس في إظهار التخشع ، لاجتلاب محبة العوام .
   
الله الله فإن ناقد الجزاء بصير ، و الإخلاص في الباطن ، و الصدق في القلب . ونعم طريق السلامة ستر الحال .

 

·       فصل : في فضل العالم و العامل


   
لقيت مشايخ ، أحوالهم مختلفة ، في مقادير في العلم .
   
و كان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه ، و إن كان غيره أعلم منه .
   
و لقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون و يعرفون و لكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح و تعديل ، و يأخذون على قراءة الحديث أجرة ، و يسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه و إن وقع خطأ .
   
و لقيت عبد الوهاب الأنماطي ، فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة ،و لا كان يطلب أجراً على سماع الحديث ، و كنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى و اتصل بكاؤه .
   
فكان ـ و أنا صغير السن حينئذ ـ يعمل بكاؤه في قلبي ،و يبني قواعد .
   
و كان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل .
   
و لقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي ، فكان كثير الصمت ، شديد التحري فيما يقول ، متقناً محققاً .
   
و ربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه ، فيتوقف فيها حتى يتيقن .
   
و كان كثير الصوم و الصمت . فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما .
   
ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول .
   
و رأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط و مزاح ، فراحوا عن القلوب و بدد تفريطهم ما جمعوا من العلم . فقل الانتفاع بهم في حياتهم ، و نسوا بعد مماتهم ، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم .
   
فالله الله في العلم بالعمل ، فإنه الأصل الأكبر .
   
و المسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ، ففاته لذات الدنيا و خيرات الآخرة فقدم مفلساً على قوة الحجة عليه .

 

·       فصل : لا نأمن مكر الله


   
سبحان الملك الغظيم الذي من عرفه خافه ، و ما أمن مكره قط ما عرفه .
   
لقد تأملت أمراً عظيماً ، إنه عز وجل يمهل حتى كأنه يهمل ، فترى أيدي العصاة مطلقة كأنه لا مانع .
   
فإذا زاد الإنبساط ، و لم ترعو العقول ، أخذ أخذ جبار .
   
و إنما كان ذلك الإمهال ليبلو صبر الصابر ، و ليملي في الإمهال للظالم ، فيثبت هذا على صبره ، و يجزي هذا بقبيح فعله .
   
مع أن هنالك من الحلم في طي ذلك ما لا نعلمه .
   
فإذا أخذ عقوبة ، رأيت على كل غلطة تبعة .
   
و ربما جمعت فضرب العاصي بالحجر الدامغ .
   
و ربما خفي على الناس سبب عقوبته ، فقيل فلان من أهل الخير فما وجه ماجرى له ؟
   
فيقول القدر : حدود لذنوب خفية ، صار إستيفاؤها ظاهراً .
   
فسبحان من ظهر حتى لا خفاء به ، و إستتر حتى كأنه لا يعرف .
   
و أمهل حتى طمع في مسامحته ، و ناقش حتى تحيرت العقول من مؤاخذته ، لا حول و لا قوة إلا با الله .

 

·       فصل : التلطف بالنفس


   
تأملت العلم و الميل إليه و التشاغل به ، فإذا هو يقوى القلب قوة تميل به إلى نوع قساوة . و لولا قوة القلب ، و طول الأمل ، لم يقع التشاغل به .
   
فإني أكتب الحديث أرجو أن أرويه ، و أبتدىء بالتصنيف أرجو أن أتمه ، فإذا تأملت باب المعاملات قل الأمل ، و رق القلب ، و جاءت الدموع ، و طابت المناجاة و غشيت السكينة ، و صرت كأني في مقام المراقبة .
   
إلا أن العلم أفضل و أقوى حجة ، و أعلى رتبة ، و إن حدث منه ماشكوت منه .
   
و المعاملة و إن كثرت الفوائد التي أشرت إليها منها ، فإنها قريبة إلى أحوال الجبان الكسلان الذي قد إقتنع بصلاح نفسه عن هداية غيره ، و إنفرد بعزلته عن إجتذاب الخلق إلى ربهم .
   
فالصواب العكوف على العلم مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعاً لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم .
   
فإني لأكره لنفسي من جهة ضعف قلبي و رقته أن أكثر زيادة القبور ، و إن أحضر المحتضرين ، لأن ذلك يؤثر في فكري ، و يخرجني من حيز المتشاغلين بالعلم إلى مقام الفكر في الموت ، و لأنتفع بنفسي مدة . و فصل الخطاب في هذا أنه ينبغي أن يقام المرض بضده .
   
فمن كان قلبه قاسياً شديد القسوة ، و ليس عنده من المراقبة ما يكفه عن الخطأ ، قاوم ذلك بذكر الموت و محاضرة المحتضرين .
   
فأما من قلبه شديد الرقة فيكفيه ما به ، بل ينبغي له ان يتشاغل بما ينسيه ذلك لينتفع بعيشه ، و ليفهم ما يفتي به . و قد كان الرسول صلى الله عليه و سلم يمزح ويسابق عائشة رضي الله عنها ، و يتلطف بنفسه ، فمن سار سيرته عليه الصلاة السلام ، فهم من مضمونها ما قلت من ضرورة التلطف بالنفس .

 

·       فصل : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا


   
من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته ، فإن ينتبه إنتباهاً لا يوصف ، و يقلق قلقاً لا يحد و يتلهف على زمانه الماضي .
   
و يود لو ترك كي يتدارك ما فاته ، و يصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت و يكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف .
   
و لو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى .
   
فالعاقل من مثل تلك الساعة و عمل بمقتضى ذلك .
   
فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته .
   
فإنه يكف كف الهوى ، و يبعث على الجد .
   
فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه ، كان كالأسير لها .
   
كما روي عن حبيب العجمي إنه كان إذا أصبح يقول لإمرأته : إذا مت اليوم ففلان يغسلني ، و فلان يحملني .
   
و قال معروف لرجل صل بنا الظهر ، فقال : إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر .
   
فقال : و كأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر ، نعوز با الله من طول الأمل .
   
و ذكر رجل رجلاً بين يديه بغيبة ، فجعل معروف يقول له : أذكر القطن إذا و ضعوه على عينيك .

 

·       فصل : الحر تكفيه الإشارة


   
ربما أخذ المتيقظ بيت شعر ، فأخذ منه إشارة فإنتفع بها .
   
قال الجنيد : ناولني سري رقعة مكتوب فيها سمعت حادياً في الطريق مكة شرفها الله تعالى بقول .
   
أبكي و ما يدريك ما يبكيني       أبكي حذاراً أن تفارقيني
   
و تقطعي حبلي و تهجريني
   
فانظر رحمك الله و وفقك ، إلى تأثير هذه الأبيات عند سري حتى أحب أن يطلع منها الجنيد على ما إطلع عليه ، و لم يصلح للإطلاع على مثلها إلا الجنيد .
   
فإن أقواماً فيهم كثافة طبع ، و خشونة فهم .
   
قال بعضهم لما سمع مثل هذه . إلا م يشار بهذه ؟
   
إن كان إلى الحق ، فالحق عز وجل لا يشار بلفظ تأنيث . و إن كان إلى إمرأة فأين الزهد ؟
   
و لعمري إن هذا حداء أهل الغفلة إذا سمعوا مثل هذا ، و لذلك ينهى عن سماع القصائد و أقوال أهل الغناء ، لأن الغالب حمل تلك الأبيات على مقاصد النفس ، و غلبات الهوى .
   
و من أين لنا مثل الجنيد و ستري ؟
   
و إذا وجدنا مثلهما فهما خبيران بما يسمعان .
   
و أما إعتراض هذا الكثيف الطبع فالجواب : أن سيراً لم يأخذ الإشارة من اللفظ ، و لم يقس ذلك على مطلوبه فيصيره تأنيساً أو تذكيراً .
   
و إنما أخذ الإشارة من المعنى ، فكأنه يخاطب حبيبه بمعنى الأبيات ، فيقول : أبكي حذاراً من إعراضك و إبعادك . فهذا الحاصل له .
   
و ما التفت قط إلى تذكير و لا إلى لفظ تأنيث . فافهم هذا .
   
و ما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة و يلقبونه بكان و كان .
   
فرأيت بخط ابن عقيل عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع إمرأة تنشد :
   
غسلت له طول الليل       فركت له طول النهار
   
خرج يعاين غيري       زلق وقع في الطين
   
فأخذ من إشارة معناها كان يا عبدي إني حسنت خلقك ، و أصلحت شأنك ، و قومت بنيتك ، فأقبلت على غيري فانظر عواقب خلافك لي .
   
و قال ابن عقيل : و سمعت إمرأة تقول ، من هذا المكان ، و كانت كلمة بقيت في قلقها مدة . :
   
كم كنت با الله أقول لك       لذا التواني غائله
   
و للقبيح خميرة       تبين بعد قليل
   
قال ابن عقيل : فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لأمور غداً تبين خمايرها بين يدي الله تعالى .

 

·       فصل : استفت قلبك


   
أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرخص ، فكنت كلما حصل شيء منه ، فاتني من قلبي شيء ، و كلما إستنارت لي طريق التحصيل ، تجدد في قلبي ظلمة .
   
فقلت يا نفس السوء ـ الإثم حواز القلوب ـ و قد قال استفت قلبك فلا خير في الدنيا كلها إذا كان في القلب من تحصيلها شيء أوجب نوع كدر .
   
و إن الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين أو في المعاملة ما لذت ، و النوم على المزابل مع سلامة القلب من الكدر ألذ من تكآت الملوك . و ما زلت أغلب نفسي تارة و تغلبني أخرى ، ثم تدعي الحاجة إلى تحصيل ما لا بد لها منه . و تقول : فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر .
   
فقلت لها : أو ليس الورع يمنع من هذا ؟ قالت : بلى .
   
قلت : أليست القسوة في القلب تحصل به ؟ قالت : بلى .
   
قلت : فلا خير لك في شيء هذا ثمرته .
   
فخلوت يوماً بنفسي فقلت لها : ويحك اسمعي أحدثك :
   
إن جمعت شيئاً من الدنيا من وجه فيه شبهة أفأنت على يقين من إنفاقه ؟ قالت : لا .
   
قلت : فالمحنة أن يحظي به الغير و لا تنالين إلا الكدر العاجل ، و الوزر الذي لا يؤمن .
   
و يحك ، أتركي هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله فعامليه بتركه .
   
كأنك لا تدرين ألا تتركي إلا ما هو محرم فقط أو مالا يصح و جهه.
   
أو ما سمعت أن من ترك شيئاً الله عوضه الله خيراً منه ؟
   
أما لك عبرة في أقوام جمعوا فحازه سواهم ، و أملوا فما بلغوا مناهم ؟
   
كم من عالم جمع كتباً كثيرة ما انتفع بها .
   
و كم من منتفع ما عنده عشرة أجزاء .
   
و كم من طيب العيش لا يملك دينارين .
   
و كم من ذي قناطير منغص .
   
أما لك فطنة تتلمح أحوال من يترخص من وجه فيسلب منه من أوجه ؟
   
ربما نزل المرض بصاحب الدار أو ببعض من فيها فأنفق في سنته أضعاف ما ترخص في كسبه ، و المتقي معافى .
   
فضجت النفس من لومي و قالت : إذا لم أتعد واجب الشرع فما الذي تريد مني ؟
   
فقلت لها : أضن بك عن الغبن و أنت أعرف بباطن أمرك .
   
قالت : فقل لي ما أصنع ؟
   
قلت : عليك بالمراقبة لمن يراك ، و مثلي نفسك بحضرة معظم من الخلق فإنك بين يدي الملك الأعظم يرى من باطنك ما لا يراه المعظمون من ظاهرك .
   
فخذي بالأحوط ، و احذري من الترخص في بيع اليقين ، و التقوى بعاجل الهوى .
   
فإن ضاق الطبع مما تلقين فقولي له : مهلاً ، فما انقضت مدة الإشارة ، و الله مرشدك إلى التحقيق ، و معينك بالتوفيق .

 

·       فصل : إن ربك لبالمرصاد

 
   ما زلت أسمع عن جماعة من الأكابر و أرباب المناصب أنهم يشربون الخمور ، و يفسقون ، و يظلمون و يفعلون أشياء توجب الحدود .
   
فبقيت أتفكر أقول متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حداً ؟ فلو ثبت يقيمه ؟
   
و أستبعد هذا في العادة ، لأنهم في مقام إحترام لأجل مناصبهم .
   
فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم ، حتى رأيناهم قد نكبوا و أخذوا مرات ، و مرت عليهم العجائب .
   
فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم ، و أخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس الطويل ، و القيد الثقيل ، و الذل العظيم .
   
و فيهم من قتل بعد ملاقاة كل شدة ، فعلمت أنه ما يهمل شيء .
   
فالحذر الحذر ، فإن العقوبة بالمرصاد .

 

·       فصل : اليد العليا خير من اليد السفلى

 
   
إجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم له بمقتضى العقل و الشرع .
   
فمن ذلك حفظ ماله ، و طلب تنميته ، و الرغبة في زيادته لأن سبب بقاء الإنسان ماله فقد نهى عن التبذير فيه ، فقيل له : و لا تؤتوا السفهاء أموالكم فأعلم أنه سبب لبقائه التي جعل الله لكم قياماً أي أقواماً لمعاشكم .
   
و قال عز وجل : و لا تبسطها كل البسط .
   
و قال تعالى : و لا تبذر تبذيرا و قال تعالى : لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواماً .
   
و من فضيلة المال أن الله تعالى قال : من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً و قال تعالى : و أنفقوا في سبيل الله .
   
و قال تعالى : ينفقون أموالهم .
   
و قال تعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح .
   
و جعل المال نعمة . و زكاته تطهيراً . فقال تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها .
   
و قال صلى الله عليه و سلم نعم المال الصالح للرجل الصالح .
   
و قال : ما نفعني مال كمال أبي بكر .
   
و كان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى التجارة ، و يترك رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فلا ينهاه عن ذلك .
   
و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : [ لأن أموت بين شعبتي جبل أطلب كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازياً في سبيل الله ] .
   
و كان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يتاجرون . و من سادات التابعين سعيد بن المسيب ، مات و خلف مالاً ، و كان يحتكر الزيت .
   
و ما زال السلف على هذا .
   
ثم قد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من المال فلا يجد الإنسان بداً من الإحتيال في طلبه ، فيبذل عرضه أو دينه .
   
ثم للنفس قوة بدنية عند وجود المال ، و هو معدود عند االأطباء من الأدوية .
   
حكمة وضعها الواضع .
   
ثم نبغ أقوام طلبوا طريق الراحة فادعوا أنهم متوكلة و قالوا : نحن لا نمسك شيئاً ، و لا نتزود لسفر ، و رزق الأبدان يأتي .
   
و هذا على مضادة الشرع ، فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن إضاعة المال .
   
و موسى عليه السلام لما سافر في طلب الخضر تزود .
   
و نبينا صلى الله عليه و سلم لما هاجر تزود .
   
و أبلغ من هذا قوله تعالى : و تزودوا فإن خير الزاد التقوى .
   
ثم يدعي هؤلاء المتصوفة بغض الدنيا ، فلا يفهمون ما الذي ينبغي أن يبغض .
   
و يرون زيادة الطلب للمال حرصاً و شرهاً .
   
و في الجملة إنما إخترعوا بأرائهم طريقاً فيها شيء من الرهبانية إذا صدقوا و شيء من البهرجة إذا نصبوا شبك الصيد بالتزهد ، فسموا ما يصل إليهم من الأرزاق فتوحاً .
   
قال ابن قتيبة في غريب الحديث عند شرح و قوله صلى الله عليه و سلم : و اليد العليا قال : هي المعطية .
   
قال : فالمعجب عندي من قوم يقولون هي الأخذة .
   
و لا أرى هؤلاء القوم إستطابوا السؤال ، فهم يحتجون للدناءة ، فأما الشرائع فإنها بريئة من حالهم .
   
و في الحديث : ضاق البلد بمواشي إبراهيم و لوط عليهما السلام فافترقا .
   
و كان شعيب عليه السلام كثير المال ثم قد ند طعمه في زيادة الأجر من موسى عليه السلام فقال : فإن أتممت عشراً فمن عندك .
   
و كان ابن عقيل رحمه الله يقول : [ من قال إني لا أحب الدنيا فهو كذاب ] .
   
فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه ابنه يامين قال : هل آمنكم عليه . فقالوا : و نزداد كيل بعير . فقال : خذوه .
   
و قال بعض السلف : [ من ادعى بغض الدنيا فهو عندي كذاب إلى أن يثبت صدقه ، فإذا ثبت صدقه فهو مجنون ] .
   
و قد نفر جماعة من المتصوفة خلقاً من الخلق عن الكسب ، و أوحشوا بينهم و بينه ، و هو دأب الأنبياء و الصالحين .
   
و إنما طلبوا طريق الراحة و جلسوا على الفتوح ، فإذا شبعوا رقصوا ، فإذا إنهضم الطعام أكلوا فإذا لاحت لهم حيلة على غني أوجبوا عليه دعوة ، إما بسبب شكر أو بسبب إستغفار .
   
و أطم الطامات إدعاؤهم أن هذا قربة .
   
و قد إنعقد إجتماع العلماء أن من إدعى الرقص قربه إلى الله تعالى كفر .
   
فلو أنهم قالوا : مباح كان أقرب حالاً ، و هذا لأن القرب لا تعرف إلا بالشرع ، و ليس في الشرع أمر بالرقص و لا ندب إليه .
   
و لقد بلغني عن جماعة منهم أنهم كانوا يوقدون الشمع في وجوه المردان و ينظرون إليهم فإذا سئلوا عن ذلك سخروا بالسائل فقالوا : نعتبر بخلق الله ! ! !       أفتراهم أقوى من النبي صلى الله عليه و سلم حين أجلس الشاب الذي وفد عليه من وراء ظهره ، و قال هل كانت فتنة داود إلا من النظر .
   
هيهات ! لقد تملك الشيطان تلك الأزمة فقادها إلى ما أراد .
   
و العجب ممن يذم الدنيا و هو يأكل فيشبع ، و لا ينظر من أين المطعم .
   
و ما زال صالحو السلف يفتشون عن المطعم حتى كان إبراهيم بن أدهم يسهر هو و أصحابه و يقولون مع من نعمل غداً ؟ و كان سري السقطي يعرف بطيب الغذاء ، و له في الورع مقامات ، فجاء قوم يتسمون بالصوفية يدعون إيباع أولئك السادة ، و يأكلون من مال فلان ، و هم يعرفون أصول تلك الأموال ، و يقولون : رزقنا .
   
فواعجباً إذا كان الآكل لا يبالي به من أين و لا لديه إمتناع من شهوة و لا تقلل ، و لا يخلو الرباط من المطبخ ، و لا ينقطع ليلة ، و أصله من مال قد عرف من أين هو ، و الحمام دائر ، و المعنى يدق بدف فيه جلاجل ، و رفيقه بالشبابة ، و سعدي و ليلي في الإنشاد ، و المردان في السمع ، ثم يذم الدنيا بعد هذا .
   
فقولوا لنا : من يتلهى بالناس إلا هؤلاء ؟ و لكن من مرت عليه رزجنتهم فإنه أخس منهم .

 

·       فصل : التفكر في خلق الله


   عرض لي في طريق الحج من العرب ، فسرنا على طريق خبير ، فرأيت من الجبال الهائلة و الطرق العجيبة ما أذهلني ، و زادت عظمة الخالق عز وجل في صدري فصار يعرض لي عند ذكر تلك الطرق نوع تعظيم لا أجد عند ذكر غيرها .
   
فصحت بالنفس : و يحك أعبري إلى البحر و أنظري إليه و إلى عجائبه بعين الفكر ، تشاهدي أهوالا هي أعظم من هذه ، ثم أخرجي إلى الكون و التفتي إليه فإنك ترينه بالإضافة إلى السماوات و الأفلاك كذرة فيفلاة .
   
ثم جولي في الأفلاك و طوفي حول العرش و تلمحي ما في الجنان و النيران ، ثم أخرجي عن الكل و إلتفتي إليه ، فإنك تشاهدين العالم في قبضة القادر الذي لا تقف قدرته عند حد . ثم إلتفي إليك فتلمحي بدايتك و نهايتك ، و تفكري فيما قبل البداية ، و ليس إلا العدم ، و فيما بعد البلى وليس إلا التراب .
   
فكيف يأنس بهذا الوجود من نظر بعين فكره المبدأ و المنتهي ؟ و كيف يغفل أرباب القلوب عن ذكر هذا الإله العظيم ؟
   
با الله لو صحت النفوس عن سكر هواها ، لذابت من خوفه ، أو لغابت في حبه .
   
غير أن الحس غلب فعظمت قدرة الخالق عند رؤية جبل ، و إن الفطنة لو تلمحت المعاني لدلت القدرة عليه أوفى من دليل الجبل .
   
سبحان من شغل أكثر الخلق بما هم فيه عما خلقوا له ، سبحانه .

 

·       فصل : البلاء و الصبر


   
للبلايا نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل ، فلا بد للمبتلي من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلاء .
   
فإن تقلل قبل الوقت لم ينفع التقلل ، كما أن المادة إذا إنحدرت إلى عضو فإنها لن ترجع ، فلا بد من الصبر إلى حين البطالة ، فإستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع .
   
فالواجب الصبر و إن كان الدعاء مشروعاً و لا ينفع إلا به ، إلا أنه لا ينبغي للداعي أن يستعجل ، بل يتعبد بالصبر و الدعاء و التسليم إلى الحكيم .
   
و يقطع المواد التي كانت سبباً للبلاء ، فإن غالب البلاء أن يكون عقوبة .
   
فأما المستعجل فمزاحم للمدبر ، و ليس هذا مقام العبودية و إنتما المقام الأعلى هو الرضى ، و الصبر هو اللازم .
   
و التلاقي بكثرة الدعاء نعم المعتمد ، و الإعتراض حرام ، و الإستعجال مزاحمة للتدبير فافهم هذه الأشياء فإنها تهون البلاء .

 

·       فصل : الصبر مفتاح الفرج


   
ليس في الجودة شيء أصعب من الصبر ، إما عن المحبوب أو على المكروهات .
   
و خصوصاً إذا امتد الزمان أو وقع اليأس من الفرج .
   
و تلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع به سفرها ، و الزاد يتنوع من أجناس ، فمنه تلمح مقدار البلاء ، و قد يمكن أن يكون أكثر ، و منه أنه في حال فوقها أعظم منها ، مثل أن يبتلي بفقد ولد عنده أعز منه ، و من ذلك رجاء العوض في الدنيا ، و منه تلمح الأجر في الآخرة . و منه التلذذ بتصوير المدح و الثناء من الخلق فيما يمدحون عليه ، و الأجر من الحق عز وجل .
   
و من ذلك أن الجزع لا يفيد بل يفضح صاحبه ، إلى غير ذلك من الأشياء التي يقدحها العقل و الفكر .
   
فليس في طريق الصبر نفقة سواها ، فينبغي للصابر أن يشغل بها نفسه ، و يقطع بها ساعات ابتلائه و قد صبح المنزل .

 

·       فصل : الحكمة الإلهية

 
   
ينبغي لمن وقع في شدة ثم دعا ألا يختلج في قلبه أمر من تأخير الإجابة أو عدمها .
   
لأن الذي إليه أن يدعو ، و المدعو مالك حكيم ، فإن لم يجب فعل ما يشاء في ملكه ، و إن أخر فعل بمقتضى حكمته .
   
فالمعترض عليه في سره خارج عن صفة عبد ، مزاحم لمرتبة مستحق ثم ليعلم أن إختيار الله عز وجل له ، خير من إختياره لنفسه ، فربما سأل سيل سال به .
   
و في الحديث : أن رجلاً كان يسأل الله عز وجل أن يرزقه الجهاد ، فهتف به هاتف : إنك إن غزوت أسرت ، و إن أسرت تنصرت .
   
فإذا سلم العبد تحكيماً لحكمته و حكمه ، و أيقن أن لكل ملكه طاب قلبه ، قضيت حاجته أو لم تقض .
   
و في الحديث : ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه . فإما أن يعجلها ، و إما أن يؤخرها ، و إما أن يدخرها له في الآخرة .
   
فإذا رأى يوم القيامة أن ما أجيب فيه قد ذهب ، و ما لم يجب فيه قد بقى ثوابه ، قال : ليتك لم تجب لي دعوة قط .
   
فافهم هذه الأشياء و سلم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال .

 

·       فصل : فضل العالم

 
   
من أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد ، فلينظر في رتبة جبريل و ميكائيل و من خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق ، و باقي الملائكة قيام للتعبد في مراتب الرهبان في الصوامع .
   
و قد حظي أولئك بالتقريب على مقادير علمهم بالله تعالى .
   
فإذا أمر أحدهم بالوحي إنزعج أهل السماء حتى يخبرهم بالخبر : حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق .
   
كما انزعج الزاهد من حديث يسمعه سأل العلماء عن صحته و معناه .
   
فسبحان من خص فريقاً بخصائص شرفوا بها على جنسهم . و لا خصيصة أشرف من العلم .
   
بزيادته صار آدم مسجوداً له ، و بنقصانه صارت الملائكة ساجدة .
   
فأقرب الخلق من الله العلماء ، و ليس العلم بمجرد صورته هو النافع ، بل معناه ، و إنما ينال معناه من تعلمه للعمل به .
   
فكلما دله على فضل اجتهد في نيله ، و كلما نهاه عن نقص بالغ في مباعدته
   
فحينئذ يكشف العلم له سره ، و يسهل عليه طريقه ، فيصير كمجتذب يحث الجاذب ، فإذا حركه عجل في سيره .
   
و الذي لا يعمل بالعلم لا يطلعه العلم على غروره ، و لا يكشف له عن سره ، فيكون كمجذوب لجاذب جاذبه .
   
فافهم هذا المثل ، و حسن قصدك ، و إلا فلا تتعب .

 

·       فصل : أصلح الأمور الاعتدال

 
   
إعلم أن أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء . و إذا رأينا أرباب الدنيا قد غلبت آمالهم و فسدت في الخير أعمالهم ، أمرناهم بذكر الموت و القبور و الآخرة .
   
فأما إذا كان العالم لا يغيب عن ذكره الموت ، و أحاديث الآخرة تقرأ عليه و تجري على لسانه فتذكره الموت زيادة على ذلك لا تفيد إلا انقطاعه بالمرة .
   
بل ينبغي لهذا العالم الشديد الخوف من الله تعالى الكثير الذكر للآخرة أن يشاغل نفسه عن ذكر الموت ليمتد نفس أمله قليلاً فيصنف و يعمل أعمال خير ، و يقدر على طلب ولد .
   
فأما إذا لهج بذكر الموت كانت مفسدته عليه أكثر من مصلحته .
   
ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه و سلم سابق عائشة رضي الله عنها فسبقته و سابقها فسبقها ، و كان يمزح و يشاغل نفسه ؟
   
فإن مطالعة الحقائق على التحقيق تفسد البدن و تزعج النفس .
   
و قد روي عن أحمد بن حنبل رحمه الله عليه : [ أنه سأل الله تعالى أن يفتح عليه باب الخوف ففتح عليه فخاف على عقله ، فسأل الله أن يرد ذلك عنه ] .
   
فتأمل هذا الأصل فإنه لا بد من مغالطة النفس و في ذلك صلاحها و الله الموفق و السلام .

 

·       فصل : لا تنون عن طلب الكمال

 
   
من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات ، و نهاه عن الرضى بالنقص في كل حال .
   
و قد قال أبو الطيب المتنبي :
   
و لم أر في عيوب الناس عيباً       كنقص القادرين على التمام
   
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه .
   
فلو كان يتصور للآدمي صعود السموات ، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض .
   
و لو كانت النبوة تحصل بالإجتهاد ، رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض . غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن .
   
و السيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم و العمل .
   
و أنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مغفله :
   
أما في البدن : فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي ، بل يدخل تحت كسبه تحسينها و تزيينها . فقبيح بالعاقل إهمال نفسه .
   
و قد نبه الشرع على الكل بالبعض ، فأمر بقص الأظفار ، و نتف الإبط ، و حلق العانة ، و نهى عن أكل الثوم و البصل النيء لأجل الرائحة .
   
و ينبغي له أن يقيس على ذلك و يطلب غاية النظافة و نهاية الزينة .
   
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يعرف مجيئه بريح الطيب ، فكان الغاية في النظافة و النزاهة .
   
و لست آمر بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس ، و لكن التوسط هو المحمود .
   
ثم ينبغي له أن يرفق بيدنه الذي هو راحلته و لا ينقص من قوتها فتنقص قوته .
   
و لست آمر بالشبع الذي يوجب الجشاء ، إنما آمر بالتوسط فإن قوى الآدمي كعين جارية كم فيها منفعة لصاحبها و لغيره .
   
و لا يلتفت إلى قول الموسوسين من المتزهدين الذين جدوا في التقلل فضعفوا عن الفرائض .
   
و ليس ذلك من الشرع و لا نقل عن الرسول صلى الله عليه و سلم و لا أصحابه .
   
إنما كان الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه إذا لم يجدوا جاعوا ، و ربما آثروا فصبروا ضرورة .
   
و كذلك ينبغي أن ينظر لهذه الراحلة في علفها ـ فرب لقمة منعت لقمات ـ فلا يعطيها ما يؤذيها بل ينظر لها في الأصلح ، و لا يتلفت إلى متزهد يقول لا أبلغها الشهوات .
   
فإن النظر ينبغي أن يكون في حل المطعم و أخذ ما يصلح بمقدار .
   
و لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه و سلم و لا أصحابه رضي الله عنهم ما أحدثه الموسوسون في ترك المشتهيات على الإطلاق . إنما نقل عنهم تركها لسب ، إما للنظر في حلها ، أو للخوف من مطالبة النفس بها في كل وقت و يجوز ذلك .
   
و ينبغي له أن يجتهد في التجارة و الكسب ليفضل على غيره و لا يفضل غيره عليه .
   
و لبيلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم ، ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم .
   
و من أقبح النقص التقليد ، فإن قويت همته ، رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً و لا يتمذهب لأحد فإن المقلد أعمى بقوده مقلده .
   
ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى و معاملته ، و في الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها . فإن القنوع حالة الأرذال .
   
فكن رجلاً رجله في الثرى       و هامة همته في الثريا
   
و لو أمكنك عبور كل أحد من العلماء و الزهاد فإفعل ، فإنهم كانوا رجالاً و أنت رجل . و ما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة و خساستها .
   
و اعلم أنك في ميدان سباق و الأوقات تنتب و لا تخلد إلى كسل ، فما مات ما فات إلا بالكسل ، و لا نال من نال إلا بالجد و العزم .
   
و إن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور ، و قد قال بعض من سلف :
   
ليس لي مال سوى كرى       فبه أحيا من العدم
   
فنعت نفسي بما رزقت       و تمطت في العلا هممي

 

·       فصل : في الفقر و أثره على العالم

 
   
ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للإستغناء عن الناس ، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال .
   
و إن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب ، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه . و قل الصبر فدخلوا مداخل شانتهم و إن تأولوا فيها ، إلا أن غيرها كان أحسن لهم . فالزهري مع عبد الملك ، و أبو عبيدة مع طاهر بن الحسين ، و ابن أبي الدنيا مؤدب المعتضد ، و ابن قتيبة صدر كتابه بمدح الوزير . و ما زال حلف من العلماء و الزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم .
   
و هؤلاء و إن كانوا سلكوا طريقاً من التأويل فإنهم فقدوا من قلوبهم و كمال دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا .
   
و قد رأينا جماعة من المتصوفة و العلماء يغشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم ، فمنهم من يداهن و يرائي ، و منهم من يمدح بما لا يجوز ، و منهم من يسكت عن منكرات ، إلى غير ذلك من المداهنات ، و سببها الفقر .
   
فعلمنا أن كمال العز و بعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة ، و لم نر من صح له هذا إلا في أحد رجلين :
   
إما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت و غيره ، و سفيان الثوري كانت له بضائع ، و ابن المبارك .
   
و إما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق و إن لم يكفه كبشر الحافي ، و أحمد بن حنبل .
   
و متى لم يجد الإنسان كصبر هذين ، و لا كمال أولئك ، فالظاهر تقلبه في المحن و الآفات ، و ربما تلف دينه .
   
فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس ، فإنه يجمع لك دينك ، فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين و التزهد و التخشع ، و لا آفة طرأت على عالم إلا يجب الدنيا ، و غالب ذلك الفقر ، فإن كان له مال يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة ، فذلك معدود في أهل الشره ، خارج عن حيز العلماء ، نعوذ بالله من تلك الأحوال .

 

·       فصل : التبحر في الفقه

 
   
أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته . و من تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم ، فإن أرباب المذاهب فاقوا بالفقه على الخلائق أبداً ، و إن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه بالقرآن أو بالحديث أو باللغة . و اعتبر هذا بأهل زماننا ، فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني و يعرف حكم الله تعالى في الحوادث ما لا يعرفه النحرير من باقي العلماء .
   
كم رأينا مبرزاً في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع .
   
و ربما جهل علم ما ينويه في صلاته ، على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً عن باقي العلوم . فإنه لا يكون فقيهاً ، بل يأخذ من كل علم بحظ ثم ينوفر على الفقه فإنه عز الدنيا و الآخرة .

 

·       فصل : غلبة الهوى

 
   
رأيت كثيراً من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة و لا يتحاشون من غيبة ، و يكثرون من الصدقة و لا يبالون بمعاملات الربا ، و يتهجدون بالليل و يؤخرون الفريضة عن الوقت ، في أشياء يطول عددها من حفظ فروع و تضييع أصول ، فبحثت عن سبب ذلك ، فوجدته من شيئين : أحدهما العادة ، و الثاني غلبة الهوى في تحصيل المطلوب ، فإنه قد يغلب فلا قد يغلب فلا يترك سمعاً و لا بصراً .
   
و من هذا القبيل ان إخوة يوسف قالوا ـ حين سمعوا صوت المنادي ـ : إنكم لسارقون لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين ، فجاء في التفسير أنهم لما ذخلوا مصر كمموا أفواه إبلهم لئلا نتناول ما ليس لهم فكأنهم قالوا : قد رأيتم ما صنعناه بإبلنا فكيف نسرق ؟ و نسوا هم تفاوت ما بين الورع و اختطاف أكلة لا يملوكونها ، و بين إلقاء يوسف عليه السلام في الجب و بيعه بثمن بخس . و في الناس من يطيع في صغار الأمور دون كبارها ، و فيما كلفته عليه خفيفة أو معتادة ، و فيما لا ينقص شيئاً من عادته في مطعم و ملبس . نرى أقواماً يأخذون الربا و يقول أحدهم : كيف يراني عدوي بعد بعت داري ، أو تغير ملبوسي و مركوبي !
   
و نرى أقواماً يوسوسون في الطهارة و يستعملون الكثير من الماء و لا يتحاشون من غيبه .
   
و أقواماً يستعملون التأولات الفاسدة في تحصيل أغراضهم مع علمهم أنها لا تجوز ، حتى أني رأيت رجلاً من أهل الخير و التعبد أعطاه رجل مالاً ليبني به مسجداً ، فأخذه لنفسه و أنفق عوض الصحيح قراضة ، فلما إحتضر قال لذلك الرجل : إجعلني في حل فإني فعلت كذا و كذا .
   
و نرى أقواماً يتركون الذنوب لبعدهم عنها ، فقد ألفوا الترك ، و إذا قربوا منها لم يتمالكوا .
   
و في الناس من هذه الفنون عجائب يطول ذكرها .
   
و قد علمنا أن خلقاً من علماء اليهود كانوا يحملون ثقل التعبد في دينهم ، فلما جاء الإسلام و عرفوا صحته لم يطيقوا مقاومة أهوائهم في محور رياستهم .
   
كذلك قيصر فإنه عرف رسول الله صلى الله عليه و سلم بالدليل ، ثم لم يقدر على مقاومة هواه و ترك ملكه .
   
فالله الله في تضييع الأصول ، و من إهمال سرح الهوى ، فإنه إن أهملت ماشية نفشت في زروع التقى .
   
ما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه .
   
و ربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت ، على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة ، و منهم من يكفه بخيط ، فينبغي للعاقل أن يحذر شياطين الهوى ، و أن يكون بصيراً بما يقوى عليه من أعدائه ، و بمن يقوى عليه .

 

فصل : احذر الصديق قبل العدو

 
   
من أعظم الغلط الثقة بالناس و الاسترسال إلى الأصدقاء ، فإن أشد الأعداء و أكثرهم أذى الصديق المنقلب عدواً ، لأنه قد اطلع على خفي السر .
   
قال الشاعر :
   
احذر عدوك مرة       و إحذر صديقك ألف مرة
   
فلربما إنقلب الص      ديق فكان أعلم بالمضرة
   
و إعلم أن من الأمر الموضوع في النفوس الحسد على النعم ، أو الغبطة و حب الرفعة ، فإذا رآك من يعتقدك مثلاً له و قد ارتقيت عليه فلا بد أن يتأثر و ربما حسد .
   
فإن إخوة يوسف عليهم السلام من هذا الجنس جرى لهم ما شأنهم .
   
فإن قلت : كيف يبقى الإنسان بلا صديق ؟ قلت لك أتراك ما تعلم أن المجانس يحسد ، و أن أكثر العوام يعتقدون في العالم أنه لا يبتسم ، و لا يتناول من شهوات الدنيا شيئاً ، فإذا رأوا بعض انبساطه في المباح هبط من أعينهم فإذا كانت هذه حالة العوام ، و تلك حالة الخواص ، فمع من تكون المعاشرة ؟
   
لا بل و الله ما تصح المعاشرة مع النفس لأنها متلونة ، و ليس إلا المداراة للخلق و الإحتراز منهم ، و اتخاذ المعارف من غير طمع في صديق صادق ، فإن ندر فليكن غير مماثل ، لأن الحسد إليه أسبق ، و ليكن مرتفعاً عن رتبة العوام غير طامع في نيل مقامك .
   
و إن كانت معاشرة هذا لا تشفي لأن المعاشرة ينبغي أن تكون بين العلماء للمجانس ، فلزمهم من الإرشادات في المخالطة ما تطيب به المجالسة ، و لكن لا سبيل إلى الوصال .
   
و مثل هذه الحال أنك إن إستخدمت الأذكياء عرفوا باطنك ، و إن إستخدمت الأبله إنعكست مقاصدك .
   
فإجعل الأذكياء لحوائجك الخارجة ، و البله لحوائجك في منزلك لئلا يعلموا أسرارك ، و أقنع من الأصدقاء ، بمن وصفته لك ، ثم لا تلقه إلا متدرعاً درع الحذر ، و لا تطلعه على باطن يمكن أن يستر عنه ، و كن كما يقال عن الذئب :
   
ينام بإحدى مقلتيه و يتقي       بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع

 

·       فصل : الغنى عما في أيدي الناس

 
   
رأيت نفراً ممن أفنى أوائل عمره و ريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع الأذى ، و هجر فنون الراحات ، أنفة من الجهل ، و رذيلته ، و طلباً للعلم و فضيلته ، فما نال منه طرفاً رفعه عن مراتب أرباب الدنيا . و من لا علم له إلا بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنفسه من حظوظ ، فسافر في البلاد يطلب من الأرذال ، و يتواضع للسفلة و أهل الدناءة و المكاس و غيرهم .
   
فخاطبت بعضهم و قلت ، ويحك أن تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها ، و أظمأت نهارك بسببها ، فلما إرتفعت و إنتفعت عدت إلى أسفل سافلين .
   
أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو بها عن مقامات الأرذال ؟ و لا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى ؟
   
و لا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء ؟ على أنه يبين لي أن سهرك و تعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا .
   
ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئاً من الدنيا تستعين به على طلب العلم ، فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في علمك .
   
فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر فيما قد عزمت عليه زيادة ، بل لعله كله مخاطرة بالنفس ، و بذل الوجه طالما صين لمن لا يصلح إلتفات مثلك إلى مثله .
   
و بعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف ، و قد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من الإثم .
   
و أبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ .
   
و من لك بالسلامة و الرجوع إلى الوطن ؟ و كم رمى قفر في بواديه من هالك !
   
ثم ما تحصله يفني و يبقى منه ما أعطى ، و عيب المتقين إياك ، و اقتداء الجاهلين بك .
   
و يكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه ، خصوصاً و قد مر أكثر العمر .
   
و من أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي .

 

·       فصل : على الفقه مدار العلوم

 
   
رأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوت الشره عليه مقصوده .
   
و قد رأينا من كان شرهاً في جمع المال فحصل له الكثير منه و هو مع ذلك حريص على الإزدياد .
   
و لو فهم ، علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر ، فإذا أنفق العمر في تحصيله فات المقصودان جميعاً .
   
و كم رأينا من جمع المال و لم يتمتع به فأبقاه لغيره و أفنى نفسه كما قال الشاعر :
   
كدودة القز ما تبنيه يهدمها       و غيرها بالذي تبنيه ينتفع
   
و كذلك رأينا خلقاً كثيراً يحرصون على جمع الكتب فينفقون أعمارهم في كتابتها ، و كدأب أهل الحديث ينفقون الأعمار في النسخ و السماع إلى ماخر العمر ثم ينقسمون :
   
فمنهم من يتشاغل بالحديث و علمه و تصحيحه ، و لعله لا يفهم جواب حادثة ، و لعل عنده للحديث ـ أسلم سالمها الله ـ مائة طريق .
   
و قد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع جزء ابن عرفة عن مائة شيخ ، و كان عنده سبعون نسخة .
   
و منهم من يجمع الكتب و يسمعها و لا يدري ما فيها لا من صحة حديثها و لا من فهم معناها ، فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي و عندي له نسخة ، و الكتاب الفلاني و الفلاني فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه ، و قد صده إشتغاله بذلك عن المهم من العلم فهم كما قال الحطيئة :
   
زوامل للأخبار لا علم عندها       بمثقلها إلا كعلم الأباعر
   
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا       بأوساقه أو راح ما في الغرائر
   
ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية و حدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله ، فإن أفتى أخطأ ، و إن تكلم في الأصول خلط .
   
و لولا أني لا أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم و ما خلطوا ما يعتبر به ، و لكنه لا يخفى على المحقق حالهم .
   
فإن قال قائل : أليس في الحديث : منهومان لا يشبعان : طالب علم و طالب دنيا ؟
   
قلت : أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم ، و لا اقتصر على بعضه .
   
بل أقول له : قدم المهم ، فإن العاقل من قدر عمره و عمل بمقتضاه ، و إن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر ، غير أنه يبني على الأغلب ، فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زاداً ، و إن مات قبل الوصول فنيته تسلك به .
   
فإذا علم العاقل أن العمر قصير ، و أن العلم كثير ، فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث و نسخه ليحصل كل طريق ، و كل رواية ، و كل غريب ، و هذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة ، خصوصاً إن تشاغل بالنسخ . ثم لا يحفظ القرآن ، أو يتشاغل بعلوم القرآن و لا يعرف الحديث ، أو بالخلاف في الفقه و لا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة .
   
فإن قال قائل : فدبر لي ما تختار لنفسك ؟
   
فأقول : ذو الهمة لا يخفى من زمان الصبا .
   
كما قال سفيان بن عيينة : قال لي أبي ـ و قد بلغت خمس عشرة سنة ـ : [ إنه قد إنقضت عنك شرائع الصبا ، فإتبع الخير تكن من أهله ، فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها و لا أميل عنها ] .
   
ثم فبل شروعي في الجواب أقول : ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس .
   
فلو كانت النبوة مثلاً تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية . أو تصور أن يكون مثلاً خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة .
   
و لو صح له أن يكون ملكاً لم يرض أن يكون بشراً .
   
و المقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم و العمل .
   
و قد علم قصر العمر و كثرة العلم فيبتدئ بالقرآن و حفظه ، و ينظر في تفسيره نظراً متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء .
   
و إن صح له قراءة القراءات السبعة و أشياء من النحو و كتب اللغة و ابتداء بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح و المسانيد و السنن ، و من حيث علم الحديث كمعرفة الضعفاء و الأسماء ، فلينظر في أصول ذلك .
   
و قد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب .
   
و لينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه كنسب الرسول صلى الله عليه و سلم و أقاربه و أزواجه و ما جرى له ، ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب و الخلاف ، و ليكن إعتماده على مسائل الخلاف ، فلينظر في المسألة و ما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه ، كتفسير آية و حديث و كلمة لغة .
   
و يتشاغل بأصول الفقه و بالفرائض ، و ليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم .
   
و يكفيه من النظر في الأصول ما يستدل به على وجودد الصانع ، فإذا أثبته بالدليل و عرف ما يجوز عليه مما لا يجوز ، و أثبت إرسال الرسل و علم وجوب القبول منهم ، فقد إحتوى على لمقصود من علم الأصول .
   
فإن إتسع الزمان للتزيد من العلم ، فليكن من الفقه فإنه الأنفع .
   
و مهما فسح له في المهل فأمكنه تصنيف في علم ، فإنه يخلف بذلك خلفه خلفاً صالحاً ، مع اجتهاده في التسبب إلى إتخاذ الولد ، ثم يعلم أن الدنيا معبرة فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل ، فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه .
   
فإذا تعرض لتحقيق معرفته و وقف على باب معاملته فقل أن يقف صادقاً إلا و يجذب إلى مقام الولاية ، و من أريد وفق .
   
و إن لله عز وجل أقواماً يتولى ترتيبهم ، و يبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدباً ، و يسمى العقل . و مقوماً ، و يقال له الفهم ، و يتولى تأديبهم و تثقيفهم ، و يهيء لهم أسباب القرب منه .
   
فإن لاح قاطع عنه حماهم منه ، و إن تعرضت بهم فتنة دفعها عنهم .
   
فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ، و نعوذ به من خذلان لا ينفع معه إجتهاد .

 

·       فصل : الجزاء على مقادر الاخلاص


   
إن للخلوة تأثيرات تبين في الخلوة ، كم من مؤمن با الله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه ، أو رجاء لثوابه ، أو إجلالاً له ، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستشنقه الخلائق و لا يدرون أين هو .
   
و على قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته ، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب ، و يتفاوت تفاوت العود .
   
فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص و ألسنتهم تمدحه و لا يعرفون لم ؟ و لا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته .
   
و قد تمتد هذه الأرابيح بعض الموت على قدرها ، فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى ، و منهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره و قبره ، و منهم أعلام يبقى ذكرها أبداً .
   
و على عكس هذا من هاب الخلق ، و لم يحترم خلوته بالحق ، فإنه على قدر مبارزته بالذنوب ، و على مقادير تلك الذنوب ، يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب ، فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير ، و بقي لمجرد تعظيمه ، و إن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه و لا يذمونه .
   
و رب خال بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا و الآخرة و كأنه قيل له : إبق بما آثرت فيبقى أبداً في التخبيط .
   
فانظروا إخواني إلى المعاصي أثرت و عثرت .
   
و قال أبو الدرداء رضي الله عنه : [ إن العبد ليخلوا بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر ] .
   
فتلحموا ما سطرته ، و اعرفوا ما ذكرته ، و لا تهملواخلواتكم و لا سرائركم ، فإن الأعمال بالنية ، و الجزاء على مقدار الإخلاص .

 

·       فصل : ذل العارف بالحاجة إلى التسبب

 
   
من عرف جريان الأقدار ثبت لها ، و أجهل الناس بعد هذا من قاواها ، لأن مراد المقدار الذل له ، فإذا قاويت القدر فلنت مرادك من ذلك لم يبق لك ذل .
   
مثال هذا : أن يجوع الفقير فيصبر قدر الطاقة ، فإذا عجز خرج إلى سؤال الخلق مستحياً من الله كيف يسألهم ، و إن كان له عذر بالحجة لتي ألجأته ، غير أنه يرى أنه مغلوب الصبر فيبقى معتذراً مستحياً و ذاك المراد منه .
   
أو ليس بخروج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة فلا يقدر على العود إليها حتى يدخل في خفارة المطعم بن عدي و هو كافر .
   
فسبحان من ناط الأمور بالأسباب ، ليحصل ذل بالحاجة إلى التسبب .
   

·       فصل : البلاء و الصبر

 
   
سبحان المتصرف في حقله بالإغتراب و الإذلال ليبلو صبرهم ، و يظهر جواهرهم في الإبتلاء .
   
هذا آدم صلى الله عليه و سلم ، تسجد له الملائكة ، ثم بعد قليل يخرج من الجنة .
   
و هذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه ، ثم بعد قليل ينجو في السفينة ، و يهلك أعداؤه .
   
و هذا الخليل عليه السلام يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة .
   
و هذا الذبيح يضطجع مستسلماً ، ثم يسلم و يبقى المدح .
   
و هذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول .
   
و هذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعي ثم يرقى إلى التكليم .
   
و هذا نبينا محمد صلى الله عليه و سلم يقال له بالأمس اليتيم ، و يقلب في عجائب يلاقيها من الأعداء تارة ، و من مكائد الفقر أخرى ، و هو أثبت من جبل حراء . ثم لما تم مراده من الفتح ، و بلغ الغرض من أكبر الملوك و أهل الأرض نزل به ضيف النقلة ، فقال : و اكرباه .
   
فمن تلمح بحر الدنيا ، و علم كيف تتلقى الأمواج ، و كيف يصبر على مدافعة الأيام ، لم يستهول نزول بلاء ، و لم يفرح بعاجل رخاء .

 

·       فصل : عليك من العمل ما تطيق


   
ينبغي للعاقل ألا يقدم على العزائم حتى يزن نفسه هل يطيقها ؟ و بحرب نفسه في ركوب بعضها سراً من الخلق ، فإنه لا يأمن أن يرى في حالة لا يصبر عليها ، ثم يعود فيفتضح ، مثال : رجل سمع بذكر الزهاد فرمى ثيابه الجميلة و لبس الدون و إنفرد في زواية ، و غلب على قلبه ذكر الموت و الآخرة ، فلم يلبث متقاضي الطبع أن ألح بما جرت به العادة .
   
فمن القوم من عاد بمرة إلى أكثر مما كان عليه كأكل الناقة من مرض ، و منهم من توسط الحال فبقي كالمذبذب .
   
و إنما العاقل هو الذي يستر نفسه بين الناس بثوب وسط لا يخرجه من أهل الخير ، و لا يدخله في زي أهل الفاقة ، فإن قويت عزيمته عمل في بيته ما يطيق ، و ترك ثوب التجمل لستر الحال ، و لم يظهر شيئاً للخلق ، فإنه أبعد من الرياء ، و أسلم من الفضيحة .
   
و في الناس من غلب عليه قصر الأمل و ذكر الآخرة حتى دفن كتب العلم ، و هذا الفعل عندي من أعظم الخطأ و إن كان منقولاً عن جماعة من الكبار .
   
و لقد ذكرت هذا لبعض مشايخنا فقال : أخطأوا كلهم و قد تأولت لبعضهم بأنه كان فيها أحاديث عن قوم ضعفاء و لم يميزوها ، كما روى عن سفيان في دفن كتبه .
   
أو كان فيها شيء من الرأي فلم يحبوا أن يؤخذ عنهم فكان من جنس تحريق عثمان بن عفان رضي الله عنه للمصاحف لئلا يؤخذ بشيء مما فيها من المجمع على غيره .
   
و هذا التأويل يصح في حق علمائهم .
   
فأما غسل أحمد بن أبي الحواري كتبه ، و ابن أسباط ، فتفريط محض .
   
فالحذر الحذر من فعل يمنع منه الشرع ، أو من إرتكاب ما يظن عزيمة و هو خطيئة ، أو من إظهار ما لا يقوى عليه المظهر فيرجع القهقرى .
   
و عليكم من العمل بما تطيقون كما قال صلى الله عليه و سلم .

 

·       فصل : لا خير في لذة بعد العقاب

 
   
أجل الجهال من آثر عاجلاً على آجل لا يأمن سوء مغبته ، فكم قد سمعنا عن سلطان و أمير و صاحب مال أطلق نفسه في شهواتها ، و لم ينظر في حلال و حرام فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ ، و لقي من مرير الحسرات ما لا يقاومه و لا ذرة من كل لذة .
   
و لو كان هذا فحسب لكفى حزناً كيف و الجزاء الدائم بين يديه .
   
فالدنيا محبوبة للطبع لا ريب في ذلك و لا أنكر على طالبها و مؤثر شهواتها .
   
و لكن ينبغي له أن ينظر في كسبها و يعلم وجه أخذها ، ليسلم له عاقبة لذته ، و إلا فلا خير في لذة من بعدها النار .
   
و هل عد في العقلاء قط من قيل له : إجلس في المملكة سنة ثم نقتلك .
   
هيهات بل الأمر بالعكس و هو أن العاقل من صابر مرارة الجهد سنة بل سنين ليستريح في عاقبته .
   
و في الجملة أف للذة أعبت عقوبة .
   
و قد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال : أخبرنا أبو بكر الخطيب ، قال : أخبرنا الحسن بن أبي طالب ، قال : حدثنا يوسف بن عمر القواس ، قال : حدثنا الحسين بن إسماعيل إملاء ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي سعد ، قال : حدثنا محمد بن أبي مسلمة البلخي ، قال : حدثنا محمد بن علي القوهستاني ، قال : حدثنا دلف بن أبي دلف قال : [ رأيت كأن آتياً أتى بعد موت أبي فقال أجب الأمير . فقمت معه ، فأدخلني دار وحشة ، و عرة سوداء الحيطان ، مقلمة السقوف و الأبواب ، ثم أصعدني درجاً فيها . ثم أدخلني غرفة ، فإذا في حيطانها أثر النيران ، و إذا في أرضها أثر الرماد و إذا بأبي عريان واضعاً رأسه بين ركبتيه فقال لي كالمستفهم : دلف ؟ قلت : نعم أصلح الله الأمير ] . فأنشأ يقول :
   
أبلغن أهلنا و لا تخف عنهم       ما لقينا في البرزخ الخفاق
   
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا       فارحموا وحشتي و ما قد ألاقي
   
أفهمت ؟ قلت : نعم ؟ فأنشأ يقول :
   
فلو إنا إذا متنا تركنا       لكان الموت راحة كل حي
   
و لكن إذا متنا بعثنا       و نسأل بعده عن كل شيء

 

·       فصل : الله أعلم بما يصلح عبده

 
   
اللذات كلها بين حسي و عقلي ، فنهاية اللذات الحسية و أعلاها النكاح ، و غاية اللذات العقلية العلم ، فمن حصلت له الغاياتان في الدنيا فقد نال النهاية ، و أنا أرشد الطالب إلى أعلى المطلوبين ، غير أن للطالب المرزوق علامة و هو أن يكون مرزوقاً علو الهمة ، و هذه الهمة تولد مع الطفل فتراه من زمن طفولته يطلب معالي الأمور .
   
كما يروى في الحديث أنه كان لعبد المطلب مفرش في الحجر ، فكان النبي صلى الله عليه و سلم يأتي و هو طفل فيجلس عليه ، فيقول عبد المطلب : [ إن لإبني هذا شأناً ] .
   
فإن قال قائل : فإذا كانت لي همة و لم أرزق ما أطلب فما الحيلة ؟
   
فالجواب : أنه إذا امتنع الرزق من نوع لم يمتنع من نوع آخر .
   
ثم من البعيد أن يرزقك همة و لا يعينك ، فأنظر في حالك فلعله أعطاك شيئاً ما شكرته ، أو إبتلاك بشيء من الهوى ما صبرت عنه .
   
و اعلم أنه ربما زوى عنك من لذات الدنيا كثيراً ليؤثرك بلذات العلم ، فإنك ضعيف ربما لا تقوى على الجمع ، فهو أعلم بما يصلحك .
   
و أما ما أردت شرحه لك فإن الشاب المبتدئ طلب العلم ينبغي له أن يأخذ من كل علم طرفاً ، و يجعل علم الفقه الأهم ، و لا يقصر في معرفة النقل ، فيه تبين سير الكاملين ، و إذا رزق فصاحة من حيث الوضع ، ثم أضيف إليها معرفة اللغة و النحو فقد شحذت شفرة لسانه على أجود مسن . و متى أدى العلم لمعرفة الحق و خدمة الله عز وجل فتحت له أبواب لا تفتح لغيره .
   
و ينبغي له بالتلطف أن يجعل جزءاً من زمانه مصروفاً إلى توفير الإكتساب و التجارة ، مستنيباً فيها ، غير مباشر لها مع التدبير في العيش الممتن من الإسراف و التبذير .
   
فإن رواية العلم و العمل به إلى درجة المعرفة لله عز وجل آسرة للمشاعر ، فربما شغلته لذة ما وصل إليه عن كل شيء ، و يا لها حالة سليمة من آفة . و إن وجد من طبعه منازعاً إلى الشوق في النكاح فليتخير السراري فإن الحرائر في الأغلب غل ، و ليعزل عن المملوكات إلى أن يجرب خلقهن و دينهن ، فإن رضيهن طلب الولد منهن ، و إلا فالإستبدال بهن سهل .
   
و لا يتزوج حرة إلا أن يعلم أنها تصبر على التزويج عليها و التسري ، و لكن قصده الاستمتاع بها لا إجهاد النفس في الإنزال .
   
فإن ذلك يهدم قوته فيضعف الأصل .
   
فهذه الحالة الجامعة من لذتي الحسن و العقل ذكرتها على وجه الإشارة .
   
و فهم الذكي يملى عليه ما لم أشرحه .

 

·       فصل : من قصد وجه الله بالعلم دله على الأحسن


   
إعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة ، و من الغلط الإنهماك في الإعادة ليلاً و نهاراً ، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض .
   
و قد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباري في مرض موته ، فنظر إلى مائة كتاب و قال : [ قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد ] ، ثم خرج فقال : [ ما يجيء منه شيء ] ، فقيل له : [ ما الذي كنت تفعل ؟ ] قال : [ كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة ] .
   
و من الغلط تحميل القلب حفظ الكثير أو الحفظ من فنون شتى ، فإن القلب جارحة من الجوارح ، و كما أن من الناس من يحمل المائة رطل ، و منهم من يعجز عن عشرين رطلاً ، فكذلك القلوب .
   
فليأخذ الإنسان على قدر قوته و دونها ، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه أوقات .
   
كما أن الشره يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات ، و الصواب أن يأخذ قدر ما يطيق و يعيده في وقتين من النهار و الليل ، و يرزقه القوى في بقية الزمان ، و الدوام أصل عظيم .
   
فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ قد نسي .
   
و للحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا و ما يقاربه من أوقات الزمان ، و أفضلها إعادة الأسحار و أنصاف النهار ، و الغدوات خير من العشيات ، و أوقات الجوع خير من أوقات الشبع .
   
و لا يحمد الحفظ بحضرة خضرة و على شاطئ نهر ، لأن ذلك يلهي .
   
و الأماكن العالية للحفظ خير من السوافل .
   
و للخلوة أصل ، و جمع الهم أصل الأصول .
   
و ترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ليثبت المحفوظ و تأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبني عليه .
   
تقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم ، و ألا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله .
   
و من لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه ، فإن مكابرة النفس لا تصلح .
   
و إصلاح المزاح من الأصول العظيمة ، فإن للمأكولات أثراً في الحفظ .
   
قال الزهري : [ ما أكلت خلاً منذ عالجت الحفظ ] .
   
و قيل لأبي حنيفة : بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال : بجمع الهم .
   
و قال حماد بن سلمة : [ بقلة الغم ] .
   
و قال مكحول : من نظف ثوبه قل همه ، و من طابت ريحه زاد عقله ، و من جمع بينهما زادت مروءته .
   
و أختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعين سنة ، و هذا لأجل جمع الهم ، فإن غلب عليه الأمر تزوج و اجتهد في المدافعة بالفعل لتتوفر القوة على إعادة العلم . ثم لينظر ما يحفظ من العلم ، فإن العمر عزيز ، و العلم غزير .
   
و إن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه ، و إن كان كل العلوم حسناً ، و لكن الأولى تقديم الأهم و الأفضل .
   
و أفضل ما تشاغل به حفظ القرآن ثم الفقه ، و ما بعد هذا بمنزلة تابع ، و من رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل ، و من قصد وجه الله تعالى بالعلم دله المقصود على الأحسن و اتقوا الله و يعلمكم الله .

 

·       فصل : التوبة النصوح

 
   
من أراد دوام العافية و السلامة ، فليتق الله عز وجل .
   
فإنه ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافيه التقوى و إن قل إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة .
   
و من الإغترار أن تسيء فترى إحساناً فتظن أنك قد سومحت ، و تنسى : من يعمل سوءاً يجز به .
   
و ربما قالت النفس : إنه يغفر فتسامحت . و لا شك أنه يغفر و لكن لمن يشاء .
   
و أنا أشرح لك حالاً فتأمله بفكرك تعرف معنى المغفرة .
   
و ذلك أن من هفا هفوة لم يقصدها و لم يعزم عليها قبل الفعل و لا عزم على العود بعد الفعل ثم إنتبه لما فعل فإستغفر الله كان فعله و إن دخله عمداً في مقام خطأ ، مثل أن يعرض له مستحسن فيغلبه الطبع فيطلق النظر و يتشاغل في حال نظره بالتذاذ الطبع عن تلمح معنى النهي ، فيكون كالغائب أو كالسكران ، فإذا انتبه لنفسه ندم على فعله فقام الندم بغسل تلك الأوساخ التي كانت كأنها غلطة لم تقصد .
   
فهذا معنى قوله تعالى : إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون .
   
فأما المداوم على تلك النظرة المردد لها ، المصر عليها ، فكأنه في مقام متعمد للنهي مبارز بالخلاف ، فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره .
   
و من البعد ألا يرى الجزاء على ذلك ، كما قال ابن الجلاء : رآني شيخي و أنا قائم أتأمل حدثاً نصرانياً ، فقال : [ ما هذا ؟ لترين غبها و لو بعد حين ، ] فنسيت القرآن بعد أربعين سنة .
   
و اعلم أنه من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب ، فإن العقوبة تتأخر .
   
و من أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها ، و أن تكون في سلب الدين و طمس القلوب و سوء الإختيار للنفس ، فيكون من آثارها سلامة البدن و بلوغ الأغراض .
   
قال بعض المعتبرين : أطلقت نظري فيما لا يحل لي ، ثم كنت أنتظر العقوبة . فألجئت إلى سفر طويل لا نية لي فيه ، فلقيت المشاق ، ثم أعقب ذلك موت أعز الخلق عندي ، و ذهاب أشياء كانت لها وقع عظيم عندي ، ثم تلافيت أمري بالتوبة فصلح حالي ، ثم عاد الهوى فحملني على إطلاق بصري مرة أخرى ، فطمس قلبي و عدمت رقته ، و أستلب مني ما هو أكثر من فقد الأول ، و وقع لي تعويض عن المفقود بما كان فقده أصلح ، فلما تأملت ما عوضت و ما سلب من صحت من ألم تلك السياط .
   
فها أنا أنادي من على الساحل : إخواني احذروا لجة هذا البحر ، و لا تغتروا بسكونه ، و عليكم بالساحل ، و لازموا حصن التقوى فالعقوبة مرة .
   
و إعلموا أن ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض و المشتهيات ، غير أنها في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة ، و التخليط ربما جلب موت الفجأة .
   
و بالله لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضى المبتلي كان قليلاً في نيل رضاه ، و لو بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا مع إعراضه عنكم كانت سلامتكم هلاكاً ، و عافيتكم مرضاً ، و صحتكم سقماً ، و الأمر بآخره ، و العاقل من تلمح العواقب .
   
و صابروا رحمكم الله تعالى هجير البلاء ، فما أسرع زواله .
   
و الله الموفق ، إذ لا حول إلا به ، و لا قوة إلا بفضله .

 

·       فصل : خطر الإشتغل بعلم الكلام دون علم

 
   قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم فارتقوا منابر التذكير للعوام فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون : ليس الله في الأرض كلام ، و هل المصحف إلا ورق و عفص و زاج ، و إن الله ليس في السماء ، و إن الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه و سلم : أين الله ؟ كانت خرساء فأشارت إلى السماء ، أي ليس هو من الأصنام التي تعبد في الأرض . ثم يقولون : أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف و صوت ، هذا عبارة جبريل .
   
فلما زالوا كذلك حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام ، و صار أحدهم يسمع فيقول هذا هو الصحيح ، و إلا فالقرآن شيء يجيء به جبريل في كيس .
   
فشكا إلى جماعة من أهل السنة ، فقلت لهم : إصبروا فلا بد للشبهات أن ترفع رأسها في بعض الأوقات و إن كانت مدموغة ، و للباطل جولة ، و للحق صولة ، و الدجالون كثر ، و لا يخلو بلد ممن يضرب البهرج على مثل سكة السلطان .
   
قال قائل : فما جوابنا عن قولهم ؟ قلت : إعلم ـ و فقك الله تعالى ـ أن الله عز وجل و رسوله صلى الله عليه و سلم قنعا من الخلق بالإيمان بالجمل و لم يكلفهم معرفة التفاصيل ، إما لأن الإطلاع على التفاصيل يخبط العقائد ، و إما لأن قوى البشر تعجز عن مطالعة ذلك .
   
فأول ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم إثبات الخالق ، و نزل عليه القرآن بالدليل على وجود الخالق بالنظر في صنعه ، فقال تعالى : أمن جعل الأرض قراراً و جعل خلالها أنهاراً .
   
و قال تعالى : و في أنفسكم أفلا تبصرون .
   
و ما زال يستدل على و جوده بمخلوقاته ، و على قدرته بمصنوعاته ، ثم أثبت نبوة نبيه بمعجزاته ، و كان من أعظمها القرآن الذي جاء به ، فعجز الخلائق عن مثله ، و إكتفى بهذه الأدلة جماعة من الصحابة ، و مضى على ذلك القرآن الأول و المشرب صاف لم يتكدر ، و علم الله عز وجل ما سيكون من البدع ، فبالغ في إثبات الدلة وملأ بها القرآن .
   
و لما كان القرآن هو منبع العلوم ، و أكبر المعجزات للرسول ، أكد الأمر فيه فقال تعالى و هذا كتاب أنزلناه مبارك و ننزل من القرآن ما هو شفاء .
   
فأخبر أنه كلامه بقوله تعالى : يريدون أن يبدلوا كلام الله .
   
و أخبر أنه مسموع بقوله تعالى : حتى يسمع كلام الله .
   
و أخبر أنه محفوظ فقال تعالى : في لوح محفوظ .
   
و قال تعالى : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم .
   
و أخبر أنه مكتوب و متلو ، فقال تعالى : و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك .
   
إلى ما يطول شرحه من تعدد الآيات في هذه المعاني التي توجب إثبات القرآن .
   
ثم نزه نبيه صلى الله عليه و سلم عن أن يكون أتى من قبل نفسه . فقال تعالى : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك .
   
و تواعده لو فعل ، فقال تعالى : و لو تقول علينا بعض الأقاويل .
   
و قال في حق الزاعم إنه كلام الخلق حين قال : إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر .
   
و لما عذب كل أمة بنوع عذاب تولاه بعض الملائكة كصيحة جبريل عليه السلام بثمود ، و إرسال الريح على عاد ، و الخسف بقارون ، و قلب جبريل ديار قوم لوط عليه السلام ، و إرسال الطير الأبابيل على من قصد تخريب الكعبة .
   
و تولى هو بنفسه عقاب المكذبين بالقرآن ، فقال تعالى : ذرني و من يكذب بهذا الحديث ذرني و من خلقت وحيداً .
   
و هذا لأنه أصل هذه الشرائع و المثبت لكل شريعة تقدمت . فإن جميع الملل ليس عندهم ما يدل على صحة ما كانوا فيه إلا كتابنا ، لأن كتبهم غيرت و بدلت .
   
و قد علم كل ذي عقل أن القائل : إن هذا إلا قول البشر إنما أشار إلى ما سمعه .
   
و لا يختلف أولو الألباب وأهل الفهم للخطاب ، أن قوله و إنه كناية عن القرآن ، و قوله : نزل به كناية أيضاً عنه ، و قوله : هذا كتاب إشارة إلى حاضر .
   
و هذا أمر مستقر لم يختلف فيه أحد من القدماء في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة رضوان الله عليهم ، ثم دس الشيطان دسائس البدع ، فقال قوم : هذا المشار إليه مخلوق ، فثبت الإمام أحمد رحمه الله ثبوتاً لم يثبته غيره على دفع هذا القول ، لئلا يتطرق إلى القرآن ما يمحو بعض تعظيمه في النفوس ، و يخرجه عن الإضافة إلى الله عز وجل .
   
و رأى أن إبتداع ما لم يقل فيه لا يجوز إستعماله فقال : كيف أقول ما لم يقل .
   
ثم لم يختلف الناس في غير ذلك ، إلى أن نشأ علي بن إسماعيل الأشعري فقال مرة بقول المعتزلة ، ثم عن له فإدعى أن الكلام صفة قائمه بالنفس ، فأوجبت دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق .
   
و زادت فخبطت العقائد تعالى فما زال أهل البدع يجوبون في تيارها إلى اليوم .
   
و الكلام في هذه المسألة مرتب بذكر الحجج و الشبه في كتب الأصول ، فلا أطيل به ههنا ، بل أذكر لك جملة تكفي من أراد الله هداه ،و هو أن الشرع قنع منا بالإيمان جملة ، و بتعظيم الظواهر ، و نهى عن الخوض فيما يتير غبار شبهة ، و لا تقوى على قطع طريقه أقدام الفهم .
   
و إذا كان قد نهى عن الخوض في القدر فكيف يجوز الخوض في صفات المقدر ؟ . .
   
و ما ذاك إلا لأحد الأمرين اللذين ذكرتهما ، إما لخوف إثارة شبهة تزلزل العقائد ، أو لأن قوى البشر تعجز عن إدراك الحقائق .
   
فإذا كانت ظواهر القرآن تثبت و جود القرآن فقال قائل :ليس ههنا قرآن ، فقد رد الظواهر التي تعب الرسول صلى الله عليه و سلم في إثباتها ، و قرر و جودها في النفوس .
   
و بماذا يحل و يحرم ، و يبت و يقطع ، و ليس عندنا من الله تعالى تقدم بشيء .
   
و هل للمخالف دليل إلا أن يقول : قال الله فيعود فيثبت ما نفى ؟
   
فليس الصواب لمن وفق إلا الوقوف مع ظاهر الشرع ، فإن إعترضه ذو شبهة فقال : هذا صوتك و هذا خطك ، فأين القرآن ؟ فليقل له : قد أجمعنا أنا و أنت على وجود شيء به نحتج جميعاً .
   
و كما أنك تنكر على أن أثبت شيئا لا يتحقق لي إثباته حساً ، فأنا أنكر عليك كيف تنفي وجود شيء قد ثبت شرعاً .
   
و أما قولهم : هل في المصحف إلا ورق و عفص و زاج ، فهذا كقول القائل : هل الآدمي إلا لحم و دم ؟
   
هيهات أن معنى الآدمي هو الروح ، فمن نظر إلى اللحم و الدم و قف مع الحس .
   
فإن قال : فكذا أقول إن المكتوب غير الكتابة : قلنا له : و هذا مما ننكره عليك لأنه لا يثبت تحقيق هذا لك و لا لخصمك ، فإن أردت بالكتابة الحبر و تخطيطه فهذا ليس هو القرآن ، و إن أردت المعنى القائم بذلك فهذا ليس هو الكتابة .
   
و هذه الأشياء لا يصلح الخوض فيها ، فإن ما دونها لا يمكن تحقيقه على التفصيل كالروح مثلاً ، فإنا نعلم وجودها في الجملة ، فأما حقيقتها فلا .
   
فإذا جهلنا حقائقها كنا لصفات الحق أجهل ، فوجب الوقوف مع السمعيات ، مع نفي ما لا يليق ،لأن الخوض يزيد الخائض تخبيطاً و لا يفيده تحصيلاً ، بل يوجب عليه نفي ما يثبت بالسمع من غير تحقيق أمر عقلي ، فلا وجه للسلامة إلا طريق السلف و السلام .
   
و كذلك أقول إن إثبات الإله بظواهر الآيات و السنن ألزم للعوام من تحديثهم بالتنزيه ، و إن كان التنزبه لازماً .
   
و قد كان ابن عقيل يقول : [ الأصلح فعتقاد العوام ظواهر الآي و السنن ، لأنهم يأنسون بالإثبات ، فمتى محونا ذلك من قولبهم زالت السياسات و الحشمة ] .
   
و تهافت العوام في الشبهة أحب إلي من إغراقهم في التنزيه ، لأن التشبيه يغمسهم في الإثبات ، فيطمعوا و يخافوا شيئاً قد أنسوا إلى ما يخاف مثله و يرجى .
   
فالتنزيه يرمي بهم إلى النفي ، و لا طمع و لا مخافة من النفي .
   
و من تدبر الشريعة رآها عامة للمكلفين في التشبيه بالألفاظ التي لا يعطي ظاهرها سواه كقول الأعرابي : أو يضحك ربنا ؟ قال : نعم ، فلم يكفر من هذا القول .

 

·       فصل : ابتلاء العارف مزيد من الكمال


   
، أعظم البلايا أن يعطيك همه عالية و يمنعك من العمل بمقتضاها ، فيكون من تاثير همتك الأنفة من قبول إرفاق الخلق استثقالاً لحمل مننهم ، ثم يبتليك بالفقر فتأخذ منهم ، و يلطف مزاجك ، فلا تقبل من المأكولات ما سهل إحضاره فتحتاج إلى فضل نفقة ، ثم يقلل رزقك و يعلق همتك بالمستحسنات ، و يقطع بالفقر السبيل إليهن .
   
و يريك العلوم في مقام معشوق ، و يضعف بذلك عن الإعادة ، و يخلي يديك من المال الذي تحصل به الكتب ، و يقوي توقك إلى درجات العارفين و الزهاد ، و يحوجك إلى مخالطة أرباب الدنيا و هذا البلاء المبين .
   
و اما الخسيس الهمة الذي لا يستنكف من سؤال الخلق ، و لا يرى الإستبدال بزوجته ، و يكتفي بيسير من العلم ، و لا يتوق إلى أحوال العارفين ، فذاك لا يؤلمه فقد شيء ، و يرى ما وجد هو الغاية ، فهو يفرح فرح الأطفال بالزخارف ، فما أهون الأمر عليه .
   
إنما البلاء على العارف ذي الهمة العالية الذي تدعوه همته إلى جميع الأضداد للتزيد من مقام الكمال ، و تقصر خطاه عن مدارك مقصودة .
   
فيا له من حال ينفد في طريقه زاد الصابرين .
   
و لولا حالات غفلة تعتري هذا المبتلي يعيش بها لكان دوام ملاحظته للمقامات يعمي بصره ، و اجتهاده في السلوك يخفي قدمه .
   
لكن ملاحظات الإمداد له تارة ببلوغ بعض مراده ، و تارة بالغفلة عما قصد ، تهون عليه العيش .
   
و هذا كلام عزيز لا يفهمه إلا أربابه ، و لا يعلم كنهه إلا أصحابه .

 

·       فصل : الحزم أولى

 
   
تراعنت علي نفسي في طلبها شيئاً من أغراضها بتأويل فاسد ، فقلت لها : بالله عليك تصبري ، فإن في المعبر شغلاً يحذر الغرق من كثرة الموج عن التنزه في عجائب البحر . إذا هممت بفعل فقدري حصوله ، ثم تلمحي عواقبه ، و ما تجتنين من ثمراته ، فأقل ذلك الندم على ما فعلت ، و لا يؤمن أن يثمر غضب الحق عز وجل ، و إعراضه عنك ، فأف للقاطع عنه و لو كان الجنة .
   
ثم إعلمي أيتها النفس أنه ما يمضي شيء جزافاً ، و أن ميزان العدل تبين فيه الذرة ، فتلمحي الأموات و الأحياء ، و انظري إلى من نشر ذكره بالخير و الشر ، و زيادة ذلك و نقصانه .
   
فسبحان من أظهر دليل الخلوات على أربابها ، حتى أن حبات القلوب تتعلق بأهل الخير ،
   
و تنفر من أهل الشر من غير مطالعة لشيء من أعمال الكل .
   
قال إبليس : أو تترك مرادك لأجل الخلق ؟
   
قلت : لا ، إنما هذا بعض الثمرات الحاصلة لا عن الغرض .
   
و نحن نرى من يمشي ثلاثين فرسخاً ليقال ساع ، فالمتقي قد نال شرف الذكر و إن لم يقصد نيل ذلك مترجحاً له في وزن الجزاء سيجعل لهم الرحمن وداً .
   
النفس : لقد أمرتني بالصبر على العذاب ،لأن ترك الأغراض عذاب .
   
قلت : لك عن الغرض عوض ، و من كل متروك بدل ، و أنت في مقام مستعبد و لا يصح للأجير أن يلبس ثياب الراحة في زمان الإستئجار ، و كل زمان المتقي نهار صوم .
   
و من خاف العقاب ترك المشتهى ، و من رام القرب إستعمل الورع ، و للصبر حلاوة تبين في العواقب .

 

·       فصل : البعد عن أسباب الفتنة

 
   
من نازعته نفسه إلى لذة محرمة ، فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها و عقابها و سمع هتاف العقل يناديه : و يحك لا تفعل ، فإنك تقف عن الصعود ، و تأخذ في الهبوط ، و يقال لك : إبق بما إخترت ، فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له ، لم يزل في نزول ، و كان مثله في سوء إختياره كالمثل المضروب : أن الكلب قال للأسد : ياسيد السباع ، غير إسمي فإنه قبيح ، فقال له : أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الإسم ، قال : فجربني فأعطاه شقة لحم و قال : إحفظ لي هذه إلى غد و انا أغير إسمك ، فجاع و جعل ينظر إلى اللحم ، و يصبر ، فلما غلبته نفسه قال : و أي شيء بإسمي ؟ و ما كلب إلا إسم حسن . فأكل .
   
و هكذا الخسيس الهمة ، القنوع بأقل المنازل ، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل .
   
فا الله الله في حريق الهوى إذا ثار ، و انظر كيف تطفئه ، فرب زلة أوقعت في بئر بوار ، و رب أثر لم ينقلع ، و الفائت لا يستدرك على الحقيقة ، فابعد عن أسباب الفتنة ، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم ، و السلام .

 

·       فصل : جهاد الشيطان


   
رأيت الخلق كلهم في صف محاربة ، و الشياطين يرمونهم بنبل الهوى ، و يضربونهم بأسياف اللذة .
   
فأما المخلوق فصرعى من أول وقت اللقاء .
   
و أما المتقون ففي جهد جهيد من المجاهدة ، فلا بد مع طول الوقوف في المحاربة من جراح ، فهم يجرحون و يداوون إلا أنهم من القتل محفوظون .
   
بل ، إن الجراحة في الوجه شين باق ، فليحذر ذلك المجاهدون .

 

·       فصل : حذار من الدنيا


   
الدنيا فخ ، و الجاهل بأول نظرة يقع ، فأما العاقل المتقي فهو يصابر المجاعة و يدور حول الحب والسلامة بعيدة .
   
فكم من صابر إجتهد سنين ، ثم في آخر الأمر وقع .
   
فالحذر الحذر . فقد رأينا من كان سنن الصواب ، ثم زل على شفير القبر .

 

·       فصل : عجل بالتوبة من الذنوب


   
إعلموا إخواني و من يقبل نصيحتي ، أن للذنوب تأثيرات قبيحة ، مرارتها تزيد على حلاوتها أضعافاً مضاعفة .
   
و المجازي بالمرصاد ، لا يسبقه شيء ، و لا يفوته .
   
أو ليس يروي التفسير ، أن كل واحد من أولاد يعقوب عليهم السلام و كانوا إثنى عشر ـ ولد له إثنا عشر ولداً ، إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر و جوزي بتلك الهمة فنقص ولداً .
   
فوا أسفاً لمضروب بالسياط ما يحسن بالألم ، و لمثخن بالجراح و ما عنده من نفسه خبر ، و لمتقلب في عقوبات ما يدري بها .
   
و لعمري أن أعظم العقوبة ألا يدري بالعقوبة .
   
فواعجباً للمغالط نفسه ، يرضي ربه بطاعة ، و يقول : حسنة ، و سيئة .
   
و يحك من كيسك تنفق ، و من بضاعتك تهدم ، و وجه جاهل تشين .
   
رب جراحة قتلت ، و رب عثرة أهلكت ، و رب فارط لا يستدرك .
   
و يحك انتبه لنفسك ما الذي تنتظر بأوبتك ؟ و ماذا تتقرب المشيب ؟ فها هو ذا أوهن العظم .
   
و هل بعد رحيل الأهل و الأولاد و الأقارب إلا اللحاق ؟
   
قدرأن ما تؤمله من الدنيا قد حصل ، فكان ماذا ؟ ما هو عاجل فشغلك عاجلاً . ثم آخر جرعة اللذة شرقة ، و إما أن تفارق محبوبك أو يفارقك . فيا لها جرعة مريرة ، تود عندنا أن لو لم تره .
   
آه لمحجوب العقل عن التأمل ، و لمصدود عن الورود ، و هو يرى المنهل .
   
أما في هذه القبور نذير ؟ أما في كرور الزمان زاجر ؟
   
أين من ملك وبلغ المنى فيما أمل ، نادهم في ناديهم ، هيهات صموا عن مناديهم فلو أن ما بهم الموت ، إنما هنيه . . . ثم القبور .
   
العمل حصل يا معدوماً بالأمس ، يا متلاشي الأشلاء في الغد ؟ بأي وجه تلقى ربك ؟ أيساوي ما تناله من الهوى لفظ عتاب ؟
   
با الله إن الرحمة يعد المعاتبة ، ربما لم تستوف قلع البغضة من صميم القلب .
   
فكيف إن أعقب العتاب عقاب ، و قد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال أخبرنا أبو بكر الخطيب ، قال أخبرنا محمد بن الحسين المعدل ، قال : أخبرنا أبو الفضل الزهري ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد الزعفراني ، قال : حدثنا أبو العباس بن واصل المقري ، قال : سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال : [ رأى جار لنا يحي بن أكثم بعد موته في منامه ، فقال ما فعل بك ربك ؟ فقال : وقفت بين يديه ، فقال لي : سوء لك ياشيخ ] .
   
فقلت : يارب إن رسولك قال : إنك لتستحي من أبناء الثمانين أن تعذبهم و أنا ابن ثمانين أسير الله في الأرض .
   
فقال لي : صدقت رسولي قد عفوت عنك .
   
و في رواية أخرى ،عن محمد بن سلم الخواص ، قال : [ رأيت يحي بن أكثم في المنام فقلت : ما فعل الله بك ؟ فقال : أوقفني بين يديه و قال لي : يا شيخ السوء لو لا شيبتك لأحرقتك بالنار ] .
   
و المقصود من هذا النظر بعين الاعتبار ، هل يفي هذا بدخول الجنة فضلاًعن لذات الدنيا ؟
   
فنسأل الله عز وجل أن ينبهنا من رقدات الغافلين ، و أن يرينا الأشياء كما هي لنعرف عيوب الذنوب و الله الموفق .      

 

·       فصل : القوي سبب الخروج من كل غم


   ضاق بي أمر أوجب غماً لا زماً دائماً ، و أخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة و بكل وجه . فما رأيت طريقاً للخلاص ، فعرضت لي هذه الآية : و من يتق الله يجعل له مخرجاً . فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم . فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج .
   
فلا ينبغي لمخلوق أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله تعالى و إمتثال أمره ، فإن ذلك سبب لفتح كل مرتج .
   
ثم أعجبه أن يكون من حيث لم يقدره المتفكر المحتال المدبر ، كما قال عز وجل : و يرزقه من حيث لا يحتسب .
   
ثم ينبغي للمتقي أن يعلم أن الله عز وجل كافيه فلا يعلق قلبه بالأسباب ، فقد قال عز وجل : و من يتوكل على الله فهو حسبه .

 

تدبير الحق خير من تدبيرك
   
من العجب إلحالك في طلب أغراضك و كما زاد تعويقها زاد إلحاحك ، و تنسى أنها قد تمنع لأحد أمرين ، إما لمصلحتك فربما معجل أذى ، و أما لذنوبك فإن صاحب الذنوب بعيد من الإجابة ، فنظف طرق الإجابة من أوساخ المعاصي ، و انظر فيما تطلبه هل هو لإصلاح دينك ، أو لمجرد هواك ؟
   
فإن كان للهوى المجرد ، فاعلم أن من اللطف بك و الرحمة لك تعويقة ، و أنت في إلحاحك بمثابة الطفل يطلب ما يؤذيه ، فيمنع رفقاً به .
   
و إن كان لصلاح دينك فربما كانت المصلحة تأخيره ، أو كان صلاح الدين بعدمه .
   
و في الجملة تدبير الحق عز وجل لك خير من تدبيرك ، و قد يمنعك ما تهوى إبتلاء ليبلو صبرك فأره الصبر الجميل تر عن قرب ما يسر .
   
و متى نظفت طرق الإجابة من أدران الذنوب ، و صبرت على ما يقضيه لك ، فكل ما يجري أصلح لك ، عطاء كان أو منعاً .

 

·       فصل : الإستعداد ليوم الرحيل

 
   
يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً ، و لا يغتر بالشباب و الصحة ، فإن أقل من يموت الأشياخ ، و أكثر من يموت الشبان و لهذا يندر من يكبر ، و قد أنشدوا :
   
يعمر واحد فيغر قوماً       و ينسى من يموت من الشباب
   
و من الإغترار طول الأمل ، و ما من آفة أعظم منه ، فإنه لولا طول المل ما وقع إهمال أصلاً . و إنما يقدم المعاصي و يؤخر التوبة لطول الأمل و تبادر الشهوات ، و تنس الإنابة لطول الأمل . و إن لم تستطع قصر الأمل ، فإعمل عمل قصير الأمل و لا تمس حتى تنظر فيما مضى من يومك ، فإن رأيت زلة فامحها بتوبة . أو خرقاً فارقعه بإستغفار ، و إذا أصبحت فتأمل ما مضى في ليلك . و إياك و التسويف فإنه أكبر جنود إبليس :
   
و خذ لك منك على مهله       و مقبل عيشك لم يدبر
   
و خف هجمة لا تقيل العثا       ر و تطوي الورود على المصدر
   
و مثل لنفسك أي الرعيل       يضمك في حلبة المحشر
   
ثم صور لنفسك قصر العمر ، و كثرة الأشغال ، و قوة الندم على التفرط عند الموت ، و طول الحسرة على البدار بعد الفوت .
   
و صبور ثواب الكاملين و أنت ناقص ، و المجتهدين و أنت متكاسل ، و لا تخل نفسك من موعظة تسمعها ، و فكرة تحادثها بها ، فإن النفس كالفرس المتشيطن إن أهملت لجامه لم تأمن أن يرمي بك . و قد و الله دنستك أهواؤك ، و ضيعت عمرك .
   
فالبدار في الصيانة ، قبل تلف الباقي بالصبانة . فكم تعرقل في فخ الهوى جناح حازم ، و كم وقع في بئر بوار مخمور . و لا حول و لا قوة إلا الله .

 

·       فصل : أصلح ما بينك و بين الله

 
   
الحذر الحذر من المعاصي . فإن عواقبها سيئة ، و كم من معصية لا يزال صاحبها في هبوط أبداً مع تعثير أقدامه ، و شدة فقره و حسراته على ما تفوته من الدنيا ، و حسرة لمن نالها .
   
فلو قارب زمان جزائه على قبيحه الذي ارتكبه كان اعتراضه على القدر في فوات أغراضه يعيد العذاب جديداً ، فوا أسفاً لمعاقب لا يحسن بعقوبته .
   
و آه من عقاب يتأخر حتى ينسى سببه .
   
أو ليس ابن سيرين يقول : [ عيرت رجلاً بالفقر فافتقرت بعد أربعين سنة ]
   
و ابن الخلال يقول : [ نظرت إلى شاب مستحسن فنسيت القرآن بعد أربعين سنة ] .
   
فوا حسرة لمعاقب لا يدري أن أعظم العقوبة عدم الإحساس بها .
   
الله الله في تجويد التوبة عساها تكف كف الجزاء ، و الحذر الحذر من الذنوب خصوصاً ذنوب الخلوات ، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه ، و أصلح ما بينك و بينه في السر و قد أصلح لك أحوال العلانية .
   
و لا تغتر بستره أيها العاصي فربما يجذب عن عورتك ، و لا بحلمه فربما بغت العقاب .
   
و عليك بالقلق و اللجأ إليه و التضرع . فإن نفع شيء فذلك ، و تقوت بالحزن ، و تمزز كأس الدمع ، و احفر لمعول الأسى قليب قلب الهوى ، لعلك تنبط من الماء ما يغسل جرم جرمك .

 

·       فصل : لا يضيع عند الله شيء


   
إخواني : اسمعوا نصيحة من قد جرب و خبر .
   
إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يجلكم ، و بمقدار تعظيم قدره و احترامه يعظم أقداركم و حرمتكم .
   
و لقد رأيت و الله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه ، ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق ، و كانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه ، و قوة مجاهدته .
   
و لقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته ـ مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم ـ فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس ، و وصفته بما يزيد على ما فيه من الخير .
   
و رأيت من كان يرى الإستقامة إذا استقام ، فإذا زاغ مال عنه اللطف ، و لولا عموم الستر و شمول رحمة الكريم لا فتضح هؤلاء المذكورون ، غير أنه في الأغلب تأديب أو تلطف في العقاب كما قيل :
   
و من كان في سخطه محسنا       فكيف يكون إذا ما رضى
   
غير أن العدل لا يحابي ، و حاكم الجزاء لا يجور ، و ما يضيع عند الأمين شيء .

 

·       فصل : الزم محراب الإنابة


   أيها المذنب : إذا أحسست نفحات الجزاء فلا تكثرون الضجيج ، و لا تقولن قد تبت و ندمت ، فهلا زال عني من الجزاء ما أكره ! فلعل توبتك ما تحققت .
   
و إن للمجازاة زماناً يمتد امتداد المرض الطويل ، فلا تنجح فيه الحيل حتى ينقضي أوانه .
   
و إن بين زمان : و عصى إلى إبان : فتلقى مدة مديدة .
   
فاصبر أيها الخاطئ حتى يتخلل ماء عينيك خلال ثوب القلب المتنجس ، فإذا عصرته كف الأسى ، ثم تكررت دفع الغسلات حكماً بالطهارة .
   
بقى آدم يبكي على زلله ثلاث مائة سنة .
   
و مكث أيوب عليه السلام في بلائه ثماني عشرة سنة .
   
و أقام يعقوب يبكي على يوسف عليهما السلام ثمانين سنة .
   
و للبلايا أوقات ثم تنصرم ، و رب عقوبة امتدت إلى زمان الموت .
   
فاللازم لك لأن تلازم محراب الإنابة ، و تجلس جلسة المستجدي ، و تجعل طعامك القلق ، و شرابك البكاء ، فربما قدم بشير القبول فارتد يعقوب الحزن بصيراً .
   
و إن مت في سجنك فربما ناب حزن الدنيا عن حزن الآخرة ، و في ذلك ربح عظيم .

 

·       فصل : أطفئ نار الذنوب بدمع الندم

 
   
الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي ، فإن نارها تحت الرماد .
   
و بما تأخرت العقوبة ثم فجأت ، و ربما جاءت مستعجلة ، فليبادر بإطفاء ما أوقد من نيران الذنوب ، و لا ماء يطفئ تلك النار إلا ما كان من عين العين ، لعل خصم الجزاء يرضى قبل أن يبت الحاكم في حكمه .

 

·       فصل : قف على باب المراقبة وقوف الحارس

 
   
واعجباً من عارف بالله عز وجل يخالفه و لو في تلف نفسه .
   
هل العيش إلا معه ؟ هل الدنيا و الآخرة إلا له ؟
   
أف لمترخص في فعل ما يكره لنيل ما يحب .
   
تالله لقد فاته أضعاف ما حصل .
   
أقبل على ما أقوله يا ذا الذوق ، هل وقع لك تعثير في عيش ؟ و تخبيط في حال ؟ إلا حال مخالفته :
   
و لا إنثنى عزمي عن بابكم       إلا تعثرت بأذيالي
   
أما سمعت تلك الحكاية عن بعض السلف أنه قال : رأيت على سور بيروت شاباً يذكر الله تعالى فقلت له : ألك حاجة ؟
   
فقال : إذا وقعت لي حاجة سألته إياها بقلبي فقضاها .
   
يا أرباب المعاملة ، بالله عليكم لا تكدروا المشرب ، قفوا على باب المراقبة وقوف الحراس ، و ادفعوا مالاً يصلح أن يلج فيفسد ، و اهجروا أغراضكم لتحصيل محبوب الحبيب ، فإن أغراضكم تحصل .
   
على أنني أقول أف لمن ترك بقصد الجزاء : أهذا شرط العبودية ، كلا ؟ إنما ينبغي لي إذا كنت مملوكاً أن أفعل ليرضى لا لأعطى . فإن كنت محباً رأيت قطع الأرباب في رضاه وصلاً .
   
اقبل نصحي يا مخدوعاً بغرضه ، إن ضعفت عن حمل بلائه فاستغث به ، و إن آلمك كرب اختياره فإنك بين يديه ، و لا تيأس من روحه و إن قوي خناق البلاء ، بالله إن موت الخادم في الخدمة حسن عند العقلاء .
   
إخواني لنفسي أقول ، فمن له شرب معي فليتردد :
   
أيتها النفس لقد أعطاك ما لم تأملي ، و بلغك ما لم تطلبي ، و ستر عليك من قبيحك ما لو فاح ضجت المشام ، فما هذا الضجيج من فوات كمال الأغراض ؟
   
أمملوكة أنت أم حرة ؟ أما علمت أنك في دار التكليف ، و هذا الخطاب ينبغي أن يكون للجهال ، فأين دعواك المعرفة ؟
   
أتراه لو هبت نفحة فأخذت البصر ، كيف كانت تطيب لك الدنيا ؟
   
وا أسفاً عليك لقد عشيت البصيرة التي هي أشرف ، و ما علمت كم أقول عسى و لعل ؟ و أنت في الخطأ إلى قدام .
   
قربت سفينة العمر من ساحل القبر ، و ما لك في المركب بضاعة تربح .
   
تلاعبت في بحر العمر ريح الضعف ، ففرقت تلفيق القوى ، و كأن قد فصلت المركب ، بلغت نهاية الأجل و عين هواك تتلفت إلى الصبا .
   
بالله عليك لا تشمتي بك الأعداء ، هذا أقل الأقسام ، و أوفى منها ، أن أقول : بالله عليك لا يفوتنك قدم سابق مع قدرتك على قطع المضمار .
   
الخلوة ، الخلوة ، و استحضري قرين العقل ، و جولي في حيرة الفكر ، و استدركي صبابة الأجل ، قبل أن تميل بك الصبابة عن الصواب .
   
اعجباً كلما صعد العمر نزلت ، و كلما جد الموت هزلت .
   
أتراك ممن ختم له بفتنة ، و قضيت عليه آخر عمره المحنة ، كان أول عمرك خيراً من الأخير .
   
كنت في زمن الشباب أصلح منك في زمن أيام المشيب و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون .
   
نسأل الله عز وجل ما لا يحصل مطلوبنا إلا به ، و هو توفيقه إنه سميع مجيب .

 

·       فصل : من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه


   قدرت في بعض الأيام على شهوة للنفس ، هي عندها أحلى من الماء الزلال في فم الصادي .
   
و قال التأويل : ما ههنا مانع ، و لا معوق إلا نوع ورع .
   
و كان ظاهر الأمر امتناع الجواز ، فترددت بين الأمرين ، فمنعت النفس عن ذلك ، فبقيت حيرتي لمنع ما هو الغاية في غرضها من غير صاد بحال إلا حذر المنع الشرعي .
   
فقلت لها : يا نفس و الله ما من سبيل إلى تودين و لا ما دونه ؟
   
فتقلقلت ، فصحت بها : كم وافقتك في مراد ذهبت لذته و بقي التأسف على فعله ؟ فقدري بلوغ الغرض من هذا المراد ، أليس الندم يبقى في مجال اللذة أضعاف زمانها ؟
   
فقالت : كيف أصنع ؟ فقلت :
   
صبرت و لا و الله مابي جلادة       على الحب لكني صبرت على الرغم
   
و ها أنا أنتظر من الله عز وجل حسن الجزاء على هذا الفعل ، و قد تركت باقي هذه الوجهة البيضاء ، أرجوأن أرى حسن الجزاء على الصبر ، فأسطره فيه إن شاء الله تعالى ، فإنه قد يعجل جزاء الصبر و قد يؤخره ، فإن عجل ستره ، و إن أخر فما أشك في حسن الجزاء لمن خاف مقام ربه ، فإنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه .
   
و الله إني ما تركته إلا لله تعالى ، و يكفيني تركه ذخيرة ، حتى لو قيل لي : أتذكر يوماً آثرت الله على هواك ؟ قلت : يوم كذاو كذا .
   
فافتخري أيتها النفس بتوفيق من و فقك ، فكم قد خذل سواك .
   
و احذري أن تخذلي في مقلها ، و لا حول و لا قوة إلا با الله العلي العظيم .
   
و كان هذا في سنة إحدى و ستين و خمسمائة ، فلما دخلت سنة خمس و ستين ، عوضت خيراً من ذلك بما لا يقارب مما لا يمنع منه ورع و لا غيره .
   
فقلت : هذا جزاء الترك لأجل الله سبحانه في الدنيا ، و لأجر الآخرة خير و الحمد الله .

 

·       فصل : افتح عين التيقظ


   
لا أنكر على من طلب لذة الدنيا من طريق المباح ، لأنه ليس كل أحد يقوى على الترك ، إنما المحنة من طلبها فلم يجدها ، أو أكثرها ، إلا من طريق الحرام ، فاجتهد في تحصيلها ، و لم يبال كيف حصلت .
   
فهذه المحنة التي بخس العقل فيها حقه ، و لم ينتفع صاحبه بوجوده لأنه لو وزن ما آثر عقابه ، طاشت كفه اللذة التي فنيت عند أول ذرة من جزائها . و كم قد رأينا ممن آثر شهوته فسلبت دينه .
   
فاليعجب العاقل حين التصفح لأحوالهم ، كيف آثروا شيئاً ما أقاموا معه، و صاروا إلى عقاب لا يفارقهم .
   
فا الله الله في بخس العقول حقها .
   
و لينظر السالك أين يضع القدم ، فرب مستعجل و قع في بئر بوار .
   
و لتكن عين التيقظ مفتوحة ، فإنكم في صف حرب لا يدري فيه من أين يتلقى النبل ، فاأعينوا أنفسكم و لا تعينوا عليها .

 

·       فصل : متى تحقق المراقبة حصل الأنس

 
   الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد ، لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه .
   
فأمر بقصد نيته ، و رفع اليدين إليه ، و السؤال له . فقلوب الجهال تستشعر البعد ، و لذلك تقع منهم المعاصي ، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الكف عن الخطايا .
   
و المتيقظون علموا قربه فحضرهم المراقبة ، و كفتهم عن الانبساط .
   
و لولا نوع تغطية على عين المراقبة الحقيقية لما انبسطت كف بأكل ، و لا قدرت عين على نظر .
   
و من هذا الجنس إنه ليغان على قلبي و متى تحققت المراقبة حصل الأنس و إنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة ، لأن المخالفة توجب الوحشة ، و الموافقة مبسطة المستأنسين .
   
فيا لذة عيش المستأنسين ، و يا خسار المستوحشين .
   
و ليست الطاعة كما يظن أكثر الجهال أنها في مجرد الصلاة و الصيام ، إنما الطاعة الموافقة بامتثال الأمر و اجتناب النهي .
   
هذا هو الأصل و القاعدة الكلية ، فكم من متعبد بعيد ، لأنه مضيع الأصل ، و هادم للقواعد بمخالفة الأمر و ارتكاب النهي ، و إنما المحقق من أمسك ذؤابه ميزان المحاسبة للنفس ، فأدى ما عليه ، و اجتنب ما نهي عنه ، فإن رزق زيادة تنقل ، و إلا لم يضره ، و السلام .

 

·       فصل : دوام الود بحسن الائتلاف

 
   
الدنيا في الجملة معبر فينبغي للإنسان ألا ينافس بلذاتها ، و أن يعبر الأيام بها ، فإنه لو تفكر في كيفية الذبائح ، و وسخ من يباشرها ، و عمل الكامخ و غيرها من المأكولات ما طابت له .
   
و لو تفكر في جولان اللقمة مختلطة بالريق ما قدر على إساغتها .
   
و المرء لا يخلو من حالين ، إما أن يريد التنعم باللذات المباحات ، أو يريد دفع الوقت بالضرورات ، و أيهما طلب فلا ينبغي له أن يبحث فيما يناله عن باطنه ، فإنه لو نظر إلى عورة الزوجة نبا عنها ، و قد قالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا رآه مني .
   
فينبغي للعاقل أن يكون له وقت معلوم يأمر زوجته بالتصنع له فيه ، ثم يغمض عن التفتيش ليطيب له عيشه . و ينبغي لها أن تتفقد من نفسها هذا ، فلا تحصره إلا على أحسن حال ، و بمثل هذا يدوم العيش .
   
فأما إذا حصلت البذلة بانت بها العيوب ، فنبت النفس و طلبت الاستبدال ، ثم يقع في الثانية مثل ما وقع في الأولى .
   
وكذلك ينبغي أن يتصنع لها كتصنعها له ، ليدوم الود بحسن الائتلاف ، و متى لم يجر الأمر على هذا في حق من له أنفه من شيء تنبو عنه النفس ، و قع في أحد أمرين : إما الإعراض عنها ، و إما الاستبدال بها .
   
و يحتاج في حالة الإعراض إلى صبر عن أغراضه ، و في حالة الاستبدال إلى فضل مؤنه و كلاهما يؤذي . و متى لم يستعمل ما و صفنا لم يطب له عيش في متعه ، و لم يقدر على دفع الزمان كما ينبغي .

 

·       فصل : و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها

 
   
نازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع ، و جعلت تنصب لي التأويلات ، و تدفع الكراهة ، و كانت تأويلاتها فاسدة ، و الحجة ظاهرة علىالكراهة ، فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي ، و أقبلت على القراءة ، وكان درسي قد بلغ إلى سورة يوسف فافتتحتها ، و ذلك الخاطر قد شغل قلبي حتى لا أدري ما أقرأ ، فلما بلغت إلى قوله تعالى : قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنتبهت لها و كأني خوطبت بها .
   
فأفقت من تلك السكرة ، فقلت : يا نفس أفهمت ؟
   
هذا حر بيع ظلماً فراعي حق من أحسن إليه ، و سماه مالكاً ، و إن لم يكن له عليه ملك ، فقال : إنه ربي .
   
ثم زاد في بيان موجب كف كفه عما يؤذيه ، فقال : أحسن مثواي .
   
فكيف بك و أنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة و جودك ، و إن ستره عليك الزلل أكثر من عدد الحصا . أفما تذكرين كيف رباك ، و علمك ، و رزقك ، و دافع عنك ، و ساق الخير إليك ، و هداك أقوام طريق ، و نجاك من كل كيد ، و ضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن .
   
و سهل لك مدارك العلوم حتى نلت في قصير الزمان ما لم ينله غيرك في طويله ، و جلى في عرصة لسانك عرائس العلوم في حلل الفصاحة بعد أن ستر عن الخلق مقابحك ، فتلقوها منك بحسن الظن .
   
و ساق رزقك بلا كافة تكلف و لا كدر من رغداً غير نزر ؟ فو الله ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك ، حسن الصورة و صحة الآلات ؟ أم سلامة المزاج و اعتدال التركيب ؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة ؟ أم إلهام الرشاد منذ الصغر ؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش و الزلل ؟ أم تحبب طريق النقل و إتباع الأثر من غير جمود تقليد لمعظم ، و لا انخراط في سلك مبتدع ؟ و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .
   
كم كائد نصب لك المكايد فوقاك ؟
   
كم عدو حط منك بالذم فرقاك ؟
   
كم أعطش من شراب الأماني خلقاً و سقاك ؟
   
كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك و أبقاك ؟
   
فأنت تصبحين و تمسين سليمة البدن ، محروسة الدين ، في تزيد من العلم و بلوغ الأمل ، فإن منعت مراداً فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع ، فسلمي حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح .
   
و لو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنخ ذكره امتلأت الطروس و لم تنقع الكتابة ، و أنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر ، و أن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح ، فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه ؟ معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون .

 

·       فصل : أجود الأشياء قطع أسباب الفتن


   
ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة ، و قل أن يقاربها إلا من يقع فيها . و من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
   
قال بعض المعتبرين : قدرت مرة على لذة ظاهرها التحريم ، و تحتمل الإباحة ، إذ المر فيها مردد ، فجاهدت النفس فقالت : أنت ما تقدر فلهذا تترك ، فقارب المقدور عليه ، فإذا تمكنت فتركت كنت تاركاً حقيقة .
   
ففعلت و تركت ، ثم عاودت مرة أخرى في تأويل أرتني فيه الجواز ، و إن كان الأمر يحتمل ، فلما وافقتها أثر ذلك ظلمه في قلبي ، لخوف أن يكون الأمر محرماً ، فرأيت أنها تارة تقوى علي بالترخص و التأويل ، و تارة أقوى عليها بالمجاهدة و الإمتناع .
   
فإذا ترخصت لم آمن أن يكون ذلك المر محظوراً ، ثم أرى عاجلاً تأثير ذلك الفعل في القلب فلما لم آمن عليها بالتأويل تفكرت في قطع طمعها من ذلك الأمر المؤثر ، فلم أر ذلك إلا بأن قلت لها : قدري أن هذا الأمر مباح قطعاً ، فو الله لا إله إلا هو لا عدت إليه .
   
فانقطع طمعها باليمين و المعاهدة . و هذا أبلغ دواء وجدته في امتناعها ، لأن تأويلها لا يبلغ إلى أن تأمر بالحنث و التفكير .
   
فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن و ترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملاً و مؤدياً إلى ما لا يجوز ، الله الموفق .

 

·       فصل : سكرة الهوى حجاب


   
لولا غيبة العاصي في و قت المعاصي كان كالمعاند ، غير أن الهوى يحول بينه و بين الفهم للحال ، فلا يرى إلا قضاء شهوته.
   
و إلا فلو لاحت له المخلفة خرج من الدين بالخلاف ، فإنما يقصد هواه فيقع الخلاف ضمناً و تبعاً .
   
و أكثر ما يقع هذا في مقاربة الفتنة ، و قل من يسلم عند المقاربة ، لأنه كتقديم نار إلى حلفاً . ثم لو ميز العاقل بين قضاء و طرده لحظة و إنقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء ذلك الوطر لما قرب منه و لو أعطى الدنيا . غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر و ذلك . آه كم معصية في ساعتها كأنها لم تكن ثم بقيت آثارها ، و أقلها ما لا يبرح من المرارة في الندم و الطريق الأعظم في الحذر ألا يتعرض لسبب فتنة . و لا يقاربه ، فمن فهم هذا و بالغ في الاحتراز كان إلى السلامة أقرب .

 

·       فصل : البلاء على قدر الرجال


   
البلايا على مقادير الرجال . فكثير من الناس تراهم ساكتين راضين بما عندهم من دين و دنيا .
   
و أولئك قوم لم يرادوا لمقاسات الصبر الرفيعة ، أو علم ضعفهم عن مقاومة البلاء فلطف بهم .
   
إنما المحنة العظمى أن ترزق همة عالية لا تقنع منك إلا بتحقيق الورع و تجويد الدين ، و كمال العلم ، ثم تبتلي بنفس تميل إلى المباحات ، و تدعي أنها تجمع بذلك همها ، و تشفي مرضها ، لتقبل مزاحمة العلة على تحصيل الفضائل . و هاتان الحالتان كضدين ، لأن الدنيا و الآخرة ضربتان .
   
و اللازم في هذا المقام مراعات الواجبات ، و ألا يفسح للنفس في مباح لا يؤمن أن يتعدى منه إعراض عن واجب ورع .
   
المبتلي يصيح ، فلأن يبكي الطفل خير من أن يبكي الولد .
   
و اعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذى كثير في الدين فأوثق السكر قبل فتح الماء ، و البس الدرع قبل لقاء الحرب ، و تلمح عواقب ما تجني قبل تحريك اليد و استظهر في الحذر باجتناب ما يخاف منه و إن لم يتيقن .

 

·       فصل : مع العدل و الأنصاف تأتي كل مراد

 
   ينبغي لطالب العلم أن يكون جل همته مصروفاً إلى الحفظ و الإعادة ، فلو صح صرف الزمان إلى ذلك كان الأولى .
   
غير أن البدن مطية ، و إجتهاد السير مظنه الانقطاع ، و لما كانت القوى تكل فتحتاج إلى تجديد ، و كان النسخ و المطالعة و التصنيف لا بد منه ، مع أن المهم الحفظ وجب تقسيم الزمان على المرين ، فيكون الحفظ في طرفي النهار و طرفي الليل ، و يوزع الباقي بين عمل بالنسخ و المطالعة ، و بين راحة للبدن و أخذ لحظه .
   
و لا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء ، فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه أثر الغبن و بان أثره ، و إن النفس لتهرب إلى النسخ و المطالعة و التصنيف عن الإعادة و التكرار ، لأن ذلك أشهى و أخف عليها .
   
فليحذر الراكب من إهمال الناقة ، و لا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق و مع العدل و الإنصاف يتأتى كل مراد .
   
و من انحرف عن الجادة طالت طريقه .
   
و من طوى منازل في منزل أوشك أن يفوته ما جد لأجله ، على أن الإنسان إلى التحريض أحوج لأن الفتور ألصق به من الجد .
   
و بعد ، فاللازم في العلم طلب المهم ، فرب صاحب حديث حفظ مثلاً لحديث : من أتى الجمعة فليغتسل : عشرين طريقاً ، و الحديث قد ثبت من طريق واحد ، فشغله ذلك عن معرفة آداب الغسل ، و العمر أقصر و النفس من أن يفرط منه في نفس ، و كفى بالعقل مرشداً إلى الصواب ، و با الله التوفيق .

 

·       فصل : من قال : لا أدري فقد أفتى

 
   
أذا صح قصد العالم استراح من كلف التكلف ، فإن كثيراً من العلماء يأنفون من قول لا أدري ، فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس لئلا يقال : جهلوا الجواب ، و إن كانوا على غير يقين مما قالوا ، و هذا نهاية الخذلان .
   
و قد روى عن مالك بن أنس أن رجلاً سأله عن مسألة فقال : لا أدري ، فقال سافرت البلدان إليك ، فقال : ارجع إلى بلدك و قل : سألت مالكاً فقال : لا أدري .
   
فانظر إلى دين هذا الشخص و عقله كيف استراح من الكلفة ، و سلم عند الله عز وجل . ثم إن كان المقصود الجاه عندهم ، فقلوبهم بيد غيرهم .
   
و الله لقد رأيت من يكثر الصلاة و الصوم و الصمت ، و يتخشع في نفسه و لباسه ، و القلوب تنبوا عنه ، و قدره في النفوس ليس بذلك . و رأيت من يلبس فاخر الثياب و ليس له كبير نفل و لا تخشع ، و القلوب تتهافت على محبته .
   
فتدبرت السبب فوجدته السريرة ، كما روي عن أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير صلاة و صوم ، و إنما كانت له سريرة .
   
فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله ، و عبقت القلوب بنشر طيبه . فا الله الله في السرائر ، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر .

 

·       فصل : الدنيا دار ابتلاء و إختبار


   نزلت في شدة و كأثرت مت الدعاء أطلب الفرج و الراحة . و تأخرت الإجابة ، فانزعجت النفس و قلقت ، فصحت بها : ويلك ، تأملي أمرك ، أمملوكة أنت أم حرة مالكة ؟ أمدبرة أنت أم مدبرة ؟
   
أما علمت أن الدنيا دار ابتلاء و اختبار ، فإذا طلبت أغراضك و لم تصبري على ما ينافي مرادك فأين الإبتلاء ؟ و هل الإبتلاء إلا الإعراض و عكس المقاصد ؟
   
فافهمي معنى التكليف و قد هان عليك ما عز ، و سهل ما استصعب .
   
فلما تدبرت ما قلته سكنت بعض السكون .
   
فقلت لها : و عندي جواب ثان ، و هو أنك تقتضين الحق بأغراضك و لا تقتضين نفسك بالواجب له ، و هذا عين الجهل .
   
و إنما كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس ، لأنك مملوكة ، و المملوك العاقل يطالب نفسه بأداء حق المالك ، و يعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى ، فسكنت أكثر من ذلك السكون .
   
فقلت لها : و عندي جواب ثالث ، و هو أنك قد استبطأت الإجابة ، و أنت سددت طرقها بالمعاصي ، فلو قد فتحت الطريق أسرعت . كأنك ما علمت أن سبب الراحة التقوى .
   
أو ما سمعت قوله تعالى : و من يتق الله يجعل له مخرجاً * و يرزقه يجعل له من أمره يسراً .
   
أو ما فهمت أن العكس بالعكس ؟
   
آه من سكر غفلة صار أقوى من كل سكر في وجه مياه المراد يمنعها من الوصول إلى زرع الأماني ، فعرفت النفس أن هذا حق فطمأنت .
   
فقلت : و عندي جواب رابع ، و هو أنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته ، و ربما كان فيه ضررك ، فمثلك كمثل طفل محموم يطلب الحلوى ، و المدبر لك أعلم بالمصالح ، كيف و قد قال الله : و عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم .
   
فلما بان الصواب للنفس في هذه الأجوبة ، زادت طمأنينتها .
   
فقلت لها : و عندي جواب خامس ، و هو أن هذا المطلوب ينقص من أجرك ، و يحط من مربتبتك ، فمنع الحق لك ما هذا سبيله عطاء منه لك ، و لو أنت طلبت ما يصلح آخرتك كان أولى لك . فأولى لك أن تفهمي ما قد شرحت . فقالت : لقد سرحت في رياض ما شرحت . فهمت إذ فهمت .

 

·       فصل : إدخر المال و إستغن عن الناس


   حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال . فرأيت العلماء أذل الناس عندهم . فالعلماء يتواضعون لهم و يذلون لموضع طمعهم فيهم . و هم لا يحلفون بهم لما يعلمونه من إحتياجهم إليهم .
   
فرأيت هذا عيباً في الفريقين .
   
أما في أهل الدنيا فوجه العتب أنهم كانوا ينبغي لهم تعظيم العلم . و لكن لجهلهم بقدره فاتهم و آثروا عليه كسب الأموال . فلا ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما لا يعرفون و لا يعلمون قدره .
   
و إنما أعود باللوم على العلماء و أقول : ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي شرفت بالعلم عن الذل للأنذال . و إن كنتم في غنى عنهم كان الذل لهم و الطلب منهم حراماً عليكم . و إن كنتم في كفاف فلم تؤثروا التنزه عن الذل بالعفة عن الحطام الفاني الحاصل بالذلة ، إلا أنه يتخيل لي من هذا الأمر ، أني علمت قلة صبر النفس على الكفاف و العزوف عن الفضول ، فإن وجد ذلك منها في وقت لم يوجد على الدوام .
   
فالأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى . و يبالغ في الكسب ، و إن ضاع بذلك عليه كثير من زمان طلب العلم ، فإنه يصون بعرضه عرضه .
   
و قد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت و خلف مالاً .
   
و خلف سفيان الثوري مالاً و قال : [ لولاك لتمندلوا بي ] .
   
و قد سبق في كتابي هذا في بعض الفصول شرف المال ، و من كان من الصحابة و العلماء يقتنيه . و السر في فعلهم ذلك .
   
و حثى طالبي العلم على ذلك ما بينته من أن النفس لا تثبت على التعفف ، و لا تصبر على دوام التزهد .
   
و كم رأينا من شخص قويت عزيمته على طلب الآخرة فأخرج ما في يده ، ثم ضعفت فعاد يكتسب من أقبح وجه .
   
فالأولى إدخار المال و الاستغناء عن الناس ، ليخرج الطمع من القلب ، و يصفو نشر العلم من شائبة ميل .
   
و من تأمل أخبار الأخيار من الأحبار وجدهم على هذه الطريقة .
   
و إنما سلك طريق الترفه عن الكسب من لم يؤثر عنده بذل الدين و الوجه فطلب الراحة و نسى أنها في المعنى عناء ، كما فعل جماعة من جهال المتصوفة في إخراج ما في أيديهم و ادعاء التوكل ، و ما علموا أن الكسب لا ينافي التوكل . و إنما طلبوا طريق الراحة و جعلوا التعرض للناس كسباً ، و هذه طريقة مركبة من شيئين : أحدهما : قلة الأنفة على العرض . الثاني : قلة العلم .

 

·       فصل : خطر موافقة الهوى


   
تأملت وقوع المعاصي من العصاة فوجدتهم لا يقصدون العصيان ، و إنما يقصدون موافقة هواهم ، فوقع العصيان تبعاً ، فنظرت في سبب ذلك الإقدام مع العلم بوقوع المخالفة ، فإذا به ملاحظتهم لكرم الخالق ، و فضله الزاخر .
   
و لو أنهم تأملوا عظمته و هيبته ما انبسطت كف بمخالفته .
   
فإنه ينبغي و الله أن يحذر ممن أقل فعله تعميم الخلق بالموت ، حتى إلقاء الحيوان البهيم للذبح ، و تعذيب الأطفال بالمرض ، و فقر العالم ، و غنى الجاهل .
   
فليعرض المقدم على الذنوب على نفسه الحذر ممن هذه صفته ، فقد قال الله تعالى : و يحذركم الله نفسه .
   
و ملاحظة أسباب الخوف أدنى إلى الأمن من ملاحظة أسباب الرجاء .
   
فالخائف آخذ بالحزم ، و الراجي متعلق بحبل طمع ، وقد يخلف الظن .

 

·       فصل : القناعة بالقليل


   رأيت عموم أرباب الأموال يستخدمون العلماء و يستذلونهم بشيء يسير يعطونهم من زكاة أموالهم ، فإن كان لأحدهم ختمة فلان ما حضر ، و إن مرض قال فلان ما تردد ، و كل منته عليه شيء نزر يجب تسليمه إلى مثله .
   
و قد رضي العلماء بالذل في ذلك لموضع الضرورة . فرأيت أن هذا جهل من العلماء بما يجب عليهم من صيانة العلم ، و دواؤه من جهتين :
   
إحداهما : القناعة باليسير . كما قيل : من رضي بالخل و البقل لم يستعبده أحد .
   
الثاني : صرف بعض الزمان المصروف في خدمة العلم إلى كسب الدنيا ، فإنه يكون سبباً لإعزاز العلم ، و ذلك أفضل من صرف جميع الزمان في طلب العلم ، مع احتمال هذا الذل .
   
و من تأمل ما تأملته و كانت له أنفة قدر قوته ، و احتفظ بما معه ، أو سعى في مكتسب يكفيه ، و من لم يأنف من مثل هذه الأشياء لم يحظ من العلم إلا بصورته دون معناه .

 

·       فصل : ثمرة العقل فهم الخطاب

 
   
مدار الأمر كله على العقل ، فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إلا على أقوى دليل ، و ثمرة العقل فهم الخطاب ، و تلمح المقصود من الأمر .
   
و من فهم المقصود و عمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق .
   
و إني رأيت كثيراً من الناس لا يعملون على دليل ، بل كيف اتفق ، و ربما كان دليلهم العادات ، و هذا أقبح شيء يكون .
   
ثم رأيت خلقاً كثيراً لا يتبعون الدليل بطريق إثباته كاليهود و النصارى . فإنهم يقلدون الآباء و لا ينظرون فيما جاء من الشرائع هل صحيح أم لا ، و كذلك يثبتون الإله و لا يعرفون ما يجوز عليه مما لا يجوز ، فينسبون إليه الولد ، و يمنعون جواز تغييره ما شرع .
   
و هؤلاء لم ينظروا حق النظر لا في إثبات الصانع و ما يجوز عليه ، و لا الدليل على صحة النبوات ، فتقع أعمالهم ضائعة كالباني على رمل .
   
و من هذا القبيل في المعنى قوم يتعبدون و يتزهدون و ينصبون أبدانهم في العلم بأحاديث باطلة ، و لا يسألون عنها من يعلم .
   
و من الناس من يثبت الدليل و لا يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل .
   
و من هذا الجنس قوم سمعوا ذم الدنيا فتزهدوا ، و ما فهموا المقصود ، فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها ، و أن النفس تجب عداوتها ، فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق ، و عذبوها بكل نوع و منعوها حظوظها ، جاهلين بقوله صلى الله عليه و سلم إن لنفسك عليك حقا .
   
و فيهم من أدته الحال إلى ترك الفرائض ، و نحول الجسم ، و ضعف القوى .
   
و كل ذلك لضعف الفهم للمقصود و التلمح للمراد . كما روي عن داود الطائي أنه كان يترك ماء في دن تحت الأرض فيشرب منه و هو شديد البحر .
   
و قال لسفيان : [ إذا كنت تأكل اللذيذ الطيب ، و تشرب الماء البارد المبرد ، فمتى تحب الموت و القدوم على الله ؟ ]
   
و هذا جهل بالمقصود . فإن شرب الماء الحار يورث أمراضاً في البدن و لا يحصل به الري .
   
و ما أمرنا بتعذيب أنفسنا على هذه الصورة ، بل تترك ما تدعو إليه من ما نهى الله عنه .
   
و في الحديث الصحيح : أنا أبا بكر رضي الله عنه لما حلب له الراعي في طريق الهجرة صب الماء على القدح حتى برد أسفله ، ثم سقى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و فرش له في ظل صخرة .
   
و كان يستعذب لرسول الله صلى الله عليه و سلم الماء . و قال : إن عندكم ماء بات في شن و إلا كرعنا .
   
و لو فهم داوود رحمه الله أن إصلاح علف الناقة متعين لقطع المسافة لم يفعل هذا .
   
ألا ترى إلى سفيان الثوري فإنه كان شديد المعرفة و الخوف و كان يأكل اللذيذ و يقول : [ إن الدابة إذا لم يحسن إليها لم تعمل ] .
   
و لعل بعض من لم يسمع كلامي هذا يقول : هذا ميل على الزهاد .
   
فأقول : كن مع العلماء ، و أنظر إلى طريق الحسن ، و سفيان ، و مالك ، و أبي حنيفة ، و أحمد ، و الشافعي ، و هؤلاء أصول الإسلام .
   
و لا تقلد دينك من قل علمه و إن قوى زهده ، و احمل أمره على أنه كان يطيق هذا و لا تقتد بهم فيما لا تطيقه ، فليس أمرنا إلينا ، و النفس وديعة عندنا ، فإن أنكرت ما شرحته فأنت ملحق بالقوم الذي نكرت عليهم .
   
و هذا رمز إلى المقصود . و الشرح يطول .

 

·       فصل : العلم أشرف مكتسب


   
الواجب على العاقل أن يتبع الدليل ثم لا ينظر فيما لا يجني من مكروه .
   
مثاله أنه قد ثبت بالدليل القاطع حكمة الخالق عز وجل و ملكه و تدبيره .
   
فإذا رأى الإنسان عالماً محروماً ، و جاهلاً مرزوقاً ، أوجب عليه الدليل المثبت حكمة الخالق التسليم إليه ، و نسبة العجز عن معرفة الحكمة إلى نفسه .
   
فإن أقواماً لم يفعلوا ذلك جهلاً منهم ، أفتراهم بماذا حكموا ؟ بفساد هذا التدبير ؟ أليس بمتقضى عقولهم ؟ أو ما عقولهم من جملة مواهبه ؟
   
فكيف يحكم على حكمته و تدبيره ببعض مخلوقاته التي هي بالإضافة إليه أنقص من كل شيء ؟
   
و لقد بلغني عن اللعين ابن الراوندي أنه كان جالساً على الجسر و في يده رغيف يأكله ، فجازت خيل و أموال ، فقال : لمن هذه ؟ فقيل : لفلان الخادم . ثم جازت خيل و أموال ، فقال : لمن هذه ؟ فقيل لفلان الخادم .
   
فلما مر الخادم رأى شخصاً محتقراً ، فرمى الرغيف إلى ناحيته و قال : و هذا لفلان ! ما هذه القسمة !
   
و لو فكر المعترض لبانت له وجوه أقلها جهله بمن يدعي معرفته و قلة تعظيمه له . و ذلك يوجب عليه أشد مما كان فيه من تضييق العيش ، و لكنه ميراث إبليس ، حيث إعتقد سوء التدبير في تفضيل آدم عليه السلام .
   
فالعجب من تلميذ يتعالم على أستاذه ، و من مملوك يتيه على سيده .
   
و مما ينبغي أن يتبع فيه الدليل ، و لا يلتفت إلى ما جنت الحال ، أن العلم أشرف مكتسب .
   
و قد رأى جماعة من الجهلة قلة حظوظ العلماء من الدنيا ، ففأزوروا على العلم و قالوا : لا فائدة فيه ، و ذلك لجهلهم بمقدار العلم ، فإن تابع الدليل لا يبالي ما جنى . و إنما يبين الاختبار بفقد الغرض .
   
و لو لم يكن من الدليل على صدق نبينا صلى الله عليه و سلم إلا إعراضه عن الدنيا و تضييق العيش عليه . ثم لن يخلف شيئاً ، و حرم أهله الميراث ، لكفاءة ذلك دليلاً على صدق طلبه لمطلوب آخر .
   
و ربما رأى الجاهل قوماً من العلماء يفعلون خطيئة فيزدري على العلم و يدعيه ناقصاً ، و هذا غلط كبير ، فليتق الله العاقل و ليعمل بمقتضى العقل فيما يأمر به من طاعة الله تعالى و العمل بالعلم ، و ليعلم أن الابتلاء في الصبر على فوات المطلوبات ، و ليلزم إتباع الدليل و إن جنى مكروهاً و الله الموفق .

 

·       فصل : عاقبة الصبر و نهاية الهوى

 
   
قرأت سورة يوسف عليه السلام . فتعجبت من مدحه عليه السلام على صبره ، و شرح قصته للناس و رفع قدره بترك ما ترك . فتأملت خبيثة الأمر ، فإذا هي مخالفة للهوى المكروه .
   
فقلت : واعجباً لو وافق هواه من كان يكون ؟
   
و لما خالفه لقد صار أمراً عظيماً تضرب الأمثال بصبره ، و يفتخر على الخلق بإجتهاده .
   
و كل ذلك قد كان بصبر ساعة ، فيا له عزاً و فخراً ، أن تملك نفسك ساعة الصبر عن المحبوب و هو قريب .
   
و بالعكس منه حالة آدم في موافقته هواه ، لقد عادت نقيصة في حقه أبداً ، لولا التدارك فتاب عليه .
   
فتلمحوا رحمكم الله عاقبة الصبر و نهاية الهوى .
   
فالعاقل من ميز بين الأمرين : الحلوين ، و المرين . فإن من عدل ميزانه و لم تمل به كفة الهوى رأى كل الأرباح في الصبر ، و كل الخسران في موافقة النفس . و كفى بهذا موعظة في مخالفة الهوى لأهل النهي . و الله الموفق .

 

·       فصل : لا يصلح العلم مع قلة العمل


   
رأيت الاشتغال بالفقه و سماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب ، إلا أن يمزح بالرفائق و النظر في سير السلف الصالحين ، لأنهم تناولوا مقصود النقل . و خرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها و المراد بها .
   
و ما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة و ذوق لأني وجدت المحدثين و طلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي و تكثير الأجزاء .
   
و جمهور الفقهاء في علوم الجدل و ما يغالب به الخصم .
   
و كيف يرق القلب مع هذه الأشياء ؟
   
و قد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته و هديه . لا لاقتباس علمه .
   
و ذلك أن ثمرة علمه هديه و سمته ، فافهم هذا و أمزج طلب الفقه و الحديث بمطالعة سير السلف و الزهاد في الدنيا ، ليكون سبباً لرقة قلبك .
   
و قد جمعت لكل واحد من مشاهير الأخيار كتاباً فيه أخباره و آدابه . فجمعت كتاباً في أخبار الحسن ، و كتاباً في أخبار سفيان الثوري ، و إبراهيم بن أدهم ، و بشر الحافي ، و أحمد بن حنبل ، و معروف ، و غيرهم من العلماء و الزهاد ، و الله الموفق للمقصود . و لا يصلح العمل مع قلة العلم .
   
فهما في ضرب المثل كسائق و قائد ، و النفس بينهما حرون ، و مع جد السائق و القائد ينقطع المنزل ، و نعوذ بالله من الفتور .

 

·       فصل : نورالقلب يلبه المريد

 
   ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب ، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة ، و تخايل لي نوع طرد عن الباب ، و بعد ، و ظلمة تكاثفت .
   
فقالت نفسي : ما هذا ؟ أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء ؟ فقلت لها : يا نفس السوء جوابك من وجهين :
   
أحدهما : إنك تأولت ما لا تعتقدين ، فلو استفتيت لم تفت بما فعلت .
   
قالت : لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته .
   
قلت : إلا أن إعتقادك ما ترضيه لغيرك في الفتوى .
   
و الثاني : أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك ، لأنه لولا نور في قلبك ما أثر هذا عندك .
   
قالت : فلقد إستوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب .
   
قلت : فاعزمي على الترك ، و قدري ما تركت جائزاً بالإجماع ، و عدي هجره ورعاً ، و قد سلمت .

 

·       فصل : كم من محتقر احتيج إليه


   
مما أفادتني تجارب الزمان أنه لا ينبغي لأحد أن يظاهر بالعداوة أحداً ما إستطاع ، فإنه ربما يحتاج إليه مهما كانت منزلته .
   
و إن الإنسان ربما لا يظن الحاجة إلى مثله يوماً ما كما يحتاج إلى عويد منبوذ لا يلتفت إليه . لكن كم من محتقر احتيج إليه . فإذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخص في جلب نفع وقعت الحاجة في دفع ضر .
   
و لقد إحتجت في عمري إلى ملاطفة أقوام ما خطر لي لي قط وقوع الحاجة إلى التلطف بهم .
   
و إعلم أن المظاهرة بالعداوة قد تجلب أذى من حيث لا يعلم . لأن المظاهر بالعداوة كشاهر السيف ينتظر مضرباً . و قد يلوح منه مضرب خفي ، و إن إجتهد المتدرع في ستر نفسه فيغتنمه ذلك العدو .
   
فينبغي لمن عاش في الدنيا أن يجتهد في ألا يظاهر بالعداوة أحداً لما بينت من وقوع إحتياج الخلق بعضهم إلى بعض ، و إقدار بعضهم على ضرر بعض .
   
و هذا فصل مفيد تبين فائدته للإنسان مع تقلب الزمان .

 

·       فصل : في القناعة سلامة الدنيا و الدين


   رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة و تنسى كيف حصلت و ما يتضمنها من الأفات .
   
و بيان هذا أنك إن رأيت صاحب إمارة و سلطنة فتأملت نعمته وجدتها مشوية ، إن لم يقصد هو الشر حصل من عماله ، ثم هو خائف منزعج في كل أموره ، حذر من عدو أن يسيئه ، فلق ممن هو فوقه أن يعزله ، و من نظيره أن يكيده ، ثم أكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من السلاطين ، و في حساب أموالهم و تنفيذ أوامرهم التي لا تخلو من أشياء منكرة ، و إن عزل أربى ذلك على جميع ما نال من لذة .
   
ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها ، و منها ، و عليها .
   
و إن رأيت صاحب تجارة رأيته قد تقطع في البلاد فلم ينل ما نال إلا بعد علة السن و ذهاب زمان اللذة .
   
كما حكى أن رجلاً من       كان حال شبيبة فقيراً ، كما كبر استغنى و ملك أموالاً و اشترى عبيداً من الترك و غيرهم ، و جواري من الروم ، فقال هذه الأبيات في شرح حاله:
   
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا       ملكته بعد أن جاوزت سبعيناً
   
تطوف بي من الأتراك أغزلة       مثل الغصون على كثبان يبريناً
   
و خرد من بنات الروم رائعة       يحكين بالحسن حور الجنة العيناً
   
يغمزنني بأساريع منعمة       تكاد تعقد من أطرفها ليناً
   ‌‌‌
يردن إحياء ميت لا حراك به       و كيف يحيين ميتاً صار مدفوناً
   
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا       فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
   
و هذه الحالة هي الغالية فإن الإنسان لا يكاد يجتمع له كل ما يحبه إلا عند قرب رحيله ، فإن بدر ما يحب في بداية شبابه فالصبوة مانعة من فهم التدابير أو حسن الإلتزاز و الإنسان في حالة الصبوة لا يدري أين هو إلا أن يبلغ ، فإذا بلغ كانت همته في المنكوح كيفما اتفق ، و إن تزوج جاء الأولاد فمنعوه اللذة و انكسر في نسفه و افتقر إلى الكسب عليهم ، فبينما هو قد دعك في تلك المديدة القريبة من الثلاثين و خطه الشيب فانفرق من نفسه لعمله أن النساء يتفرقن منه ، كما قال ابن المعتز بالله :
   
لقد أتعبت نفسي في مشيبي       فكيف تحبي الغيد الكعاب
   
و هكذا لا ترى المتمتع بالمستحسنات ، إن و جدهن ، لم يجد مالاً يبلغ به المراد ، و إن اشتغل بجمع المال ضاع زمن تمتعه ، و إذا تم المطلوب فالشيب أقبح قذى و أعظم مبغض .
   
ثم إن صاحب المال خائف على ماله ، محاسب لمعامليه ، مذموم إن أسرف و إن فتر .
   
ولده يرصد موته ، و جاريته قد لا ترضى بشخصه ، و هو مشغول بحفظ حواشيه ، فقد مضى زمانه في محن ، و اللذات فيها خلس معتادة لا لذة فيها ، ثم في القيامة يحشر الأمير و التاجر خزايا ، إلا من عصم الله .
   
فإياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم فإنك تستطيبه لبعده عنك ، و لو قد بلغته كرهته ، ثم في ضمنه من محن الدنيا و الآخرة ما لا يوصف . فعليك بالقناعة مهما أمكن ، ففيها سلامة الدنيا و الدين .
   
و قد قيل لبعض الزهاد و عنده خبز يابس : كيف تشتهي هذا ؟
   
فقال : أتركه حتى أشتهيه .

 

·       فصل : لن يصيبا إلا ما كتب الله لنا

 
   
و قع بيني و بين أرباب الولايات نوع معاداة لأجل المذهب . فإني كنت في مجلس التذكير أنظر أن القرآن كلام الله و أنه قديم ، و أقدم من أبا بكر .
   
و اتفق في أرباب الولايات من يميل إلى مذهب الأشعري ، و فيهم من يميل إلى مذهب الروافض ، و تمالؤا علي في الباطن .
   
فقلت يوماً في مناجاتي للحق سبحانه و تعالى : سيدي نواصي الكل بيدك ، و ما فيهم من يقدر لي على ضر ، إلا أن تجريه على يده ، و أنت قلت سبحانك وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله .
   
و طيبت قلب المبتلي بقولك : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .
   
فإن أجريت على أيدي بعضهم ما يوجب خذلاني كان خوفي على ما تصرفه أكثر من خوفي على نفسي ، لئلا يقال : لو كان على حق ما خذل .
   
و إن نظرت إلى تفصيري و ذنوبي فإني مستحق للخذلان ، غير أني أعيش بما نصرته من السنة ، فأدخلني في خفارته .
   
و قد استودعني إياك خلق من صالحي عبادك ، فإن لم تحفظني بي فاحفظني بهم .
   
سيدي أنصرني على من عاداني . فإنهم لا يعرفونك كما ينبغي ، و هم معرضون عنك على كل حال ، أنا ـ على تقصيري ـ إليك أنسب .

 

·       فصل : لا تكلف نفسك ما لا تطيق

 
   روي عن الحلاج الصوفي أنه كان يقعد في الشمس في الحر الشديد و عرقه يسيل ، فجاز بعض العقلاء فقال له : يا أحمق هذا تقاوي على الله تعالى . . . ! !
   
و ما أحسن ما قال هذا ! فإنه ما وضع التكليف إلا على خلاف الأغراض و قد يحرج صاحبه إلى أن يعجز عن الصبر ، فالجاهل الأحمق من تقاوى أو من يسأل البلاء كما قال ذلك الأبله : فكيف ما شئت فإختبرني .

 

·       فصل : إسألوا الله العافية

 
   
و السعيد من ذل لله و سأل العافية ، فإنه لا يوهب العافية على الإطلاق ، إذ لا بد من بلاء ، و لا يزال العاقل يسأل العافية ليتغلب على جمهور أحواله ، فيقرب الصبر على يسير البلاء .
   
و في الجملة ينبغي للإنسان أن يعلم إنه لا سبي إلى محبوباته خالصة ، ففي كل جرعة غصص ، و في كل لقمة شجأ :
   
و كم من يعشق الدنيا قديماً       و لكن لا سبيل إلى الوصال
   
و على الحقيقة ما الصبر إلا على الأقدار ، و قل أن تجري الأقدار إلا على خلاف مراد النفس .
   
فالعاقل من دارى نفسه في الصبر بوعد الأجر ، و تسهيل الأمر ، ليذهب زمان البلاء سالماً من شكوى ، ثم يستغيث بالله تعالى سائلاً العافية .
   
فأما المتجلد فما عرف الله قط ، نعوذ بالله من الجهل به ، و نسأله عرفانه ، إنه كريم مجيب .

 

·       فصل : من يطع الرسول فقد أطاع الله

 
   
الجادة السليمة ، و الطريق القومية ، الإقتداء بصاحب الشرع . و البذار إلى الإستنان به ، فهو الكامل الذي لا نقص فيه ، فإن خلقاً كثيراً إنحرفوا إلى جادة الزهد ، و حملوا أنفسهم فوق الجهد ، فأقاموا في أواخر العمر ، و البدن قد نهك ، و فانت أمور مهمة من العلم و غيره .
   
و إن أقواماً إنحرفوا إلى صورة العلم فبالغوا في طلبه ، فأفاقوا في أواخر قدم ، و قد فاتهم العمل به .
   
فطريق المصطفى صلى الله عليه و سلم العلم و العمل ، و التلطف بالبدن .
   
ما أوصى عبد الله بن عمر ، عمر بن العاصي و قال له: إن لنفسك عليك حقاً ، و لزوجك عليك حقاً . فهذه هي الطريق الوسطى ، و القول الفصل .
   
فأما اليبس المجرد فكم فوت من علم ، لو حصل نيل به أكثر مما نيل بالعمل .
   
فإن مثل العالم كرجل يعرف الطريق ، و العابد جاهل بها فيمشي العابد من الفجر إلى العصر ، و يقوم العالم قبيل العصر فيلتقيان و قد سبق العالم فضل شوطه .
   
فإن قال قائل : بين لي هذا ؟
   
قلت : صورة التعبد خدمة لله تعالى ، و ذل له و ربما لم يطلع العابد على معنى تلك الصورة ، لأنه ربما ظن أنه أهل لوجود الكرامة على يده ، و أنه مستحق تقبيل يده ، أو أنه خير من كثير من الناس و ذلك كله لقلة العلم ، و أعني بالعلم فهم أصول العلم ، لا كثرة الرواية و مطالعة مسائل الخلاف .
   
فإذا طالع العالم الأصولي ، سبق هذا العابد بحسن خلق ، و مداراة لناس ، و تواضعه في نفسه ، و إرشاده الخلق إلى الله تعالى ، فيعسر هذا على العابد ، و هو في ليل جهله بالحال راقد .
   
ربما تزوج العابد ثم حمل نفسه على التجفف ، فحبس زوجته عن مطلوبها و لم يطلقها ، و صار كالتي حبست الهرة فلا هي أطعمتها و لا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض .
   
و من تأمل حالة الرسول صلى الله عليه و سلم ، رأى كاملاً من الخلق يعطي كل ذي حق حقه .
   
فتارة يمزح ، و تارة يضحك ، و يداعب الأطفال ، و يسمع الشعر ، و يتكلم بالمعاريض ، و يحسن معاشرة النساء ، و يأكل ما قدر عليه و أتيح له ، و إن كان لذيذاً كالعسل . و يستعذب له الماء ، و يفرش له في الظل ، و لم ينكر ذلك ، و لم يسمع عنه ما حدث بعده من جهال المتصوفة و المتزهدين ، من منع النفس شهواتها على الإطلاق .
   
فقد كان يأكل البطيخ بالرطب ، و يقبل ، و يمص اللسان ، و يطلب المستحسنات .
   
فأما أكل خبز الشعير و وزن المأكول ، و تجفيف البدن ، و هجر كل مشتهي ، فإنه تعذيب للنفس ، و هدم للبدن . لا يقتضيه عقل ، و لا يمدحه شرع . و إنما اقتنع أقوام بالقليل ، لأسباب مثل أن حديث شبهة فتقللوا أو إختلط طعام بطعام فتورعوا .
   
ثم كان النبي صلى الله عليه و سلم يوفي العبادة حقها بقيام الليل و الاجتهاد في الذكر .
   
فعليك بطريقته التي هي أكمل الطرق ، و بشرعته التي لا شوب فيها . و دع حديث فلان و فلان من الزهاد . و احمل أمرهم على أحسن محمل ، و أقم لهم الأعذار مهما قدرت . فإن لم تجد عذراً فهم محجوبون بفعله ، إذ هو قدوة الخلق ، و سيد العقلاء . و هل فسد الناس إلا بالإنحراف عن الشريعة ؟
   
و لقد حدثت آفات من المتصوفة و المتزهدين . خرقوا بها شبكة الشريعة و عبروا . فمنهم من يدعي المحبة و الشوق ، و لا يعرف المحبوب .
   
فتراه يصيح و يستغيث و يمزق ثيابه و يخرج عن حد الشرع بدعواه و مضمونها .
   
منهم من حمل على نفسه بالجوع و الصوم الدائم ، و قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم إنه قال لعبد الله بن عمرو : صم يوماً و أفطر يوماً ، فقال أريد أفضل من ذلك ، فقال لا أفضل .
   
و فيهم من خرج إلى السياحة ، فأفأت نفسه الجماعة . و فيهم من دفن كتب العلم و قد يصلي و يصوم ، و لم يعلم أن دفنها خطأ قبيح ، لأن النفس تغفل و تحتاج إلى التذكير في كل وقت ، و نعم المذكر كتب العلم .
   
و إنما دخل إبليس على قوم منهم من حيث قدر ، و كان مقصوده بدفن الكتب إطفاء المصباح ، ليسير العابد في الظلمة .
   
و ما أحسن ما قال بعض العلماء لرجل سأله فقال : أريد أن أمضي إلى جبل الأكام . فقال هذه ـ هوكلة ـ و هذه كلمة عامية معناها حب البطالة .
   
و على الحقيقة الزهاد في مقام الخفافيش . قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس ، و هي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير من جماعة ، و اتباع جنازة ، و عيادة مريض .
   
إلا أنها حالة الجنباء ، فأما الشجعان فهم يتعلمون و يعلمون . و هذه مقامات الأنبياء عليهم السلام .
   
أترى كم بين العابد إذا نزلت به حادثة و بين الفقيه ؟
   
بالله لو مال الخلق إلى التعبد لضاعت الشريعة .
   
على أنه فهم معنى التعبد لم يقتصر به على الصلاة و الصوم فرب ماش في حاجة مسلم فضل تعبده ذلك على صوم سنة .
   
و العمل بالبدن سعى الآلات الظاهرة . و العلم سعي الآلات الباطنة من العقل و الفكر و الفهم ، فلذلك كان أشرف .
   
فإن قلت : كيف تذم المعتزلين للشر و تنفي عنهم التعبد ؟
   
قلت : ما أذمهم بل حدثت منهم حوادث اقتضاها الجهل من الدعاوي و الآفات التي سببها قلة العلم . و حملوا على أنفسهم التي لبست لهم . و عن غير إذن الأمر ما لم يجز .
   
حتى إن أحدهم يرى أن فعل ما يؤذي النفس على الإطلاق فضيلة . و حتى قال بعض الحمقى : دخلت الحمام فوجدت غفلة . فآليت ألا أخرج حتى أسبح كذا و كذا تسبيحة ، فطال الأمر فمرضت .
   
و هذا رجل خاطر بنفسه في فعل ما ليس له . و من المتصوفة و الزهاد من قنع بصورة اللباس ، و ركب من الجهل في الباطن ما لا يسعه كتاب .
   
طهر الله الأرض منهم ، و أعان العلماء عليهم .
   
فإن أكثر الحمقى معهم ، فلو أنكر عالم على أحدهم ، مال العوام على العالم بقوة الجهل .
   
و لقد رأيت كثيراً من المتعبدين و هو مقام العجائز يسبح تسبيحات لا يجوز النطق بها ، و يفعل في صلاته ما لم ترد به السنة .
   
و لقد دخلت يوماً على بعض من كان يتعبد ، و قد أقام إماماً و هو خلفه في جماعة يصلي بهم صلاة الضحى و يجهر ، غفلت لهم : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صلاة النهار عجماء ، فغضب ذلك الزاهد و قال : كم ينكر هذا علينا !
   
و قد دخل فلان و أنكر فلان و أنكر ، نحن نرفع أصواتنا حتى لا ننام .
   
فقلت : واعجباً و من قال لكم لا تناموا ، أليس في الصحيحين من حديث ابن عمرو و أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : قم و نم ، و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينام ، و لعله ما مضت عليه ليلة إلا و نام فيها .
   
و لقد شاهدت رجلاً كان يقال له حسين القزويني بجامع المنصور و هو يمشي في الجامع مشياً كثيراً دائماً . فسألت ما السبب في هذا المشي ؟ فقيل لي : حتى لا ينام .
   
و هذا كلها حماقات أوجبتها قلة العلم ، لأنه إذا لم تأخذ النفس حظها من النوم إختلط العقل ، و فات المراد من التعبد لبعد الفهم .
   
و لقد حدثني بعض الصالحين المجاورين بجامع المنصور أن رجلاً إسمه كثير دخل عليهم الجامع فقال : إني عاهدت الله على أمر و نقضته ، و قد جعلت تقوبتي لنفسي ألا آكل شيئاً أربعين يوماً ، قال : فمكث منها عشرة أيام قريب الحال يصلي في جماعة ، ثم في العشر الثاني بان ضعفه و كان يداري الأمر ، ثم صار في العشر الثالث يصلي قاعداً ، ثم استطرح في العشر الرابع ، فلم تمت الأربعون جيء بنقوع فشربه ، فسمعنا صوته في حلقه مثل ما يقع الماء على المقلاة ، ثم مات بعد أيام .
   
فقلت : يا لله العجب ، أنظروا ما فعل الجهل بأهله ، ظاهر هذا أنه في النار ، إلا أن يعفى عنه ، و لو فهم العلم و سأل العلماء لعرفوه أنه يجب عليه أن يأكل و أن ما فعله بنفسه حرام ، و لكن من أعظم الجهل إستبداد الإنسان بعلمه ، و كل هذه الحوادث نشأت قليلاً قليلاً حتى تمكنت .
   
فأما الشرب الأول فلم يكن فيه من هذا شيء . و ما كانت الصحابة تفعل شيئاً من هذه الأشياء و قد كانوا يؤثرون و يأكلون دون الشبع . و يصبرون إذا لم يجدوا . فمن أراد الإقتداء فعليه برسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه ففي ذلك الشفاء و المطلوب .
   
و لا ينبغي أن يخلد العاقل إلى تقليد معظم شاع إسمه . فيقول : قال : أبو يزيد و قال الثوري . فإن المقلد أعمى . و كم قد رأينا أعمى يأنف من حمل عصا . فمن هذا المشار إليه طلب الأفضل و الأعلى . و الله الموفق .

 

·       فصل : لكل بدعة أصل


   
تأملت الدخل الذي دخل في ديننا من ناحيتي العلم و العمل ، فرأيته من طريقين قد تقدما هذا الدين و أنس الناس بهما .
   
فأما أصل الدخل في العلم و الاعتقاد فمن الفلسفة .
   
و هو أن خلقاً من العلماء في ديننا لم يقنعوا بما قنع به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الإنعكاف على الكتاب و السنة ، فأوغلوا في النظر في مذاهب أهل الفلسفة وخاضوا في الكلام الذي حملهم على مذاهب رديئة أفسدوا بها العقائد .
   
و أما أصل الدخل في باب العمل فمن الرهبانية .
   
فإن خلقاً من المتزهدين أخذوا عن الرهبان طريق التقشف ، و لم ينظروا في سيرة نبينا صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، و سمعوا ذم الدنيا و ما فهموا المقصود ، فاجتمع لهم الإعراض عن علم شرعنا مع سوء الفهم للمقصود ، فحدثت منهم بدع قبيحة .
   
فأول ما ابتدأ به إبليس أنه أمرهم بالإعراض عن العلم ، فدفنوا كتبهم و غسلوها و ألزمهم زاوية التعبد فيما زعم ، و أظهر لهم من الخزعبلات ما أوجب إقبال العوام عليهم فجعل إلههم هواهم ، و لو علموا أنهم منذ دفنوا كتبهم و فارقوا العلم انطفأ مصباحهم ما فعلوا ، لكن إبليس كان دقيق المكر يوم جعل علمهم في دفين تحت الأرض .
   
و بالعلم يعلم فساد الطريقين ، و يهتدي إلى الأصوب .
   
نسأل الله عز وجل ألا يحرمنا إياه فإنه النور في الظلم ، و الأنيس في الوحدة ، و الوزير عند الحادثة .

 

·       فصل : و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم


   
أعوذ با الله من صحبة البطالين ، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد إعتاده الناس من كثرة الزيارة ، و يسمون ذلك الترددخدمة ، و يطلبون الجلوس و يجرون فيه أحاديث الناس و ما لا يعني ، و ما يتخلله غيبة .
   
و هذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس ، و ربما طلبه المزور و تشوق إليه ، و إستوحش من الوحدة ، و خصوصاً في أيام التهاني و الأعياد . فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض ، و لا يقتصرون على الهناء و السلام ، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان .
   
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء ، و الواجب إنتهاؤه بفعل الخير ، كرهت ذلك و بقيت مهم بين أمرين :
   
إن أنكرت عليهم و قعت وحشة لموضع قطع المألوف ، و إن تقبلته منهم ضاع الزمان ، فصرت أدافع اللقاء جهدي ، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق ، ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغاً . فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد و بري القلام ، و حزم الدفاتر ، فإن هذه الأشياء لا بد منها . و لا تحتاج إلى فكر و حضور قلب ، فأرصدتها لأوقات زيارتهم يضيع شيء من و قتي .
   
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا أوقات العمر ، و ان يوفقنا لإغتنامه .
   
و لقد شاهدت خلقاً كثيراً لا يعرفون معنى الحياة ، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله ، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس ، و كم تمر به من آفة و منكر .
   
و منهم من يخلو بلعب الشطرنج ، و منهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من السلاطين و الغلاء و الرخص ، إلى غير ذلك .
   
فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر و معرفة قدر أوقات العافية إلا من و فقه و ألهمه إغتنام ذلك و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .

 

·       فصل : اغتنم شبابك قبل هرمك

 
   رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة .
   
لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين و أشافه بتصنيفي خلقاً لا تحصى ما خلقوا بعد .
   
و دليل هذا أن إنتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من إنتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم .
   
فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد ، فإنه ليس كل من صنف صنف .
   
و ليس المقصود جمع شيء كيف كان ، و إنما هي أسرار يطلع الله عز وجل عليها من شاء من عباده و يوفقه لكشفها ، فيجمع مافرق ، أو يرتب ما شتت ، أو يشرح ما أهمل ، هذا هو التصنيف المفيد .
   
و ينبغي إغتنام التصنيف في وسط العمر ، لأن أوائل العمر زمن الطلب ، و آخره كلال الحواس .
   
و ربما خان الفهم و العقل من قدر عمره ، و إنما يكون التقدير على العادات الغالبة ، لأنه لا يعلم الغيب فيكون زمان الطلب و الحظ و التشاغل إلى الأربعين ، ثم يبتدىء بعد الأربعين بالتصانيف و التعليم .
   
هذا إذا كان قد بلغ ما يريد من الجمع و الحفظ ، و أعين على تحصيل المطالب .
   
فأما إذا قلت الآلات عنده من الكتب ، أو كان في أول عمره ضعيف الطلب فلم ينل ما يريده في هذا الأوان ، أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة .
   
ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف و التعليم إلى رأس الستين . ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم و يسمع الحديث و العلم و يعلل التصانيف إلى أن يقع مهم إلى رأس السبعين ، فإذا جاوز السبعين جعل الغالب عليه ذكر الآخرة و التهيؤ للرحيل ، فيوفر نفسه على نفسه إلا من تعليم يحتسبه ، أو تصنيف يفتقر إليه ، فذلك أشرف العدد للآخرة .
   
و لتكن همته في تنظيف نفسه ، و تهذيب خلاله ، و المبالغة في إستدراك زلاته ، فإن إختطف في خلال ما ذكرنا ، فنية المؤمن خير من عمله .
   
و إن بلغ إلى هذه المنازل ، فقد بينا ما يصلح لكل منزل .
   
و قد قال سفيان الثوري : من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه و سلم فاليتخذ لنفسه كفناً ، و قد بلغ جماعة من العلماء سبعاًو سبعين سنة ، منهم أحمد بن حنبل فإنه بلغها فليعلم أنه على شفير القبر ، و أن كل يوم يأتي بعدها مستطرف .
   
فإن تمت له الثمانون فليجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله ، و تهيئه زاده ، و ليجعل الإستغفار حليفه ، و الذكر أليفه ، و ليدقق في محاسبة النفس و في بذل العلم ، أو مخالطة الخلق .
   
فإن قرب الاستعراض للجيش يوجب عليه الحذر من العارض .
   
و ليبالغ في إبقاء أثره قبل رحيله ، مثل بث علمه ، و إنفاق كتبه ، و شيء من ماله .
   
و بعد ، فمن تولاه الله عز وجل علمه ، و من أراده ألهمه .
   
فسأل الله عز وجل أن ينعم علينا بأن يتولانا و لا يتولى عنا إنه قريب مجيب .

 

·       فصل : الانقياد للشرع لا إتباع العادات


   
رأيت عادات الناس قد غلبت على عملهم بالشرع ، فهم يستوحشون من فعل الشيء لعدم جريان العادة لا لنهي الشرع !
   
فكم من رجل يوصف بالخير يبيع و يشتري ، فإذا حصلت له القراضة باعها بالصحيح من غير تقليد لإمام ، أو عمل برخصة ، عادة من القوم ، و إستثقالاً للإستفتاء .
   
و نرى خلقاً يحافظون على صلاة الرغائب و يتوانون عن الفرائض .
   
و كثيراً من المتصوفين لا يستوحشون من ظلم الناس ، ثم يتصدقون على الفقراء .
   
و ربما توانو عن إخراج الزكاة . و تكاسلوا بإستعمال التأويلات فيها .
   
ثم إذا حضر أحدهم مجلس وعظ بكى كأنه يصانع بتلك الحال .
   
و منهم من يخرج بعض الزكاة مصانعة عما لم يخرجه .
   
و منهم من يعلم أن أصل ماله حرام ، و يصعب عليه فراقه للعادة .
   
و فيهم من يخلف بالطلاق و يحنث ، و يرى الفراق صعباً .
   
فربما تأول ، و ربما تكاسل عن التأويل إتكالاً على عفو الله تعالى ، و وعداً من النفس بالتوبة .
   
و منهم من يرى أن إستعمال الشرع ربما كان سبباً في تضييق معاشه .
   
و قد ألف التفسح فلا يسهل عليه فراق ما قد ألف و العادات في الجملة هي المهلكة .
   
و لقد حضر عندي رجل شيخ ابن ثمانين سنة ، فاشتريت منه دكاناً و عقدت معه العقد .
   
فلما إفترقنا غدر بعد أيام . فطلبت منه الحضور عند الحاكم فأبى .
   
فأحضرته فحلف باليمين الغموس إنه ما بعته ، فقلت ما تدور عليه السنة . و أخذ يبرطل لمن يحول بيني و بينه من الظلمة .
   
فرأيت من العوام من قد غلبت عليه العادات فلا يلتفت معها إلى قول فقيه ، يقول هذا ما قبض الثمن فكيف يصح البيع ؟ و آخر يقول : كيف يجوز لك أن تأخذ دكانه بغير رضاه ؟ و آخر يقول : يجب عليك أن تقيله البيع .
   
فلما لم أقله أخذ هو و أقاربه يأخذون عرضي ، و رأى أنه يحامي عن ملكه ، ثم سعى بي إلى السلطان سعاية يحرض فيها من الكذب ما أدهشني ، و يبرطل مالاً لخلق من الظلمة ، فبالغوا و سعوا . إلا أن الله تعالى نجاني من شرهم .
   
ثم إني أقمت عليه البينة عند الحاكم ، فقال بعض أرباب الدنيا للحاكم : لا تحكم له ، فوقف عن الحكم بعد ثبوت البنية عنده ، فرأيت من هذا الحاكم و من حاكم آخر أعلى منه من ترك إنفاذ الحق حفظاً لرياستهم ما هون عندي ما فعله ذلك الشيخ حفظاً لماله ، لجله و علم هؤلاء ، فينحل لي من الأمر أن العادات غلبت على الناس ، و إن الشرع أعرض عنه .
   
و إن وقعت موافقة للشرع فكما أتفق أو لأجل العادة .
   
فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان عادة قد إستمرت . و يأخذ أعراض الناس و أموالهم عادة غالبة !! .
   
فكم قد رأيت هذا الشيخ يصلي و يحافظ على الصلاة . ثم لما خاف فوت غرضه ترك الشرع جانباً .
   
و كم قد رأيت أولئك الحكام يتعبدون و يطلبون العلم . غير أنهم لما خافوا على رياستهم أن تزول تركوا جانب الدين .
   
ثم إن الله تعالى نصرني عليه و تقدم إلي الحاكم بإنفاذ ما ثبت عنده ، و دارت السنة فمات الشيخ على قل ، فنسأله عز وجل التوفيق للإنقياد لشرعه و مخالفة أهوائنا .

 

·       فصل : فضل عزلة العالم

 
   ما أعرف للعالم قط لذة و لا عزاً و لا شرفاً و لا راحة و لا سلامة أفضل من العزلة ، فإنه ينال بها سلامة بدنه و دينه و جاهه عند الله عز وجل و عند الخلق ، لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم ، و لا يعظم عندهم قد المخالط لهم ، و لهذا عظم قدر الخلفاء لإحتجابهم .
   
و إذا رأى العوام أحد العلماء مترخصاً في أمر مباح هان عندهم ، فالواجب عليه صيانه علمه و إقامة قدر العلم عندهم .
   
فقد قال بعض السلف : كنا نمزح و نضحك ، فإذا صرنا يقتدى بنا فما أراه يسعنا ذلك .
   
و قال سفيان الثوري : تعلموا هذا العلم و اكظموا عليه ، و لا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب .
   
فمراعاة الناس لا ينبغي أن تنكر .
   
و قد قال صلى الله عليه و سلم لعائشة : لو لا حدثنا قومك في الكفر لنقضت الكعبة و جعلت لها بابين .
   
و قال أحمد بن حنبل في الركعتين قبل المغرب : [ رأيت الناس يكرهونهما فتركتهما ] .
   
و لا تسمع من جاهل يرى مثل هذه الأشياء رياء ، إنما هذه صيانة للعلم .
   
و بيان هذا أنه لو خرج العالم إلى الناس مكشوف الرأس أو في يده كسرة يأكلها قل عندهم و إن كان مباحاً ، فيصير بمثابة تخليط الطبيب الآمر بالحمية .
   
فلا ينبغي للعالم أن ينبسط عند العوام حفظاً لهم ، و متى أراد مباحاً فليستتر به عنهم .
   
و هذا القدر الذي لاحظه أبو عبيدة حين رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قد قدم الشام راكباً على حمار و رجلاه من جانب ، فقال : [ يا أمير المؤمنين يتلقاك عظماء الناس ، فما أحسن ما لاحظ ] .
   
إلا أن عمر رضي الله عنه أراد تأديب أبي عبيدة بحفظ الأصل فقال : [ إن الله أعزكم بالإسلام فمهما طلبتم العزة في غيره أذلكم ] .
   
و المعنى ينبغي أن يكون طلبكم العز بالدين لا بصور الأفعال ، و إن كانت الصور تلاحظ .
   
فإن الإنسان يخلو في بيته عرياناً ، فإذا خرج إلى الناس لبس ثوبين و عمامة و رداء .
   
و مثل هذا لا يكون تصنعاً و لا ينسب إلى كبر .
   
و قد كان مالك بن أنس يغتسل و يتطيب و يقعد للحديث ، و لا تلتفت يا هذا إلى ما ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين ، فإنه العزلة أصون للعالم و العلم ، و ما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه .
   
و قد كان سيد الفقهاء سعيد بن المسيب لا يغشى الولاة ، و عن قول هذا سكتوا عنه ، و هذا فعل الحازم .
   
فإن أردت اللذة و الراحة فعليك أيها العالم بقعر بيتك ، و كن معتزلاً عن أهلك يطب لك عيشك ، و إجعل للقاء الأهل وقتاً ، فإذا عرفوه تصنعوا للقائد ، فكانت المعاشرة بذلك أجود .
   
و ليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه ، وتحادث سطور كتبك ، و تجري في حلبات فكرك .
   
و إحيرس من لقاء الخلق و خصوصاً العوام .
   
و اجتهد في كسب يعفك عن الطمع ، فهذه نهاية لذة العالم في الدنيا .
   
و قد قيل لا بن المبارك : ما لك لا تجالسنا ؟ فقال : أنا أذهب فأجالس الصحابة و التابعين و أشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه .
   
و متى رزق العالم الغنى عن الناس و الخلوة ، فإن كان له فهم يجلب التصانيف فقد تكاملت لذة .
   
و إن رزق فهماً يرتقي إلى معاملة الحق و مناجاته فقد تعجل دخول الجنة قبل الممات .
   
نسأل الله عز وجل همة عالية تسمو إلى الكمال ، و توفيقاً لصالح الأعمال ، فالسكون طريق الحق أفراد .
   

·       فصل : حديث ابن الجوزي عن نفسه


   
تأملت أحوال الناس في حالة علو شأنهم ، فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ .
   
فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب ، و منهم من فرط إكتساب العلم ، و منهم من أكثر من الإستمتاع باللذات .
   
فكلهم نادم في حاله الكبر حين فوات الإستدراك لذنوب سلفت أو قوى ضعفت ، أو فضيلة فاتت ، فيمضي زمان الكبر في حسرات .
   
فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت قال : و اأسفاً على ما جنيت . و إن لم يكن له إفاقة صار متأسفاً على فوات ما كان يلتذ به .
   
فإما من أنفق عصر الشباب في العلم فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جنى ما غرس ، و يلتذ بتصنيف ما جمع ، و لا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم .
   
هذا مع و جود لذاته في الطلب الذي كان يتأمل به إدراك المطلوب .
   
و ربما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها ،كما قال الشاعر :
   
اهتز عند تمني وصلها طرباً       و رب أمنية أحلى من الظفر
   
و لقد تاملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذبين أنفقوا أعمالهم في اكتساب الدنيا ، و أنفقت زمن الصبوة و الشباب في طلب العلم ، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه .
   
ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم ، و جاهي بين الناس أعلى من جاههم. و ما نلته من معرفة العلم لا يقاوم .
   
فقال لي إبليس : و نسيت تعبك و سهرك ؟
   
فقلت له :أيها الجاهل ، تقطيع الأيدي لا و قع له عند رؤية يوسف . و ما طالت طريق أدت إلى صديق :
   
جرى الله المسير إليه خيراً       و إن ترك المطايا كالمزاد
   
و لقدكنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب و أرجو .
   
كنت زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث ، و أقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء .
   
فكلما أكلت لقمة شربت عليها ، و عين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم .
   
فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول صلى الله عليه و سلم و أحواله و آدابه ، و أحوا ل أصحابه و تابعيهم ، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود .
   
و أثمر ذكل عندي من المعاملةما لا يدري بالعلم ، حتى أنني أذكر في زمان الصبوة و وقت الغلمة و العزبة قدرتي علىأشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال ، و لم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف الله عز وجل .
   
و لولا خطايا لا يخلو منها البشر ، لقد كنت أخاف على نفسي من العجب .
   
غير أنه عز وجل صانني ، و علمني ، و أطلعني من أسرار العلم على معرفة ، و إيشار الخلوة به ، حتى إنه لو حضر معي معروف و بشر لرأيتهما زحمة .
   
ثم عاد فغمسني في التقصير و التفريط حتى رأيت أقل الناس خيراً مني .
   
و تارة يوقظني لقيام الليل و لذة مناجاتة ، و تارة يحرمني ذلك مع سلامة بدني .
   
و لولا بشارة العلم بأن هذانوع تهذيب و تأديب لخرجت إما إلى العجب عند العمل ، و إما إلى اليأس عند البطالة .
   
لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه .
   
و قد يغلب الرجاء بقوة أسبابه ، لأني رأيت أنه قد رباني منذ كنت طفلاً فإن أبي مات وأنا لا أعقل ، و الأم لم تلتفت إلي . فركز في طبعي حب العلم .
   
و ما يوقعني علىالمهم فالمهم ، و يحملني إلى من يحملني على الأصوب ، حتى قوم أمري .
   
و كم قد قصدني عدو فصده عني . وإذ رأيته قد نصرني و بصرني و دافع عني ، و وهب لي ، قوى رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي .
   
و لقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف . و أسلم على يدي أكثر من مائتي نفس .
   
و كم سألت عين مختبر بوعظي لم تكن تسيل . و يحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام .
   
و ربما لا حت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري و زللي .
   
و لقد جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه ، أو دمعت عينيه . فقلت لنفسي : كيف بك إن نجونا و هلكت : فصحت بلسان وجدي : إلهي و سيدي إن قضيت علي بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي ، صيانة لكرمك لا لأجل ، لئلا يقولوا عذب من دل عليه .
   
إلهي قد قيل لنبيك صلى الله عليه و سلم : إقتل ابن أبي المنافق، فقال : لا يتحدث الناس أن محمد اً يقتل أصحابه .
   
إلهي فأحفظ حسن عقائدهم في بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك .
   
حاشاك و الله يارب من تكدير الصافي .
   
لا تبر عوداً أنت ريشته       حاشا لباني الجود أن ينقضا
   
لا تعطش الزرع الذي نبته بصوب إنعامك قد روضا

 

·       فصل : إختر ما تميل النفس إليه و لا يرقى لمقام العشق


   من الأمور التي تخفي على العاقل أن يرى أنه متى لم تكن عنده إمرأة أوجارية يهواها هوى شديداً أنه لا يلتذ في الدنيا . فإذا صور محبوباً مملوكاً تخايل لذة عظيمة . و إذا كان عنده من لا يميل إليه إعتقدنفسه محروماً .
   
و هذا أمر شديد الخفاء . فينبغي أن يوضح . و هو أن المملوك مملول .
   
و متى قدر الإنسان على ما يشتبه مله و مال إلى غيره .
   
تارة لبيان عيوبه التي تكشفها المخالطة فإنه قد قال الحكماء : العشق يعمي عن عيوب المحبوب .
   
و تارة لمكان القدر عليه ، و النفس لا تزال تتطلع إلى ما لا تقدر عليه .
   
ثم لو قدرنا دوام المحبة مع القدر فإنها قد تكون و لكن ناقصة بمقدار القدرة ، و إنما بقوتها تجني المحبوب . فيكون تجنبه كالإمتناع ، او إمتناعه من الموافقة .
   
فإذا صفا فلا بد من اكدار ، منها الحذر عليه ، و منها قلة ميله إلى هذا العاشق . و ربما يتكلف القرب منه ، و يعلم الإنسان بقلة ميل محبوبه إليه فينغص بل يبغض .
   
فإن خاف منه خيانة إحتياج إلى حراسة فقويت النغص .
   
و أصلح المقامات التوسط ، و هو إختيار ما تميل النفس إليه و لا يرتقي إلى مقام العشق ، فإن العاشق في عذاب . و إنما يتخايل الفارغ من العشق إلتذاذ العاشق و ليس كذلك . فإنه كما قيل :
   
و ما في الأرض أشقى من محب       و إن وجد الهوى عذب المذاق
   
تراه باكياً في كل و قت       مخافة فرقة أو لا إشتياق
   
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم       و يبكي إن دنوا خوف الفراق
   
فتسخن عينه عن التداني       و تسخن عينه عند الفراق

 

·       فصل : نية المؤمن ابلغ من عمله

 
   
و ما ابتلى الإنسان قط بأعظم من علو همته . فإن من علت همته يختار المعالي .
   
و ربما لا يساعده الزمان ، وقد تضعف الآلة ، فيبقى في عذاب .
   
و إني أعطيت من علو الهمة طرفاً فأنا به في عذاب و لا أقول ليته لم يكن فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل ، و العاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل .
   
و لقد رأيت أقواماً يصفون علو هممهم ، فتأملتها بها في فن واحد . و لا يبالون بالنقص فيما هو اهم ، قال الرضي :
   
و لكل جسم في النحول بلية       و بلاء جسمي من تفاوت همتي
   
فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة .
   
و كان ابو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام ، فقيل له في ذلك فقال : ذهن صاف ، و هم بعيد ، و نفس تتوق إلى معالي الأمور ، مع عيش كعيش الهمج الرعاع .
   
قيل : فما الذي يبرد غليلك ؟ قال : الظفر بالملك .
   
قيل : فاطلبه ، قال لا يطلب إلا بالأهوال .
   
قيل : فاركب الأهوال . قال : العقل مانع .
   
قيل : فما تصنع ؟ قال : سأجعل من عقلي جهلاً . و أحاول به خدراً لا ينال إلا بالجهل .
   
و أدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به . فإن الخمول أخو العدم .
   
فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات و هو جانب الآخرة ، و انتصب في طلب الولايات . فكم فتك و قتل ؟ حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا .
   
ثم لم يتنعم في ذكل غير ثمان سنين .
   
ثم اغتيل ، و نسى تدبير العقل ، فقتل و مضى إلى الآخرة على أقبح حال .
   
و كان المتنبي يقول :
   
و في الناس من يرضى بميسور عيشه       و مركوبه رجلاه و الثوب جلده
   
و لكن قلباً ـ بين جنبي ـ ماله       مدى ينتهي بي في مراد أحده
   
يرى جسمه يكسي شفوفاً تربه       فيختار أن يكسي دروعاً تهده
   
فتأملت هذا الآخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب .
   
و نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجباً . و ذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه ، لأني أحب نيل كل العلوم على إختلاف فنونها .
   
و أريد إستقصاء كل فن ، هذا أمر يعجز العمر عن بعضه .
   
فإن عرض لي ذو همة في فن بلغ منتهاه رأيته ناقصاً في غيره ، فلا أعد همته تامة .
   
مثل المحدث فاته الفقه . و الفقيه فاته علم الحديث . فلا أرضى بنقصان من العلوم إلا حادثاً عن نقص الهمة .
   
ثم أني أروم نهاية العمل بالعلم ، فأتوق إلى ورع بشر ، و زهادة معروف و هذا مع مطالعة التصانيف و إفادة الخلف و معاشرتهم بعيد .
   
ثم إني أروم الغنى عن الخلق ، و أستشرف الإفضال عليهم و الإشتغال بالعلم مانع من الكسب . و قبول المنن مما تأباه الهمة العالية .
   
ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد ، كما أتوق إلى تحقيق التصاميم ، لبقى الخلفان نائبين عني بعد التلف . و في طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد .
   
ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات ، و في ذلك إمتناع من جهة قلة المال ثم لو حصل فرق جمع الهمة .
   
و كذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم و المشارب ، فإنه متعود للترفه و اللطف ، و في قلة المال مانع ، و كل ذلك جمع بين أضداد .
   
فأين أنا و ما و صفته من حال من كانت غاية همته الدنيا ؟ و أنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب . و لا أن يؤثر في علمي و لا في عملي .
   
فواقلقي من طلب قيام الليل ، و تحقيق الورع مع إعادة العلم ، و شغل القلب بالتصانيف ، و تحصيل ما يلائم البدن من المطاعم .
   
و وا أسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس و تعليمهم .
   
و يا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة .
   
غير أني قد إستسلمت لتعذيبي و لعل تهذيبي في تعذيبي ، لأن علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل .
   
و ربما كان الحيرة في الطلب دليلاً إلى المقصود ، و ها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة .
   
و إن بلغ همي مراده . . . و إلا فنية المؤمن أبلغ من عمله .

 

·       فصل : مغالطة النفس ليتم العيش


   
لما سطرت هذا الفصل المتقدم ، و رأيت إدكار النفس بما لا بد لها في الطريق منه .
   
و هو أنه لا بد لها من التلطف ، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف . فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن .
   
و إذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها ، و أخذ الراحة للجد جد ، و غوص السابح في طلب الدر صعود . و دوام السير يحسر الإبل ، و المفازة صعبة .
   
و من أراد أن يرى التلطف بالنفس ، فلينظر في سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم ، فإنه كان يتلطف بنفسه ، و يمازح ، و يخالط النساء ، و يقبل و يمص اللسان ، و يختار المستحسنات ، و يستعذب له الماء و يختار الماء البارد ، و الوفق من المطاعم ، كلحم الظهر و الذراع و الحلوى ، و هذا كله رفق بالناقة في طريق السير .
   
فأما من جرد عليها السيوط فإنه يوشك ألا يقطع الطريق .
   
و قد قال صلى الله عليه و سلم : إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ، و لا ظهراً ابقى .
   
و اعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط نفسه فيما يكشف العقل عن عوراه ، فإن فكر المتيقظ قبل مباشرة المرأة إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة ، و قبل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة في الريق ، و لو أخرجها الإنسان لفظها .
   
و لو فكرت في قرب الموت و ما يجري عليه بعده ، لبغض عاجل لذته .
   
فلا بد من مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشة كما قال لبيد :
   ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‍‍‍‌‌‍‌‌‌‌‌‌‌‌‍‌‌‌‌‌‌‌
فأكذب النفس إذا حدثتها       إن صدق النفس يزري بالأمل
   
و قال البستي :
   
أفد طبعك المكدود بالهم راحة       تجم و علله بشيء من المزح
   
و لكن إذا أعطيته ذاك فليكن       بمقدار ما يعطى الطعام من الملح
   
و قال أبو علي بن الشبل :
   
و إذا هممت فناج نفسك بالمنى       و عداً ، فخيرات الجنان عدات
   
و اجعل رجاءك دون بأسك جنة       حتى تزول بهمك الأوقات
   
و اسر عن الجلساء بثك ، إنما       جلساؤك الحساد و الشمات
   
و دع التوقع للحوادث إنه       للحى ـ من قبل الممات ـ ممات
   
فالهم ليس له ثبات مثل ما       في أهله ما للسرور ثبات
   
لولا مغالطة النفوس عقولها       لم تصف للمتيقظين حياة
   
و قال أيضاً :
   
بحفظ الجسم تبقى النفس فيه       بقاء النار تحفظ بالوعاء
   
فباليأس الممض فلا تمتها       و لا تمدد لها طول الرجاء
   
و عدها في شدائدها رخاء       و ذكرها الشدائد في الرخاء
   
يعد صلاحها هذا و هذا       و بالتركيب منفعة الدواء
   
و قد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره .
   
و إن كان الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك . و لكنه نوع مخادعة للنفس .
   
و ما زالت النفوس ترى الظاهر . و إنما الفكر و العقل مع الغائب . و لا بد من مغالطة تجري ليتم العيش .
   
و لو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل ، ما كتب العلم و لا صنف .
   
فافهم هذا الفصل مع الذي تقدمه ، فإن الأول في مقام العزيمة ، و هذا في مكان الرخصة .
   
و لا بد للتعب من راحة و إعانة ، و الله عز وجل معك على قدر صدق الطلب ، و قوة اللجأ ، و خلع الحول و القوة ، و هو الموفق

 

·       فصل : بين الإسراف و الإعتدال

 
   قوام الآدمي بشيئين : الحرارة ، و الرطوبة .
   
و من شأن الحرارة أن تحلل الرطوبة و تفنيها ، فلأدمي محتاج إلى تحصيل خلف المتحلل .
   
فأبدان النشئ تغتدي بأكثر مما يتحلل منها .
   
و الأبدان المتناهية تغتذي بمقدار ما يتحلل منها ، و الأبدان التي قد أخذت في الهرم يتحلل منها أكثر مما تغتذي به ، فينبغي للناشئ البالغ أن يتحفظ في النكاح ، لأنه يربي قاعدة قوة يجد أثرها في الكبر .
   
و أما المتوسط و الواقف فينبغي أن يحذر فضول الجماع ، فإن حصل له مثل ما يخرج منه فأسرف ، فاللازم أخذ من الحاصل ، و يوشك أن يسرع النفاد .
   
و أما الشيخ فترك النكاح كاللازم له ، خصوصاً إذا زاد علو السن ، لأنه ينفق من الجوهر الذي لا يحصل مثله أبداً .
   
ثم ينبغي أن ينظر العاقل في ماله فيكتسب أكثر مما ينفق ليكون الفاضل مدخراً لوقت العجز .
   
و ليحذر السرف ، فإن العدل هو الأصلح .
   
ثم ينظر الزوجة ، و المطلوب منها شيئان : وجود الولد ، و تدبير المنزل ، فإذا كانت مبذرة فعيب لا يحتمل ، فإن إنضمت صفة العقر ، فلا وجه للإمساك . إلا أن تكون مستحسنة الصورة ، فإن ضم إليها عقل و عفاف ، حسن الإمساك .
   
و إن كان مما يحتاج أن تحفظ فتركها لازم .
   
فأما الخدم فليجتهد في تحصيل خادم لا تستعبده الشهوة ، فإن عبد الشهوة له مولى غير سيده .
   
و لينظر المالك في طبع المملوك ، فمنهم من لا يأتي إلا على الإكرام فليكرمه ، فإنه يربح محبته .
   
و منهم من لا يأتي إلا على الإهانة فليداره و ليعرض عن الذنوب .
   
فإن لم يمكن عاتب بلطف ، و ليحذر العقوبة ما أمكن ، و ليجعل للماليك زمن راحة .
   
و العجب ممن يعنى بدابته و ينسى مداراة جاريته ، و أجود الممالك الصغار و كذلك الزوجات ، لأنهم متعودون خلق المشتري .
   
و ليحفظ نفسه بالهيبة من الانحراف مع الزوجة ، و لا يطلعها على ماله ، فإنها سفيهة تطلب كثرة الإنفاق . و أما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد . و متى كان الصبي ذا أنفة ـ حييا ـ رجي خيره .
   
و ليحمل على صحبة الأشراف و العلماء ، و ليحذر من مصاحبته الجهال و السفهاء ، فإن الطبع لص .
   
و ليحذر الصبي من الكذب غاية التحذير ، و من المخالطة للصبيان ، و ليوصه بزيادة البر للوالدين ، و ليحفظ من مخالطة النساء .
   
فإذا بلغ فليزوج بصبيه فينتفعان . هذه الإشارة إلى تدبير أمور الدنيا .
   
فأما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن و الفقه و سماع الحديث .
   
و ليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات ، لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة ، فإذا بلغ تشتت همته ، فليضرب تارة ، و يرشي أخرى ، ليبلغ و قد حصل محفوظات سنية .
   
و أول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقناً ، فإنه يثبت و يختلط باللحم و الدم ، ثم مقدمة من النحو يعرف بها اللحن ، ثم الفقه مذهباً و خلافاً ، و ما أمكن بعد هذا من العلوم فحفظه حسن .
   
و ليحذر من عادات أصحاب الحديث . فإنهم يفنون الزمان في سماع الأجزاء التي تتكرر فيها الأحاديث ، فيذهب العمر و ما حصلوا فهم شيء .
   
فإذا بالغوا سناً طلبوا جواز فتوى ، أو قراءة جزء من القرآن ، فعادوا القهقرى .
   
لأنهم يحفظون بعد كبر السن ، فلا يحصل مقصودهم ، فالحفظ في الصبا للمهم من العلم ، أصل عظيم .
   
و قد رأينا كثيراً ممن تشاغل بالمسموعات و كتابة الأجزاء و رأى الحفظ صعباً ، فمال إلى الأسهل فمضى عمره في ذلك .
   
فلما احتاج إلى نفسه ، قعد يتحفظ على كبر ، فلم يحصل مقصوده .
   
فاليقظة لفهم ما ذكرت ، و انظر في الإخلاص ، فما ينفع شيء دونه .

 

·       فصل : النظر في العاقبة

 
   
اشتد الغلاء ببغداد في أول سنة خمس و سبعين ، و كلما جاء الشعير زاد السعر .
   
فتواقع الناس على إشتراء الطعام ، فاغتبط من يستعد كل سنة يزرع ما يقوته ، و فرح من بادر في أول نيسان إلى إشتراء الطعام فإنه يضاعف ثمنه .
   
و أخرج الفقراء ما في بيوتهم فرموه في سوق الهوان . و بان ذل نفوس كانت عزيزة .
   
فقلت : يا نفس خذي من هذه الحال إشارة ، ليغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة إليه ، و ليفرحن من له جواب عند إقبال المسألة .
   
و كل الويل على المفرط الذي لا ينظر في عاقبته ، فتنبهى .
   
فقد نبهت ناسياً الدنيا على أمر الآخرة .
   
و بادري موسم الزرع ما دامت الروح في البدن . فالزمان كله تشرين قبل أن يدخل نيسان الحصاد .
   
و مالك زرع ، و حاجة المفتقرين إلى أموالهم تمنعهم من الإيثار .

 

·       فصل : الخوف من الله


   
تأملت حالة أزعجتني ، و هو أن الرجل قد يفعل مع إمرأته كل جميل و هي لا تحبه ، و كذا يفعل مع صديقه و الصديق يبغضه ، و قد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه و السلطان لا يؤثره ، فيبقى متحيراً يقول : ما حيلتي ؟
   
فخفت أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه ، أتقرب إليه و هو لا يريدني . و ربما يكون قد كتبني شقياً في الأزل .
   
و من هذا خاف الحسن فقال : أخاف أن يكون إطلع على بعض ذنوبي فقال : لا غفرت لك .
   
فليس إلا القلق و الخوف لعل سفينة الرجاء تسلم ـ يوم دخولها الشاطئ ـ من جرف .

 

·       فصل : شبهة في عدد الأحاديث و الرد عليها


   جرى بيني و بين أحد أصحاب الحديث كلام في قول الإمام أحمد : صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، سبع مائة ألف حديث .
   
فقلت له : إنما يعني به الطرق ، فقال : لا ، بل المتون ، فقلت : هذا بعيد التصور . ثم رأيت لأبي عبد الله الحاكم كلاماً ينصر ما قال ذلك الشخص ، و هو أنه قال في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل : كيف يجوز أن يقال : إن حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يبلغ عشرة آلاف حديث ، و قد روى عنه من أصحابه أربعة آلاف رجل و امرأة ، صحبوه نيفاً و عشرين سنة بمكة ثم بالمدينة ، حفظوا أقواله و أفعاله ، و نومه و يقظته و حركاته و غير ذلك ، سوى ما حفظوا من أحكام الشريعة .
   
و احتج بقول أحمد : صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع مائة ألف حديث و كسر ، و أن إسحاق بن راهوية كان يملي سبعين ألف حديث حفظاً ، و أن أبا العباس بن عقدة قال : أحفظ لأهل البيت ثلاث مائة ألف حديث .
   
قال ابن عقدة : و ظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث .
   
قلت : و لا يحسن أن يشار بهذا إلى المتون و قد عجبت كيف خفى هذا على الحاكم و هو يعلم أن أجمع المسانيد الظاهرة مسند أحمد بن حنبل ، و قد طاف الدنيا مرتين حتى حصله و هو أربعون ألف حديث ، منها عشرة آلاف مكررة .
   
قال حنبل بن إسحاق : جمعنا أحمد بن حنبل أنا و صالح و عبد الله ، و قرأ علينا المسند ، و قال لنا : هذا كتاب جمعته من أكثر من سبع مائة ألف و خمسين ألفاً .
   
فما إختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فارجعوا إليه ، فإن وجدتموه و إلا فليس بحجة .
   
أفترى يخفى على متيقظ أنه أراد بكونه جمعه من سبعمائة ألف أنه أراد الطرق . لأن السبع مائة الألف ، إن كانت من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف أهملها ؟
   
فإن قيل : فقد أخرج في مسنده أشياء ضعيفة . ثم أعوذ بالله أن يكون سبع مائة ألف ما تحقق منها سوى ثلاثين ألفاً .
   
و كيف ضاعت هذه الجملة ؟ و لم أهملت و قد وصلت كلها إلى زمن أحمد فانتقى منها و رمى الباقي ؟
   
و أصحاب الحديث قد كتبوا كل شيء من الموضوع و الكذب .
   
و كذلك قال أبو داود : كتاب السنن من ستمائة ألف حديث . و لا يحسن أن يقال : إن الصحابة الذين رووها ماتوا و لم يحدثوا بها التابعين .
   
فإن الأمر قد وصل إلى أحمد فأحصى سبع مائة ألف حديث ، و ما كان الأمر ليذهب هكذا عاجلاً .
   
و معلوم أنه لو جمع الصحيح و المحال الموضوع و كل منقول عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ما بلغ خمسين ألفاً ، فأين الباقي ؟
   
و لا يجوز أن يقال تلك الأحاديث كلام التابعين ، فإن الفقهاء نقلوا مذاهب القوم و دونوها و أخذوا بها ، و لا وجه لتركها .
   
ففهم كل ذي لب أن الإشارة إلى الطرق ، و إن ما توهمه الحاكم فاسد . و لو عرض هذا الإعتراض عليه ، و قيل له : الباقي ؟ لم يكن له جواب .
   
لكن الفهم عزيز . و الله المنعم بالتوفيق .
   
و مثل هذا تغفيل قوم قالوا : إن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده ، و أن ما أخرج كالأنموذج ، و إلا فكان يطول .
   
و قد ذهب إلى نحو هذا أبو بكر الإسماعيلي . و حكى عن البخاري أنه قال : ما تركت من الصحيح ، أكثر .
   
و إنما يعني الطرق ، يدل على ما قلته ، أن الدار قطني ـ و هو سيد الحفاظ ـ جمع ما يلزم البخاري و مسلم إخراجه فبلغ ما لم يذكراه أحاديث يسيرة ، و لو كان كما قالوا ، لأخرج مجلدات .
   
ثم قوله : [ ما يلزم البخاري ] دليل صريح على ما قلته ، لأنه من أخرج الأنموذج ، لا يلزمه شيء .
   
و كذلك أخرج أبو عبد الله الحاكم كتاباً ، جمع فيه ما يلزم البخاري ، فذكر حديث الطائر ، فلم يلتفت الحفاظ إلى ما قال .
   
فما أقل فهم هؤلاء الذين شغلهم نقل الحديث عن التدقيق الذي لا يلزم في صحة الحديث . و إنما وقع لقلة الفقه و الفهم .
   
إن البخاري و مسلم ، تركا أحاديث أقوام ثقات ، لأنهم خولفوا في الحديث ، فنقص الأكثرون من الحديث و زادوا .
   
و لو كان ثم فقه ، لعلموا أن الزيادة من الثقة مقبولة . و تركوا أحاديث أقوام ، لأنهم افردوا بالرواية عن شخص . و معلوم أن إنفراد الثقة لا عيب فيه ، و تركوا من ذلك الغرائب ، و كل ذلك سوء فهم .
   
و لهذا لم يلتزم الفقهاء هذا ، و قالوا : الزيادة من الثقة مقبولة و لا يقبل القدح حتى يبين سببه .
   
و كل من يخالط الفقهاء و جهد مع المحدثين ، تأذى و ساء فهمه . فالحمد لله الذي أنعم علينا بالحالتين .

 

·       فصل : في الفرق بين اللغة و النحو


   
اعلم أن الله عز وجل وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل . فالنفوس تعلمها ضرورة ، و أكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها .
   
فإنه وضع في النفس أن المصنوع لا بد له من صانع ، و أن المبنى لا بد له من بان ، و أن الاثنين أكثر من الواحد ، و أن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة . و مثل هذه الأشياء لا تحتاج إلى دليل .
   
و ألهم العرب النطق بالصواب من غير لحن ، فهم يفرقون بين المرفوع و المنصوب بأمارات في جبلتهم ، و إن عجزوا عن النطق بالعلة .
   
قال عثمان بن جني : سألت يوماً أبا عبد الله محمد بن عساف العقيلي فقلت له : كيف تقول ضربت أخوك ؟ فقال : أقول ضربت أخاك .
   
فأدرته على الرفع فأبى و قال لا أقول أخوك أبداً .
   
قال فكيف تقول ضربني أخوك ؟ فرفع ، فقلت : أليس زعمت أنك لا تقول أخوك أبداً ؟ فقال : إيش هذا ، اختلفت جهتها في الكلام .
   
و هذا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام ، و إعطائهم إياه في كل موضوع حقه ، و إنه ليس إسترسالاً و لا ترخيماً .
   
قال عثمان : و اللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ، و النحو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب و غيره ، كالتثنية و الجمع و التحقير و التكسير و غير ذلك ، ليلحق من ليس من أهل اللغة أهلها .

 

·       فصل : تعجيل اللذة يفوت الفضائل


   
تدبرت أحوال الأخيار و الأشرار فرأيت سبب صلاح الأخيار النظر ، و سبب فساد الأشرار ، إهمال النظر .
   
و ذاك أن العاقل ينظر فيعلم أنه لا بد من صانع ، و أن طاعته لازمة ، و يتأمل معجزات رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فيسلم قياده إلى الشرع .
   
ثم ينظر فيما يقربه إليه ، و يزلفه إليه .
   
فإذا شق عليه إعادة العلم ، تأمل ثمرته ، فسهل ذلك ، و إذا صعب عليه قيام الليل ، فكذلك .
   
و إذا رأى مشتهى ، تأمل عاقبته ، فعلم أن اللذة تفنى ، و العار و الإثم يبقيان ، فيسهل الترك .
   
و إذا إشتهى الإنتقام ممن يؤذيه ، و ذكر ثواب الصبر ، و ندم الغضبان على أفعاله في حال الغضب .
   
ثم لا يزال يتأمل سرعة ممر العمر فيغتنمه بتحصيل أفضل الفضائل فينال مناه .
   
و أما الغافل ، فإنه لا يرى إلا الشيء الحاضر .
   
فمنهم من لم يتأمل في معنى المصنوع و إثبات الصانع ، فجحدوا و تركوا النظر ، و جحدوا الرسل و ما جاءوا و نظروا إلى العاجل ، و لم يتفكروا في مبدئه و منتهاه .
   
فليس عندهم من عرفان المطعم إلا الأكل .
   
و لو تأملوا كيف أنشئ ؟ و لماذا جعل حافظاً للأبدان ؟ لعرفوا حقائق الأمور .
   
و كذلك كل شهوة تعرض لا ينظرون في عاقبتها ، بل في عاجل لذتها . و كم قد جنت عليهم من وقوع حد ، و قطع يد و فضيحة .
   
فتعجيل اللذة يفوت الفضائل ، و يحصل الرذائل .
   
و سببه ، عدم النظر في العواقب ، و هذا شغل لعقل ، و ذاك المذموم ، شغل الهوى .
   
نسأل الله عز وجل ، يقظة ترينا العواقب ، و تكشف لنا الفضائل و المعائب إنه قادر على ذلك .

 

·       فصل : الهمة تطلب الغايات

 
   
خلقت لي همة عالية تطلب الغايات .
   
فقلت السن و ما بلغت ما أملت ، فأخذت أسأل تطويل العمر و تقوية البدن ، و بلوغ الأمال .
   
فأنكرت علي العادات و قالت : ما جرت عادة بما تطلب .
   
فقلت إنما أطلب من قادر يخرق العادات .
   
و قد قيل لرجل : لنا حويجة ، فقال : اطلبوا لها رجيلاً .
   
و قيل لآخر : جئناك في حاجة لا ترزؤك ، فقال : هلا طلبتم لها سفاسف الناس ؟
   
فإذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا ، فلم لا نطمع في فضل كريم قادر ؟
   
و قد سألته هذا السؤال في ربيع الآخر ، من سنة خمس و سبعين ، فإن مد لي أجل ، و بلغت ما أملته ، نقلت هذا الفصل إلى ما بعد و بيضته ، و أخبرت ببلوغ آمالي .
   
و إن لم يتفق ذلك ، فسيدي أعلم بالمصالح ، فإنه لا يمنع بخلاً ، و لا حول إلا به .

 

·       فصل : تزينوا للحق لا للخلق

 
   ما أقل من يعمل لله تعالى خالصاً ، لأن أكثر الناس يحبون ظهور عباداتهم و سفيان الثوري كان يقول : [ لا أعتد بما ظهر من عملي ] . و كانوا يسترون أنفسهم .
   
و اليوم ثياب القوم تشهرهم ، و قد كان أيوب السختياني يطول قميصه ، حتى يقع على قدميه ، و يقول : كانت الشهرة في التطويل ، و اليوم الشهرة في التقصير .
   
فاعلم أن ترك النظر إلى الخلق و محو الجاه من قلوبهم بالعمل و إخلاص القصد و ستر الحال ، هو الذي رفع من رفع .
   
فقد كان أحمد بن حنبل يمشي حافياً في وقت و يحمل نعليه في يديه و يخرج للقاط ، و بشر يمشي حافياً على الدوام وحده ، و معروف يلتقط النوى .
   
و اليوم صارت الرياسات أكثر من كل جانب ، و ما تتمكن الرياسات حتى تتمكن من القلب الغفلة ، و رؤية الخلق ، و نسيان الحق ، فحينئذ تطلب الرياسة على أهل الدنيا .
   
و لقد رأيت من الناس عجباً ، حتى من يتزين بالعلم ، إن رآني أمشي وحدي أنكر علي ، و إن رآني أزور فقيراً عظم ذلك ، و إن رآني أنبسط بتبسم ، نقصت من عينه .
   
فقلت : فواعجباً ، هذه كانت طريق الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه رضي الله عنهم .
   
فصارت أحوال الخلق ، نواميس لإقامة الجاه .
   
لا جرم ـ و الله ـ سقطتم من عين الحق ، فأسقطكم من عين الخلق .
   
فكم ممن يتعب في تربية ناموس ، و لا يلتفت إليه و لا يحظى بمراده ، و يفوته المراد الأكبر .
   
فالتفتوا ـ إخواني ـ إلى إصلاح النيات ، و ترك التزين للخلق . و لتكن عمدتكم الإستقامة مع الحق ، فبذلك صعد السلف و سعدوا .
   
و إياكم و ما الناس عليه اليوم ، فإنه بالإضافة إلى يقظة السلف ، نوم .

 

·       فصل : إن الهدي هدي الله


   و الله ما ينفع تأديب الوالد إذا لم يسبق إختيار الخالق لذلك الولد ، فإنه سبحانه إذا أراد شخصاً ، رباه طفولته ، و هذاه إلى الصواب ، و دله على الرشاد ، و حبب إليه ما يصلح ، و صحبه من يصلح ، و بغض إليه ضد ذلك ، و قبح عنده سفساف الأمور ، و عصمه من القبائح ، و أخذ بيده كلما عثر .
   
و إذا أبغض شخصاً ، تركه دائم التعثير ، متخبطاً في كل حال ، و لم يخلق له همة لطلب المعالي ، و شغله بالرذائل عن الفضائل .
   
و إن قال : لم خصصت بهذا ؟
   
قال الخطاب الذي لا يحاب : فبما كسبت أيديكم .

 

·       فصل : نفس الإنسان أكبر الأدلة على وجود الخالق

 
   
من أكبر الدليل على وجود الخالق سبحانه هذه النفس الناطقة المميزة المحركة للبدن على مقتضى إرادتها التي دبرت مصالحها ، و ترقت إلى معرفة الأفلاك ، و اكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم ، و شاهدت الصانع في المصنوع ، فلم يحجبها ستر ، و إن تكاثف ، و لا يعرف مع هذا ، ماهيتها و لا كيفيتها ، و لا جوهرها و لا محلها .
   
و لا يفهم من أين جاءت ، و لا يدري أين تذهب ، و لا كيف تعلقت بهذا الجسد ؟
   
و هذا كله يوجب عليها أن لها مدبراً و خالقاً ، و كفى بذلك دليلاً عليه .
   
إذ لو كانت وجدت بها لما خفيت أحوالها عليها . فسبحانه سبحانه .

 

·       فصل : من لم يتشاغل بالعلم كيف يبلغ الشريعة للخلق ؟

 
   
سبحان من من على الخلق بالعلماء الفقهاء الذي فهموا مقصود الأمر و مراد الشارع ، فهم حفظة الشريعة ، فأحسن الله جزاءهم .
   
و إن الشيطان ليتجافاهم خوفاً منهم ، فأنهم يقدرون على آذاه و هو لا يقدر على أذاهم .
   
و لقد تلاعب بأهل الجهل و القليلي الفهم .
   
و كان من أعجب تلاعبه ، أن حسن لأقوام ترك العلم ، ثم لم يقنعوا بهذا حتى قدحوا في المتشاغلين به .
   
و هذا ـ لو فهموه ـ قدح في الشريعة ، فأن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : بلغوا عني ، و قد قال له ربه عز وجل : بلغ .
   
فإذا لم يتشاغل بالعلم ، فكيف يبلغ الشريعة إلى الخلق ؟
   
و لقد نقل مثل هذا عن كبار الزهاد ، كبشر الحافي ، فإنه قال لعباس بن عبد العظيم : [ لا تجالس أصحاب الحديث ] .
   
و قال لإسحاق بن الضيف : [ إنك صاحب حديث ، فأحب ألا تعود إلي ] .
   
ثم إعتذر فقال : [ إنما الحديث فتنة ، إلا لمن أراد الله به ، و إذا لم يعمل به فتركه أفضل ] ، و هذا عجب منه .
   
من أين له أن طلابه لا يريدون الله به ، و أنهم لا يعملون به ؟
   
أو ليس العمل به على ضربين : عمل بما يجب ، و ذلك لا يسع أحداً تركه .
   
و الثاني : نافلة و لا يلزم .
   
و التشاغل بالحديث ، أفضل من التنفل بالصوم و الصلاة .
   
و ما أظنه أراد إلا طريقة في دوام الجوع و التهجد ، و ذلك شيء لا يلام تاركه .
   
فإن كان يريد ألا يوغل في علوم الحديث ، فهذا خطأ ، لأن جميع أقسامه محمودة .
   
أفترى لو ترك الناس طلب الحديث كان بشر يفتي ؟
   
فالله الله في الإلتفات إلى قول من ليس بفقيه ، و لا يهولنك تعظيم إسمه فالله يعفو عنه .

 

·       فصل : إلتماس رضى الله و إن سخط الناس


   العاقل من يحفظ جانب الله عز وجل ، و إن غضب الخلق .
   
و كل من يحفظ جانب المخلوقين ، و يضيع حق الخالق ، يقلب الله قلب الذي قصد أن يرضيه فيسخطه عليه .
   
قال المأمون لبعض أصحابه : [ لا تعص الله بطاعتي فيسلطني عليك ] .
   
و لما بلغ طاهر بن الحسين فيما فعل بالأمين و فتك به ، وصلب رأسه و إن كان ذلك عن إرادة المأمون ، و لكن بقى أثر في قلبه ، فكان المأمون لا يقدر أن يراه .
   
و لقد دخل عليه يوماً فبكى المأمون ، فقال له طاهر : لم تبكي لا أبكى الله عينك ، فلقد دانت لك البلاد ؟
   
فقال : أبكي لأمر ذكره ذل ، و سره حزن ، و لن يخلو أحد من شجن .
   
فلما خرج طاهر أنفذ إلى حسين الخادم مائتي ألف درهم ، و سأله أن يسأل المأمون لم بكى ؟ فلما تغذى المأمون قال : يا حسين إسقني .
   
قال لا و الله لا أسقيك حتى تقول لم بكيت حين دخل عليك طاهر ؟
   
قال : يا حسين و كيف عنيت بهذا حتى سألت عنه ؟ قال : لغمي بذلك .
   
قال : يا حسين أمر إن خرج من رأسك قتلك .
   
قال : يا سيدي و متى أخرجت لك سراً ؟
   
قال : إني ذكرت أخي محمداً و ما ناله من الذلة ، فخنقني العبرة ، فاسترحت إلى إفاضتها و لن يفوت طاهراً مني ما يكره .
   
فأخبر حسين طاهراً بذلك ، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد .
   
فقال له إن المعروف عندي ليس بضائع ، فغيبني عن عينه . قال : سأفعل .
   
فدخل على المأمون فقال : ما بت البارحة . قال : و لم ؟ قال : لأنك وليت غسان بن عباد خراسان . و هو و من معه أكلة رأس ، فأخاف أن يخرج خارج من الترك فيصطلمه .
   
قال : فمن ترى ؟ قال : طاهر بن الحسين . فعقد له فمضى ، فبقي مدة ثم قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة .
   
فقال له صاحب البريد : ما دعوت لأمير المؤمنين . قال : سهو فلا تكتب .
   
ففعل ذلك في الجمعة الثانية و الثالثة . فقال له : لا بد أن أكتب لئلا يكتب التجار و يسبقوني . قال : أكتب . فكتب .
   
فدعا المأمون أحمد بن أبي خالد و قال : إنه لم يذهب على إحتيالك في أمر طاهر ، و أنا أعطي الله عهداً إن لم تشخص حتى توافيني به كما أخرجته من قبضتي لتذمن عقباك .
   
فشخص و جعل يتلوم في الطريق و يعتل بالمرض ، فوصل إلى الري و قد بلغته وفاة طاهر .
   
قلت : و لما خرج الراشد من بغداد و أرادوا تولية المقتفى ، شهد جماعة من الشهود بأن الراشد لا يصلح للخلافة ، فنزعوه ، و ولى المقتفي .
   
فبلغني أنه ذكر للمقتفي بعض الشهود فذمه ، و قال : كان فيمن أعان على أبي جعفر .
   
و على ضد هذا ، كل من يراعي جانب الحق و الصواب ، يرضى عنه من سخط عليه .
   
و لقد حدثني الوزير ابن هبيرة أن المستنجد بالله كتب إليه كتاباً و هو يومئذ ولي عهد ، و أراد أن يستره من أبيه قال فقلت للواصل به : و الله ما يمكنني أقرؤه و لا أجيب عنه .
   
فلما ولي الخلافة دخلت عليه فقلت : أكبر دليل على صدقي و إخلاصي أني ما حابيتك في أبيك . فقال : صدقت أنت الوزير .
   
و حدثني بعض الأصدقاء أن قوماً ألحقوا إلى المخزن بعض دين لهم ليستخلص ، فقال المسترشد لصاحب المخزن : خلصه لهم ، و خذ ما ضمنوا لنا .
   
فأحضر ابن الرطبي و عرض الأمر عليه ، فقال : هذا أمر بظلم ، و ما أحكم فيه .
   
فقال : إن السلطان قد تقدم ، قال : ما أفعل .
   
فأحضر قاضياً آخر ، فبت الحكم ، فأخبر الخليفة بالحال .
   
فقال : أما ابن الرطبي فيشكر على ما قال . و أما الآخر فيعزل و ذلك لأنه بان له أن الحق ما قاله ابن الرطبى .
   
و كذلك ما طلبه السلطان من أن يلقب ملك الملوك ، فاستفتى الفقهاء فأجازوا ذلك ، و امتنع من إجازته الماوردي ، فعظم قدره عند السلطان .
   
و مثل هذا ـ إذا تتبع ـ كثير .
   
فينبغي أن يحسن القصد لطاعة الخالق ، و إن سخط المخلوق ، فإنه يعود صاغراً .
   
و لا يسخط الخالق ، فيفوت الحظان جميعاً .

 

·       فصل : الحذر واجب


   ينبغي للعاقل أن ينظر إلى الأصول فيمن يخالطه و يعاشره و يشاركه و يصادقه و يزوجه أو يتزوج إليه .
   
ثم ينظر بعد ذلك في الصور ، فإن صلاحها دليل على صلاح الباطن .
   
أما الأصول فإن الشيء يرجع إلى أصله ، و بعيد ممن لا أصل له أن يكون فيه معنى مستحسن .
   
إن المرأة الحسناء إذا كانت من بيت رديء فقل إن تكون صينة ، و كذلك أيضاً المخالط و الصديق و المباضع و المعاشر .
   
فإياك أن تخالط إلا من له أصل يخاف عليه الدنس ، فالغالب معه السلامة و إن وقع غير ذلك كان نادراً .
   
و قد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجل : أشر علي فيمن أستعمل .
   
فقال : أما أرباب الدين فلا يريدونك أي لا يسألونك الرياسة ، و أما أرباب الدنيا فلا تردهم ، و لكن عليك بالأشراف ، فإنهم يصونون شرفهم عما لا يصلح .
   
و قد روى أبو بكر الصول ي قال : حدثني الحسين بن يحي عن إسحاق قال ، دعاني المعتصم يوماً فأدخلني معه الحمام ، ثم خرج فخلا بي و قال : يا أبا إسحاق في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه .
   
إن أخي المأمون اصطنع قوماً فأنجبوا ، و اصطفيت أنا مثلهم فلم ينجبوا .
   
قلت و من هم ؟ قال : اصطنع طاهراً و ابنه إسحاق و آل سهل فقد رأيت كيف هم .
   
و اصطنعت أنا الافشين فقد رأيت إلى ما آل أمره . و أسناش فلم أجده شيئاً ، و كذلك إيتاح و وصيف .
   
قلت : يا أمير المؤمنين ، ههنا جواب ، على أمان من الغضب .
   
قال : لك ذاك . قلت : نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها ، و استعملت فروعاً لا أصول لها فلم تنجب .
   
فقال : يا أبا إسحاق مقاساة ما مر بي طول هذه المدة أهون علي من هذا الجواب .
   
أما الصور ، فإنه متى صحت البينة و لم يكن فيها عيب فالغالب صحة الباطن و حسن الخلق ، و متى كان فيها عيب فالعيب في الباطن أيضاً .
   
فاحذر من به عاهة كالأقرع و الأعمى و غير ذلك ، فإن بواطنهم في الغالب ردية .
   
ثم مع معرفة أصول المخالط ، و كمال صورته لا بد من التجربة قبل المخالطة و استعمال الحذر لازم ، و إن كان كما ينبغي .

 

·       فصل : ملاطفة الأعداء حتى التمكن منهم

 
   
ينبغي أن يكون شغل العاقل النظر في العواقب و التحرز مما يمكن أن يكون .
   
و من الغلط النظر في الحالة الحاضرة الموافقة لمعاشه و لصحة بدنه ، و ربما لا يجري له مصحوبة فينبغي أن يعمل على انقطاع ذلك ، فيكون مستعداً لتغير الأحوال .
   
كذلك النظر في لذة تفنى و تبقى تبعتها و عارها ، و إيثار الكسل و الدعة لما يجيء بعدهما من بقاء الجهل .
   
و كذلك تحصيل المرادات التي لا تحصل إلا بالتلطف في الاحتيال ، خصوصاً إذا أريد من ذكي فإنه يفطن بأقل تلويح .
   
فمن أراد غلبة الذكي دقق النظر و تلطف في الاحتيال .
   
و قد ذكر في كتب الحيل ما يشحذ الخواطر ، و أتينا بجملة منه في كتاب الأذكياء .
   
مثلما روي أن رجلاً من الأشراف كان لا يقوم لأحد و لا يخشى أحداً ، فجاز عليه بعض الوزراء و حي فلم يرد و لم يقم .
   
فقال ذاك الوزير لرجل : أخبر فلاناً أني قد كلمت أمير المؤمنين في حقه ، و قد أمر له بمائة ألف ، فليحضر ليقبضها ، فأخبره ذلك الرجل .
   
فقال الشريف : إن كان أمر لي بشيء فلينفذه لي ، و إنما مقصوده أن يضع مني بالتردد عليه .
   
فمتى وقع الإنسان مع ذكي فينبغي أن يتحرز منه ، [ كما ينظر صاحب الرقعة النقلات ] .
   
و كثير من الأذكياء لم يقدروا على أغراضهم من ذكي فاعطوه و بالغوا في إكرامه ليصيدوه ، فإن كان قليل الفطنة وقع في الشرك ، و إن كان أقوى منهم ذكاء علم أن تحت هذه النية خبيئاً فزاده ذلك احترازاً .
   
و أقوى ما ينبغي أن يكون الاحتراز من موتور ، فإنك إذا آذيت شخصاً فقد غرست في قلبه عداوة ، فلا تأمن تفريع تلك الشجرة ، و لا تلتفت إلى ما يظهر من ود و إن حلف ، فإن قاربته فكن مكنه على حذر .
   
و من التغفل أن تعاقب شخصاً أو تسيء إليه إساءة عظيمة و تعلم أن مثل ذلك يجدد الحقد ، فتراه ذليلاً لك طائعاً تائباً مقلعاً عما فعل ، فتعود فتستطيبه و تنسى ما فعلت و تظن أنه قد انمحى من قلبه ما أسلفت .
   
فربما عمل لك المحن ، و نصب لك المكايد ، كما جرى لقصير مع الزباء ، و أخباره معروفة .
   
فإياك أن تساكن من آذيته ، بل إن كان و لا بد فمن خارج ، فما تؤمن الأحقاد .
   
و متى رأيت عدوك فيه غفلة لا يثنيه مثل هذا فأحسن إليه ، فإنه ينسى عداوتك و لا يظن أنك قد أضمرت له جزاء على قبح فعله ، فحينئذ تقدر على بلوغ كل غرض منه .
   
و من الخور إظهار العداوة للعدو .... و من أحسن التدبير التلطف باللأعداء إلى أن يمكن كسر شوكتهم ... و لو لم يمكن ذاك كان اللطف سبباً في كف أكفهم عن الأذى ، و فيهم من يستحي لحسن فعلك فيتغير قلبه لك .
   
و قد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن رجلاً قد شتمهم أهدوا إليه و أعطوه ، فهم بالعاجل يكفوه شره ، و يحتالون في تقليب قلبه ، و يقع ذلك لهم مهلة لتدبير الحيل عليه إن أرادوا .
   
و كفى بالذهن الناظر إلى العواقب و التأمل لكل ممكن مؤدباً .

 

·       فصل : استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان


   
رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم ، فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به .
   
فواعجباً كيف ضاقوا بحبسه ذرعاً ثم لاموا من أفشاه .
   
و في الحديث : استعينوا على قضاء أموركم بالكتمان .
   
و لعمري إن النفس يصعب عليها كتم الشيء ، و ترى بإفشائه راحة ، خصوصاً إذا كان مرضاً أو هماً أو عشقاً .
   
و هذه الأشياء في إفشائها قريبة . إنما اللازم كتمانه احتيال المحتال فيما يريد أن يحصل به غرضاً .
   
فإن من سوء التدبير إفشاء ذلك قبل تمامه ، فإنه إذ ظهر بطل ما يراد أن يفعل ، و لا عذر لمن أفشى هذا النوع .
   
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أراد سفراً ورى بغيره .
   
فإن قال قائل : إنما أحدث من أثق به .
   
قيل له : و كل حديث جاوز الاثنين شائع ، و ربما لك يكتم صديقك .
   
و كم قد سمعنا من يحدث عن الملوك بالقبض على صاحب فنم الحديث إلى الصاحب و هرب ففات السلطان مراده .
   
وإنما الرجل الحازم الذي لا يتعداه سره و لا يفشيه إلى أحد .
   
و من العجز إفشاء السر إلى الولد و الزوجة .
   
و المال من جملة السر . فاطلاعهم عليه ، إن كان كثيراً فربما تمنوا هلاك الموروث .
   
و إن كان قليلاً تبرموا بوجوده .
   
و ربما طلبوا من الكثير على مقدار كثرته فأتلفته النفقات .
   
و ستر المصائب من جملة كتمان السر ، لأن إظهارها يسر الشامت و يؤلم المحب .
   
و كذلك ينبغي أن يكتم مقدار السن ، لأنه إن كان كبيراً استهرموه ، و إن كان صغيراً احتقروه .
   
و مما قد انهال فيه كثير من المفرطين أنهم يذكرون بين أصدقائهم أميراً أو سلطاناً فيقولون فيه فيبلغ ذلك إليه فيكون سبب الهلاك .
   
و ربما رأى الرجل من صديقه إخلاصاً وافياً فأشاع سره و قد قيل :
   
إحذر عدوك مرة       و احذر صديقك ألف مرة
   
فلربما انقلب الصديق فكان أدرى بالمضرة
   
و رب مفش سره إلى زوجة أو صديق فيصير بذلك رهيناً عنده و لا يتجاسر أن يطلق الزوجة ، و لا أن يهجر الصديق ، مخافة أن يظهر سره القبيح .
   
فالحازم من عامل الناس بالظاهر ، فلا يضيق صدره بسره فإن فارقته امرأة أو صديق أو خادم لم يقدر أحد منهم أن يقول ما يكره .
   
و من أعظم الأسرار الخلوات ، فليحذر الحازم فيها من الإنبساط بمرأى من مخلوق . و من خلق له عقل ثاقب دله على الصواب قبل الوصايا .

 

·       فصل : في طريق الاستذكار

 
   
ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم و التكرار له .
   
و خصوصاً تكرار ما ليس لها في تكراره و حفظه حظ ، مثل مسائل الفقه ، بخلاف الشعر و السجع ، فإن لها لذة في إعادة و إن كان يصعب لأنها تلتذ به مرة و مرتين .
   
فإذا زاد التكرار صعب عليها ، و لكن دون صعوبة الفقه و غيره من المستحسنات عند الطبع ، فتراها تخلد إلى الحديث و الشعر و التصانيف و النسخ لأنه يمر بها كل لحظة ما لم تره ، فهو في المعنى كالماء الجاري ، لأنه جزء بعد جزء .
   
كذا من ينسخ ما يحب أن يسمعه أو يصنف ، فإنه يلتذ بالجدة و يستريح من تعب الإعادة .
   
إلا أنه ينبغي للعاقل أن يكون جل زمانه للإعادة ، خصوصاً الصبي و الشاب ، فإنه يستقر المحفوظ عندهما استقرار لا يزول .
   
و يجعل أوقات التعب من الإعادة للنسخ ، و يحذر من تفلتها إلى النسخ عند الإعادة فيقهرها ، فإنه يحمد ذلك حمد السرى وقت الصباح . و سيندم من لم يحفظ ندم الكسعي وقت الحاجة إلى النظر و الفتوى .
   
و في الحظ نكته ينبغي أن تلحظ ، و هو أن الفقيه يحفظ الدرس و يعيده ثم يتركه فينساه فيحتاج إلى زمان آخر لحفظه ، فينبغي أن يحكم الحفظ و يكثر التكرار ليثبت قاعدة الحفظ .

 

·       فصل : في العزلة التفكير في زاد الرحيل

 
   
ما أعرف نفعاً كالعزلة عن الخلق خصوصاً للعالم و الزاهد فإنك لا تكاد ترى إلا شامتاً بنكبة أو حسوداً على نعمة ، و من يأخذ عليك غلطاتك .
   
فيا للعزلة ما الذها ، سلمت من كدر غيبة ، و آفات تصنع ، و أحوال المداجاة و تضييع الوقت . ثم خلا فيها القلب بالفكر ، لأنه مستلذ عنه بالمخالطة فدبر أمر دنياه و آخرته . فمثله كمثل الحمية يخلو فيها المعي بالأخلاط فيذيبها .
   
و ما رأيت مثل ما يصنع المخالط ، لأنه يرى حالته الحاضرة من لقاء الناس و كلامهم فيشتغل بها عما بين يديه . فمثله كمثل رجل يريد سفراً قد أزف ، فجالس أقواماً فشغلوه بالحديث حتى ضرب البوق و ما تزود . فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل و السلامة من شر المخالطة كفى .
   
ثم لا عزلة على الحقيقة إلا للعالم و الزاهد ، فإنهما يعلمان مقصود العزلة و إن كانا لا في عزلة .
   
أما العالم فعلمه مؤنسه ، و كتبه محدثه ، و النظر في سير السلف مقومه ، و التفكير في حوادث الزمان السابق فرجته .
   
فإن ترقى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه ، و تشبث بأذيال محبته ، تضاعفت لذاته ، و اشتغل بها عن الأكوان و ما فيها .
   
فخلا بحبيبه ، و عمل معه بمقتضى علمه .
   
و كذلك الزاهد ، تعبده أنيسه ، و معبوده جليسه ، فإن كشف لبصره عن المعمول معه غاب عن الخلق ، و غابوا عنه .
   
إنما اعتزلا ما يؤذي . فهما في الوحدة بين جماعة . فهذان رجلان قد سلما من شر الخلق ، و سلم الخلق من شرورهما .
   
بل هما قدوة للمتعبدين ، و علم للسالكين . ينتفع بكلامهما السامع ، و تجري موعظتهما المدافع ، و تنتشر هيبتها في المجامع .
   
فمن أراد أن يشتبه بأحدهما فليصابر الخلوة و إن كرهها ، ليثمر له العسل . و أعوذ با الله من عالم مخالط للعالم ، خصوصاً لأرباب المال و السلاطين ، يجتلب و يجتلب و يختلب ، فما يحصل له شيء من الدنيا إلا و قد ذهب من دينه أمثاله .
   
ثم أين الأنفة من الذل للفساق ؟
   
فالذي لا يبالي بذلك هو الذي لا يذوق طعم العلم و لا يدري ما المراد به ، و كأنه به و قد وقع في بادية جرز ، و قفر مهلك في تلك البراري .
   
و كذلك المتزهد إذا خالط و خلط ، فإنه يخرج إلى الرياء و التصنع و النفاق فيفوته الحظان ، لا الدنيا و نعيمها تحصل له و لا الآخرة .
   
فنسأل الله عز وجل خلوة حلوة ، و عزلة عن البشر لذيذة يستصلحنا فيها لمناجاته ، و يلهم كلا منا طلب نجاته . إنه قريب مجيب .

 

·       فصل : الاستعداد للقاء الموت

 
   
ما أبله من لا يعلم متى يأتيه الموت ، و هو لا يستعد للقائه .
   
و أشد الناس بلهاً و تغفيلاً من قد عبر الستين و قارب السبعين ـ فإن ما بينهما هو معترك المنايا . و من نازل المعترك استعد و هو مع ذلك غافل عن الاستعداد .
   
قال الشباب لعلنا في شيبنا       ندع الذنوب فما بقول الأشيب ؟
   
و الله إن الضحك من الشيخ ماله معنى . و إن المزاح منه بارد المعنى .
   
و إن تعرضه بالدنيا و قد دفعته عنها يضعف القوى و يضعف الرأي .
   
و هل بقي لابن ستين منزل ؟
   
فإن طمع في السبعين فإنما يرتقي إليها بعناء شديد ، إن قام دفع الأرض . و إن مشى لهث ، و إن قعد تنفس .
   
و يرى شهوات الدنيا و لا يقدر على تناولها . فإن أكل كد المعدة ، و صعب الهضم و إن و طىء أذى المرأة ، و وقع دفناً لا يقدر على رد ما ذهب من القوة إلى مدة طويلة . فهو يعيش عيش السير .
   
فإن طمع في الثمانين فهو يزحف إليها زحف الصغير .
   
و عشر الثمانين من خاضها       فإن الملمات فيها فنون
   
فالعاقل من فهم مقادير الزمان . فإنه فيما قيل قبل البلوغ صبي ليس على عمره عيار .
   
إلا أن يرزق فطنه ففي بعض الصبيان فطنه تحثهم من الصغر على اكتساب النكارم و العلوم .
   
فإذا بلغ فليعلم أنه زمان المجاهدة للهوى ، و تعلم العلم .
   
فإذا رزق الأولاد فهو زمان الكسب للمعاملة ، فإذا بلغ الأربعين انتهى تمامه و قضى مناسك الأجل . و لم يبق إلا الانحدار إلى الوطن .
   
كأن الفتى يرقى من العمر معلماً       إلى أن يجوز الأربعين و ينحط
   
فينبغي له عند تمام الأربعين أن يجعل جل همته التزود للآخرة ، و يكون كل تلمحه لما بين يديه ، و يأخذ في الاستعداد للرحيل . و إن كان الخطاب بهذا لابن عشرين ، إلا أن رجاء التدارك في حق الصغير لا في حق الكبير .
   
فإذا بلغ الستين فقد أعذر الله إليه في الأجل و جاز من الزمن . فليقل بكليته على جمع زاده ، و تهيئة آلات السفر .
   
و ليعتقد أن كل يوم يحيا فيه غنيمة ما هي في الحساب .
   
خصوصاً إذا قوي عليه الضعف و زاد .
   
و كلما علت سنه فينبغي أن يزيد اجتهاده . فإذا دخل في عشر الثمانين فليس إلا الوداع و ما بقي من العمر إلا أسف على تفريط ، أو تعبد على ضعف .
   
نسأل الله عز وجل يقظة تامة تصرف عنا رقاد الغفلات ، و عملاً صالحاً نأمن معه من الندم يوم الانتقام ، الله الموفق .

 

·       فصل : سبب النهي عن الاشتغال بالكلام

 
   
ما نهى السلف عن الخوض في الكلام إلا لأمر عظيم ، و هو أن أن الإنسان يريد أن ينظر ما لا يقوى عليه بصره ، فربما تحير فخرج إلى الحجب .
   
لأنا إذا نظرنا في ذات الخالق حار العقل و بهت الحس ، فهو لا يعرف شيئاً لا بداية له . إنه لا يعلم إلا الجسم و الجوهر و العرض ، فإثبات ما يخرج عن ذاك لا يفهمه .
   
و إن نظرنا في أفعاله رأيناه يحكم البناء ثم ينقضه و لا نطلع على تلك الحكمة ، فالأولى للعاقل أن يكف كف التطلع إلى ما لا يطبق النظر إليه .
   
و متى قام العقل فنظر في دليل و جود الخالق بمصنوعاته ، و أجاز بعثه نبي و استدل بمعجزاته ، كفاه ذلك أن يتعرض لما قد أغنى عنه .
   
إذا قال القرآن كلام الله تعالى بدليل قوله حتى يسمع كلام الله كفاه .
   
و أما من تحذلق فقال : التلاوة هي المتلو أو غير المتلو ، و القراءة هي المقروء أو غير المقروء ، فيضيع الزمان في غير تحصيل ، و المقصود العمل بما فهم .
   
و قد حكى أن ملكاً كتب إلى عماله في البلدان أني قدم عليكم فاعملوا كذا و كذا ، فعملوا إلا واحد منهم ، فإنه قعد يتفكر في الكتاب فيقول : أترى كتبه بمداد أو بحبر ؟ أترى كتبه قائماً أو قاعداً ؟ فما زال يفكر حتى قدم الملك و لم يعمل مما أمر به شيئاً . فأحسن جوائز الكل و قتل هذا .

 

·       فصل : لذة الدنيا شرف العلم


   
لقد غفل طلاب الدنيا عن اللذة فيها شرف العلم و زهرة العفة و أنفه الحمية . و عز القناعة ، و حلاوة الافضال على الخلق . فأما الالتذاذ بالمطعم و المنكح فشغل جاهل باللذة ، لأن ذاك لا يراد لنفسه ، بل لإقامة العوض في البدن و الولد .
   
و أي لذة في نكاح ، و هي قليل المباشرة لا تحصل .
   
و في حال المباشرة قلق لا يثبت .
   
و عند انقضائها ، كأن لم تكن ، ثم تثمر الضعف في البدن .
   
و أي لذة في جمع المال فضلاً عن الحاجة . فإنه مستعبد للخازن ، يبيت حذراً عليه ، و يدعوه قليله إلى كثيره .
   
أي لذة في المطعم ، و عند الجوع يستوي خشنه و حسنه .
   
فإن ازداد الأكل خاطر بنفسه .
   
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : بنيت الفتنة على ثلاث ، النساء وهن فخ إبليس المنصوب ، و الشراب و هو سيفه المرهف ، و الدينار و الدرهم ، و هما سهماء المسمومان .
   
فمن مال إلى النساء لم يصف له عيش . و من أحب الشراب لم يمتع بعقله . و من أحب الديار و الدرهم كان عبداً ما عاش .

 

·       فصل : قياس صفات الخالق على صفات المخلوقين كفر

 
   
أصل كل محنة في العقائد قياس أمر الخالق على أحوال الخلق .
   
فإنه الفلاسفة لما رأوا إيجاد شيء لا من شيء كالمستحيل في العادات قالوا بقدم العالم .
   
و لما عظم عندهم في العادة الإحاطة بكل شيء قالوا : إنه يعلم الجمل لا التفاصيل .
   
و لما رأوا تلف الأبدان بالبلاء أنكروا إعادتها . و قالوا الإعادة رجوع الأرواح إلى معادنها .
   
و كل من قاس صفة الخالق على صفات المخلوقين خرج إلى الكفر . فإن المجسمة دخلوا في ذلك لأنهم حملوا أوصافه على ما يعقلون .
   
و كذلك تدبيره عز وجل ، فإن من حمله على ما يعقل في العادات رأى ذبح الحيوان لا يستحسن ، و الأمراض تستقبح ، و قسمه الغني للأبله ، و الفقر للجلد العاقل أمراً ينافي الحكمة .
   
و هذا في الأوضاع بين الخلق . فأما الخالق سبحانه فإن العقل لا ينتهي إلى حكمته . بلى . قد ثبت عنده و جوده و ملكه و حكمته .
   
فتعرضه بالتفاصيل على ما تجري به عادات الخلق ، جهل .
   
ألا ترى إلى أول المعترضين و هو إبليس كيف ناظر فقال : أنا خير منه ، و قول خليفته و هو أبو العلاء المعري :
   
رأى منك ما لا يشتهي فتزندقاً
   
و نسأل الله عز وجل توفيقاً للتسليم ، و تسليماً للحكيم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا .
   
أترى نقدر على تعليل أفعاله فضلاً عن مطالعة ذاته ؟
   
و كيف نقيس أمره على أحوالنا ؟
   
فإذا رأينا نبينا صلى الله عليه و سلم يسأل في أمه و عمه فلا يقبل منه ، و يتقلب جائعاً و الدنيا ملك يده . و يقتل أصحابه و النصر بيد خالقه ، أو ليس هذا مما يحير !
   
فما لنا و الاعتراض على مالك قد ثبتت حكمته و استقر ملكه .

 

·       فصل : احتقار الأعمال و الاعتذار عن التقصير

 
   
تأملت عجباً ، و هو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه و يكثر التعب في تحصيله .
   
فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب و السهر و التكرار و هجر اللذات و الراحة . حتى قال بعض الفقهاء : بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر ، لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس .
   
و نحو هذا تحصيل المال فإنه يحتاج إلى المخاطرات و الأسفار و التعب الكثير .
   
و كذلك نيل الشرف بالكرم و الجود ، فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل المحبوب ، و ربما آل إلى الفقر .
   
و كذلك الشجاعة ، فإنها لا تحصل إلا بالمخاطرة بالنفس قال الشاعر :
   
لولا المشقة ساد الناس كلهم       الجود يفقر و الإقدام قتال
   
و من هذا الفن تحصيل الثواب في الآخرة ، فإنه يزيد على قوة الاجتهاد و التعبد ، أو على قدر وقع المبذول من المال في النفس . أو على قدر الصبر على فقد المحبوب و منع النفس من الجزع .
   
و كذلك الزهد يحتاج إلى صبر عن الهوى .
   
العفاف لا يكون إلا بكف كف الشره .
   
و لولا ما عاني يوسف عليه السلام ما قيل له : أيها الصديق .
   
و الله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها ، فهم يبالغون في كل علم ، و يجتهدون في كل عمل ، و يثابرون على كل فضيلة . فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة و هم لها سابقون .
   
و أكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم . فهم يحتقرونها مع التمام ، و يعتذرون من التقصير .
   
و منهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك .
   
و منهم من لا يرى ما عمل أصلاً ، لأنه يرى نفسه و عمله لسيده .
   
و بالعكس من المذكور من أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل و الشره و الشهوات .
   
فلئن التذوا بعاجل الراحة لقد أوجبت ما يزيد على كل تعب من الأسف و الحسرة .
   
و من تلمح صبر يوسف عليه السلام ، و عجلة ماعز ، بأن له الفرق ، و فهم الربح من الخسران .
   
ولقد تأملت نيل الدر من البحر ، فرأيته بعد معاناة الشدائد .
   
و من تفكر فيما ذكرته مثلاً بانت له أمثال .
   
فالموفق من تلمح قصر الموسم المعمول فيه ، وامتداد زمان الجزاء الذي لا آخر له ، فانتهب حتى اللحظة ، و زاحم كل فضيلة ، فإنها إذا فاتت فلا وجه لا ستدراكها .
   
أو ليس في الحديث يقال للرجل : اقرأ و ارق فمنزلك عند آخر آية تقرؤها .
   
فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل حفظ القرآن عاجلاً .

 

·       فصل : المؤمن هو من إذااشتد البلاء زاد إيماناً

 
   
ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبارات صورة ، و يتجنب المحظورات فحسب .
   
إنما المؤمن هو الكامل الإيمان ، لا يختلج في قلبه اعتراض ، و لا يساكن نفسه فيما يجري و سوسة .
   
و كلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه .
   
و قد يدعو فلا يرى للإجابة أثراً ، و سره لا يتغير لأنه يعلم أنه مملوك و له مالك يتصرف بمقتضى إرادته .
   
فإن اختلج في قلبه اعتراض خرج من مقام العبودية إلى مقام المناظرة ، كما جرى لإبليس .
   
و الإيمان القوي يبين أثره عند قوة البلاء .
   
فأما إذا رأينا مثل يحيى بن زكريا تسلط عليه فاجر فيأمر بذبحه فيذبح و ربما اختلج في الطبع أن يقول فهلا ردعنه من جعله نبياً ؟ .
   
و كذلك كل تسلط من الكفار على الأنبياء و المؤمنين و ما وقع رد عنهم ، فإن هجس بالكفر أن القدرة تعجز عن الرد عنهم كان كفراً .
   
و إن علم أن القدرة متمكنة من الرد و ما ردت و يجوع المؤمن و يشبع الكفار ، و يعافي العصاة . و يمرض المتقين ، لم يبق إلا التسليم للمالك و إن أمض و أرمض .
   
و قد ذهب يوسف بن يعقوب عليهما السلام فبكى يعقوب ثمانين سنة ثم لم ييأس، فلما ذهب ابنه الآخر قال : عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً .
   
و قد دعا موسى عليه السلام على فرعون ، فأجيب بعد أربعين سنة .
   
و كان يذبح الأنبياء و لا ترده القدرة القديمة العظيمة ، و صلب السحرة ، و قطع أيديهم .
   
و كم من بلية نزلت بمعظم القدر ، فلما زاده ذلك إلا تسليماً و رضى فهناك يبين معنى قوله : و رضوا عنه
   
و ههنا يظهر قدر قوة الإمان لا في ركعات .
   
قال الحسن البصري : [ استوى الناس في العافية ، فإذا نزل البلاء تباينوا ] .
   

·       فصل : خطر علم الكلام على العامة

 
   
أضر ما على العوام المتكلمون فإنهم يخلطون عقائدهم بما يسمعونه منهم .
   
من أقبح الأشياء أن يحضر العامي الذي لا يعرف أركان الصلاة و لا الربا في البيع مجلس الوعظ فلا ينهاه عن التواني في الصلاة ، و لا يعلمه الخلاص من الربا بل يقول له القرآن قائم بالذات ، و الذي عندنا مخلوق .
   
فيهون القرآن عند ذلك العامي ، فيحلف به على الكذب .
   
ويح المتكلم لو كان له فهم علم أن الله سبحانه و تعالى نصب أعلاماً تأنس بها النفوس و تطأمن إليها الكعبة و سماها بيته ، و العرش و ذكر استواءه عليه ، و ذكر من صفاته اليد و السمع و البصر و العين ، و ينزل إلى السماء الدنيا ، و يضحك ، و كل هذا لتأنس بالعادات .
   
و قد جل عما تضمنته هذه الصفات من الجوراح .
   
و كذلك عظم أمر القرآن ، و نهى المحدث أن يمس المصحف فآل الأمر لقوم من المتكلمين إلى أن أجازوا الإستنجاء به .
   
فهؤلاء على معاندة الشريعة ، لأنهم يهينون ما عظم الشرع .
   
و هل الإيغال في الكلام مما يرقب إلى معرفة الحقائق التي لا يمكن خلافها ! هيهات لو كان كذلك ما وقع بين المتكلمين خلاف .
   
أوليس الشرب الأول ما تكلموا في شيء من هذا ! و إن كانوا تعرضوا ببعض الأصول .
   
ثم جاء فقهاء الأمصار فنهوا عن الخوض في الكلام لعلمهم ما يجلب و ما يجتنب .
   
و من لم يقنع بعقيدته مثل الصحابة ، و لا بطريق مثل طريق أحمد و الشافعي في ترك الخوض فلا كان من كان .
   
ثم بالله تأملوا أليس قد وجب علينا هجر الربا لقوله تعالى : لا تأكلوا الربا و هجر الزنا بقوله : ولا تقربوا الزنى .
   
فأي فائدة لنا في ذكر قراءة و مقروء و تلاوة و متلو و قديم و محدث ؟
   
فإن قيل : فلا بد من الاعتقاد .
   
قلنا : طريق السلف أوضح محجة ، لأن لا نقوله تقليداً بل بالدليل ، ولكن لم نستفده عن جوهر و عرض و جزء لا يتجزء .
   
بل بأدلة النقل مع مساعدة العقل من غير بحث عما لا يحتاج إليه و ليس هذا مكان الشرح .

 

·       فصل : نفس المؤمن طائر تعلق في الجنة


   مازلت على عادة الخلق في الحزن على من يموت من الأهل و الأولاد ، و لا أتخايل إلا بلى الأبدان في القبور ، فأحزن لذلك ، فمرت بي أحاديث قد كانت تمر بي و لا أتفكر فيها .
   
منها قول النبي صلى الله عليه و سلم : إنما نفس المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرده الله عز وجل على جسده يوم يبعثون . فرأبت أن الرحيل إلى الراحة ، و أن هذا البدن ليس بشيء ، لأنه مركب تفكك و فسد ، و سيبنى جديداً يوم البعث ، فلا ينبغي أن يتفكر في بلاء .
   
و لتسكن النفس إلى أن الأرواح انتقلت إلى راحة فلا يبقى كبير حزن ، و أن اللقاء للأحباب عن قرب .
   
و إنما يبقى الأسف لتلعق الخلق بالصور ، فلا يرى الإنسان إلا جسداً مستحسناً قد نقض فيحزن لنقضه .
   
و الجسد ليس هو الآدمي ، و إنما هو مركبه ، فالأرواح لا ينالها البلى . و الأبدان ليست بشيء .
   
و اعتبر هذا بما إذا قلعت ضرسك و رميته في حفرة ، فهل عندك خبر مما يلقى في مدة حياتك ؟
   
فحكم الأبدان حكم ذلك الضرس ، لا تدري النفس ما يلقى ، و لا ينبغي أن تغتم بتمزيق جسد المحبوب و بلاه .
   
و اذكر تنعم الأرواح ، و قرب التجديد ، و عاجل اللقاء ، فإن الفكر في تحقيق هذا يهون الحزن ، و يسهل الأمر .

 

·       فصل : ينبغي كتمان المذاهب


   
ينبغي للعاقل ألا يتكلم في الخلوة عن أحد بشيء حتى يمثل ذلك الشيء ظاهراً معلناً به ثم ينظر فيما يجني .
   
فرب رجل وثق بصديق فتكلم أمامه عن سلطان بأمر فبلغه فأهلكه ، أو عن صديق فبلغه فوقعت الواقعة .
   
و كذلك ينبغي كتم المذاهب ، فإنه ما يربح مظهرها إلا المعاداة .
   
و لما صرح الشريف أبو جعفر في زمان المقتدي بمخالفة الأشاعرة ، أخذ و حبس حتى مات .
   
و كان المقصود قطع الفتن و إصلاح الرعية ، فإنه أهم إلى السلطان من التعصب لمذهب .

 

·       فصل : هل يرد الاعتراض الأقدار ؟


   رأيت كثيراً من المغفلين يظهر عليهم السخط بالأقدار . و فيهم من قل إيمانه فأخذ يعترض .
   
و فيهم من خرج إلى الكفر ، و رأى أن ما يجري كالعبث ، و قال ما فائدة الإعدام بعد الإيجاد و الابتلاء ممن هو غني عن أذانا ؟
   
فقلت لبعض من كان يرمز إلى هذا : إن حضر عقلك و قلبك حدثتك .
   
و إن كنت تتكلم بمجرد واقعك من غير نظر و إنصاف فالحديث معك ضائع .
   
ويحك ، أحضر عقلك ، و اسمع ما أقول :
   
أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك ، و للمالك أن يتصرف كيف يشاء ؟
   
أليس قد ثبت أنه حكيم و الحكيم لا يعبث ؟
   
و أنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئاً ، فإنه قد سمعنا عن جالينوس أنه قال : ما أدري ؟ أحكيم هو أم لا .
   
و السبب في قوله هذا ، أنه رأى نقضاً بعد إحكام ، فقاس الحال على أحوال الخلق ، و هو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى فليس بحكيم .
   
و جوابه لو كان حاضراً أن يقال : بماذا بان لك أن النقص ليس بحكمة ؟
   
أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك ؟
   
و كيف يهب لك الذهن الكامل و يفوته هو الكمال ؟
   
و هذه هي المحنة التي جرت لإبليس . فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله ، فلو تفكر على أن واهب العقل أعلى من العقل ، و أن حكمته أوفى من كل حكيم ، لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول .
   
فهذا إذا تأمله المصنف زال عنه الشك .
   
و قد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى : أم له البنات و لكم البنون .
   
أي أجعل لنفسه الناقصات و أعطاكم الكاملين ؟
   
فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى نفسنا .
   
و نقول هذا فعل عالم حكيم و لكن ما يبين لنا معناه .
   
و ليس هذا بعجب ، فإن موسى عليه السلام خفي عليه وجه الحكمة في نقض السفينة الصحيحة ، و قتل الغلام الجميل ، فلما بين له الخضر وجه الحكمة أذعن فلنكن مع الخالق كموسى مع الخضر .
   
أو لسنا نرى المائدة المستحسنة بما عليها من فنون الطعام النظيف الظريف يقطع و يمضغ و يصير إلى ما نعلم . و لسنا نملك ترك تلك الأفعال و لا ننكر الإفساد له ، لعلمنا بالمصلحة الباطنة فيه .
   
فما المانع أن يكون فعل الحق سبحانه له باطن لا نعلمه ؟
   
و من أجل الجهال العبد المملوك إذا طلب أن يطلع على سر مولاه ، فإن فرضه التسليم لا الاعتراض .
   
و لو لم يكن في الابتلاء بما تنكره الطباع إلا أن يقصد إذعان العقل و تسليمه لكفي .
   
و لقد تأملت حالة عجيبة ، يجوز أن يكون المقصود بالموت هي ، و ذلك أن الخالق سبحانه في غيب لا يدركه الإحساس .
   
فلو أنه لم ينقض هذه البنية لتخايل للإنسان أنه صنع لا بصانع .
   
فإذا وقع الموت عرفت النفس نفسها التي كانت لا تعرفها لكونها في الجسد ، و تدرك عجائب الأمور بعد رحيلها .
   
فإذا ردت إلى البدن عرفت ضرورة أنها مخلوقة لمن أعادها .
   
و تذكرت حالها في الدنيا ـ الأفكار تعاد كما تعاد الأبدان ـ فيقول قائلهم إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين .
   
و متى رأيت ما قد وعدت به من أمور الآخرة أيقنت يقيناً لا شك معه .
   
و لا يحصل هذا بإعادة ميت سواها . و إنما يحصل برؤية هذا الأمر فيها .
   
فتبني بنية تقبل البقاء و تسكن جنة لا ينقضي دوامها .
   
فيصلح بذلك اليقين أن تجاور الحق، لأنها آمنت بما وعد ، و صبرت بما ابتلى ، و سلمت لأقداره ، فلم تعترض ، و رأت في غيرها العبر ، ثم في نفسها . فهذه هي التي يقال لها : ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * و ادخلي جنتي .
   
فأما الشاك و الكافر فيحق لهما الدخول إلى النار و اللبث فيها ، لأنهما رأيا الأدلة و لم يستفيدا و نازعا الحكيم و اعترضا عليه ، فعاد شؤم كفرهما يطمس قلوبهما ، فبقيت على ما كانت عليه .
   
فلما لم تنتفع بالدليل في الدنيا لم تنتفع بالموت و الإعادة و دليل بقاء الخبث في القلوب قوله تعالى : و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه .
   
فنسأل الله عز وجل عقلاً مسلماً يقف على حده ، و لا يعترض على خالقه و موجده .
   
ثم الويل للمعترض ، أيرد اعتراضه الأقدار ؟
   
فما يستفيد إلا الخزي ، نعوذ بالله ممن خذل .

 

·       فصل : الجزاء من جنس العمل

 
   
لا ينبغي للمؤمن أن ينزعج من مرض أو نزول موت ، و إن كان الطبع لا يملك .
   
إلا أنه ينبغي له التصبر مهما أمكن ، إما لطلب الأجر بما يعاني ، أو لبيان أثر الرضى بالقضاء ، و ما هي إلا لحظات ثم تنقضي .
   
و ليتفكر المعافي من المرض في الساعات التي كان يقلق فيها أين هي في زمان العافية ؟ ذهب البلاء و حصل الثواب .
   
كما تذهب حلاوة اللذات المحرمة و يبقى الوزر . و يمضي زمان التسخط بالأقدام ، و يبقى العتاب .
   
و هل الموت إلا آلام تزيد فتعجز النفس عن حملها فتذهب .
   
فليتصور المريض و جود الراحة بعد رحيل النفس ، و قد هان ما يلقى ، كما يتصور العافية بعد شرب الشربة المرة .
   
و لا ينبغي أن يقع جزع بذكر البلى ، فإن ذلك شأن المركب ، أما الراكب ففي الجنة أو في النار .
   
و إنما ينبغي أن يقع الاهتمام الكلي بما يزيد في درجات الفضائل قبل نزول المعوق عنها .
   
فالسعيد من و فق لاغتنام العافية . ثم يختار تحصيل الأفضل فالأفضل في زمن الإغتنام .
   
و ليعلم أن زيادة المنازل في الجنة على قدر التزيد من الفضائل ههنا ، و العمر قصير ، و الفضائل كثيرة ، فاليبالغ في البدار .
   
فيا طول راحة التعب ، و يا فرحة المغموم ، و يا سرور المحزون .
   
و متى تخايل دوام اللذة في الجنة من غير منغص و لا قاطع ، هان عليه كل بلاء و شدة .

 

·       فصل : تذكر الموت


   حضرنا يوما جنازة شاب مات أحسن ما كانت الدنيا له ، فرأيت من ذم الناس للدنيا ، و عيب من سكن إليها و التقبيح للغافلين عن الاستعداد لهذا المصرع أمراً كبيراً من الحاضرين .
   
فقلت : نعم ما قلتم . و لكن اسمعوا مني ما لم تسمعوه .
   
أعجب الأشياء أن العاقل إذا علم قرب هذا المصرع منه أوجب عليه عقله البدار بالعمل و القلق من الخوف .
   
وقد اشتد ذلك بأقوام فهاموا في البراري ، و طووا الأيام بالمجاعة ، و داموا على سهر الليل ، و لازموا المقابر ، فهلكوا سريعاً .
   
و لعمري إن ما خافوه يستحق أكثر من هذا الفعل .
   
و لكن نرى العقل الذي أوجب هذا القلق قد أمر بما يوجب السكون ، فقال : إنما خلق هذا البدن ليحمل النفس كما تحمل الناقة الراكب .
   
و لا بد من التلطف بالناقة ليحصل المقصود من السير ، و لا يحسن في العقل دوام السهر و طول القلق ، لأنه يؤثر في البدن فيفوت اكثر المقصود .
   
كيف و قد خلق بدن الآدمي خلقاً لطيفاً ، فإذا هجر الدسم نشف الدماغ . و إذا دام على السهر قوى اليبس ، و إذا لازم الحزن مرض القلب .
   
فلا بد من التلطف بالبدن بتناول ما يصلحه ، و بالقلب بما يدفع الحزن المؤذي له .
   
و إلا فمتى دام المؤذي عجل التلف .
   
ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل ، فيقول : [ إن لنفسك عليك حقاً و إن لزوجك عليك حقاً ، فصم و أفطر ، و قم و نم ] .
   
و يقول : [ كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ] .
   
و يحث على النكاح و دوام القلق و اليبس يترك الزوجة كالأرملة ، و الولد كاليتيم .
   
و لا وجه للتشاغل بالعلم مع هذا القلق .
   
و من أراد مصداق ما قلته ، فاليتأمل حالة الرسول صلى الله عليه و سلم . فإنه كان يعدل ما عنده من الخوف فيمازح ، و يسابق عائشة ، و يكثر من التزوج . و كان يتلطف ببدنه ، فيختار الماء البائت ، و يحب الحلوى و اللحم .
   
و لولا مساكنة نوع غفلة لما صنف العلماء ، و لا حفظ العلم ، و لا كتب الحديث .
   
لأن من بقول : ربما مت اليوم كيف يكتب و كيف يسمع و يصنف ،
   
فلا يهولنكم ما ترون من غفلة الناس عن الموت و عدم ذكره حق ذكره ، فإنها نعمة من الله سبحانه بها تقوم الدنيا و يصلح الدين .
   
و إنما تذم قوة الغفلة الموجبة للتفرط و الإهمال للمحاسبة للنفس ، وتضييع الزمان في غير التزود ، وربما قويت فحملت على المعاصي .
   
فأما إذا كانت بقدر كانت كالملح في الطعام لا بد منه، فإن كثر صار الطعام زعافاً .فالغفلة تمدح إذا كانت بقدر كما بينا . و متى زادت وقع الذم .
   
فافهم ما قلته .
   
و لا تقل فلان شديد اليقظه ما ينام الليل ، و فلان غافل ينام أكثر الليل ، فإن غفلة توجب مصلحة البدن و القلب لا تذم ، و السلام .

 

·       فصل : الزهد الظاهري


   
ما يكاد يحب الاجتماع بالناس إلا فارغ .
   
لأن المشغول القلب بالحق يفر من الخلق و متى تمكن فراغ القلب من معرفة الحق امتلأ بالخلق فصار يعمل لهم و من أجلهم ، و يهلك بالرياء و لا يعلم .
   
و إني لأتأمل بعض من يتزيى بالفقر و التصوف و هو يلبس ثياباً لا تساوي ديناراً ، و عنده المال الكثير ، و قد أمرع نفسه في المطاعم الشهية و هو عامل بمقتضى الكبر و التصدر ، فتقرب إلى أرباب الدنيا ، و يستذري أرباب العلم ، و يزور أولئك دونهم .
   
و إنما يرد ما يعطى ليشيع له اسم زاهد ، فتراه يربي الناموس و هو في احتياله كثعلب ، و في نهوضه إلى أغراضه في الباطن كلب شري .
   
فأقول : سبحان الله ، ما يزهد إلا الثياب ، أترى : ما سمع قول النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله يحب أن يري أثر نعمته على عبده ؟ .
   
و أعوذ بالله من رؤية النفس ، رؤية الخلق ، فإن من رأى نفسه تكبر ، و المتكبر أحمق ، لأنه ما من شيء يتكبر به إلا و لغيره أكثر منه .
   
و من راءى الخلق عبدهم و هو لا يعلم .
   
فأما العامل لله سبحانه و تعالى فهو بعيد من الخلق ، فإن تقربوا إليه ستر حاله بما يوجب بعدهم عنه .
   
و قد رأينا من يرائي و لا يدري فيمتنع من المشي في السوق ، و من زيارة الإخوان ، و من أن يشتري شيئاً بنفسه .
   
و توهمه نفسه أني أكره مخالطة السوقة ، و إنما هذا يربي جاهاً بين العلماء إذ لو خالطهم لا متحى جاهه ، و بطل تقبيل يده .
   
و قد كان بشر الحافي يجلس في مجلس عند العطار .
   
و أبلغ من هذا كله أن نبينا صلى الله عليه و سلم كان يشتري حاجته و يحملها ، و خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه و هو أمير المؤمنين فاشترى ثوباً . و قد كان طلحة بن مطرف قارئ أهل الكوفة ، فلما كثر الناس عليه مشى إلى الأعمش فقرأ عليه ، فمال الناس إلى الأعمش و تركوا طلحة .
   
هذا و الله الكبريت الأحمر و الإكسير ، لا يظن إكسيراً في الكيمياء .
   
و المعاملة مع الله تعالى هكذا تكون .
   
فأما ضد هذه الحال فحالة عابد للخلق ملبس . و قد عم هذا جمهور الخلق حاشا السلف .
   
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها       مضغ الكلام و لا صبغ الحواجيب

 

·       فصل : الزنا اقبح الذنوب


   
كل المعاصي قبيحة ، و بعضها أقبح من بعض .
   
فإن الزنا من أقبح الذنوب ، فإنه يفسد الفرش ، و يغير الأنساب ، و هو بالجارة أقبح .
   
فقد روي في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل الله نداً و هو خلقك .
   
قلت : ثم أي؟ قال : أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك
   
قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك .
   
و قد روى البخاري في تاريخه من حديث المقداد بن الأسود عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره ، و لن يسرق من عشرة أبيات ، أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره .
   
و إنما كان هذا ، لأنه يضم إلى معصية الله عز وجل انتهاك حق الجار .
   
و من أقبح الذنوب أن يزني الشيخ ، ففي الحديث إن الله يبغض الشيخ الزاني لأن شهوة الطبع قد ماتت ، و ليس فيها قوة تغلب ، فهو يحركها و يبالغ فكانت معصيته عناداً .
   
و من المعاصي التي تشبه المعاندة لبس الرجل الحرير و الذهب ، خصوصاً خاتم الذهب الذي يتحلى به الشيخ ، و أنه من أرد الأفعال و أقبح الخطايا .
   
و من هذا الفن ، الرياء ، و التخاشع ، و إظهار التزهد للخلق ، فإنه كالعبادة لهم مع إهمال جانب الحق عز وجل .
   
و كذلك المعاملة بالربا الصريح ، خصوصاً من الغني الكثير المال .
   
و من أقبح الأشياء أن يطول المرض بالشيخ الكبير و لا يتوب من ذنب .
   
لا يعتذر من زلة ، و لا يقضي ديناً ، و لا يوصى بإخراج حق عليه .
   
و من قبائح الذنوب ، أن يتوب السارق أو الظالم ، و لا يرد المظالم .
   
و المفرط في الزكاة أو في الصلاة و لا يقضي .
   
و من أقبحها ، أن يحنث في يمين طلاقه ، ثم يقيم مع المرأة .
   
و قس على ما ذكرته فالمعاصي كثيرة ، و أقبحها لا يخفى .
   
و هذه المستقبحات فضلاً عن القبائح تشبه العناد للآمر ، فيستحق صاحبها اللعن و دوام العقوبة .
   
و إني لأرى شرب الخمر من ذلك الجنس ، لأنها ليست مشتهاة لذاتها ، و لا لريحها و لا لطعمها ، فيما يذكر .
   
إنما لذتها ـ فيما يقال ـ بعد تخرج مرارتها .
   
فالإقدام على ما لا يدعو إليه الطبع إلى أن يصل التنازل إلى اللذة معاندة .
   
نسأل الله عز وجل إيماناً يحجز بيننا و بين مخالفته و توفيقاً لما يرضيه ، فإنما نحن به و له .

 

·       فصل : الكبر و خطره على العالم


   
انتقدت على أكثر العلماء و الزهاد أنهم يبطنون الكبر .
   
فهذا ينظر في موضعه و ارتفاع غيره عليه ، و هذا لا يعود مريضاً فقيراً يرى نفسه خيراً منه .
   
حتى إني رأيت جماعة يوماً إليهم ، منهم من يقول لا أدفن إلا في دكة أحمد بن حنبل ، و يعلم أن في ذلك كسر عظام الموتى ، ثم يرى نفسه أهلاً لذلك التصدر .
   
و منهم من يقول : ادفنوني إلى جانب مسجدي ، ظناً منه أنه يصير بعد موته مزاراً كمعروف الكرخي .
   
و هذه خلة مهلكة و لا يعلمون .
   
قال النبي صلى الله عليه و سلم : من ظن أنه خير من غيره فقد تكبر .
   
و قل من رأيت ، إلا و هو يرى نفسه .
   
و العجب كل العجب ممن يرى نفسه ، أتراه بماذا رآها ؟
   
إن كان بالعلم ، فقد سبقه العلماء ، و إن كان بالتعبد ، فقد سبقه العباد ، أو بالمال ، فأن المال لا يوجب بنفسه فضيلة دينية .
   
فإن قال : قد عرفت ما لم يعرف غيري من العلم في زمني ، فما علي ممن تقدم .
   
قيل له : ما نأمرك يا حافظ القرآن ، أن ترى نفسك في الحفظ كمن يحفظ النصف .
   
و لا يا فقيه أن ترى نفسك في العلم كالعامي .
   
إنما نحذر عليك أن ترى نفسك خيراً من ذلك الشخص المؤمن و إن قل علمه .
   
فإن الخيرية بالمعاني لا بصورة العلم و العبادة .
   
و من تلمح خصال نفسه و ذنوبها علم أنه على يقين من الذنوب و التقصير ، و هو من حال غيره على شك .
   
فالذي يحذر منه الإعجاب بالنفس ، و رؤية التقدم في أحوال الآخرة ، و المؤمن لا يزال يحتقر نفسه .
   
و قد قيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : إن مت ندفنك في حجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟
   
فقال : [ لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك ، أحب إلي من أن أرى نفسي أهلاً لذلك ] .
   
و قد روينا : أن رجلاً من الرهبان رأى في المنام قائلاً : يقول له : [ فلان الإسكافي خير منك ] فنزل من صومعته ، فجاء إليه فسأله عن عمله ، فلم يذكر كبير عمله .
   
فقيل له في المنام : عد إليه ، و قل له مم صفرة وجهك ؟
   
فعاد فسأله فقال : ما رأيت مسلماً إلا و ظننته خيراً مني ، فقيل له : فبذاك ارتفع .

 

·       فصل : الغضب غلبة من الشيطان

 
   
متى رأيت صاحبك قد غضب و أخذ يتكلم بما لا يصلح ، فلا ينبغي أن تعقد على ما يقوله خنصراً ، و لا أن تؤاخذه به .
   
فإن حاله حال السكران ، لا يدري ما يجري .
   
بل اصبر لفورته ، و لا تعول عليها ، فإن الشيطان قد غلبه ، و الطبع قد هاج ، و العقل قد استتر .
   
و متى أخذت في نفسك عليه ، أو أجبته بمقتضى فعله ، كنت كعاقل واجه مجنوناً ، أو كمفيق عاتب مغمى عليه . فالذنب لك .
   
بل انظر بعين الرحمة ، و تلمح تصريف القدر له ، و تفرج في لعب الطبع به . و اعلم أنه إذا انتبه ندم على ما جرى ، و عرف لك فضل الصبر .
   
و أقل الأقسام أن تسلمه فيما يفعل في غضبه إلى ما يستريح به .
   
و هذه الحالة ينبغي أن يتلمحها الولد عند الغضب الوالد ، و الزوجة عند غضب الزوج ، فتتركه يشتفي بما يقول ، و لا تعول على ذلك ، فسيعود نادماً معتذراً .
   
و متى قوبل على حالته و مقالته صارت العداوة متمكنة ، و جازى في الإفاقة على ما فعل في حقه وقت السكر .
   
و أكثر الناس على غير هذه الطريق .
   
متى رأوا غضبان قابلوه بما يقول و يعمل ، و هذا على مقتضى الحكمة ، بل الحكمة ما ذكرته ، و ما يعقلها إلا العالمون .

 

·       فصل : الحذر من الحديث عن الناس

 
   
ليس في الدنيا أكثر بلاهة ممن يسئ إلى شخص و يعلم أنه قد بلغ إلى قلبه بالأذى ثم يصطلحان في الظاهر ، فيعلم أن ذلك الأثر محي بالصلح .
   
و خصوصاً مع الملوك ، فإن لذتهم الكبرى ألا يرتفع عليهم أحد ، و لا ينكر لهم غرض ، فإذا جرى شيء من ذلك لم ينجبر .
   
و اعتبر هذا بأبي مسلم الخراساني ، فإنه غض من قدر المنصور قبل ولايته فحصل ذلك في نفسه فقتله .
   
و من نظر في التواريخ رأى جماعة قد جرى لهم مثل هذا .
   
و لا ينبغي لمن أساء إلى ذي سلطان لأن يقع في يده ، فإنه إذا رام التخلص لم يقدر . فيبقى ندمه على ترك احترازه ، و حسرته على مساكنة الضمان للسلامة ، أشد عليه من كل ما يلقى به من الهوان و الأذى .
   
و من هذا الجنس الأصدقاء المتماثلون ، فإنك متى آذيت شخصاً و بلغ إلى قلبه أذاك فلا تثق بمودته ، فإن أذاك نصب عينه ، فإن لم يحتل عليك لم يصف لك .
   
و لا تخالط إلا من أنعمت عليه فحسب ، فهو لم ير منك إلا خيراً ، فيكون في نفسه ، و كذلك الولد و الزوجة و المعاملون .
   
و يلحق بهذا أن أقول : لا ينبغي أن تعادي أحداً و لا تتكلم في حقه ، فربما صارت له دولة فاشتفى .
   
و ربما احتيج إليه فلم يقدر عليه .
   
فالعاقل يصور نفسه كل ممكن ، و يستر ما في قلبه من البغض و الود ، و يداري مع الغيظ و الحقد ، هذه مشاورة العقل إن قبلت .

 

·       فصل : لا تسوف في التوبة

 
   كل من يتلمح العواقب و لا يستعد لما يجوز وقوعه فليس بكامل العقل .
   
و اعتبر هذا في جميع الأحوال ، مثل أن يغتر بشبابه و يدوم على المعاصي و يسوف بالتوبة .
   
فربما أخذ بغته و لم يبلغ بعض ما أمل .
   
و كذلك إذا سوف بالعمل أو بحفظ العلم ، فإن الزمان ينقضي بالتسويف و يفوت المقصود .
   
و ربما عزم على فعل خيراً أو وقف شيء من ماله فسوف فبغت .
   
فالعاقل من أخذ بالحزم في تصوير ما يجوز وقوعه و عمل بمقتضى ذلك .
   
فإن امتد الأجل لم يضره ، و إن وقع المخوف كان محترزاً .
   
و مما يتعلق بالدنيا أن يميل مع السلطان و يسيء إلى بعض حواشيه ثقة بقربه منه ، فربما تغير ذلك السلطان فارتفع عدوه فانتقم منه .
   
و قد يعادي بعض الأصدقاء و لا يبالي به لأنه دونه في الحالة الحاضرة .
   
فربما صعدت مرتبة ذلك فاستوفى ما أسفله إليه من القبيح و زاد .
   
فالعاقل من نظر فيما يجوز وقوعه و لم يعاد أحداً .
   
فإن كان بينهما ما يوجب المعاداة كتم ذلك ، فإن صح له أن يثب على عدوه فينتقم منه انتقاماً يبيحه الشرع جاز على أن العفو أصلح في باب العيش .
   
و لهذا ينبغي أن يخدم البطال ، فإنه ربما عمل فعرف ذلك لمن خدم .
   
و قس على أنموذج ما ذكرته من جميع الأحوال .

 

·       فصل : عزة العلم تضع أصحابها فوق الملوك

 
   
بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة .
   
و قد صرح بهذا ابن عمر رضي الله عنهما فقال : و الله لا ينال أحد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله ، و إن كان عنده كريماً .
   
فالسعيد من اقتنع بالبلغة ، فإن أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا .
   
اللهم إلا أن يكون متورعاً في كسبه ، معيناً لنفسه عن الطمع ، قاصداً إعانة أهل الخير ، و الصدقة على المحتاجين ، فكسب هذا أصلح من بطالته .
   
فأما الصعود الذي سببه مخالطة السلاطين فبعيد أن يسلم معه الدين ، فإن وقعت سلامته ظاهراً فالعاقبة خطرة .
   
قال أبو محمد التميمي : ما غبطت أحداً إلا الشريف أبا جعفر يوم مات القائم بأمر الله فإنه غسله و خرج ينفض أكمامه فقعد في مسجده لا يبالي بأحد و نحن منزعجون لا ندري ما يجري علينا .
   
و ذاك أن التميمي كان متعلقاً على السلطان يمضي له في الرسائل ، فخاف مغبة القرب .
   
و قد رأينا جماعة من العلماء خالطوا السلطان فكانت مغبتهم سيئة .
   
و لعمري إنهم طلبوا الراحة فأخطئوا طريقها ، لأن غموم القلب لا توازيها لذة مال و لا لذة مطعم ، هذا في الدنيا قبل الآخرة .
   
و من أشرف و أطيب عيشاً من منفرد في زاوية لا يخالط السلاطين و لا يبالي أطاب مطعمه أم لم يطب .
   
فإنه لا يخلو من كسرة و قعب ماء ، ثم هو سليم من أن تقال له كلمة تؤذيه أو يعيبه الشرع حين دخوله عليهم أو الخلق .
   
و من تأمل حال أحمد بن حنبل في انقطاعه ، و حال ابن أبي داؤد ، و يحيى بن أكثم عرف الفرق في طيب العيش في الدنيا و السلامة في الآخرة .
   
و ما أحسن ما قال ابن أدهم : لو علم الملوك و أبناء الملوك ما نحن فيه من لذيذ العيش لجالدونا عليه بالسيوف .
   
و لقد صدق ابن أدهم ، فإن السلطان إن أكل شيئاً خاف أن يكون قد طرح له فيه سم ، و إن نام خاف أن يغتال ، و هو وراء المغاليق لا يمكنه أن يخرج لفرجة ، فإن خرج كان منزعجاً من أقرب الخلق إليه ، و اللذة التي ينالها تبرد عنده ، و لا يبقى له لذة مطعم و لا منكح .
   
و كلما استظرف المطاعم أكثر منها ففسدت معدته ، و كلما استجد الجواري أكثر منهن فذهبت قوته ، و لا يكاد يبعد ما بين الوطء و الوطء فلا يجد في الوطء كبيرة لذة لأن لذة الوطء بقدر بعد ما بين الزمانين ، و كذلك لذة الأكل فإن من أكل على شبع ، و وطئ من غير صدق شهوة و قلق ، لم يجد اللذة التامة التي يجدها الفقير إذا جاع ، و العزب إذا وجد امرأة .
   
ثم إن الفقير يرمي نفسه على الطريق في الليل فينام ، و لذة الأمن قد حرمها الأمراء فلذتهم ناقصة ، و حسابهم زائد .
   
و الله ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغاً من اللذات ما لم يبلغ غيره إلا العلماء المخلصين كالحسن و سفيان و أحمد و العباد المحققين كمعروف ، فإن لذة العلم تزيد على كل لذة .
   
و أما ضرهم إذا جاعوا أو ابتلوا بأذى ، فإن ذلك يزيد في رفعتهم .
   
و كذلك لذة الخلوة و التعبد . فهذا معروف ، كان منفرداً بربه طيب العيش معه ، لذيذ الخلوة به .
   
ثم قد مات منذ نحو أربعمائة سنة فما يخلو أن يهدي إليه كل يوم ما تقدير مجموعة أجزاء من القرآن .
   
و أقله من يقف على قبره فيقرأ : قل هو الله أحد و يهديها له . و السلاطين تقف بين يدي قبره ذليلة .
   
هذا بعد الموت ، و يوم الحشر تنشر الكرامات التي لا توصف ، و كذلك قبور العلماء المحققين .
   
و لما بليت أقوام بمخالطة الأمراء أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها .
   
فقال سفيان بن عتبة : منذ أخذت من مال فلان الأمير ، منعت ما كان وهب لي من فهم القرآن .
   
و هذا أبو يوسف القاضي ، لا يزور قبره اثنان .
   
فالصبر عن مخالطة الأمراء و إن أوجب ضيق العيش من وجه ، يحصل طيب العيش من جهات .
   
و مع التخليط ، لا يحصل مقصود . فمن عزم جزم .
   
كان أبو الحسن القزويني ، لا يخرج من بيته إلا وقت الصلاة ، فربما جاء السلطان فيقعد لانتظاره ، ليسلم عليه .
   
و مد النفس في هذا ربما أضجر السامع ، و من ذاق عرف .

 

·       فصل : معرفة الله و الشرع تهدي لسبل الخير


   
من عرف الشرع كما ينبغي و علم حالة الرسول صلى الله عليه و سلم و أحوال الصحابة و أكابر العلماء ، علم أن أكثر الناس على غير الجادة .
   
و إنما يمشون مع العادة ، يتزاورون ، فيغتاب بعضهم بعضاً ،و يطلب كل واحد منهم عورة أخته ، و يحسده إن كانت نعمة ، و يشمت به إن كانت مصيبة و يتكبر عليه إن نصح له ، و يخادعه لتحصيل شيء من الدنيا ، و يأخذ عليه العثرات إن أمكن .
   
هذا كله يجري بين المنتمين إلى الزهد لا الرعاع .
   
فالأولى بمن عرف الله سبحانه ، و عرف الشرع ، و سير السلف الصالحين الانقطاع عن الكل .
   
فإن اضطر إلى لقاء منتسب إلى العلم و الخير تلقاه و قد لبس درع الحذر ، و لم يطل معه الملام ، ثم عجل الهرب منه إلى مخالطة الكتب التي تحوي تفسيراً لنطاق الكمال .

 

·       فصل : الكمال قليل الوجود

 
   
الكمال عزيز . و الكمال قليل الوجود .
   
فأول أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن و حسن صورة الباطن و صورة البدن تسمى خلقاً ، و صورة الباطن تسمى خلقاً .
   
و دليل كمال صورة البدن حسن السمت و استعمال الأدب .
   
و دليل صورة الباطن حسن الطبائع و الأخلاق .
   
فالطبائع : العفة . و النزاهة ، و الأنفة من الجهل ، و مباعدة الشره .
   
و الأخلاق : الكرم ، و الإيثار ، و ستر العيوب ، و ابتداء المعروف ، والحلم عن الجاهل .
   
فمن رزق هذه الأشياء ، رقته إلى الكمال ، و ظهر عنه أشرف الخلال ، و إن نقصت خلة ، أوجبت النقص .

 

·       فصل : في التسليم يظهر جواهر الرجال


   ليس في الدنيا أبله ممن يريد معاملة الحق سبحانه على بلوغ الأغراض .
   
فأين تكون البلوى إذن ؟.
   
لا و الله لا بد من انعكاس المرادات ، و من توقف أجوبة السؤالات ، و من تشفي الأعداء في أوقات .
   
فأما من يريد أن تدوم له السلامة و النصر على من يعاديه ، و العافية من غير بلاء ، فما عرف التكليف ، و لا فهم التسليم .
   
أليس الرسول صلى الله عليه و سلم ينصر يوم بدر ثم يجري عليه ما جرى يوم أحد ! .
   
أليس يصد عن البيت ثم قهر بعد ذلك !
   
فلا بد من جيد و ردىء و الجيد يوجب الشكر ، و الردىء يحرك إلى السؤال و الدعاء .
   
فإن امتنع الجواب ، أريد نفوذ البلاء ، و التسليم للقضاء .
   
و ههنا يبين ما الإيمان ، و يظهر في التسليم جواهر الرجال .
   
فإن تحقق التسليم باطناً و ظاهراً فذلك شأن الكامل .
   
و إن وجد الباطن انعصار من القضاء لا من المقضي ـ فإن الطبع لا بد أن ينفر من المؤذى دل ـ على ضعف المعرفة .
   
فإن خرج الأمر إلى الاعتراض باللسان ، فتلك حال الجهال ، نعوذ بالله منها .

 

·       فصل : الله ينظر كيف تعملون

 
   من الابتلاء العظيم إقامة الرجل في غير مقامه . مثل أن يحوج الرجل الصالح إلى مداراة الظالم و التردد إليه ، و إلى مخالطة من لا يصلح ، و إلى أعمال لا تليق به ، أو إلى أمور تقطع عليه مراده الذي يؤثره .
   
مثل أن يقال للعالم : تردد على الأمير و إلا خفنا عليك سطوته ، فيتردد فيرى ما لا يصلح له و لا يمكنه أن ينكر .
   
أو يحتاج إلى شيء من الدنيا و قد منع حقه ، فيحتاج أن يعرض بذكر ذلك ، أو يصرح لينال بعض حقه ، و يحتاج إلى مداراة من تصعب مداراته ، بل تتشتت همته لتلك الضرورات . و كذلك يفتقر إلى الدخول في أمور لا تليق به مثل أن يحتاج إلى الكسب فيتردد إلى السوق أو يخدم من يعطيه أجرته .
   
و هذا لا يحتمله قلب المراقب لله سبحانه لأجل ما يخالطه من الأكدار .
   
أو يكون له عائلة و هو فقير فيتفكر في إغنائهم ، فيدخل في مداخل كلها عنده عظيم .
   
و قد يبتلى بفقد من يحب ، أو ببلاء في بدنه ، و بعكس أغراضه و تسليط معاديه عليه فيرى الفاسق يقهره . و الظالم يذله .
   
و كل هذه الأشياء إلا التسليم و اللجأ إلى القدر في الفرج .
   
فيرى الرجل المؤمن الحازم يثبت لهذه العظائم ، و لا يتغير قلبه ، و لا ينطق بالشكوى لسانه .
   
أو ليس الرسول صلى الله عليه و سلم يحتاج أن يقول : من يؤويني من ينصرني ؟
   
و يفتقر إلى أن يدخل مكة في جواز كافر ؟
   
و يشق السلي على ظهره ، و تقتل أصحابه و يداري المؤلفة ، و يشتد جوعه و هو ساكن لا يتغير ؟
   
و ما ذاك إلا أنه علم أن الدنيا دار ابتلاء ، لينظر الله فيها كيف تعملون .
   
و مما يهون هذه الأشياء علم العبد بالأجر ، و أن ذلك مراد الحق .
   
فما لجرح إذا أرضاكم ألم

 

·       فصل : العجماوات خير من علماء يعبدون المال

 
   لا ينكر أن الطباع تحب المال ، لأنه سبب بقاء الأبدان ، لكنه يزيد حبه في بعض القلوب حتى يصير محبوباً لذاته لا للتواصل به إلى المقاصد .
   
فترى البخيل يحمل على نفسه العجائب ، و يمنعها اللذات و تصبر لذاته في جمع المال . و هذا جبلة في خلق كثير .
   
و ليس العجب أن تكون في الجهال و ينبغي أن يؤثر فيها عند العلماء المجاهدة للطبع و مخالفته ، خصوصاً في الأفعال اللازمة في المال .
   
فأما أن يكون العالم جامعاً للمال من وجوه قبيحة و من شبهات قوية و بحرص شديد و بذل في الطالب ، ثم يأخذ من الزكوات و لا تحل له مع الغنى ، ثم يدخره و لا ينفع به ، فهذه بهيمية تخرج من صفات الآدمية .
   
بل البهيمية أعذر ، لأنها بالرياضة تتغير طباعها ، و هؤلاء ما غيرهم رياضة ، و لا أفادهم العلم .
   
و لقد كان أبو الحسن البسطامي مقيماً في رباط البسطامي الذي على نهر عيسى ، و كان لا يلبس إلا الصوف شتاء و صيفاً ، و كان يحترم و يقصد ، فخلف مالاً يزيد على أربعة الآف دينار .
   
و رأينا بعض أشياخنا و قد بلغ الثمانين و ليس له أهل و لا ولد ، و قد مرض فألقى نفسه عند بعض أصدقائه يتكلف له ذلك الرجل ما يشتهيه و ما يشفيه ، فمات فخلف أموالاً عظيمة .
   
و رأينا صدقة بن الحسين الناسخ ، و كان على الدوام يذم الزمان و أهله ، و يبالغ في الطلب من الناس و يتجفف و هو في المسجد وحده ليس له من يقوم بأمره ، فمات فخلف فيما قيل ثلاث مائة دينار .
   
و كان يصحبنا أبو طالب بن المؤيد الصوفي ، و كان يجمع المال ، فسرق منه نحو مائة دينار ، فتلهف عليها و كان ذلك سبب هلاكه .
   
و من أحوال الناس أنك ترى أقواماً جلسوا على صفة القوم يطلبون الفتوح فيأتهم منها الكثير الذي يصيرون به من الأغنياء ، و هم لا يمتنعون من أخذ زكاة و لا من طلب .
   
و كذلك القصاص ، يخرجون إلى البلاد و يطلبون ، فيحصل لهم المال الكثير ، فلا يتركون الطلب عادة .
   
فيا سبحان الله . . أي شيء أفاد العلم . بل الجهل كان لهؤلاء أعذر .
   
و من أقبح أحوالهم لزومهم الأسباب التي تجلب لهم الدنيا من التخاشع و التنسك في الظاهر ، و ملازمة حث العزلة عن المخالطة ، و كل هؤلاء بمعزل عن الشرع .
   
و لقد تأملت على بعضهم من القدح في نظيره إلى أن يبلغ به إلى التعرض به للهلاك .
   
فالويل لهم ، ما أقل ما يتمتعون بظواهر الدنيا ، و إن كان مقلب القلوب قد صرف القلوب عن محبتهم ، لأن الحق عز وجل لا يميل بالقلوب إلا إلى المخلصين .
   
فقد فاتتهم الدنيا على الحقيقة ، و ما حصلوا إلا صورة الحطام .
   
نسأل الله عز وجل عقلاً يدبر دنيانا ، و يحصل لنا آخرتنا ، و الرزاق قادر .

 

·       فصل : أنفس الأشياء معرفة الله


   
ينبغي لمن عرف شرف الوجود أن يحصل أفضل الموجود .
   
هذا العمر موسم . و التجارات تختلف . و العامة تقول : عليكم بما خف حمله و كثر ثمنه .
   
فينبغي للمستيقظ ألا يطلب إلى الأنفس .
   
و أنفس الأشياء في الدنيا معرفة الحق عز وجل .
   
فمن العارفين السالكين من وافى في طريقه بغيته في السفر ، و منهم من همته متعلقة بطلب ربحه ، و منهم من ينظر إلى ما يرضي الحبيب فيجلبه إلى بلد المعاملة ، و يرضى بالقبول ثمناً ، و يرى أن كل البضائع لا تفي بحق الخفارة .
   
منهم من يرى لزوم الشكر في اختيار هذا السلوك دون غيره فيقر بالعجز .
   
و قد ارتفع قوم عن الأحوال ، فرأوا مجرد التوفيق يشغلهم عن النظر إلى العمل .
   
أولئك الأقلون عدداً ، و إن الأعظمين قدراً أقل نسلاً من عنقاء مغرب .

 

·       فصل : البدار أيها المسنون


   
من علم قرب الرحيل عن مكة ، استكثر من الطواف ، خصوصاً إن كان لا يؤمل العود لكبر سنه و ضعف قوته .
   
فكذلك ينبغي لمن قاربه ساحل الأجل بعلو سنه أن يبادر اللحظات ، و ينتظر الهاجم بما يصلح له .
   
فقد كان في قوس الأجل منزع زمان الشباب ، و استرخى الوتر في المشيب عن سية القوس ، فانحدر إلى القلب و ضعفت القوى .
   
و ما بقي إلى الإستسلام لمحارب التلف ، فالبدار البدار أن يؤثر إلى أن التنظيف ليكون القدوم على طهارة .
   
و أي عيش في الدنيا يطيب لمن أيامه السليمة تقربه إلى الهلاك ، و صعود عمره نزول عن الحياة و طول بقائه نقص مدى المدة ، فليتفكر فيما بين يديه ، و هو أهم مما ذكرناه .
   
أليس في الصحيح : ما منكم أحد إلا و يعرض عليه مقعدة بالغداة و العشي من الجنة و النار فيقال : هذا مقعدك حتى يبعث الله .
   
فوا أسفاً لمهدد ، لم يحسن التأهب ، و يا طيب عيش الموعود بأزيد المنى .
   
و ليعلم من شارف السبعين ، أن النفس أنين ، أعان الله من قطع عقبة العمر على رمل زرود الموت .

 

·       فصل : تذكر أحوال الرسول صلى الله عليه و سلم

 
   من أراد أن يعلم حقيقة الرضى عن الله عز وجل ففي أفعاله ، و أن يدري من أين ينشأ الرضى ، فليتفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه و سلم .
   
فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه رأى أن الخالق مالك ، و للمالك التصرف في مملوكه ، و رآه حكيماً لا يصنع شيئاً عبثاً ، فسلم تسليم مملوك لحكيم فكانت العجائب تجري عليه و لا يوجد منه تغير ، و لا من الطبع تأفف .
   
و لا يقول بلسان الحال : لو كان كذا ، بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح .
   
هذا سيد الرسل صلى الله عليه و سلم بعث إلى الخلق وحده ، و بالكفر قد ملأ الآفاق ، فجعل يفر من مكان إلى مكان ، و استتر في دار الخيزران ، و هم يضربونه إذا خرج ، و يدمون عقبه ، و شق السلى على ظهره ، و هو ساكت ساكن .
   
و يخرج كل موسم فيقول : من يؤويني ، من ينصرني ؟
   
ثم خرج من مكة فلم يقدر على العود إلا في جواز كافر ، و لم يوجد من الطبع تأنف ، و لا من الباطن اعتراض .
   
إذ لو كان غيره لقال : يا رب أنت مالك الخلق ، و قارد على النصر ، فلم أذل ؟
   
كما قال عمر رضي الله عنه يوم صلح الحديبية : ألسنا على الحق ؟ فلم نعطي الدنية في ديننا ؟
   
و لما قال هذا ، قال له الرسول صلى الله عليه و سلم : إني عبد الله و لن يضيعني ، فجمعت الكلمتان الأصلين اللذين ذكرناهما .
   
فقوله : إني عبد الله ، إقرار بالملك و كأنه قال : أنا مملوك يفعل بي ما يشاء .
   
و قوله : لن يضيعني ، بيان حكمته ، و أنه لا يفعل شيئاً عبثاً .
   
ثم يبتلي بالجموع فيثد الحجر ، و لله خزائن السموات و الأرض .
   
و تقتل أصحابه و يشج وجهه ، و تكسر رباعيته ، و يمثل بعمه و هو ساكت
   
ثم يرزق ابناً و يسلب منه ، فيتعلل بالحسن و الحسين ، فيخبر بما سيجري عليهما .
   
و يسكن بالطبع إلى عائشة رضي الله عنها ، فينغص عيشه بقذفها .
   
و يبالغ في إظهار المعجزات فيقام في وجهه مسيلمة و العنسي و ابن صياد .
   
و يقيم ناموس الأمانة و الصدق ، فيقال : كذاب ساحر . ثم يعلقه المرض كما يوعك رجلان و هو ساكن ساكت . فإن أخبر بحاله فليعلم الصبر .
   
ثم يشدد عليه الموت ، فيسلب روحه الشريفة و هو مضطجع في كساء ملبد و إزار غليظ ، و ليس عندهم زيت يوقد به المصباح ليلتئذ .
   
هذا شيء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغي نبي قلبه ، و لو ابتليت به الملائكة ما صبرت .
   
هذا آدم عليه السلام يباح له الجنة سوى شجرة فلا يقع ذباب حرصه إلا على العقر .
   
و نبينا صلى الله عليه و سلم يقول في المباح : مالي و للدنيا !
   
و هذا نوح عليه السلام يضج مما لاقى ، فيصبح من كمد وجده لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . و نبينا صلى الله عليه و سلم يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون .
   
هذا الكليم موسى صلى الله عليه و سلم ، يستغيث عند عبادة قومه العجل على القدر قائلاً إن هي إلا فتنتك و يوجه إليه ملك الموت فيقلع عينه .
   
و عيسى صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن صرفت الموت عن أحد فاصرفه عني ] .
   
و نبينا صلى الله عليه و سلم يخير بين البقاء و الموت ، فيختار الرحيل إلى الرفيق الأعلى .
   
هذا سليمان صلى الله عليه و سلم يقول : هب لي ملكاً ، و نبينا صلى الله عليه و سلم يقول : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً
   
هذا و الله فعل رجل عرف الوجود و الموجود ، فماتت أغراضه ، و سكنت اعتراضاته ، فصار هواه فيما يجري .

 

·       فصل : لا يحصل المراد التام


   
أكثر شهوات الحس النساء ، و قد يرى الإنسان امرأة في ثيابها فيتخايل له أنها أحسن من زوجته .
   
أو يتصور بفكره المستحسنات و فكره لا ينظر إلا إلى الحسن من المرأة ، فيسعى في التزوج و التسري .
   
فإذا حصل له مراده لم يزل ينظر في عيوب الحاصل التي ما كان يتفكر فيها ، فيمل و يطلب شيئاً آخر .
   
و لا يدري أن حصول أغراضه في الظاهر ربما اشتمل على محن .
   
منها أن تكون الثانية لا دين لها أو لا عقل ، أو لا محبة لها ، أو لا تدبير ، فيفوت أكثر مما حصل .
   
هذا المعنى هو الذي أوقع الزناة في الفواحش ، لأنهم يجالسون المرأة حال استتار عيوبها عنهم و ظهور محاسنها ، فتلذهم تلك الساعة ، ثم ينتقلون إلى أخرى .
   
ليعلم العاقل أن لا سبيل غلى حصول مراد تام كما يريد و لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه .
   
ما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله عز وجل و لهم فيها أزواج مطهرة .
   
و ذو الأنفة يأنف من الوسخ صورة ، و عيب الخلق معنى .
   
فليقنع بما باطنه الدين ، و ظاهره الستر و القناعة . فإنه يعيش مرفه السر ، طيب القلب .
   
و متى ما استكثر ، فإنما يستكثر من شغل قلبه ورقة دينه .

 

·       فصل : يخلق ما يشاء و يختار


   سبحان من شغل كل شخص بفن لتنام العيون في الدنيا .
   
فأما في العلوم فحبب إلى هذا القرآن ، و إلى هذا الحديث ، و إلى هذا النحو . إذ لولا ذلك ما حفظت العلوم .
   
ألهم هذا المتعيش أن يكون خبازاً ، و هذا أن يكون هراسا ، و هذا أن ينقل الشوك من الصحراء ، و هذا أن ينقي البثار ليلتئم الخلق .
   
و لو ألهم أكثر الناس أن يكونوا خبازين مثلاً ، بات الخبز و هلك ، أو هراسين جفت الهرايس ، بل يلهم هذا و ذاك بقدر لينتظم أمر الدنيا و أمر الآخرة .
   
و يندر من الخلق من يلهمه الكمال و طلب الأفضل ، و الجمع بين العلوم و الأعمال ، و معاملات القلوب ، و تتفاوت أرباب هذه الحال .
   
فسبحان من يخلق ما يشاء و يختار .
   
نسأل العفو إن لم يقع الرضى ، و السلامة إن لم نصلح للمعاملة .

 

·       فصل : القرآن و السنة أساس الدين


   
علم الحديث هو الشريعة ، لأنه مبين للقرآن و موضح للحلال و الحرام و كاشف عن سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سير أصحابه .
   
و قد مزجوه بالكذب ، و أدخلوا في المنقولات كل قبيح .
   
فإذا وفق الزاهد و الواعظ لم يذكرا إلا ما شهد بصحته .
   
و إن حرما التوفيق ، عمل الزاهد بكل حديث يسمعه لحسن ظنه بالرواة ، و قال الواعظ كل شيء يراه الجهلة بالتصحيح ، ففسدت أحوال الزاهد ، و انحرف عن جادة الهدى ، و هو لا يعلم .
   
كيف لا وعموم الأحاديث الدالة على الزاهد لا تثبت ، مثل حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أيما امرىء مسلم اشتهى شهوة فرد شهوته و آثر على نفسه غفر له . و هذا حديث موضوع ، يمنع الإنسان ما أبيح مما يتقوى به على الطاعة .
   
و مثل قوله : من وضع ثياباً حسناً ، و كذلك ما رووا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم له أدمان فقال : أدمان في قدح ، لا حاجة لي فيه ، أكره أن يسألني الله عن فضول الدنيا .
   
و في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكل البطريخ بالرطب و مثل هذا إذا تتبع كثير فقد بنوا على فساد ، ففسدت أحوال الواعظ و الموعوظ ، لأنه يبني كلامه على أشياء فاسدة و محالات .
   
و لقد كان جماعة من المتزهدين يعملون على أحاديث و مقولات لا تصح فيضيع زمانهم في غير المشروع .
   
ثم ينكرون على العلماء استعمالهم للمباحات ، و يرون أن التجفف هو الدين .
   
و كذلك الوعاظ يحدثون الناس بما لا يصح عن الرسول صلى الله عليه و سلم و لا أصحابه ، فقد صار المحال عندهم شريعة .
   
فسبحان من حفظ هذه الشريعة بأخبار ينفون عنها تحريف الغالين و انتحال المبطلين .

 

·       فصل : مسند الإمام أحمد و ما فيه من الأحاديث


   
كان قد سألني بعض أصحاب الحديث : هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح ؟ فقلت : نعم .
   
فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب ، فحملت أمرهم على أنهم عوام ، و أهملت فكر ذلك .
   
إذا بهم قد كتبوا فتاوي ، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان ، منهم أو أبو العلاء الهمداني يعظمون هذا القول ، و يردونه و يقبحون قول من قاله .
   
فبقيت دهشاً متعجباً ، و قلت في نفسي : و اعجباً صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضاً .
   
و ما ذاك إلا أنهم سمعوا الحديث و لم يبحثوا عن صحيحه و سقيمه ، و ظنوا أن من قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد .
   
و ليس كذلك ، فإن الإمام أحمد روى المشهور و الجيد و الرديء .
   
ثم هو قد رد كثيراً مما روى ، و لم يقل به ، و لم يجعله مذهباً له .
   
أليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ مجهول !
   
من نظر في كتاب العلل الذي صنفه أبو بكر الخلال رأى أحاديث كثيرة كلها في المسند ، و قد طعن فيها أحمد .
   
و نقلت من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء في مسألته النبيذ قال : إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر ، و لم يقصد و لا السقيم .
   
و يدل على ذلك أن عبد الله قال : قلت لأبي : ما تقول في حديث ربعي بن حراش عن حذيفة ؟ قال : الذي يرويه عبد العزيز بن أبي داود ؟ قلت : نعم .
   
قال : الأحاديث بخلافه . قلت : فقد ذكرته في المسند . قال قصدت في المسند المشهور ، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لم أرد لهذا المسند إلا الشيء بعد الشيء اليسير .
   
و لكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث ، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه . قال القاضي ـ و قد أخبر عن نفسه ـ كيف طريقه في المسند فمن جعله أصلاً للصحة فقد خالفه و ترك مقصده .
   
قلت : قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم في العلم صاروا كالعامة و إذا مر بهم حديث موضوع قالوا : قد روي .      
   
و البكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .

 

·       فصل : اتباع الشهوات


   
بلغني عن بعض فساق القدماء أنه كان يقول :
   
ما أرى العيش غير أن تتبع النفس هواها ، فمخطئاً أو مصيباً .
   
فتدبرت حال هذا ، و إذا به ميت النفس ، ليس له أنفة على عرضه ، و لا خوف عار .
   
و مثل هذا ليس في مسلاخ الآدميين ، فإن الإنسان قد يقدم على القتل لئلا يقال جبان . و يحمل الأثقال ليقال ما قصر . و يخاف العار فيصبر على كل آفة من الفقر ، و هو يستر ذلك حتى لا يرى بعين ناقصة .
   
حتى إن الجاهل إذا قيل له يا جاهل إغضب . و اللصوص المتهيؤون للحرام إذا قال أحدهم للآخر لا تتكلم ، فإن أختك تفعل و تصنع ، أخذته الحمية فقتل الأخت .
   
و من له نفس لا يقف في مقام تهمة لئلا يظن به .
   
فأما من لا يبالي أن يرى سكراناً ، و لا يهمه أن شهر بين الناس ، و لا يؤلمه ذكر الناس له بالسوء فذاك في عداد البهائم .
   
و هذا الذي يريد أن يتبع النفس هواها لا يلتذ به أنه لا يخاف عنتاً و لا لوماً ، و لا يكون له عرض يحذر عليه ، فهو بهيمة في مسلاخ إنسان .
   
و إلا فأي عيش لمن شرب الخمر ، و أخذ عقيب ذلك وضرب و شاع في الناس ما قد فعل به .
   
أما يفي ذلك باللذة ، لا ؟ بل يربو عليها أضعافاً . و أي عيش ساكن الكسل إذا رأى أقرانه قد برزوا في العلم و هو جاهل . أو استغنوا بالتجارة و هو فقير ، فهل يبقى للالتذاذ بالكسل و الراحة معنى ؟ و لو تفكر الزاني في الأحدوثة عنه ، أو تصور أخذ الحد منه ، لكف الكف . غير أنه يرى لذة حاضرة كأنها لمع برق ، و يا شؤم ما أعقبت من طول الأسى .
   
هذا كله في العاجل . فأما الأجل فمنغصه العذاب دائمة ، و الذين آمنوا مشفقون منها .
   
نسأل الله أنفة من الرذائل ، و همة فيطلب الفضائل ، إنه قريب مجيب .

 

فصل : أتبع السيئة الحسنة تمحها


   
قد تبغت العقوبات ، و قد يؤخرها الحلم .
   
و العاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة ، فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل .
   
و أسرع المعاصي عقوبة ما خلا عن لذة تنسي النهي ، فتكون تلك الخطيئة كالمعاندة و المبارزة .
   
فإن كانت توجب اعتراضاً على الخالق أو منازعة له في عظمته ، فتلك التي لا تتلافى . خصوصاً إن وقعت من عارف بالله ، فإنه يندر إهماله .
   
قال عبد المجيد بن عبد العزيز : كان عندنا بخراسان رجل كتب مصحفاً في ثلاثة أيام فلقيه رجل فقال : في كم كتبت هذا ؟ فأومأ بالسبابة و الوسطى و الإبهام و قال : في ثلاث [ و ما مسنا من لغوب ] فجفت أصابعه الثلاث ، فلم ينتفع بها فيما بعد .
   
و خطر لبعض الفصحاء أن يقدر أن يقول مثل القرآن ، فصعد إلى غرفة فانفرد فيها ، و قال أمهلوني ثلاثاً ، فصعدوا إليه بعد الثلاث و يده قد يبست على القلم و هو ميت .
   
قال عبد المجيد : و رأيت رجلاً كان يأتي امرأته حائضاً ، فحاض ، فلما كثر الأمر به تاب فانقطع عنه و يلحق هذا أن يعير الإنسان شخصاً بفعل ، و أعظمه أن يعيره بما ليس إليه ، فيقول يا أعمى ، و يا قبيح الخلقة .
   
و قال ابن سيرين : [ عيرت مرجلاً بالفقر ، فحبست على دين ] .
   
و قد تتأخر العقوبة و تأتي في آخر العمر .
   
فيا طول التعثير مع كبر السن لذنوب كانت في الشباب .
   
فالحذر الحذر من عواقب الخطايا . و البدار البدار إلى محوها بالإنابة .
   
فلها تأثيرات قبيحة إن أسرعت ، و إلا اجتمعت و جاءت .

 

·       فصل : معرفة الخالق بالدليل واجبة

 
   
إعلم أن الآدمي قد خلق لأمر عظيم . . . و هو مطالب بمعرفة خالقه بالدليل ، و لا يكفيه التقليد . و ذلك يفتقر إلى جمع الهم في طلبه .
   
و هو مطالب بإقامة المفروضات ، و اجتناب المحارم . فإن سمت همته إلى طلب العلم احتاج إلى زيادة جمع الهم .
   
فأسعد الناس من له قوت دار بقدر الكفاية ، لا من منن الناس و صدقاتهم و قد قنع به .
   
و أما إذا لم يكن له قوت يكفي فالهم الذي يريد اجتماعه في تلك الأمور يتشتت و يصير طالباً للتحليل في جمع القوت .
   
فيذهب العمر في تحصيل قوت البدن الذي يريد من بقائه غير بقائه ، و يفوت المقصود ببقائه ، و ربما احتاج إلى الأنذال ، قال الشاعر :
   
حسبي من الدهر ما كفاني       يصون عرضي عن الهوان
   
مخافة أن يقول قوم       فضل فلان على فلان
   
فينبغي للعاقل أن إذا رق قوتاً أو كان له موار أن يحفظها ليجتمع همه و لا ينبغي أن يبذر في ذلك فإنه يحتاج فيتشتت همه .
   
و النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت ، فإن لم يكن له مال اكتسب بقدر كفايته ، و قلل الغلو ليجتمع بين همه و ضرورته .
   
و ليقنع بالقليل ، فإنه متى سمت همته إلى فضول المال وقع المحذور من التشتت ، لأن التشتت في الأول للعدم ، و هذا التشتت يكون للحرص على الفضول فيذهب العمر على البارد :
   
و من ينفق الأيام في حفظ ماله       مخافة فقر فالذي فعل الفقر
   
فافهم هذا يا صاحب الهمة تفي طلب الفضائل ، فإنك ما لم تعزل قوت الصبيان شتتوا قلبك ، و طبعك طفل . ففرغ همك من استعانته .
   
و اعرف قدر شرف المال أوجب جمع همك ، و صان عرضك عن الخلق .
   
و إياك أن يحملك الكرم على فرط الإخراج ، فتصير كالفقير المتعرض لك بالتعرض لغيرك .
   
و في الحديث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأى عليه آثار الفقر ، فعرض به فأعطى شيئاً . فجاءه فقير آخر فآثره الأول ببعض ما أعطى فرماه النبي صلى الله عليه و سلم ، و نهاه عن مثل ذلك .
   
القناعة بما يكفي ، و ترك التشوف إلى الفضول أصل الأصول .
   
و لما آيس الإمام أحمد بن حنبل نفسه من قبول الهدايا و الصلات اجتمع همه ، و حسن ذكره ، لما أطعمها ابن المديني و غيره سقط ذكره .
   
ثم فيمن ! إنما هو سلطان جائر ، أو منرك منان ؟ أو صديق مدل بما يعطي و العز ألذ من كل لذة ، و الخروج عن ربقة المنن و لو بسف التراب أفضل .

 

·       فصل : الحذر من الإفراط في إظهار النعم

 
   
قد ركب في الطباع حب التفضيل على الجنس ، فما أحد إلا و هو يحب أن يكون أعلى درجة من غيره .
   
فإذا وقعت نكبة أوجبت نزوله عن مرتبة سواه ، فينبغي أن يتجلد بستر تلك النكبة ، لئلا يرى بعين نقص .
   
ليتجمل المتعفف حتى لا يرى بعين الزحمة ، و ليتحامل المريض لئلا يشمت به ذو العافية .
   
و قد قال صلى الله عليه و سلم لأصحابه حين قدومه مكة و قد أخذتهم الحمى فخاف أن يشمت بهم الأعداء حين ضعفهم عن السعي ، فقال : رحم الله من أظهر من نفسه الجلد ، فيرملوا ـ و الرمل شدة السعي ـ .
   
و زال ذلك السبب و بقي الحكم ، ليتذكر السبب فيفهم معناه .
   
استأذنوا على معاوية و هو في الموت ، فقال لأهله : أجلسوني ، فقعد متمكناً يظهر العافية ، فلما خرج العواد أنشد :
   
و تجلدي للشامتين أيهم       أني لريب الدهر أتضعضع
   
و إذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
   
و ما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصائب و الفقر و البلاء ، لئلا يتحملوا معى النوائب شماتة الأعداء ، و إنها لأشد من كل نائبة .
   
كان فقيرهم يظهر الغنى ، و مريضهم يظهر العافية .
   
بلى ، ثم نكتة ينبغي التفطن لها ، ربما أظهر الإنسان كثرة المال و سبوغ النعم ، فأصابه عدوه بالعين ، فلا يفي ما تبجح به بما يلاقي من انعكاس النعمة .
   
و العين لا تصيب إلا ما يستحسن ، و لا يكفي الاستحسان في إصابة العين حتى يكون من حاسد ، و لا يكفي ذلك حتى يكون من شرير الطبع .
   
فإذا اجتمعت هذه الصفات خيف من إصابة العين ، فليكن الإنسان مظهراً للتجميل مقدار ما يأمن إصابة العين و يعلم أنه في خير .
   
و ليحذر الإفراط في إظهار النعم ، فإن العين هناك محذورة .
   
و قد قال يعقوب لنبيه عليهم السلام لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرقة .
   
و إنما خاف عليهم العين . فليفهم هذا الفصل فإنه ينفع من له تدبر .

 

·       فصل : بادر بطي صحيفتك

 
   إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في معرفته و محادثته و رؤيته في البقاء الدائم .
   
و إنما ابتدىء كوننا في الدنيا لأنها في مثال مكتب نتعلم فيه الخط و الأدب ليصلح الصبي عند بلوغه للرتب .
   
فمن الصبيان بعيد الذهن يطول مكثه في المكتب و يخرج و ما فهم شيئاً .
   
و هذا مثال من لا يعلم و جوده ، و لا نال المراد من كونه .
   
و من الصبيان من يجمع مع بعد ذهنه ، و قلة فهمه و عدم تعلمه أذى الصبيان ، فهو يؤذيهم ، و يسرق مطاعمهم ، و يستغيثون من يده ، فلا هو صلح ، و لا فهم و لا كف عن الشر .
   
و هذا مثل أهل الشر و المؤذيين .
   
و من الصبيان من علق بشيء من الخط لكنه ضعيف الاستخراج رديء الكتابة ، فخرج و لم يعلق إلا بقدر ما يعلق به حساب معاملته .
   
و هذا مثل من فهم الشيء و فاتته الفضائل التامة .
   
و منهم من جود الخط و لم يتعلم الحساب ، و أتقن الأدب حفظاً ، غير أنه قاصر في أدب النفس .
   
فهذا يصلح أن يكون كائباً للسلطان على مخاطرة لسوء ما في باطنه من الشره و قلة التأدب .
   
و منهم من سمعت همته إلى المعالي الكاملة ، فهو مقدم الصبيان في المكتب ، و نائب عن معلمهم ، ثم يرتفع عنهم بعزة نفسه ، و أدب باطنه ، و كمال صناعة الأدب الظاهرة .
   
و لا يزال حاث من باطنه يحثه على تعجيل التعليم ، و تحصيل كل فضيلة ، لعمله أن المكتب لا يراد لنفسه بل لأخذ الأدب منه ، و الراحلة إلى حالة الرجولية و التصرف ، فهو يبادر الزمان في نيل كل فضيلة .
   
فهذا مثل المؤمن الكامل يسبق الأقران التجاري ، و يعرض لوح عمله جيد الخط ، فيقول بلسان حاله هاؤم اقرؤوا كتابيه .
   
و كذلك الدنيا و أهلها . من الناس هالك بعيد عن الحق ، و هم الكفار .
   
و منهم خاطئ مع قليل من الإيمان ، فهو معاقب ، و المصير إلى خير . و منهم سليم ، لكنه قاصر .
   
و منهم تام ، لكنه بالإضافة إلى من دونه ، و هو ناقص بالإضافة إلى من فوقه .
   
فالبدار البدار يا أرباب الفهوم ، فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة ، و سفر إلى المستقر و القرب من السلطان و مجاورته ، فتهيئوا للمجالسة ، و استعدوا للمخاطبة ، و بالغوا في استعمال الأدب ، لتصلحوا للقرب من الحضرة .
   
و لا يشغلكم عن تضمير الخيل تكاسل ، و ليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم السباق .
   
فإن قرب المؤمنين من الخالق على قدر حذرهم في الدنيا .
   
و منازلهم على قدر ، فما منزل النفاط كمنزل الحاجب ، و لا منزل الحاجب كمكان الوزير .
   
جنتان من ذهب ، آنيتهما و ما فيهما . و جنتان من فضة ، آنيتهما ، و ما فيهما ، و الفردوس الأعلى لآخرين .
   
و الذين في أرض ينظرون أهل الدرجات كما يرون الكوكب الدري ، فليتذكر الساعي حلاوة التسليم إلى الأمين .
   
و ليتذكر في لذاذة المدح يوم السباق . و ليحذر المسابق من تقصير لا يمكن استدراكه .
   
و ليخف من عيب يبقى قبح ذكره .
   
هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن ، أزرى بهم اتباع الهوى ، ثم لحقتهم العافية فنجوا بعد لأي ، فليتعظ و ليصبر عن المشتهي ، فالأيام قلائل .
   
يدخل فقراء المؤمنين قبل الأغنياء إلى الجنة بخمس مائة عام ، فالجد الجد ، بإقدام المبادرة .
   
فقد لاح العلم خصوصاً لمن بانت له بانة الوادي ، إما بالعلم الدال على الطريق ، و إما بالشيب الذي هو علم الرحيل ، و هو ما يأمله أهل الجد .
   
و كان الجنيد يقرأ وقت خروج روحه ، فيقال له في هذا الوقت ! فيقول : [ أبادر طي صحيفتي ] .
   
و بعد هذا ، فالمراد موفق ، و المطلوب معان . و إذا أرادك لأمر هيأك له .

 

·       فصل : الدنيا ميدان سباق

 
   
تأملت حالة عجيبة ، و هو أن أهل الجنة الساكنين في أرضها في نقص عظيم بالإضافة إلى من فوقهم ، و هم يعلمون فضللا أولئك .
   
فلو تفكروا في ما فاتهم من ذلك وقعت الحسرات ، غير أن ذلك لا يكون ، لأن ذلك لا يقع لهم لطيب منازلهم ، و لا يقع في الجنة غم .
   
و يرضى كل بما أعطي من وجهين : أحدمها أنه لا يظن أن يكون نعيم فوق ما هو فيه ، و إن علت منزلة غيره . و الثاني أنه يحبب إليه كما يحبب إليه ولده المستوحش الخلفة فإنه يؤثره على الأجنبي المستحسن .
   
إلا أن تحت هذا معنى لطيفاً ، و هو أن القوم خلقت لهم همم قاصرة في الدنيا عن طلب الفضائل يتفاوت قصورها .
   
فمنهم من يحفظ بعض القرآن و لا يتوق إلى التمام ، و منهم من يسمع يسيراً من الحديث و منهم من يعرف قليلاً من الفقه ، و منهم من قد رضي من كل شيء بيسيره ، و منهم مقتصر على الفرائض ، و منهم قنوع بصلات ركعتين في الليل . و لو علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل ، و نبت عن النقص فاستخدمت البدن ، كما قال الشاعر :
   
و لكل جسم في النحول بلية       و بلاء جسمي من تفاوت همتي
   
و يدل على تفاوت الهمم أن في الناس من يسهر في سماع و لا يسهل عليه السهر في سماع القرآن .
   
و الإنسان يحشر و معه تلك الهمة ، فيعطى على مقدار ما حصلت في الدنيا لم تتق إلى الكمال و قنعت بالدون ، قنعت في الآخرة بمثل ذلك .
   
ثم إن القوم يتفكرون بعقولهم ، فيعلمون أن الجزاء على قدر العمل ، و لا يطمع من صلى ركعتين في ثواب من صلى ألفاً .
   
فإن قال قائل : فكيف يتصور لها ألا تروم ما ناله من هو أفضل منها ؟
   
قلت : إن لم يتصور نيله يتصور الحزن على فوته .
   
و هل رأيت عامياً يحزن على فوات الفقه حزناً يقلقه ؟ هيهات .
   
لو كان ذلك الحزن عنده لحره إلى التشاغل .
   
فليس عندهم همة توجب الأسف مع أنهم قد رضوا بما فيه . فافهم ما قلته و بادر ، فهذا ميدان السباق .

 

·       فصل : الحكمة في الإبقاء على اليهود و النصارى

 
   
تفكرت في إبقاء اليهود و النصارى بيننا و أخذ الجزية منهم ، فرأيت في ذلك حكماً عجيبة .
   
منها : ما قد ذكر أن الإسلام كان ضعيفاً فتقوى بما يؤخذ من جزيتهم . و منها : ظهور عزه بذلهم ، إلى غير ذلك مما قد قيل .
   
و وقع لي فيه معنى عجيب ، و هو أن وجودهم و تعبدهم و حفظهم شرع نبيهم صلى الله عليه و سلم دليل على أنه قد كان أنبياء و شرائع .
   
و أن نبينا صلى الله عليه و سلم ليس ببدع من الرسل ، فقد اجتمعت الجن و هم على إثبات صانع ، و إقرار برسل ، فبان أننا ما ابتدعنا ما لم يكن .
   
و هم يصبرون على باطلهم ، و يؤدون الجزية ، فكيف لا نصبر على حق ، و الدولة لنا و في بقائهم احترام لما كان صحيحاً من الدين و ليرجع متبصر ، و ليستعمل مفكر .

 

·       فصل : ما يجب على العالم

 
   قد ثبت بالدليل شرف العلم و فضله ، إلا أن طلاب العلم افترقوا ، فكل تدعوه نفسه إلى شيء .
   
فمنهم من أذهب عمره في القراءات ، و ذلك تفريط في العمر ، لأنه إنما ينبغي أن يعتمد على المشهور منها لا على الشاذ .
   
ما أقبح القارىء يسأل عن مسألة في الفقه و هو لا يدري . و ليس ما شغله عن ذلك إلا كثرة الطرق في روايات القراءات .
   
و منهم من يتشاغل بالنحو و علله فحسب ، و منهم من يتشاغل باللغة فحسب . و منهم من يكتب الحديث ، و يكثر و لا ينظر في فهم ما كتب .
   
و قد رأينا في مشايخنا المحدثين من كان يسأل عن مسألة في الصلاة فلا يدري ما يقول .
   
و كذلك القراء ، و كذلك أهل اللغة و النحو .
   
و حدثني عبد الرحمن بن عيسى الفقيه ، قال : حدثني ابن المنصوري ، قال : حضرنا مع أبي محمد بن الخشاب ، و كان إمام الناس في النحو و اللغة ، فتذاكروا الفقه فقال : [ سلوني عما شئتم ] ، فقال له رجل : إن قيل لنا رفع اليدين في الصلاة ما هو فماذا نقول ؟ فقال : [ هو ركن ] ! فدهشت الجماعة من قلة فقهه .
   
و إنما ينبغي للعاقل أن يأخذ من كل علم طرفاً يهتم بالفقه .
   
ثم ينظر في مقصود العلوم ، و هو المعاملة لله سبحانه ، و المعرفة به ، و الحب له .
   
و ما أبله من يقطع عمره في معرفة علم النجوم ، و إنما ينبغي أن يعرف من ذلك اليسير و المنازل لعلم الأوقات ، فأما النظر فيما يدعى أنه القضاء و الحكم فجهل محض لأنه لا سبيل إلى علم ذلك حقيقة و قد جرب فبان جهل مدعيه .
   
و قد تقع الإصابة في وقت . و على تقدير الإصابة لا فائدة فيه إلا تعجيل الغم .
   
فإن قال قائل : يمكن دفع ذلك فقد سلم أنه لا حقيقة له .
   
و أبله من هؤلاء من يتشاغل بعلم الكيميا فإنه هذيان فارغ . و إذا كان لا يتصور قلب الذهب نحاساً لم يتصور قلب النحاس ذهباً .
   
فإنما فاعل هذا مستحل للتدليس على الناس في النقود . هذا إذا صح له مراده .
   
و ينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده ، إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال .
   
و ليجتهد في مجالسة العلماء ، و النظر في الأقوال المختلفة ، و تحصيل الكتب ، فلا يخلو كتاب من فائدة .
   
و ليجعل همته للحفظ ، و لا ينظر و لا يكتب إلا وقت التعب من الحفظ .
   
و لحيذر صحبة السلطان ، و لينظر في منهاج الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة و التابعين ، و ليجتهد في رياضة نفسه و العمل بعلمه ، و من تولاه الحق وفقه .

 

·       فصل : عناد الكافرين

 
   
طال تعجبي من أقوام لهم أنفة ، و عندهم كبر زائدة في الحد .
   
خصوصاً العرب الذين من كلمة ينفرون ، و يحاربون ، و يرضون بالقتل حتى إن قوماً منهم أدركوا الإسلام فقالوا : كيف نركع و نسجد فتعلونا أستاهنا ؟
   
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا خير في دين ليس في ركوع و لا سجود .
   
و قد كان قوم يعبدون الخيل و البقر ، و إن هؤلاء لأخس من إبليس ، أنف لإدعائه الكمال أن يسجد لناقص فقال : أنا خير منه و فرعون أنف أن يعبد شيئاً أصلاً .
   
فالعجب ذل هؤلاء المفتخرين المتعاظمين المتكبرين لحجر أو خشبة .
   
و إنما ينبغي أن يذل الناقص للكاملين . و قد أشير إلى هذا في ذم الأصنام في قوله تعالى : ألهم أرجل يمشون بها ، أم لهم أيد يبطشون بها ، أم لهم أعين يبصرون بها .
   
و المعنى : أنتم لكم هذه الآلات المدركة و هم ليس لهم فكيف بعد الكامل الناقص ؟
   
غير أن هوى القوم في متابعة الأسلاف ، و استحلاء ما اخترعوه بآرائهم ، غطى على العقول ، فلم تتأمل حقائق الأمور .
   
ثم غطى الحسد على أقوام فتركوا الحق و قد عرفوه .
   
فأمية بن أبي الصلت ، يقر برسول الله صلى الله عليه و سلم ، و يقصده ليؤمن به ، ثم يعود فيقول : لا أؤمن برسول ليس من ثقيف .
   
و أبو جهل يقول : و الله ما كذب محمد قط ، و لكن إذا كانت السدانة و الحجابة في بني هاسم ثم النبوة فما بقي لنا ؟
   
و أبو طالب يرى المعجزات و يقول : إن لأعلم أنك على الحق و لولا أن تعيرني نساء قريش لأقررت بها عينك .
   
فتعوذ بالله من ظلمة حسد ، و غيابة كبر ، و حماقة هوى يغطي على نور العقل .
   
و نسأله إلهام الرشد ، و العمل بمقتضى الحق .

 

·       فصل : لا يجعل في قلبك اعتراض


   قد سمعنا بجماعة من الصالحين عاملوا الله عز وجل على طريق السلامة و المحبة و اللطف فعاملهم كذلك ، لأنهم لا يحتمل طبعهم غير ذلك .
   
ففي الأوائل برخ العابد خرج يستسقي فقال : مناجياً الله ما هذا الذي لا نعرفه منك .
   
اسقنا الساعة ، فسقوا .
   
و في الصحابة أنس بن النضر يقول : و الله لا تكسر سن الربيع ، فجرى الأمر كما قال : فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من عباد الله من لو قسم على الله لأبره
   
و هؤلاء قوم غلب عليهم ملاحظة اللطف و الرفق ، فلطف بهم ، و أجروا على ما أعتقدوا .
   
و هناك أعلى من هؤلاء يسألون فلا يجابون ، و هم بالمنع راضون .
   
ليس لأحدهم انبساط ، بل قد قيدهم الخوف ، و نكس رؤوسهم الحذر ، و لم يروا ألسنتهم أهلاً للانبساط ، فغاية آمالهم العفو .
   
فإن انبسط أحدهم بسؤال فلم ير الإجابة عاد على نفسه بالتوبيخ ، فقال : مثلك لا يجاب ، و ربما قال : لعل المصلحة في منعي .
   
و هؤلاء الرجال حقاً ، الأبله الذي يرى له من الحق أن يجاب ، فإن لم يجب تذمر في باطنه ، كأنه يطلب أجرة عمله ، و كأنه قد نفع الخالق بعبادته .
   
و إنما العبد حقاً من يرضى ما يفعله الخالق .
   
فإن سأل فأجيب ، رأى ذلك فضلاً .
   
و إن منع رأى تصرف مالك ، فلم يجعل في قلبه إعتراض بحال .

 

·       فصل : الله يغفر للجاهل قبل العالم


   رأيت جماعة من العلماء يتفسحون و يظنون أن العلم يدفع عنهم ، و ما يدرون أن العلم خصمهم ، و أنه يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب .
   
و ذاك لأن الجاهل لم يتعرض بالحق ، و العالم لم يتأدب معه .
   
و رأيت بعض القوم يقول : أنا قد ألقيت منجلي بين الحصادين و نمت . ثم كان يتفسح في أشياء لا تجوز .
   
فتفكرت فإذا العلم الذي هو معرفة الحقائق ، و النظر في سير القدماء ، و التأدب بآداب القوم ، و معرفة الحق و ما يجب له ، ليس عند القوم .
   
و إنما عندهم صور ألفاظ يعرفون بها ما يحل و ما يحرم ، و ليس ذلك . العلم النافع .
   
إنما العلم فهم الأصول و معرفة المعبود و عظمته و ما يستحقه ، و النظر في سير الرسول صلى الله عليه و سلم و صحابته ، و التأدب بآدابهم ، و فهم ما نقل عنهم ، هو العلم النافع الذي يدع أعظم العلماء أحقر عند نفسه من أجهل الجهال و رأيت بعض من تعبد مدة ثم فتر ، فبلغني أنه قال : قد عبدته عبادة ما عبده بها أحد ، و الآن قد ضعفت .
   
فقلت : ما أخوفني أن تكون كلمته هذه سبباً لرد الكل .
   
لأنه قد رأى أنه عمل مع الحق شيئاً ، و إنما وقف يسأل النجاة بطلب الدرجات ، ففي حق نفسه فعل .
   
و ما مثله إلا كمثل من وقف يكدي ، فما ينبغي أن يمن على المعطي .
   
و إنما سبب هذا الإنبساط الجهل بالحقائق ، و أين هو من كبار العلماء المعاملة الذين كان فيهم مثل صلة بن أشيم إذا رآه السبع هرب منه و هو يقول إذا انقضى الليل عند صلاته : يا رب أجرني من النار . أو مثلي يسأل الجنة ؟ .
   
و أبلغ من ذا قول عمر : وددت أن أنجو كفافاً لا لي و لا علي .
   
و قول سفيان عند موته لحماد بن سلمة : [ أترجو لمثلي أن ينجو من النار ] ؟ . و قول أحمد : لا بعد .
   
فأنا أحمد الله عز وجل إذا تخلصت من جهل المتسمين بالعلم من هؤلاء الذين ذممتهم . و بالزهد من هؤلاء الذين عبتهم ، فإن قد اطلعت من عظمة الخالق و سير المحققين على ما يخرس لسان الإنبساط ، و يمحو النظر إلى كل فعل .
   
و كيف أنظر إلى فعلي المستحسن ، و هو الذي وهبه لي و أطلعني على ما خفى عن غيري .
   
فهل حصل ذلك بي أو بلطفه ؟ و كيف أشكر توفيقي الشكر !
   
ثم أي عالم إذا سبر أمور العلماء من القدماء لا يحتقر نفسه ؟
   
هذا في صورة العلم ، فدع معناه .
   
و أي عابد يسمع بالعباد و لا يجري في صورة التعبد ، فدع المعنى .
   
نسأل الله عز وجل معرفة تعرفنا أقدارنا ، حتى لا يبقى للعجب بمحتقر ما عندنا أثر في قلوبنا . و ترغب إليه في معرفة لعظمته تخرس الألسن أن تنطق بالإذلال .
   
و نرجو من فضله توفيقاً نلاحظ به آفات الأعمال التي بها نزهو حتى تثمر الملاحظة لعيوبها الخجل من وجودها ، إنه قريب مجيب .

 

·       فصل : و إن الآخرة هي دار القرار


   سبب تنغيص العيش فوات الحظوظ العاجلة . و ليس في الدنيا طيب عيش على الدوام إلا للعارف الذي شغله رضى حبيبه و التزود للرحيل إليه .
   
فإنه إن وجد راحة في الدنيا استعان بها على طلب الآخرة .
   
وإن وجد شدة اغتنم الصبر عليها لثواب الآخرة ، فهو راض بكل ما يجري عليه .
   
يرى ذلك من قضاء الخالق ، و يعلم أنه مراده ، كما قال قائلهم :
   
إن كان رضاكم في سهري       فسلام الله على و سني
   
فأما من طلب حظه فإنه يقلق لفوات مراده ، و يتنغص لبعد ما يشتهي . فلو إفتقر تغير قلبه ، و لو ذلك تغير ، و هذا لأنه قائم مع غرضه و هواه .
   
و ما أحسن قول الحصري : إيش علي مني ، و إيش لي في ؟
   
و هذا كلام عارف ، لأنه إن كان ينظر إلى حقيقة الملكية ، فعبد يتصرف فيه مولاه .
   
فاعتراضه لا وجه له ، و إرادته أن يقع ما يجب فضول في البين .
   
و إن نظر أن النفس كالملك له فقد خرجت عن يده من يوم إن الله اشترى .
   
أفيحسن لمن باع شاة أن يغضب على المشتري إذا ذبحها أو يتغير قلبه ؟
   
و الله لو قال المالك سبحانه : إنما خلقتكم ليستدل على وجودي ، ثم أنا أفنيكم و لا إعادة .
   
لكان يجب على النفوس العارفة به أن تقول سمعاً لما قلت و طاعة .
   
و أي شيء لنا فينا حتى نتكلم .
   
فكيف و قد وعد بالأجر الجزيل ، و الخلود في النعيم ، الذي لا ينفد . لكن طريق الوصول تحتاج إلى صبر على المشقة و ما يبقى لتعب رمل زرود أثر إذا لاح الحرم .
   
فالصبر الصبر يا أقدام المبتدئين ، لاح المنزل . و السرور يا متوسطين ، ضرب الخيم . و الفرح الكامل يا عارفين ، قد تلقيتم بالبشائر .
   
زالت و الله أثقال المعاملات عنكم ، فكانت معرفتكم بالمبتلي حلاوة أعقبت شربة المجاهدة ، فلم يبق في الفم للمر أثر .
   
تخايلوا قرب المناجاة و لذة الحضور . و دوار كؤوس الرضى عنكم فقد أخذت شمس الدنيا في الأفوال :
   
ما بيننا له إلا تصر       م هذه السبع البواقي
   
حتى يطول حديثنا      بصنوف ما كنا نلاقي

 

·       فصل : الدنيا لم تخلق للتنعيم


   
تفكرت في قول شيبان الراعي لسفيان : يا سفيان عد منع الله إياك عطاء منة لك ، فإنه لم يمنعك بخلاً ، إنما منعك لطفاً . فرأيته كلام من قد عرف الحقائق .
   
فإن الإنسان قد يريد المستحسنات الفائقات فلا يقدر و عجزه أصلح له ، لأنه لو قدر عليهن تشتت قلبه ، إما بحفظهن ، أو بالكسب عليهن .
   
فإن قوي عشقه لهن ضاع عمره و انقلب هم الآخرة إلى الإهتمام بهن . فإن لم يردنه فذاك الهلاك الأكبر . و إن طلبن نفقة لم يطقها كان سبب ذهاب مروءته و هلاك عرضه . و إن أردن الوطء و هو عاجز فربما أهلكنه أو فجرن . و إن مات معشوقه هلك هو أسفاً . فالذي يطلب الفائق ، يطلب سكيناً لذبحه و ما يعلم .
   
و كذلك إنقاذ قدر القوت فإنه نعمة ، و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً .
   
و متى كثر تشتت الهمم ، فالعاقل من علم أن الدنيا لم تخلق للتنعيم ، فقنع بدفع الوقت على كل حال .

 

·       فصل : افتح عين الفكر في ضوء العبر


   
رأيت جماعة من الخلق يتعللون بالأقدار ، فيقول قائلهم : إن وقفت فعلت ، و هذا تعلل بادر ، و دفع للأمر بالراح .
   
و هو يشير إلى رد أقوال الأنبياء و الشرائع جميعها .
   
فإنه لو قال كافر للرسول : إن وفقتني أسلمت . لم يجبه إلا بضرب العنق .
   
و هذا جنس قول الناس لعلي رضي الله عنه : ندعوك إلى كتاب الله ، فقال : كلمة حق أريد بها باطل .
   
و كذلك قول الممتنعين عن الصدقة أنطعم من لو يشاء الله أطعمه .
   
و لعمري إن التوفيق أصل الفعل ، و لكن التوفيق أرم خفي . و الخطاب بالفعل أمر جلي .
   
فلا ينبغي أن يتشاغل عن الجلي بذكر الخفي .
   
و مما يقطع هذا الإحتجاج أن يقال لهذا القائل : إن الله سبحانه لم يكلفك شيئاً إلا و عندك أدوات ذلك الفعل ، و لك قدرة عليه .
   
فإن كانت القدرة عليه معدومة و الأدوات غير محلصة فلا أمر و لا تكليف ، و إن كنت تسعى بتلك الأدوات في تحصيل غرضك و هوالك ، فاسع بها في إقامة مفروضك .
   
مثل ذلك : أنك تسافر في طلب الربح ، و تسأل الحج فلا تفعل ، و يثقل عليك الإنتباه بالليل . فلو أردت الخروج إلى العيد انتبهت سحراً .
   
و تقف في بعض أغراضك مع صديق تحادثت ساعات ، فإذا وقفت في الصلاة استعجلت و ثقل عليك .
   
فإياك إياك أن تتعلق بأمر لا حجة لك فيه . ثم من نصيبك ينقص ، و من حظك يضيع ، فإنما تحرك لك ، و إنما تحرض لنفعك ، فبار فإنك مبادر بك .
   
و مما يزيل كسلك ـ إن تأملته ـ أن تتخايل ثواب المجتهدين و قد فاتك .
   
و يكفي ذلك في توبيخ المقصر إن كانت له نفس . فأما الميت الهمة ، فما لجرح بميت إيلام .
   
كيف بك إذا قمت من قبرك و قد قربت نجائب النجاة لأقوام و تعثرت ، و أسرعت أقدام الصالحين على الصراط و تخبطت ؟
   
هيهات ، ذهبت حلاوة البطالة ، و بقيت مرارة الأسف ، و نضب ماء كأس الكسل ، و بقي رسوب الندامة !
   
ما قدر البقاء في الدنيا بالإضافة إلى دوام الآخرة ؟
   
ثم ما قدر عمرك في الدنيا و نصفه نوم ، و باقية غفلة ؟
   
فيا خاطباً حرر الجنة و هو لا يملك فلساً من عزيمة ، افتح عين الفكر في ضوء العبر ، لعلك تبصر مواقع خطابك .
   
فإن رأيت تثبيطاً من الباطن فاستغث بعون اللطف ، و تنبه في الأسحار لعلك تتلمح ركب الأرباح ، و تعلق على قطار المستغفرين و لو خطوات ، و انزل في رباع المجتهدين و لو منزلاً أي منزل .

 

·       فصل : بدع أدخلت على الدين


   
نظرت في قول أبي الدرداء رضي الله عنه : ما أعرف شيئاً مما كنا عليه اليوم إلا القبلة .
   
فقلت : و اعجباً ، كيف لو رآنا اليوم و ما معنا من الشريعة إلا الرسم ؟
   
الشريعة هي الطريق . و إنما تعرف شريعة رسول الله صلى الله عليه و سلم إما بأفعاله أو أقواله .
   
و سبب الانحراف عن طريقه صلى الله عليه و سلم : إما الجهل بها ، فيجري الإنسان مع الطبق و العادات ، و ربما اتخذ ما يضاد الشريعة طريقاً ، و قد كانت الصحابة شاهدته و سمعت منه فقل أن ينحرف أحد منهم عن جادته إلا أن أبا الدرداء رضي الله عنه رأى بعض الإنحراف لميل الطباع فضج فإنه قد يعرف الإنسان الصواب ، غير أن طبعه يميل عنه .
   
و ما زالت الأحاديث المنقولة عن الرسول صلى الله عليه و سلم و أصحابه رضي الله عنهم يقل الإسعاد بها و النظر فيها إلى أن أعرض عنها بالكلية في زماننا هذا وجهلت إلا النادر ، و اتخذت طرائق تضاد الشريعة ، و صارت عادات ، و كانت أسهل عند الخلق من اتباع الشريعة .
   
و إذا كان عامة من ينسب إلى العلم قد أعراض عن علوم الشريعة فكيف العوام ؟ و لما أعرض كثير من العلماء عن المنقولات ابتدعوا في الأصول و الفروع .
   
فالأصوليون تشاغلوا بالكلام و أخذوه من الفلاسفة و علماء المنطق .
   
و دخلت أيدي الفروعيين في ذلك فتشاغلوا بالجدل ، و تركوا الحديث الذي يدور عليه الحكم .
   
ثم رأى القصاص أن النفاق بالنفاق ، فأقبل قوم منهم على التلبيس بالزهد ، و مقصودهم الدنيا .
   
و رأى جمهورهم أن القلوب تميل إلى الأغاني ، فأحضروا المطربين من القراء و أنشدوا أشعار الغزل ، و تركوا الإشتغال بالحديث ، و لم يلتفتوا إلى نهي العوام عن الربا و الزنا ، و أمرهم بأداء الواجبات .
   
و صار متكلمهم يقطع المجلس بذكر ليلى و المجنون و الطور و موسى و أبي يزيد و الحلاج ، و الهذيان الذي لا محصول له .
   
و انفرد أقوام بالتزهد و الانقطاع ، فامتنعوا عن عيادة المرضى ، و المشي بين الناس ، وأظهروا التخاشع ، و وضعوا كتباً للرياضيات ، و التقلل من الطعام . و صارت الشريعة عندهم كلام أبي يزيد و الشبلي و المتصوفة .
   
و معلوم أن من سبر الشريعة لم ير فيها من ذاك شيئاً .
   
أما الأمراء فجروا مع العادات ، و سموا ما يفعلونه من القتل و القطع سياسات لم يعملوا فيها بمقتضى الشريعة ، و تبع الأخير في ذلك المتقدم .
   
فأين الشريعة المحمدية ؟ و من أين تعرف مع الإعراض عن المنقولات ؟
   
نسأل الله عز وجل التوفيق للقيام بالشريعة ، و الإعانة على رد البدع إنه قادر .

 

·       فصل : ليس في الدنيا حقيقة لذة


   
كنت أسمع علي بن الحسين الواعظ يقول على المنبر : [ و الله لقد بكيت البارحة من يدي نفسي ] .
   
فبقيت أنا أتفكر و أقول : أي شيء قد فعلت نفس هذا حتى يبكي ؟
   
هذا رجل متنعم له الجواري التركيات . و قد بلغني أنه تزوج في السر بجملة من النساء و لا يطعم إلا الغاية من الدجاج و الحلوى .
   
و له الدخل الكثير ، و المال الوافر ، و الجاه العريض و الأفضال على الناس .
   
و قد حصل طرفاً من العلم ، و استعبد كثيراً من العلماء بمعروفه ، و راحته دائمة الندى . فما الذي يبكيه ؟
   
فتفكرت فعلمت أن النفس لا تقف عند حد بل تروم من اللذات ما لا منتهى له ، كلما حصل لها غرض برد عندها و طلبت سواه ، فيفنى العمر ، و يضعف البدن ، و يقع النقص ، و يرق الجاه ، و لا يحصل المراد .
   
و ليس في الدنيا أبله ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا ، و ليس في الدنيا ، على الحقيقة لذة ، إنما هي راحة من مؤلم .
   
فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية فمال إليها و مالت إليه ، و علم سترها و دينها ، أن يعقد الخنصر على صحبتها .
   
و أكثر أسباب دوام محبتها ألا يطلق بصره ، فمتى أطلق بصره أو أطمع نفسه في غيرها ، فإن الطمع في الجديد ينغص الخلق و ينقص المخالطة ، و يستر عيوب الخارج ، فتميل النفس إلى المشاهد الغريب ، و يتكدر العيش مع الحاضر القريب ، كما قال الشاعر :
   
و المرء ما دام ذا عين يقلبها       في أعين الحور موقوف على الخطر
   
يسر مقلته ما ضر مهجته       لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
   
ثم تصير الثانية كالأولى ، و تطلب النفس ثالثة و ليس لهذا آخر ، بل الغض عن المشتهيات ، و يأس النفوس من طلب المستحسنات ، يطيب العيش مع المعاشر .
   
و من لم يقبل هذا النصح تعثر في طرق الهوى و هلك على البارد ، و ربما سعى لنفسه في الهلاك العاجل ، أو في العار الحاضر ، فإن كثيراً من المستحسنات لسن بصينات و لا يفي التمتع بهن بالعار الحاصل .
   
و منهن المبذرات في المال ، و منهن المبغضة للزوج و هو يحبها كعابد صنم .
   
و أبله البله الشيخ الذي يطلب صبيه ... و لعمري إن كمال المتعة إنما يكون بالصبا ، كما قال القائل :
   
فقلت بنفسي النساء الصغار
   
و متى تكن الصبية بالغة لم يكمل الاستمتاع ، فإذا بلغت أرادت كثرة الجماع ، و الشيخ لا يقدر .
   
فإن حمل على نفسه لم يبلغ مرادها ، و هلك سريعاً .
   
و لا ينبغي أن يغتر بشهوته الجماع ، فإن شهوته كالفجر الكاذب .
   
و قد رأينا شيخنا اشترى جارية فبات معها فانقلب عنها ميتاً .
   
و كان في المارستان شاب قد بقى شهرين بالقيام ، فدخلت عليه زوجته فوطئها فانقلب عنها ميتاً .
   
فبان أن النفس باقية بما عندها من الدم ، و المنى ، فإذا فرغا و لم تجد ما تعتمد عليه ذهبت .
   
و إن قنع الشيخ بالاستمتاع من غير وطء فهي لا تقنع فتصير كالعدو له .
   
فربما غلبها الهوى ففجرت أو احتالت على قتله ، خصوصاً الجواري اللواتي أغلبهن قد جئن من بلاد الشرك ، ففيهن قسوة القلب .
   
و قبيح بمن عبر الستين أن يتعرض بكثرة النساء ، فإن اتفق معه صاحبة دين قبل ذلك فليرع لها معاشرتها و ليتم نقصه عندها تارة بالإنفاق ، و تارة بحسن الخلق .
   
و ليزد في تعريفها أحوال الصالحات و الزهدات ، و ليكثر من ذكر القيامة و ذم الدنيا و ليعرض بذكر محبة العرب ، فإنهم كانوا يعشقون و لا يرون وطء المعشوق ، كما قال قائلهم :
   
إنما الحب قبلة       و غمز كف و عضد
   
إنما العشق هكذا       إن نكبح الحب فسد
   
فإن قدر أن يشغلها بحمل ، أو ولد عرقلها به ، فاستبقى قوته في مدة اشتغالتها بذلك .
   
فإن وطىء فليصبر عن الإنزال حفظاً لقوته و قضاء لحقها .
   
و قد قيل لبشر : لم لم تتزوج ؟ فقال : على ماذا أغر مسلمة ، و قد قال الله عز وجل : و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف .
   
و المسكين من دخل في أمر لم يتلمح عواقبه قبل الدخول ، و رأى حبة الفخ فبادر طالباً لها ناسياً تعرقل الجناح و الذبح .
   
مجموع ما قد بسطته حفظ البصر عن الإطلاق ، و يأس النفس عن التحصيل ، قنوعاً بالحاصل ، خصوصاً من قد علت سنه ، و علم أن الصبية عدوة له متمنية هلاكه ، و هو يربيها لغيره .
   
و في بعض ما ذكرته ما يردع العاقل عن التعرض لهذه الآفات . نسأل الله عز وجل توفيقاً من فضله و عملاً بمقتضى العقل و الشرع ، إنه مجيب قريب .

 

·       فصل : لا تغتر بالسلامة و انشد الإصلاح

 
   أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة ، و تأميله الإصلاح فيما بعد و ليس لهذا الأمل منهى ، و لا للاغترار حد .
   
فكلما أصبح و أمسى معافى ، زاد الاغترار و طال الأمل .
   
و أي موعظة أبلغ من أن ترى ديار الأقران و أحوال الإخوان و قبور المحبوبين ، فتعلم أنك بعد أيام مثلهم ، ثم لا يقع انتباه حتى ينتبه الغير بك ، هذا و الله شأن الحمقى .
   
حاشا من له عقل أن يسلك هذا المسلك .
   
بلى و الله إن العاقل ليبادر السلامة ، فيدخر من زمنها للزمن ، و يتزود عند القدرة على الزاد لوقت العسرة .
   
خصوصاً لمن قد علم أن مراتب الآخرة إنما تعلو بمقدار علو العمل لها ، و أن التدارك بعد الفوت لا يمكن .
   
و قدر أن العاصي عفى عنه ، أينال مراتب العمال ؟
   
و من أجال على خاطرة ذكر الجنة التي لا موت فيها و لا مرض و لا نوم و لا غم ، بل لذاتها متصلة من غير انقطاع ، و زيادتها على قدر زيادة الجد ههنا ، انتهب هذا الزمان فلم ينم إلا ضرورة ، و لم يغفل عن عمارة لحظة .
   
و من رأى أن ذنباً قد مضت لذته و بقيت آفاته دائمة ، كفاه ذلك زاجراً عن مثله ، خصوصاً الذنوب التي تتصل آثارها مثل أن يزني بذات زوج ، فتحمل منه فتلحق بالزوج فيمنع الميراث أهله و يأخذ من ليس من أهل ، و تتغير الأنساب و الفرش ، و يتصل ذلك أبداً ، و كله شؤم لحظة .
   
فنسأل الله عز وجل توفيقاً يلهم الرشادة ، و يمنع الفساد ، إنه قريب مجيب .

 

·       فصل : قياس الغائبات على الحاضر تخليط للعقيدة

 
   
تأملت سبب تخليط العقائد ، فإذا هو الميل إلى الحس و قياس الغائبات على الحاضر فإن أقواماً غلب عليهم الحس ، فلما لم يشاهدوا الصانع جحدوا وجوده و نسوا أنه قد ظهر بأفعاله . و أن هذه الأفعال لا بد لها من فاعل .
   
فإن العاقل إذا مر على صحراء خالية ثم عاد و فيها غرس و بناء علم أنه لا بد من غارس ، إذ الغرس لا يكون و لا البناء .
   
ثم جاء قوم فأثبتوا وجود الصانع ، ثم قاسوه على أحوالهم فشبهوا ، حتى إن قائلهم يقول : في قوله : ينزل إلى السماء : ينتقل ، و يستدل بأن العرب لا تعرف النزول إلا الانتقال .
   
و ضل خلق كثير في صفاته كما ضل خلق في ذاته . فظن أقوام أنه يتأثر حين سمعوا أنه يغضب و يرضى و نسوا أن صفته تعالى قديمة لا يحدث منها شيء .
   
و ضل خلق في أفعاله فأخذوا يعللون فلم يقنعوا بشيء فخرج منهم قوم إلى أن نسبوا فعله إلى ضد الحكمة ، تعالى عن ذلك .
   
و من رزق التوفيق فليحضر قلبه لما أقول :
   
إعلم أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات ، و صفاته ليست كالصفات ، و أفعاله لا تقاس بأفعال الخلق .
   
أما ذاته سبحانه فإنا لا نعرف ذاتاً إلا أن تكون جسماً و ذاك يستدعي سابقة تأليف ، و هو منزه عن ذلك ، لأنه للمؤلف ، أو أن يكون جوهراً فالجوهر متحيز ، و له أمثال ، و قد جل عن ذلك ، أو عرضاً ، فالعرض لا يقوم بنفسه بل بغيره ، و قد تعالى على ذلك .
   
فإذا أثبتنا ذاتاً قديمة خارجة عما يعرف ، فليعلم أن الصفات تابعة لتلك الذات ، فلا يجوز لنا أن نقيس شيئاً منها على ما نفعله و نفهمه ، بل نؤمن به و نسلم به .
   
و كذلك أفعاله ، فإن أحدنا لو فعل فعلاً لا يجتلب به نفعاً و لا يدفع عنه ضراً عد عابثاً . و هو سبحانه أوجد الخلق لا لنفع يعود إليه ، و لا لرفع ضر ، إذ المنافع لا تصل إليه ، و المضار لا تتطرق عليه .
   
فإن قال قائل : إنما خلق الخلق لينفعهم . قلنا : يبطله ، أنه خلق خلقاً منهم للكفر و عذبهم و نراه يؤلم الحيوان و الأطفال و هو قادر على ألا يفعل ذلك .
   
فإن قال قائل : إنه يثيب على ذلك .
   
قلنا : و هو قادر أن يثيب بلا هذه الأشياء ، فإن السلطان لو أراد أن يغني فقيراً فجرحه ثم أغناه ليم على ذلك ، لأنه قادر أنه يغنيه بلا جراح .
   
ثم من يرى ما جرى لرسول الله صلى الله عليه و سلم و على أصحابه من الجوع و القتل مع قدرة الناصر ، ثم يسأل في أمه فلا يجاب ، و لو كان المسؤول بعضنا قلنا لم تمنع ما لا يضرك .
   
غير أن الحق سبحانه لا تقاس أفعاله على أفعالنا و لا تعلل .
   
الذي يوجب علينا التسليم ، أن حكمته فوق العقل ، فهي تقضي على العقول ، و العقول لا تقضي عليها .
   
و من قاس فعله على أفعالنا غلط الغلط الفاحش ، وإنما هلكت المعتزلة من هذا الفن .
   
فإنهم قالوا : كيف يأمر بشيء و يقضي بامتناعه ؟ و لو أن إنساناً دعانا إلى داره ثم أقام من يصد الداخل لعيب .
   
و لقد صدقوا فيما يتلعق بالشاهد . فأمل من أفعاله لا تعلل و لا تقاس بشاهد ، فإنا لا نصل إلى معركة حكمته .
   
فإن قال قائل : فكيف يمكنني أن أقود عقلي إلى ما ينافيه ؟
   
قلنا : لا منافاة ، لأن العقل قد قطع بالدليل الجلي أنه حكيم ، و أنه مالك ، و الحكيم لا يفعل شيئاً إلا لحكمة ، غير أن تلك الحكمة ، لا يبلغها العقل .
   
ألا ترى أن الخضر خرق سفينة و قتل شخصاً ، فأنكر عليه موسى عليهما السلام بحكم العلم ، و لم يطلع على حكمه فعله، فلما أزهر له الحكمة أذعن ؟
   
و لله المثل الأعلى .
   
فإياك أن تقيس من أفعاله شيئاً من أفعاله على أفعال الخلق ، أو شيئاً من صفاته سبحانه و تعالى . فإنك إن حفظت هذا سلمت من التشبيه الذي وقع فيه من رأى الاستواء اعتماداً ، و النزول نقله ، و نجوت من الاعتراض الذي أخرج قوماً إلى الكفر حتى طعنوا في الحكمة .
   
و أول القوم إبليس . فإنه رأى تقديم الطين على النار ليس بحكمة، فنسى أنه إنما علم ذلك بزعمه بالفهم الذي وهب له ، و العقل الذي منحه فنسى أن الواهب أعلم أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة .
   
و لقد رأيت لابن الرومي اعتراضاً على من يقول بتخليد الكفار في النار قال : إن ذلك التأبيد مزيداً من الإنتقام ينكره العقل ، و ينبغي أن يقبل كل ما يقوله العقل ، و لا يرد بعضه إذ ليس رد بعضه بأولى من رد الكل ، و تخليد الكفار لا غرض فيه للمعذب و لا للمعذب فلا يجوز أن يكون .
   
فقلت : العجب من الذي يدعي وجود العقل و لا عقل عنده .
   
و أول ما أقول له : أصح عندك الخبر عن الخالق سبحانه أنه أخبر بخلود أهل النار أم لم يصح ؟
   
فإن كان ما صح عنه فالكلام إذن في إثبات النبوة و صحة القرآن .
   
فما وجه ذكر الفرع مع جحد الأصل ؟
   
و إن قال : قد ثبت عندي ، فواجب عليه أن يتمهل لإقامة العذر ، لا أن يقف في وجه المعارضة .
   
و إنما ينكر هذا من يأخذ الأمر من الشاهد ، و قد بينا أن ذات الحق لا كالذوات ، و أن صفته لا كالصفات ، و أن أفعاله لا تعلل .
   
و لو تلمح شيئاً من التعليل لخلود الكفار لبان ، إذ من الجائز أن يكون دوام تعذيبهم فظهار صدق الوعيد . فإنه قال : من كفر بي خلدته في العذاب و لا جناية كالكفر ، و لا عقوبة كدوام الإحتراق ، فهو يدوم ليظهر صدق الوعيد .
   
و من الجائز أن يكون ذلك لتتمة تنعيم المؤمنين فإنهم أعداء الكفار . و قد قال سبحانه : و يشف صدور قوم مؤمنين .
   
وكم من قلق في صدر ، و حنق على أبي جهل فيما فعل ، و كم من غم في قلب عمار و أمه سمية و غيرهم من أفعال الكفار بهم . فدوام عذابهم شفاء لقلوب أهل الإيمان .
   
ومن الجائز أن يدوم العذاب لدوام الاعتراض و ذكر المعذب بما لا يحسن فكلما زاد عذابهم زاد كفرهم و اعتراضهم فهم يعذبون لذلك .
   
و دليل كفرهم فيحلفون له كما يحلفون لكم فإذن كفرهم ما زال ، و معرفتهم به ما حصلت ، والشر كامن في البواطن ، و على ذلك يقع التعذيب و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه .

 

·       فصل : الرضى بتدبير الله


   
ينبغي للمؤمن بالله سبحانه إذا نظر في الفصل الذي قد تقدم هذا ألا يعترض على الله سبحانه في شيء لا في باطنه و لا في ظاهره ، و لا يطلب تعليلات أفعاله كلها .
   
فإن المتكليمن أعرضوا عن السنن و تكلموا بآرائهم ، فما صفى لهم شرب ، بدليل إختلافهم .
   
وكذلك إضمار القياس ، فإنهم لما أعلموه جاءت أحاديث تفكر عليهم .
   
و الصواب التعليل لما يمكن ، و التسليم لما يخفى .
   
و كذلك سؤال الحق سبحانه ، فإذا دعاه المؤمن و لم ير إجابة سلم و فوض و تأول للمنع .
   
فيقول : ربما يكون المنع أصلح ، و ربما يكون لأجل ذنوبي ، و ربما يكون التأخير أولى ، و ربما لم يكن هذا مصلحة .
   
و إذا لم يجد تاويلاً لم يختلج في باطنه نوع اعتراض ، بل يرى أنه قد تعبد بالدعاء فإن أنعم عليه فيفضلن و إن لم يحب فمالك يفعل ما يشاء .
   
على أن أكثر السؤال إنما يقع في طلب أغراض الدنيا التي إذا ردت كان أصلح .
   
فليكن هم العاقل في إقامة حق الحق و الرضى بتدبير و إن أساء . فمتى أقبلت عليه أقبل على إصلاح شأنك .
   
إذا عرفت أنه كريم فلذ به و لا تسأل . و متى أقبلت على طاعاته فمحال أن يجود صانع و ينصح في العمل ثم لا يعطي الأجرة .

 

·       فصل : الجنة و درجاتها

 
   
و الله إني لأتخايل دخول الجنة و دوام الإقامة فيها من غير مرض و لا بصاق و لا نوم و لا آفة تطرأ بل صحة دائمة و أغراض متصلة لا يعترضها منغص ، في نعيم متجدد في كل لحظة ، إلى زيادة لا تتناهى . فأطيش و يكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك ، لو لا أن الشرع قد ضمنه .
   
معلوم أن تلك المنازل إنما تكون على قدر الإجتهاد ههنا . فوا عجباً من مضيع لحظة فيها .
   
فتسبيحه تغرس له في الجنة نخلة أكلها دائم و ظلها .
   
فيا أيها الخائف من فوت ذلك شجع قلبك بالرجاء .
   
و يا أيها المنزعج لذكر الموت تلمح ما بعد مرارة الشربة من العافية .
   
فإنه من ساعة خروج الروح ، لا بل قبل خروجها تنكشف المنازل لأصحابها فيكون سير المجذوب للذة المنتقل إليه .
   
ثم الأرواح في حواصل طير تعلق في أشجار الجنة .
   
فكل الآفات و المخالفات في نهار الأجل ، و قد إصفرت شمس العمر . فالبدار البدار قبل الغروب و لا معين يرافق على تلك الطريق إلا الفكر إذا جلس مع العقل فتذاكرا العواقب .
   
فإذا فرغ ذلك المجلس ، فالنظر في سير المجدين فإنه يعود مستجلباً للفكر منها للفضائل ، و التوفيق من وراء ذلك .
   
و متى أراك لشيء هيأك له .
   
فأما مخالطة الذين ليس عندهم خبر إلا من العاجلة فهو من أكبر أسباب مرض الفهم و علل العقل . و العزلة عن الشر حمية ، و الحمية سبب العافية .

 

·       فصل : لا يجتمع حب الدنيا و حب الآخرة


   
رأيت سبب الهموم و الغموم الإعراض عن الله عز وجل ، و الإقبال على الدنيا .
   
و كلما فات منها شيء وقع الغم لفواته .
   
فأما من رزق معرفة الله تعالى استراح لأنه يستغني بالرضى بالقضاء ، فمهما قدر له رضي .
   
و إن دعا فلم ير أثر الإجابة لم يختلج في قلبه اعتراض ، لأنه مملوك مدبر فتكون همته في خدمة الخالق .
   
و من هذه صفته لا يؤثر جمع مال ، و لا مخالطة الخلق و لا الإلتذاذ بالشهوات .
   
لأنه إما أن يكون مقصراً في المعرفة فهو مقبل على التعبد المحض ، يزهد في الفاني لينال الباقي .
   
و إما أن يكون له ذوق في المعرفة ، فإنه مشغول عن الكل بصاحب الكل .
   
فتراه متأدباً في الخلوة به ، مستأنساً بمناجاته ، مستوحشاً من مخالطة خلقه راضياً بما يقدر له . فعيشه معه كعيش محب قد خلا بحبيبه ، لا يريد سواه ، و لا يهتم بغيره .
   
فأما من لم يرزق هذه الأشياء ، فإنه لا يزال في تنغيص متكدر العيش ،لأن الذي يطبه من الدنيا لا يقدر عليه ، فيبقى أبداً في الحسرات مع ما يفوته من الآخرة بسوء المعاملة .
   
نسأل الله عز وجل أن يستصلحنا له ، فإنه لا حول و لا قوة إلا به .

 

·       فصل : ما العيش إلا في الجنة


   
تفكرت في نفسي فرأيتني مفلساً من كل شيء !
   
إن إعتمدت الزوجة لم تكن كما أريد . إن حسنت صورتها لم تكمل أخلاقها ، و إن تمت أخلاقها كانت مريدة لعرضها لا لي ، و لعلها تنتظر رحيلي .
   
و إن اعتمدت على الولد فكذلك ، و الخادم ، و المريد لي كذلك ، فإن لم يكن لهما مني فائدة لم يرداني .
   
و أما الصديق فليس ثم ، و أخ في الله كعنقاء مغرب ، و معارف يفقدون أهل الخير ، و يعتقدون فيهم قد عدموا ، و بقيت وحدي .
   
و عدت إلى نفسي ـ و هي لا تصفو إلي أيضاً و لا تقيم على حالة سليمة ـ فلم يبق إلا الخالق سبحانه ، فرأيت أني إن إعتمدت على إنعامه فما آمن ذلك البلاء ، و إن رجوت عفوه فما آمن عقوبته ، فوا أسفاً لا طمأنينة و لا قرار .
   
و آقلقي من قلقي ، و آحرقي من حرقي .
   
بالله ما العيش إلا في الجنة ، حيث يقع اليقين بالرضى ، و المعاشرة لمن لا يخون و لا يؤذي . فأما الدنيا فما هي دار ذاك .

 

·       فصل : لا تثق بمودة لا أصل لها

 
   
ينبغي لمن صحب سلطاناً أو محتشماً أن يكون ظاهره معه و باطنه سواه ، فإنه قد يدس إليه من يخبره ، فربما افتضح في الابتلاء .
   
و قد كان جماعة من الملوك يقصدون تقريب المنادم ، و يجعلون له حجرة في دورهم ، فإذا أرادوا أن يختصوه اختبروه باطناً و ذاك لا يدري ، فيظهر منه ما لا يصلح فيطرد .
   
و لقد امتحن أبرويز رجلاً من خاصته ، فدس إليه جارية معها ألطاف ، و أمرها ألا تقعد عنده فحملها .
   
ثم أنفذها مرة أخرى و أمرها أن تقعد بعد التسليم هنيهة ففعلت ، فلاحظها
   
الرجل .
   
ثم بعثها مرة ثالثة و أمرها أن تطيل القعود عنده و تحدثه ، فأطالت الحديث معه ، فأبدى لها شيئاً من الميل إليها ، فقالت ، أخاف أن يطلع علينا ، و لكن دعني أدبر في هذا .
   
فذهبت فأخبرت الملك بذلك ، فوجه غيرها من خواص جواريه بمثل ذلك ، فلما جاءته قال : ما فعلت فلانة ؟ قالت : مريضة ، فاربد لونه .
   
ثم فعلت الجارية الثانية مثل ما فعلت الأولى ، فقالت له : إن الملك يمضي إلى بستانه فيقيم هناك .
   
فإن أرادك على أن تمضي معه فأظهر أنك عليل.
   
فإن خيرك بين الانصراف إلى دور نسائك ، أو المقام هنا ، فاختر المقام ههنا ، و أخبر أنك لا تقدر على الحركة .
   
فإن أجابك إلى ذلك جئت كل ليلة ما دام الملك غائباً ، فسكن إلى قولها ، ثم مضت و أخبرت الملك بذلك .
   
فلما كان بعد ثلاث ، إستدعاه الملك فقال : إني مريض . فعاد لرسول فأخبره فتبسم ، و قال : هذا أول الشر .
   
فوجه إليه محفة فيها إليه ، فلما بصر به أبرويز قال : و المحفة الشر الثاني .
   
فرأى العصابة على رأسه . قال : و العصابة الشر الثالث .
   
فقال له الملك : أيهما أحب إليك ، الانصراف إلى نسائك ليمرضنك أو المقام ههنا إلى وقت رجوعي ؟ قال : المقام ههنا أرفق لي لقلة الحركة ، فتبسم و قال : حركتك ههنا إن تركت أكثر من حركتك إلى منزلك .
   
ثم أمره له بعصا الزناة التي كان يوسم بها من زنا .
   
فأيقن الرجل بالأمر ، و أمر أن يكتب ما كان من أمره حرفاً حرفاً فيقرأ على الناس حرفاً حرفاً إذا حضروا ، و أن ينفي إلى أقصى الممكلة ، و تجعل العصا على رأس رمح يكون معه حيث كان ، ليحذر منه من لا يعرفه .
   
فلما نفي أخذ من بعض الموكلين مدية فجب بها ذكره و قال : و مات من ساعته .
   
قلت : و قد كان جماعة من الأمراء يتنكرون يسألون العوام عن سيرتهم ، فيتكلم العامي بما لا يصح فيضبطونه و ربما بعثوا دسيساً عليه .
   
و رب كلمات قالها مسترسل فبلغها فضولي فأهلكت صاحبها .
   
و رأى عمر بن عبد العزيز رجلاً من العمال كثير الصلاة ، فدس عليه من قال له : إن أخذت لك الولاية الفلانية فما تعطيني . قال : أعطيك كذا و كذا ، قال له عمر : غررتنا بصلاتك .
   
و قد بلغت أن رجلاً كلم امرأة فأجابته فإستدعيته إلى دارها فلما دخل أقامت على قتله .
   
فقد ينجلي من هذه الحكاية أنه لا ينبغي أن يسكن إلى قول امرأة أو رجل يجوز أنه يكون جاسوساً و مختبراً .
   
و كذلك لا يظهر ما ينبغي إخفاؤه من مال أو مذهب ، أو سب رجل ، فربما كان له في الحاضرين قريب .
   
و لا يوثق بمودة لا أصل لها ، فربما كانت تحتها آفة تقصده .
   
و ليحذر من كل أمر يحتمل . و رب كلمة نقلها صديق إلى صديق فتحدث بها من لا يقصد أذى للقائل فبلغت فتأذى .
   
و رب مظهر للمحبة مبالغ حتى يستمكن من مراده .
   
فالحذر الحذر من الطمأنينة إلى أحد ، خصوصاً من عدو آذيته أو قتلت له قريباً .
   
فربما أظهر الجميل شبكة لإصطيادك كحديث الزباء .

 

·       فصل : الحرص و الأمل آفتان


   رأيت النفس بعد علو السن يقوى أملها و يزداد حرصها كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : يشيب أبن آدم و تشيب منه خصلتان : الحرص و الأمل .
   
و رأيت أكثر أسباب ذلك فراغ اليد من الدنيا ، و كثرة العائلة ، قوة الحاجة .
   
فيحتاج الإنسان إلى التعرض بما يشين العرض ليحصل الغرض .
   
فقلت : إلهي أبعد رؤية جبال عرفة أضل ؟
   
و بعد مشارقة الحرم تأخذني أعراب البادية ؟ .
   
وا أسفا أيطلع فجر النحر و ما وصلت إلى عرفات ؟
   
و يا ضياع سفر العمر ، و ما حصل المقصود .
   
قد كنت أرجوك لنيل المنى       و اليوم لا أطلب إلا الرضى
   
ثم قلت : يا نفس ما لك ملجأ إلا اللجأ و استغاثة الغريق .
   
فإن رحمت و إلا فكم من حسرة تحت التراب .
   

·       فصل : اكبح جماع الرغبة

 
   
شكا لي بعض الأشياخ فقال : قد علت سني و ضعفت قوتي ، و نفسي تطلب مني شراء الجواري الصغار . و معلوم أنهن يردن النكاح و ليس في . و لا تقنع مني النفس بربة البيت إذ قد كبرت .
   
فقلت له : عندي جوابان : أحدهما الجواب العامي ، و هو أن أقول : ينبغي أن تشغل بذكر الموت و ما قد توجهت إليه ، و تحذر من اشتراه جارية لا تقدر على أيفاء حقها فإنها تبغضك ، فإن أجهدت استعجلت التلف . وإن استبقيت قوتك غضبت هي ، على أنها لا تريد شيخاً كيف كان .
   
و قد أنشدنا علي بن عبد الله ، قال : أنشدنا محمد التميمي :
   
أفق يا فؤادي من غرامك و استمع       مقالة محزون عليك شفيق
   
علقت فتاةً قلبها متعلق       بغيرك فاستوثقت غير و وثيق
   
و أصبحت موثوقاً و راحت طليقةً       فكم بين موثوق و بين طليق
   
فاعلم أنها تعد عليك الأيام ، و تطلب منك فضل المال لتستعد لغيرك .
   
و ربما قصدت حنفك ، فاحذر السلامة في الترك ، و لإقتناع بما يدفع الزمان .
   
الجواب الثاني فإني أقول : لا يخلو أن تكون قادراً على الوطء في وقت أو لا تكون .
   
فإن كنت لا تقدر فالأولى مصابرة الترك للكل . و إن كان يمكن الحازم أن يداري المرأة بالنفقة و طيب الخلق إلا أنه يخاطر .
   
و إن كنت تقدر في أوقات على ذلك ، و رأيت من نفسك توقاً شديداً فعليك بالمراهقات فإنهن ما عرفن النكاح ، و ما طلبن بالوطء ، و اغمرهن بالإنفاق و حسن الخلق مع الإحتياط عليهن ، و المنع من مخالطة النسوة .
   
و إذا اتفق وطء فتصبر عن الإنزال ريثما تقضي المرأة حاجتها .
   
و اعتمد وعظها و تذكيرها بالآخرة ، و اذكر لها حكايات العشاق من غير نكاح ، و قبح صورة الفعل ، و لفت قلبها إلى ذكر الصالحين ، و لا تخل نفسك من الطيب و التزين و الكياسة و المداراة و الإنفاق الواسع .
   
فهذا ربما حرك الناقة للمسير مع خطر السلامة .

 

·       فصل : اكبح جماع الرغبة

 
   
شكا لي بعض الأشياخ فقال : قد علت سني و ضعفت قوتي ، و نفسي تطلب مني شراء الجواري الصغار . و معلوم أنهن يردن النكاح و ليس في . و لا تقنع مني النفس بربة البيت إذ قد كبرت .
   
فقلت له : عندي جوابان : أحدهما الجواب العامي ، و هو أن أقول : ينبغي أن تشغل بذكر الموت و ما قد توجهت إليه ، و تحذر من اشتراه جارية لا تقدر على أيفاء حقها فإنها تبغضك ، فإن أجهدت استعجلت التلف . وإن استبقيت قوتك غضبت هي ، على أنها لا تريد شيخاً كيف كان .
   
و قد أنشدنا علي بن عبد الله ، قال : أنشدنا محمد التميمي :
   
أفق يا فؤادي من غرامك و استمع       مقالة محزون عليك شفيق
   
علقت فتاةً قلبها متعلق       بغيرك فاستوثقت غير و وثيق
   
و أصبحت موثوقاً و راحت طليقةً       فكم بين موثوق و بين طليق
   
فاعلم أنها تعد عليك الأيام ، و تطلب منك فضل المال لتستعد لغيرك .
   
و ربما قصدت حنفك ، فاحذر السلامة في الترك ، و لإقتناع بما يدفع الزمان .
   
الجواب الثاني فإني أقول : لا يخلو أن تكون قادراً على الوطء في وقت أو لا تكون .
   
فإن كنت لا تقدر فالأولى مصابرة الترك للكل . و إن كان يمكن الحازم أن يداري المرأة بالنفقة و طيب الخلق إلا أنه يخاطر .
   
و إن كنت تقدر في أوقات على ذلك ، و رأيت من نفسك توقاً شديداً فعليك بالمراهقات فإنهن ما عرفن النكاح ، و ما طلبن بالوطء ، و اغمرهن بالإنفاق و حسن الخلق مع الإحتياط عليهن ، و المنع من مخالطة النسوة .
   
و إذا اتفق وطء فتصبر عن الإنزال ريثما تقضي المرأة حاجتها .
   
و اعتمد وعظها و تذكيرها بالآخرة ، و اذكر لها حكايات العشاق من غير نكاح ، و قبح صورة الفعل ، و لفت قلبها إلى ذكر الصالحين ، و لا تخل نفسك من الطيب و التزين و الكياسة و المداراة و الإنفاق الواسع .
   
فهذا ربما حرك الناقة للمسير مع خطر السلامة .

 

·       فصل : الإحتراز من جائز الوقوع

 
   
أبله الناس من عمل على الحال الحاضرة ، و لم يتصور تغيرها و لا وقوع ما يجوز وقوعه .
   
مثاله أن يغتر بدولة فيعمل بمقتضى ملكه فإذا تغيرت هلك .
   
و ربما عادى خلقاً اغتراراً بأنه متسلط أو إنه صاحب سلطان ، فإذا تغيرت حاله أكل كفه ندماً عند فوات التدارك .
   
و كذلك من له مال يبذره سكوناً إلى وجود المال ، و ينسى حاله عند العدم .
   
و من يتناول الشهوات ، و يكثر من المآكل و المشارب و النكاح ثقة بعافيته ، و ينسى ما يعقب ذلك من الأمراض و الآفات .
   
و من أظرف الأحوال أن يحب جاريته فيعتقها و يهب لها ، أو امرأة فيسكن إليها و يهب لها فتتمكن ، و لا تمضي الأيام حتى يسلوها أو يطلب غيرها و لا يجد طريقاً للخلاص .
   
فإن تخلص منها أخذت منها ما غنمت منه فلقي من الغيظ أضعاف ما يلتذ به .
   
فلا ينبغي أن يوثق بإمرأة و لا بمحبة إنسان ، فإنه قد يحب إمرأة و يظن أنه لا يسلوها أبداً فيسترسل إليها و السلو يحدث .
   
و ربما أحب غيرها فينسى الأولى فيصعب عليه الخلاص من الأولى .
   
فالعاقل لا يدخل في شيء حتى يهيء الخروج منه ، فإن الأشياء لا تثبت ، و المحبة لا تدوم ، و التغير مقرون بكل حال .
   
و كذلك يعطي ماله ولده ثم يبقى كلا عليه فيتمنى الولد هلاكه ، و ربما عل به في النفقة .
   
و كذلك قد يثق بالصديق فيثبت أسراره إليه ، فربما أظهر ذلك فكان منها ما يوجب هلاكه .
   
و كذلك يغتر الإنسان بالسلامة و ينسى طروق الموت فيأتيه بغتة فيبهته و قد فات الإستدراك و لم يبق إلا الندم .
   
فالعاقل من كانت عينه مراقبة للعواقب ، محترزة مما يجوز وقوعه ، عاملة بالإحتياط في كل حال ، حافظة للمال و السر ، غير واثقة بزوجة و لا ولد و لا صديق ، متأهبة للرحيل ، متهيئة للنقلة . هذه صفة أهل الحزم .

 

·       فصل : لا تبحثوا في ذات الله

 
   
من أعجب الأمور طلب الإطلاع على تحقيق العرفان لذات الله عز وجل و صفاته و أفعاله ، و هيهات ، ليس إلا المعرفة بالجملة .
   
و لقد أوغل المتكلمون فما وقعوا بشيء ، فرجع عقلاؤهم إلى التسليم .
   
و كذلك أصحاب الرأي ، مالوا إلى القياس ، فإذا أشياء كثيرة بعكس مرادهم ، فلم يجدوا ملجأ إلا التسليم ، فسموا ما خالفهم إستحساناً .
   
فالفقيه من علل بما يمكن ، فإذا عجز إستطرح للتسليم ، هذا شأن العبيد .
   
فأما من يقول : لم فعل كذا ، و ما معنى كذا ، فإنه يطلب الإطلاع على سر الملك ، و ما يجد إلى ذلك سبيلاً لوجهين :
   
أحدهما : أن الله تعالى ستر كثيراً من حكمه عن الخلق .
   
و الثاني : أن ليس في قوى البشر إذاراك حكم الله تعالى كلها ، فلا يبقى مع المعترض سوى الإعتراض المخرج إلى الكفر فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .
   
و المعنى من رضي بأفعالي و إلا فليخنق نفسه فما أفعل إلا ما أريد .

 

·       فصل : من خالط أوذي

 
   
من رزقه الله تعالى العلم ، و النظر في سير السلف ، رأى أن هذا العلم ظلمة ، و جمهور العالم على غير الجادة ، و المخالطة لهم تضر و لا تنفع .
   
فالعجب لمن يترخص في المخالطة ، و هو يعلم أن الطبع لص يسرق من المخالطة .
   
و إنما ينبغي أن تقع المخالطة للأرفع و الأعلى في العلم و للعمل ليستفاد منه .
   
فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي ، إلا أن يكون عامياً يقبل من معمله ، فينبغي ، أن يخالط بالإحتراز .
   
و في هذا الزمان إن وقعت المخالطة للعوام فهم ظلمة مستحكمة ، فإذا ابتلى العالم بمخالطتهم فليشمر ثياب الحذر ، و لتكن مجالسته إياهم للتذاكرة و التأديب فحسب .
   
و إن وقعت المخالطة للعلماء فأكثرهم على غير الجادة ، مقصودهم صورة العلم لا العمل به . فلا تكاد ترى من تذاكره أمر الآخرة ، إنما شغلهم الغيبة ، و قصد الغلبة ، و إجتلاب الدنيا .
   
ثم فيهم من الحسد للنظراء ما لا يوصف . و إن وقعت المخالطة للأمراء ، فذاك تعرض لفساد الدين .
   
لأنه إن تولى لهم ولاية دنيوية فالظلم من ضروراتها ، لغلبة العادة عليهم و الإعراض عن الشرع .
   
و إن كانت ولاية دينية كالقضاء ، فإنهم يأمرونه بأشياء لا يكاد يمكنه المراجعة فيها ، و لو راجع لم يقبلوا .
   
و أكثر القوم يخاف على منصبه ، فيفعل ما أمر به و إن لم يجبر .
   
و ربما رأيت في هذا الزمان أقواماً يبذلون المال ليكونوا قضاة ، أو شهوداً و مقصودهم الرفعة .
   
ثم أكثر الشهود يشهد على من لا يعرفه ، و يقول إنه معروف و يدري أنه كذاب ، و إنما عرف لأجل حبة يعطاها .
   
و كم قد وقعت شهادة على غير المشهود عليه ، و على مكره .
   
و إن وقعت المخالطة للمتزهدين فأكثرهم على غير الجادة ، و على خلاف العلم ، قد جعلوا لأنفسهم نواميس ، فلا يتنسمون و لا يخرجون إلى سوق ، و يظهرون التخشع الزائد و كله نفاق .
   
و فيهم من يلبس الصوف تحت ثيابه ، و ربما لوح بكمه ليرى . و قد حكي عن طاهر بن الحسين أنه قال لبعض المتزهدين : مد كم قدمت العراق ؟ قال دخلتها منذ عشرين سنة ، و أنا منذ ثلاثين سنة صائم .
   
قال : سألناك مسألة فأجبت : عن اثنتين .
   
و بيت الصوفية أربطة فهي خوارج على المساجد . وهي دكاكين كريهة يقعد فيها الكسالى عن الكسب مع القدرة عليه ، و يتعرضون بالقعود للصدقات ، و لأحوال الظلمة . و قد أراحوا أنفسهم من إعادة العلم .
   
و أكثرهم لا يصلي نافلة ، و لا يقوم الليل ، بل يهمهم المأكول و المشروب و الرقص .
   
و قد اتخذوا سنناً تخالف الشريعة فهم يلبسون المرقع لا من فقر . و هذا قبيح . لأنه ليس عندهم من أمارات الزهد سوى الملبس الدون ، فثيابهم تصيح نحن الزهاد ، و باقي أفعالهم المستورة تفضحهم إذا اطلع عليها .
   
فالمطبخ دائر ، و الحمام و الحلوى كثيرة ، و الطيب و الدعة ، و الكبر حاصل بذلك الزي .
   
و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم لمالك بن فضيلة و قد رآه أشعت الهيئة أما لك مال ؟ قال : بلى من كل المال آتاني الله عز وجل ! قال : فإن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن ترى عليه .
   
و من أخلافهم تنفير الناس عن العلم ، يزعمون ألا حاجة إلى الوسائط و إنما هو قلب و رب .
   
و لهم من الأقوال و الأفعال المنكرات ما قد ذكرته في تلبيس إبليس .
   
آه لو كان للزمان عمر لاحتاج كل يوم إلى مائة درة ، لا بل كان يستعمل السيف في هؤلاء الخوارج .
   
و هم داخل البلد لا قدرة للعلماء عليهم ، إذ قولهم فيهم لا يقبل .
   
فمن رزقه الله سبحانه النظر في سير السلف ، و وفقه للإقتداء بهم ، آثر أن يعتزل عن أكثر الخلق ، و لا يخالطهم ، فإنه من خالط أوذي .
   
و من دارى يسلم من المداهنة . فالنصح اليوم مردود .

 

·       فصل : لا تبادر بالمخاصمة

 
   
من البله أن تبادر عدواً أو حسوداً بالمخاصمة .
   
و إنما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما . إن اعتذر قلبت ، و إن أخذ في الخصومة صفحت ، و أريته أن الأمر قريب .
   
ثم تبطن الحذر منه ، فلا تثق به في حال ، و تتجافاه باطناً مع إظهار المخالطة في الظاهر .
   
فإذا أردت أن تؤذيه فأول ما تؤذيه به إصلاحك لنفسك و اجتهادك في علاج ما يعرفك به .
   
من أعظم العقوبة له العفو عنه الله .
   
و إن بالغ في السب فبالغ في الصفح تنب عنك العوام في شتمه ، و يحمدك العلماء على حلمك .
   
و ما تؤذيه به من ذلك و تورثه بعد الكمد ظاهراً و غيره في الباطن أضعاف و خيراً مما تؤذيه به من كلمة إذا قلتها له سمعت أضعافها .
   
ثم بالخصومة تعلمه أنك عدوه فيأخذ الحذر و يبسط اللسان ، و بالصفح يجهل مما في باطنك ، فيمكنك حينئذ أن تشتفي منه . أما أن تلقاه بما يؤذي دينك هو الذي قد إشتفى منك .
   
و ما ظفر قط من ظفر به الإثم بل الصفح الجميل .
   
و إنما يقع هذا ممن يرى أن تسليطه عليه إما عقوبة لذنب أو لرفع درجة بالإبتلاء فهو لا يرى الخصم و إنما يرى القدرة .

 

·       فصل : الإستخارة من حسن المشاورة


   
إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها ، فليس لك إلا الدعاء و اللجأ إلى الله بعد أن تقدم التوبة من الذنوب .
   
فإن الزلل يوجب العقوبة فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب ارتفع السبب .
   
فإذا تبت و دعوت و لم تر للإجابة أثراً فتفقد أمرك ، فربما كانت التوبة ما صحت فصححها ثم أدع و لا تمل من الدعاء .
   
فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة ، و ربما لم تكن المصلحة في الإجابة فأنت تثاب و تجاب إلى منافعك . و من منافعك ألا تعطى ما طلبت بل تعوض غيره .
   
فإذا جاء إبليس فقال : كم تدعوه و لا ترى إجابة ؟ فقل : أنا أتعبد بالدعاء ، و أنا موقن أن الجواب حاصل .
   
فقل : أنا أتعبد بالدعاء ، و أنا موقن أن الجواب حاصل .
   
غير أن ربما كان تأخيره لبعض المصالح على مناسب ، و لو لم يحصل حصل التعبد و الذل .
   
فإياك أن تسأل شيئاً إلا و تقرنه بسؤال الخير .
   
فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سبباً للهلاك .
   
و إذا كنت قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا لجليسك ليبين لك في بعض الآراء ما يعجز رأيك و ترى أن ما و قع لك لا يصلح فكيف لا تسأل الخير ربك و هو أعلم بالمصالح ؟ و الإستخارة من حسن المشاورة .

 

·       فصل : الناس بين العلم و الجهل


   
نظرت إلى الناس فرأيتهم ينقسمون بين عالم و جاهل .
   
فأما الجهال فانقسموا ، فمنهم سلطان قد ربي في الجهل و لبس الحرير و شرب الخمور و ظلم الناس ، و له عمال على مثل حاله ، فهؤلاء بمعزل عن الخير بالجملة .
   
و منهم تجار ، همتهم الإكتساب ، و جمع الأموال ، و أكثرهم لا يؤدي الزكاة ، و لا يتحاشى من الربا ، فهؤلاء في صور الناس .
   
و منهم أرباب معاش ، يطففون المكيال ، و يخسرون الميزان ، و يبخسون الناس ، و يتعاملون ، بالربا و هم في الأسواق طوال النهار لا همة لهم إلا ما هم فيه ، فإذا جاء الليل وقعوا نياماً ، كالسكارى ، فهمة أحدهم ما يأكل و يلتذ به ، و ليس عندهم من الصلاة خبر ، فإن صلى أحدهم نقرها أو جمع بينها ، فهؤلاء في عدد البهائم .
   
و من الناس ذو رذالة في جميع أحوالهم فهذا كناس ، و هذا زبال ، و هذا نخال ، و هذا يكسح الحش ، فهؤلاء أرذل القوم . و منهم من يطلب اللذات و لا يساعده المعاش فيخرج إلى قطع الطريق ، و هؤلاء أحمق الجماعة ، إذ لا عيش لهم .
   
فإن إلتذوا لحظة بأكل أو شرب فحركة الريح قصبة هربوا خوفاً من السلطان ، و ما أقل بقاءهم ، ثم القتل و الصلب مع إثم الآخرة .
   
و منهم أرباب قرى قد عمهم الجهل ، و أكثرهم لا يتحاشى من نجاسة ، فهم في زمرة البقر .
   
و رأيت النساء ينقسمن أيضاً ، فمنهن المستحسنة التي تبغي ، و منهن الخائنة لزوجها في ماله .
   
و منهن من لا تصلي و لا تعرف شيئاً من الدين ، فهؤلاء حشوا النار .
   
فإذا سمعن موعظة فإنها كما مرت على حجر . إذا قرئ عندهن القرآن ، فكأنهن يسمعن السمر .
   
و أما العلماء فالمبتدئون منهم ينقسمون إلى ذي نية خبيثة يقصد بالعلم المباهاة لا العمل ، و يميل إلى الفسق ظناً إن العلم يدفع عنه ، و إنما هو حجة عليه .
   
و أما المتوسطون و المشهورون ، فأكثرهم يغشى السلاطين و يسكت عن إنكار المنكر .
   
و قليل من العلماء من تسلم له نيته ، و يحسن قصده .
   
فمن أراد الله به خيراً رزقه حسن القصد في طلب العلم ، فهو يحصله لينتفع به و ينفع ، و لا يبالي بعمل مما يدل عليه العلم .
   
فتراه يتجافى أرباب الدنيا ، و يحذر مخالطة العوام ، و يقنع بالقليل خوفاً من المخاطرة في الدنيا في تحصيل الكثير .
   
و يؤثر العزلة ، فليس مذكراً للآخرة مثلها .
   
و ليس على العالم أضر من الدخول على السلاطين ، فإنه يحسن للعالم الدنيا و يهون عليه المنكر .
   
و ربما أراد أن ينكر فلا يصح له ، فإن عدم القناعة و غلبت نفسه في طلب فضول الدنيا سلم عليه لأنه يتعرض بأربابها .
   
و إن الإنسان ليمشي في السوق ساعة ، فينسى بما يرى ، ما يعلم . فكيف إذا انضم إلى ذلك التردد إلى الأغنياء و الطمع في أموالهم .
   
فأما الوحدة فإنها سبب رجوع القلب و جمع الهم ، و النظر في العواقب و التهيؤ للرحيل و تحصيل الزاد .
   
فإذا انضمنت إليها القناعة ، جلبت الأحوال المستحسنة .
   
و لا تحسن اليوم المجالسة إلا لكتاب يحدثك عن أسرار السلف .
   
فأما مجالسة العلماء فمخاطرة ، إذ لا يجتمعون على ذكر الآخرة في الأغلب .
   
و مجالسة العوام فتنة للدين ، إلا أن يتحرز في مجالسهم و يمنعهم من القول فيقول هو و يكلفهم السماع .
   
ثم يستوفز للبعد عنهم ، و لا يمكن الإنقطاع الكلي إلا بقطع الطمع ، و لا ينقطع الطمع إلا بالقناعة باليسير أو يتجر بتجارة ، أو أن يكون له عقار يستغله .
   
فإنه متى احتاج تشتت الهم ، و متى إنقطع العالم عن الخلق و قطع طمعه فيهم و توفر على ذكر الآخرة فذاك الذي ينفع و ينتفع به . و الله الموفق .

 

·       فصل : بع دنياك بآخرتك


   
من تأمل بعين الفكر دوام البقاء في الجنة في صفاء بلا كدر ، و لذات بلا انقطاع ، و بلوغ كل مطلوب للنفس ، و الزيادة مما لا عين رأت ـ و لا أذن سمعت ، و لا خطر على قلب بشر ، من غير تغيير و لا زوال ، إذ لا يقال ألف ألف سنة ، و لا مائة ألف ألف ، بل و لو أن الإنسان عد ألوف ألوف السنين لا ينقضي عدده و كان له نهاية ، و بقاء الآخرة لا نفاد له .
   
إلا أنه لا يحصل ذلك إلا بنقد هذا العمر .
   
و ما مقدار عمر غايته مائة سنة منها خمسة عشر صبوة و جهل ، و ثلاثون بعد السبعين ـ إن حصلت ـ ضعف و عجز .
   
و التوسط نصفه نوم ، و بعضه زمان أكل و شرب و كسب ، و المنتحل منه للعبادات يسير .
   
أفلا يشتري ذلك الدائم بهذا القليل ؟ إن الإعراض عن الشروع في هذا البيع و الشراء ، لغبن فاحش في العقل ، و خلل داخل في الإيمان بالوعد .
   [
فإن من يدري كيف يعقد البيع بالعلم ] هو الذي يدل على الطريق و يعرف ما يصلح لها و يحذر من فظاعتها .
   
و لقد دخل إبليس على طائفة من المتزهدين بآفات أعظمها إن صرفهم عن العلم . فكأنه شرع في إطفاء المصباح ليسرق في الظلمة ، حتى إنه أخذ قوماً من كبار العلماء فسلك بهم من ذلك ما ينهى عنه العلم .
   
فرأيت أبا أحمد الطوسي يحكي عن نفسه في بعض مصنفاته قال : شاورت متبوعاً مقدماً من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن فمنعني منه ، و قال : السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية ، بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل و ولد و مال و علم ، بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجود ذلك و عدمه . ثم تخلو بنفسك في زاوية ، فتقتصر من العبادة على الفرائض و الرواتب ، و تجلس فارغ القلب ، و لا تزال تقول : الله الله إلى أن تنتهي إلى حالة لو ترك تحريك اللسان رأيت كأن الكلمة جارية على لسانك ، ثم تنظر ما يفتح عليك مما فتح مثله على الأنبياء و الأولياء .
   
قلت : و هذا أمر لا أتعجب أنا فيه من الموصي به و إنما أتعجب من الذي قبله مع معرفته و فهمه .
   
و هل يقطع الطريق بالإعراض عن تلاوة القرآن ؟ و هل فتح للأنبياء ما فتح بمجاهدتهم و رياضيتهم ؟ و هل يوثق بما يظهر من هذه المسالك ؟
   
ثم ما الذي يفتح ؟ أثم اطلاع على علم الغيب أم هو وحي ؟
   
فهذا كله من تلاعب إبليس بالقوم .
   
و ربما كان ما يتخايل لهم من أثر الماليخوليا أو من إبليس .
   
فعليك بالعلم . و انظر في سير السلف هل فعل أحد منهم من هذا شيئاً ؟ أو أمر به ؟
   
إنما تشاغلوا بالقرآن و العلم فدلهم على إصلاح البواطن و تصفيتها .
   
نسأل الله عز وجل علماً نافعاً ، للعدو مانعاً ، إنه قادر .

 

·       فصل : الحزم كتمان الحب و البغض


   
من أراد اصطفاء محبوب ، المحبوب نوعان : امرأة يقصد منها حسن الصورة ، و صديق يقصد منه حسن المعنى .
   
فإذا أعجبتك صورة إمرأة فتأمل خلالها الباطنة مديدة قبل أن يتعلق القلب بها تعلقاً محكماً ، فإن رأيتها كما تحب ـ و أصل ذلك كله الدين كما قال : عليك بذات الدين ـ فمل إليها و استولدها .
   
و كن في ميلك معتدلاً ، فإنه من الغلط أن تظهر لمحبوبك المحبة ، فإنه يشتط عليك ، و تلقى منه الأذى من التجني و الهجران و الإدلال و طلب الإنفاق الكثير ـ و إن كانت تحبك ـ لأن هذا إنما يجتلبه حب الإدلال و التسلط على المقهور .
   
و ثم نكتة عجيبة ، و هو أنك ربما عملت بمقتضى الحال الحاضرة ، و هي تحكم بكمال الحب ، ثم إن ذلك لا يثبت إليك فتقع و تبقى مقهوراً ، و يصعب عليك الخلاص .
   
و ربما تمكنت بمعرفة سرك أو بأخذ كثير من مالك .
   
و من أحسن ما بلغني في هذا أن جارية لبعض الخلفاء كانت تحبه حباً شديداً ، و لا تظهر له ذلك ، فسئلت عن هذا ، فقالت : لو أظهرت ما عندي فجفاني هلكت ، قال الشاعر :
   
لا تظهرن مودة لحبيب       فترى بعينك منه كل عجيب
   
أظهرت يوماً للحبيب مودتي فأخذت من هجرانه بنصيبي
   
و هكذا ينبغي أن تكتم بعض حبك للولد ، لأنه يتسلط عليك ، و يضيع مالك ، و يبالغ في الإدلال ، و يمتنع عن التعلم و التأدب .
   
و كذلك إذا اصطفيت صديقاً و خبرته ، فلا تخبره بكل ما عندك ، بل تعاهده بالإحسان كما تتعاهد الشجرة ، فإنها إذا كانت جيدة الأصل حسنت ثمرتها بالتعاهد ، ثم كن منه على حذر فقد تتغير الأحوال ، و قد قيل :
   
إحذر عدوك مرة و احذر       صديقك ألف مرة
   
فلربما انقلب الصديق فكان أدرى بالمضرة
   
و أما إذا أبغضت شخصاً لأنه يسوؤك فلا تظهرن ذلك ، فإنك تنبهه على أخذ الحذر منك ، و تدعوه إلى المبارزة ، فيبالغ في حربك و الإحتيال عليك ، بل ينبغي أن تظهر له الجميل إن قدرت ، و تبره ما استطعت حتى تنكسر معاداته بالحياء من بغضك . فإن لم تطق فهجر الجميل ، لا تبين فيه ما يؤذي .
   
و متى سمعت عنه كلمة قذعة فاجعل جوابها كلمة جميلة . فهي أقوى في كف لسانه .
   
و كذلك جميع ما يخاف إظهاره ، فلا تتكلمن به . فربما وقعت كلمة أسقطت بها عز السلطان ، فنقلت إليه ، فكانت سبب هلاكك .
   
أو عن صديق فكانت سبب عداوته ، أو صرت رهيناً لمن سمعها خائفاً أن يظهرها .
   
فالحزم كتمان الحب و البغض .
   
و كذا ينبغي أن تكتم سنك فإن كنت كبيراً استهرموك ، و إن كنت صغيراً استحقروك .
   
و كذلك مقدار مالك ، فأنه إن كان كثيراً نسبوك في نفقتك إلى البخل و إن كان قليلاً طلبوا الراحة منك .
   
و كذلك المذهب ، فإنك إن أظهرته لم تأمن أن يسمعه مخالف فيقطع بكفرك .
   
و قد أنشدنا محمد بن عبد الباقي البزار :
   
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة       سن و مال ، ما استطعت و مذهب
   
فعلى ثلاثة تبتلى بثلاثة       بمموه و مخرف و مكذب

 

·       فصل : المعين للظالم ظالم


   
طال تعجبي من مؤمن بالله عز وجل ، مؤمن بجزائه ، يؤثر خدمة السلطان مع ما يرى منه من الجور الظاهر .
   
فوا عجباً ما الذي يعجبه ؟
   
إن كان الذي يعجبه دنيوناً فليس ثم إلا أن يصاح بين يديه بسم الله و أن يتصدر في المجالس و يلوي عنقه كبراً على النظراء ، و يأخذ الأسحات و هو يعلم من أين حصل ، و ربما انبسط في البرطيل .
   
ثم يقابل هذا أن يصادر و يعزل ، فتستخرج منه تلك المرارة منه كل حلاوة كانت في الولاية .
   
و ربما كان قريب الحال فإفتقر بالمصادرة جداً ، ثم تنطلق الألسن المادحة بالذم .
   
ثم لو سلم من هذا فإنه لا يسلم من الرقيب لهو الحذر منه ، فهو كراكب البحر إن سلم بدنه من الغرق لم يسلم من الخوف .
   
و إن كان ديناً فإنه يعلم أنهم لا يمكنونه في الغالب من العمل بمقتضى الدين فإنهم يأمرونه بترك ما يجب و فعل ما لا يجوز ، فيذهب دينه على البارد .
   
و لعقاب الآخرة أشق .

 

·       فصل : الحر لا يشترى إلا بالإحسان

 
   
العجب من الذي أنف الذل كيف لا يصبر على جلف الخبز ، و لا يتعرض لمنن الأنذال .
   
أتراه ما يعلم أنه ما بقي صاحب مروءة ! وأنه إن سأل سأل بخيلاًً لا يعطي ، فإن أعطى نزراً فإنه يستعبد المعطي بذلك العمر .
   
ثم ذاك القدر النزر يذهب عاجلاً ، و تبقى المنن و الخجل و رؤية النفس بعين الإحتقار ، إذ صارت سائلة ، و رؤية المعطي بعين التعظيم أبداً .
   
ثم يوجب ذلك السكوت عن معائب المعطى ، و البدار إلى قضاء حقوقه و خدمته في ما يفي .
   
و أعجب من هذا من يقدر أن يستعبد الأحرار بقليل العطاء الفاني ، و لا يفعل ، فإن الحر لا يشترى إلا بالإحسان . قال الشاعر :
   
تفضل على من شئت واعن بأمره       فأنت و لو كان الأمير أميره
   
و كن ذا غنى عمن تشاء من الورى      و لو كان سلطاناً فأنت نظيره
   
و من كنت محتاجاً إليه و واقفاً       على طمع منه فأنت أسيره

 

·       فصل : نصيحة للشباب

 
   
ينبغي للصبي إذا بلغ أن يحذر كثرة الجماع ليبقى جوهره فيفيده ذلك في الكبر . لأنه مر الجائزة كبره .
   
و الاستعداد للجائز حزم ، فكيف للغالب ؟ كما ينبغي أن يستعد للشتاء قبل هجومه .
   
و متى أنفق الحاصل وقت القدرة ، تأذى بالفقر إليه وقت الفاقة .
   
و ليعلم ذو الدين و الفهم أن المتعة إنما تكون بالقرب من الحبيب ، و القرب يحصل بالتقبيل و الضم ، و ذلك يقوي المحبة ، و المحبة يلذ و جودها ، و اوطء ينقص المحبة و يعدم تلك اللذة .
   
و قد كان العرب يعشقون و لا يرون وطء المعشوق . قال قائلهم : إن نكح الحب فسد . فأما الإلتذاذ بنفس الوطء فشأن البهائم .
   
و لقد تأملت المراد من الوطء فوجدت فيه معنى عجيباً يخفى على كثير من الناس ، و هو أن النفس إذا عشقت شخصاً أحبت القرب منه ، فهي تؤثر الضم و المعانقة ، لأنهما غاية في القرب .
   
ثم تريد قرباً يزيد على هذا ، فيقبل الخد . ثم تطلب القرب من الروح ، فيقبل الفم ، لأنه منفذ إلى الروح .
   
ثم تطلب الزيادة فيمص لسان المحبوب ، و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوشح عائشة و يقلبها يمص لسانها .
   
فإذا طلبت النفس زيادة في القرب إلى النفس ، استعملت الوطء .
   
فهذا سره المعنوي ، و يحصل منه الالتذاذ الحسي .

 

·       فصل : على العامي الإيمان بالأصول

 
   
ليس على العوام أضر من سماعهم علم الكلام .
   
و إنما ينبغي أن يحذر العوام من سماعه ، و الخوض فيه ، كما يحذر الصبي من شاطئ النهر ، خوف الغرق .
   
و ربما ظن العامي أنه له قوة يدرك بها هذا ، و هو فاسد ، فإنه قد زل في هذا خلق من العلماء ، فكيف العوام ؟
   
و ما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا ، فإنه يحضر عندهم العوام الغشم فلا ينهونهم عن خمر و زناً و غيبة ، و لا يعلمونهم أركان الصلاة و وظائف التعبد ، بل يملأون الزمان بذكر الإستواء و تأويل الصفات ، و أن الكلام قائم بالذات ، فيتأذى بذلك من كان قلبه سليماً .
   
و إنما على العامي أن يؤمن بالأصول الخمسة بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر ، و يقنع بما قال السلف : القرآن كلام الله غير مخلوق و الإستواء حق و الكيف مجهول .
   
و ليعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم و سلم لم يكلف الأعراب سوى مجرد الإيمان ، و لم تتكلم الصحابة في الجواهر و الأعراض .
   
فمن مات على طريقهم مات مؤمناً سليماً من بدعة .
   
و من تعرض لساحل البحر و هو لا يحسن السباحة ، فالظاهر غرقه .

 

·       فصل : المباحات تشغل عن تحصيل الفضائل

 
   أشد الناس جهلاً منهوم باللذات . و اللذات على ضربين : مباحة و محظورة فالمباحة لا يكاد يحصل منها شيء إلا بضياع ما هو مهم من الدين . فإذا حصلت منها محبة قارنها قنطار من الهم . ثم لا تكاد تصفو في نفسها بل مكدراتها ألوف .
   
فإذا صور عدمها بعد انقضائها و بقاء هذه الألوف المكدرة صار التصوير مغلصماً للهوى مجرئاً للنفس .
   
فإذا أنفت أنفت من الأسف على الدوام ما لا تحويه صفة ، فهي تغر الغمر و تهدم العمر ، و تديم الأسى .
   
و مع هذا فالمنهوم كلما عب من لذة طلب أختها ، و قد عرف جناية الأولى و خيانتها .
   
و هذا مرض العقل ، و داء الطبع ، فلا يزال هذا كذلك ، إلى أن يختطف بالموت ، فيلقى على بساط ندم لا يستدرك .
   
فالعجب ممن همته هكذا مع قصر العمر ، ثم لا يهتم بآخرته التي لذتها سليمة من شامت ، منزهة عن معائب دائمة الأمد ، باقية ببقاء الأبد .
   
و إنما يحصل تقريب هذه بإبعاد تلك ، و عمران هذه بتخريب تلك .
   
فواعجباً لعاقل حصيف حسن التدبير فاته النظر في هذه الأحوال ، و غفل عن التمييز بين هذين الأمرين .
   
و إن كانت اللذة معصية إنضم إلى ما ذكرناه عار الدنيا ، و الفضيحة بين الخلق ، و عقوبة الحدود ، و عقاب الآخرة ، و غضب الحق سبحانه .
   
بالله ، إن المباحات تشغل عن تحصيل الفضائل ، فذم ذلك لبيان الحزم .
   
فكيف بالمحرمات التي هي غاية الرذائل ؟
   
نسأل الله عز وجل يقظه تحركنا إلى منافعنا . و تزعجنا عن خوادعنا ، إنه قريب .

 

·       فصل : رجاء الرحمة


   
تأملت على الخلق و إذا هم في حالة عجيبة ، يكاد يقطع معها بفساد العقل .
   
و ذلك أن الإنسان يسمع المواعظ ، و تذكر له الآخرة ، فيعلم صدق القائل ، فيبكي و ينزعج على تفريطه ، و يعزم على الإستدلاك ، ثم يتراخى عمله بمقتضى ما عزم عليه .
   
فإذا قيل له : أتشك فيما وعدت به ؟ قال : لا و الله ، فيقال له : فاعمل ، فينوي ذلك ثم يتوقف عن العمل . و ربما مال إلى لذة محرمة ، و هو يعلم النهي عنها .
   
و من هذا الجنس تأخر الثلاثة الذين خلفوا ، و لم يكن لهم عذر ، هم يعلمون قبح التأخر ، و كذلك كل عاص فتأملت السبب مع أن الإعتقاد صحيح ، و الفعل بطىء ، فإذاً له ثلاثة أسباب :
   
أحدها : رؤية الهوى العاجل ، فإن رؤيته تشغل عن الفكر فيما يجنيه .
   
و الثاني : التسويف بالتوبة ، فلو حضر العقل لحذر من آفات التأخير ، فربما هجم الموت و لم تحصل التوبة .
   
و العجب ممن يجوز سلب روحه قبل مضي ساعة ، و لا يعمل على الحزم ، غير أن الهوى يطيل الأمد ، و قد قال صاحب الشرع صلى الله عليه و سلم : صل الصلاة مودع . و هذا نهاية الدواء لهذا الداء ، فإنه من ظن أنه لا يبقى إلى الصلاة أخرى جد و اجتهد .
   
و الثالث : رجاء الرحمة ، فيرى العاصي يقول : ربي رحيم ، و ينسى أنه شديد العقاب . و لو علم أن رحمته ليست رقة إذ لو كانت كذلك لما ذبح عصفوراً و لا آلم طفلاً و عقابه غير مأمون ، فإن شرع قطع اليد الشريفة بسرقة خمسة قراريط .
   
فنسأل الله عز وجل أن يهب لنا حزماً يبت المصالح جزماً .

 

·       فصل : ذل النفس للخالق


   
نظرت في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لما لبس الخاتم ثم رمى به و قال : شغلني نظري إليكم ، و نظري إليه و قوله : هذا رجل يتبختر في حلته مرجلاً جمته خسف به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . فرأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يلبس ثوباً معجباً و لا شيئاً من زينة ، لأن ذلك يوجب النظر إلى النفس بعين الإعجاب ، و النفس ينبغي أن تكون ذليلة للخالق .
   
و قد كان قدماء أحبار في بني إسرائيل يمشون على العصي لئلا يقع منهم بطر في المشي .
   
و لبست أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها درعاً لها فأعجبت به ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله لا ينظر إليك في حالتك هذه .
   
و لما لبس رسول الله صلى الله عليه و سلم خميصة لها أعلام قال : ألهتني هذه عن صلاتي و هذا كله يوجب الإعراض عن الزينة و ما يحرك إلى الفخر و الزهو و العجب .
   
و لهذا حرم الحرير .
   
و أقول على أسباب هذا : إن المرقعات التي يتتوق فيها المتصوفة بالسوارك و التلميع ، ربما أوجبت زهو اللابس إما لحسنها في ذاتها ، أو لعمله أنها تنبئ عنه بالتصوف و الزهد .
   
و كذلك الخاتم في اليد ، و طول الأكمام و النعال الصرارة .
   
و لا أقول : إن هذه الأشياء تحرم بل ربما جلبت ما يحرم من الزهو . فينبغي للعاقل أن يتنبه بما قلت في دفع كل ما يحذر من شره .
   
و قد ركب ابن عمر نجيباً فأعجبه مشيه فنزل ، و قال يا نافع : أخله في البدن .

 

·       فصل : إلزم خلوتك

 
   
من أراد إجتماع همه و إصلاح قلبه ، فليحذر من مخالطة الناس في هذا الزمان ، فإنه قد كان يقع الإجتماع على ما ينفع ذكره ، فصار الإجتماع على ما يضر .
   
و قد جربت على نفسي مراراً أن أحصرها في بيت العزلة ، فتجتمع هي ، و يضاف إلى ذلك النظر في سير السلف ، فأرى العزلة ، حمية ، و النظر في سير القوم دواء ، و استعمال الدواء مع الحمية عن التخليط نافع .
   
فإذا فسحت لنفسي في مجالسة الناس و لقائهم تشتت القلب المجتمع ، و وقع الذهول عما كنت أراعيه ، و انتقش في القلب ما قد رأته العين ، و في الضمير ما تسمعه الأذن ، و في النفس ما تطمع في تحصيله من الدنيا . و إذا جمهور المخالطين أرباب غفلة ، و الطبع بمجالستهم يسرق من طباعهم .
   
فإذا عدت أطلب القلب لم أجده ، و أروم ذاك الحضور فأفقده ، فؤادي في غمار ذلك اللقاء للناس أياماً حتى يسلو الهوى .
   
و ما فائدة تعريض البناء للنقض ؟
   
فإن دوام العزلة كالبناء ، و النظر في سير السلف يرفع ، فإذا وقعت المخالطة إنتقض ما بني في مدة ، في لحظة، و صعب التلاقي ، و ضعف القلب .
   
و من له فهم يعرف أمراض القلب ، و إعراضه عن صاحبه ، و خروج طائره من قفصه .
   
و لا يؤمن على هذا المريض أن يكون مرضه هذا سبب التلف ، و لا على هذا الطائر المحصور أن يقع في الشبكة .
   
و سبب مرض القلب أنه كان محمياً عن التخليط ، مغذواً بالعلم و سير السلف ، فخلط ، فلم يحتمل مزاجه فوقع المرض .
   
فالجد الجد فإنما هي أيام و ما نرى من يلقى ، و لا من يؤخذ منه ، و لا من تنفع مجالسته ، إلا أن يكون نادراً ما أعرفه .
   
ما في الصحاب أخو وجد نطارحه       حديث نجد و لا خل نجاريه
   
فالزم خلوقت ، و راع ـ ما بقيت النفس ـ و إذا قلقت النفس مشتاقة إلى لقاء الخلق فإعلم أنها بعد كدرة ، فرضها ليصير لقاؤهم عندها مكروهاً .
   
و لو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت الزحمة ، كما أن الذي يخلو بحبيبه لا يؤثر حضور غيره .
   
و لو أنها عشقت طريق اليمن ، لم تلتفت إلى الشام .

 

·       فصل : إنما يتعثر من لم يخلص


   
تفكرت في سبب هداية من يهتدي ، و إنتباه من يتيقظ من رقاد من رقاد غفلته ، فوجدت السبب الأكبر كاختبار الحق عز وجل لذلك الشخص ، كما قيل : إذا أرادك لأمر هيأك له .
   
فتار تقع اليقظة بمجرد فكر يوجبه نظر العقل ، فيتلمح الإنسان وجود نفسه ، فيعلم أن لها صانعاً ، و قد طالبه بحقه ، و شكر نعمته ، و خوفه عقاب مخالفته ، و لا يكون ذلك بسبب ظاهر .
   
و من هذا ما جرى لأهل الكهف : إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات و الأرض .
   
و في التفسير : أن كل واحد منهم ألقى في قلبه يقظة ، فقال : لا بد لهذا الخلق من خالق ، فاشتد كرب بواطنهم من وقود نار الحذر ، فخرجوا إلى الصحراء ، فاجتمعوا عن غير موعد .
   
فكل واحد يسأل الآخر : ما الذي أخرجك . . . ؟ فتصادقوا .
   
و من الناس من يجعل الخالق سبحانه و تعالى لذلك السبب الذي هو الفكر و النظر سبباً ظاهراً ، إما من موعظة يسمعها أو يراها ، فيحرك هذا السبب الظاهر فكرة القلب الباطنة ، ثم ينقسم المتيقظون ، فمنهم من يغلبه هواه و يقتضيه طبعه ، ما يشتهي مما قد إعتاده فيعود القهقرى ، و لا ينفعه ما حصل له من الإنتباه ، ، فإنتباه مثل هذا زيادة في الحجة عليه .
   
و منهم من هو واقف في مقام المجاهدة بين صفين : العقل الآمر بالتقوى ، الهوى المتقاضى بالشهوات .
   
فمنهم من يغلب بعد المجاهدات الطويلة فيعود إلى الشر و يختم له به . و منهم من يغلب تارة و يغلب أخرى ، فجراحاته لا في مقتل .
   
و منهم من يقهر عدوه فيسجنه في حبس ، فلا يبقى للعدو من الحيلة إلا الوساوس .
   
و من الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا ، و مذ سلكوا ما وقفوا . فهمهم صعود و ترق .
   
كلما عبروا مقاماً إلى مقام ، رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا . و منهم من يرقى عن الإحتياج إلى مجاهدة ، إما لخسة ما يدعو إليه الطبع عنده و لا وقع له . و إما لشرف مطلوبه فلا يلتفت إلى عائق عنه .
   
و اعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه ليست مما يقطع بالأقدام ، إنما يقطع بالقلوب .
   
و الشهوات العاجلة قطاع الطريق ، و السبيل كالليل المدلهم .
   
غير أن عين الموفق بصر فرس ، لأنه يرى في الظلمة ، كما يرى في الضوء .
   
و الصدق في الطلب منار أين وجد يدل على الجادة ، و إنما يتعثر من لم يخلص .
   
و إنما يمتنع الإخلاص ممن لا يراد ، فلا حول و لا قوة إلا بالله .

 

·       فصل : الروح لا الجسد

 
   
عجبت لمن يعجب بصورته و يختال في مشيته ، و ينسى مبدأ أمره .
   
إنما أوله لقمة ضمت إليها جرعة ماء فإن شئت فقل كسيرة خبز معها تمرات ، و قطعة من لحم ، و مذقة من لبن ، و جرعة من ماء ، و نحو ذلك ، طبخته الكبد فأخرجت منه قطرات مني ، فإستقر في الأنثيين فحركتها الشهوة ، فصبت في بطن الأم مدة حتى تكاملت صورتها ، فخرجت طفلاً تتقلب في خرق البول .
   
و أما آخره فإنه يلقى في التراب ، فيأكله الدود ، و يصبر رفاتاً تسقيه السواقي .
   
و كم يخرج تراب بدنه من مكان إلى مكان آخر ؟ و يقلب في أحوال إلى أن يعود فيجمع .
   
هذا خبر البدن .
   
إنما الروح عليها العمل ، فإن تجوهرت بالأدب ، و تقومت بالعلم ، و عرفت الصانع ، و قامت بحقه ، فما يضرها نقض المركب .
   
و إن هي بقيت على صفتها من الجهالة شابهت الطين ، بل صارت إلى أخس حالة منه .

 

·       فصل : البعد عمن كان همه الدنيا

 
   
هيهات أن يجتمع الهم مع التلبس بأمور الدنيا ، خصوصاً الشاب الفقير الذي قد ألف الفقر .
   
فإنه إذا تزوج و ليس له شيء من الدنيا ، إهتم بالكسب ، أو بالطلب من الناس فتشتتت همته ، و جاءه الأولاد فزاد الأمر عليه . و لا يزال يرخص لنفسه فيما يحصل إلى أن يتلبس بالحرام .
   
و من يفكر فهمته ما يأكل و ما يأكله أهله ، ما ترضى به الزوجة من النفقة و الكسوة ، و ليس له ذلك ، فأي قلب يحضر له ؟ و أي هم يجتمع ؟ هيهات .
   
و الله لا يجتمع الهم و العين تنظر إلى الناس ، و السمع يسمع حديثهم ، و اللسان يخاطبهم ، و القلب متوزع في تحصيل ما لا بد منه .
   
فإن قال قائل : فكيف أصنع ؟
   
قلت : إن وجدت ما يكفيك من الدنيا ، أو معيشة تكفك فاقنع بها ، و إنفرد في خلوة عن الخلق مهما قدرت ، و إن تزوجت فبفقيرة تقنع باليسير ، و تصبر أنت على صورتها و فقرها ، و لا تترك نفسك تطمح إلى من تحتاج إلى فضل نفقته .
   
فإن رزقت إمرأة صالحة جمعت همك فذاك ، و إن لم تقدر فمعالجة الصبر أصلح لك من المخاطرة .
   
و إياك و المستحسنات ، فإن صاحبهن إذا سلم كعابد صنم ، و إذا حصل بيدك شيء فأنفق بعض ، فبحفظ الباقي تحفظ شتات قلبك .
   
و إحذر كل الحذر من هذا الزمان و أهله فما بقي مواس و لا مؤثر ، و لا من يهتم لسد خلة ، و لا من لو سئل أعطى ، إلا أن يعطي نذراً بتضجر .
   
و منة يستعبد بها المعطى بقية العمر ، و يستثقله كلما رآه ، أو يستدعي بها خدمته له و التردد إليه .
   
و إنما كان في الزمان الماضي مثل أبي عمرو بن نجيد سمع أبا عثمان المغربي يقول يوماً على المنبر : علي ألف دينار ، و قد ضاق صدري .
   
فمضى أبو عمرو إليه في الليل بألف دينار ، و قال إقض دينك .
   
فلما عاد و صعد المنبر ، قال : نشكر الله لأبي عمرو ، فإنه أراح قلبي و قضى ديني .
   
فقام أبو عمرو فقال : أيها الشيخ ذلك المال كان لوالدتي و قد شق عليها ما فعلت ، فإن رأيت أن تتقدم برده فإفعل .
   
فلما كان في الليل عاد إليه ، و قال له : لماذا شهرتني بين الناس ؟
   
فأنا ما فعلت لأجل الخلق ، فخذه و لا تذكرني :
   
ماتوا و غيب في التراب شخوصهم       و النشر مسك و العظام رميم
   
فالبعد البعد عن من همته الدنيا ، فإن زادهم اليوم إلى أن يحصل أقرب منه إلى أن يؤثر .
   
و لا تكاد ترى إلا عدواً في الباطن ، صديقاً في الظاهر ، شامتاً على الضر ، حسوداً على النعمة .
   
فاشتر العزلة بما بيعت ، فإن من له قلب إذا مشى في الأسواق و عاد إلى منزله تغير قلبه .
   
فكيف إن عرقله بالميل إلى أسباب الدنيا ، و اجتهد في جمع الهم بالبعد عن الخلق ليخلو القلب بالتفكر في المآب ، و تتلمح عين البصيرة خيم الرحيل؟

 

·       فصل : زيارة الصالحين تجلو القلب


   
كان المريد في بداية الزمان إذا أظلم قلبه أو مرض لبه قصد زيادة بعض الصالحين ، فانجلى ما أظلم .
   
و اليوم متى حصلت ذرة من الصدق لمريد فردته في بيت عزلة ، و وجد نسيما من روح العافية و نوراً في باطن قلبه ، و كاد همه يجتمع ، و شتاته ينتظم ، فخرج فلقى من يومئ إليه بعلم أو زهد رأى عند البطالين يجري معهم في مسلك الهذيان الذي لا ينفع .
   
و رأى صورته صورة منمس و أهون ما عليه تضييع الأوقات في الحديث الفارغ . فما يرجع المريد عن ذلك الوطن إلا و قد إكتسب ظلمة في القلب ، و شتاتاً في العزم ، و غفلة عن ذكر الآخرة ، فيعود مريض القلب ، يتعب في معالجته أياماً كثيرة حتى يعود إلى ما كان فيه .
   
ربما لم يعد ، لأن المريد فيه ضعف .
   
فإنه إذا رأى شيخاً قد جرب و عرف ثم يؤثر البطالة ، لم يأمن أن يتبعه الطبع .
   
فالأولى للمريد اليوم ألا يزور إلا المقابر ، و لا يقاوض إلا الكتب ، التي قد حوت محاسن القوم .
   
و ليستعن بالله تعالى على التوفيق لمراضيه ، فإنه إن أراده هيأه لما يرضيه .

 

·       فصل : أولياء الله

 
   
تأملت الذين يختارهم الحق عز وجل لولايته و القرب منه . فقد سمعنا أوصافهم و من نظنه منهم ، ممن رأيناه .
   
فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصاً كامل الصورة ، لا عيب في صورته ، و لا نقص في خلقته . فتراه حسن الوجه ، معتدل القامة ، سليماً من آفة في بدنه .
   
ثم يكون كاملاً في باطنه ، سخياً جواداً عاقلا ، غير خب و لا خادع ، و لا حقود و لا حسود ، و لا فيه عيب من عيوب الباطن .
   
فذاك الذي يربيه من صغره ، فتراه في الطفولة معتزلاً عن الصبيان ، كأنه في الصبا شيخ ، ينبو عن الرذائل ، و يفزع من النقائص ، ثم لا تزال شجرة همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدلاً على أغصان الشباب ، فهو حريص على العلم ، منكمش على العمل ، محافظ للزمان ، مراع للأوقات ، ساع في طلب الفضائل خائف من النقائص .
   
و لو رأيت التوفيق و الإلهام الرباني يحوطه ، لرأيت كيفي أخذ بيده إن عثر ، و يمنعه من الخطأ إن هم و يستخدمه في الفضائل ، و يستر عمله عنه حتى لا يراه منه .
   
ثم ينقسم هؤلاء . فمنهم من تفقه على قدم الزهد و التعبد ، و منهم من تفقه على العلم إتباع السنة .
   
و يندر منهم من يجمع له الكل و يرقيه إلى مزاحمة الكاملين .
   
و علامة إثبات الكمال في العلم و العمل ، الإقبال بالكلية على معاملة الحق و محبته ، و استيعاب الفضائل كلها ، و سناء الهمة في نشدان الكمال الممكن .
   
فلو تصورت النبوة أن تكسب لدخلت في كسبه .
   
و مراتب هذا لا يحتملها الوصف ، لكونه درة الوجود ، التي لا تكاد تنعقد في الصدف إلا في كل ودود .
   
نسأل الله عز وجل توفيقاً لمراضيه و قريبه ، و نعوذ به من طرده و إبعاده .

 

·       فصل : ذلك مبلغهم من العلم


   
أكثر الخلائق على طبع ردىء لا تقومه الرياضة . لا يدرون لم خلقوا و لا ما المراد منهم . و غاية همتهم حصول بغيتهم من أغراضهم . و لا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم .
   
يبذلون العرض دون الغرض ، و يؤثرون لذة ساعة ، و إن اجتلبت زمان مرض .
   
يلبسون عند التجارات ثياب محتال ، في شعار مختال ، و يلبسون في المعاملات ، و يسترون الحال .
   
إن كسبوا فشبهة و إن أكلوا فشهوة . ينامون الليل و إن كانوا نياماً بالنهار في المعنى ، و لا نوم بهذه الصورة .
   
فإذا أصبحوا سعوا في تحصيل شهواتهم بحرص خنزير ، و تبصبص كلب ، و افتراس أسد ، و غارة ذئب ، و روغان ثعلب .
   
و يتأسفون عند الموت على فقد الهوى ، لا على عدم التقوى . ذلك مبلغهم من العلم .
   
كيف يفلح من يؤثر ما يراه بعينه على ما يبصره بعقله ، و ما يدركه ببصره أعز عنده مما يراه ببصيرته .
   
تالله لو فتحوا أسماعهم لسمعوا هاتف الرحيل في زمان الإقامة يصيح في عرصات الدنيا : تلمحوا تقويض خيام الأوائل .
   
لكن عمرهم سكر الجهالة ، فلم يفيقوا إلا بضرب الحد .

 

·       فصل : الله لا يقبل إلا الطيب


   
رأيت بعض المتقدمين سئل عمن يكتسب حلالاً و حراماً من السلاطين و الأمراء ، ثم يبنى المساجد و الأربطة : هل له فيها ثواب ؟ فأقتى بما يوجب طيب قلب المنفق ، و أن له في أنفاق ما لا يملكه نوع سمسرة ، لأنه لا يعرف أعيان المغصوبين فيردها .
   
فقلت : واعجباً ! من المتصدين للفتوى الذين لا يعرفون أصول الشريعة .
   
ينبغي أن ينظر في حال المنفق أولاً ، فإن كان سلطاناً فما يخرج من بيت المال قد عرفت وجوه مصارفه ، فكيف يمنع مستحقه و يشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة و رباط .
   
و إن كان المنفق من الأمراء و نواب السلاطين ، فإنه يجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال ، و ليس له فيه إلا ما فرض من إيجاب يليق به .
   
فإن تصرف في غير ذلك كان مصروفاً فيما ليس له ، و لو أذن له كان الإذن جائزاً .
   
و إن كان قد أقطع مالاً يقاوم عمله ، كان ما يأخذه فاضلاً من أموال المسلمين لا حق له فيه . و على من أطلقه في ذلك إثم أيضاً .
   
هذا و إذا كان حرماً أو غصباً فكل تصرف فيه حرام ، و الواجب رده على من أخذ منه له على ورثتهم .
   
فإن لم يعرف طريق الرد كان في بيت مال المسلمين ، يصرف في مصالحهم أو يصرف في الصدقة ، و لم يحظ آخذه بغير الإثم .
   
أنبأنا أحمد بن الحسن بن البنا قال : أخبرنا محمد بن علي الزجاجي ، قال : أخبرنا عبد الله بن محمد الأسدي ، قال : أخبرنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا أبو داوود ، قال : حدثنا محمد بن عون الطائي ، قال : حدثنا أبو المغيرة ، قال : حدثنا الأوزعي ، قال : حدثني موسى بن سليمان ، قال : سمعت القاسم بن مخيمرة ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من اكتسب مالاً من مأثم ، فوصل رحماً ، أو تصدق به ، أو أنفقه في سبيل الله ، جمع ذلك جميعاً فقذف بهفي جهنم .
   
فأما إذا كان الباني تاجراً مكتسباً للحلال ، فبنى مسجداً أو وقف و قفاً للمتفقهة ، فهذا مما يثاب عليه .
   
و يبعد من يكتسب الحلال حتى يفضل عنه هذا المقدار ، أو يخرج الزكاة مستقصاة ، ثم يطيب قلبه بمثل هذا البناء و النفقة .
   
إذ مثل هذا البنيان لا يجوز أن يكون من زكاة .
   
و أين سلامة النية و خلوص المقصد .
   
و إن بناء المدارس اليوم مخاطرة ، إذ قد انعكف أكثر المتفقهة على علم الجدل ، و أرعضوا عن علوم الشريعة ، و تركوا التردد إلى المساجد ، و قنعوا بالمدارس و الألقاب .
   
و أما بناء الأربطة فليس بشيء أصلاً ، لآن جمهور المتصوفة جلوس على بساط الجهل و الكسل ، ثم يدعي مدعيهم المحبة و القرب ، و يكره التشاغل بالعلم ، و قد تركوه سيرة سري و عادات الجنيد ، و اقتنعوا بأداء الفرائض ، و رضوا بالمرقعات .
   
فلا تحسن إعانتهم على بطالتهم و راحتهم ، و لا ثواب في ذلك .

 

·       فصل : القلوب تشهد للصالح بالصلاح


   
عجبت لمن يتصنع للناس بالزهد يرجو بذلك قربه من قلوبهم ، و ينسى أن قلوبهم بيد من يعمل له . فإن رضي عمله و رآه خالصاً لفت القلوب إليه ، و إن لم يره خالصاً أعرض بها عنه .
   
و متى نظر العامل إلى إلتفات القلوب إليه فقد زاحم الشرك لأنه ينبغي أن يقنع بنظر من يعمل له .
   
و من ضرورة الإخلاص ألا يقصد إلتفات القلوب إليه ، فذاك يحصل لا بقصده بل بكراهته لذلك .
   
و ليعلم الإنسان أن أعماله كلها يعلمها الخلق جملة . و إن لم يطلعوا عليها .
   
فالقلوب تشهد للصالح بالصلاح ، و إن لم يشاهد منه ذلك .
   
فأما من يقصد رؤية الخلق بعمله فقد مضى العمل ضائعاً ، لأنه غير مقبول عند الخالق و لا عند الخلق ، لأن قلوبهم قد ألفتت عنه ، فقد ضاع العمل و ذهب العمر .
   
و لقد أخبرنا ابن الحصين ، قال : أخبرنا ابن المذهب ، قال : أخبرنا أحمد بن جعفر ، قال : حدثنا حسن بن موسى ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، قال : حدثنا دراج ، عن أبي الهثيم ، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب و لا كوة لخرج الناس عمله كائناً ما كان
   
فليتق الله العبد ، و ليقصد من ينفعه قصده ، و لا يتشاغل بمدح من عن قليل يبتلي هو . . . و هم .

 

·       فصل : سيرة السلف الصالح

 
   
قدم علينا بعض الفقهاء من بلاد الأعاجم ، و كان قاضياً ببلده ، فرأيت على دابته الذهب و معه أنوار الفضة و أشياء كثيرة من المحرمات .
   
فقلت : أي شيء أفاد هذا العلم ؟ بل و الله قد كثرت عليه الحجج .
   
و أكبر الأسباب قلة علم هؤلاء بسيرة السلف و ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، إنهم يجهلون الجملة ، ويتشاغلون بعلم الخلاف ، و يقصدون التقدم بقشور المعرفة و ليس يعنيهم سماع حديث و لا نظر في سير السلف .
   
و يخالطون السلاطين فيحتاجون إلى التزيي بزيهم ، و ربما خطر لهم أن هذا قريب ، و إن لم يخطر لهم فالهوى غالب بلا صاد .
   
و ربما خطر لهم أن : هذا يحتمل و يغفر ، في جانب تشاغلنا بالعلم . ثم يرون العلماء يكرمونهم لنيل شيء من دنياهم ، و لا ينكرون عليهم .
   
و لقد رأيت من الذين ينتسبون إلى العلم من يستصحب المردان ، و يشتري المماليك ، و ما كان يفعل هذا إلا من قد يئس من الآخرة .
   
و رأيت من قد بلغ الثمانين من العلماء ، و هو على هذه الحالة .
   
فالله الله من يريد حفظ دينه و يوقن بالآخرة ، إياك و التأويلات الفاسدة ، الأهواء الغالبة ، فإنك أن ترخصت بالدخول في بعضها جرك الأمر إلى الباقي ، و لم تقدر على الخروج لموضع إلف الهوى .
   
فإقبل نصحي ، و اقنع بالكسرة ، و ابعد عن أرباب الدنيا ، فإذا
   
ضج الهوى فدعه لهذا .
   
وربما قال لك : فالأمر الفلاني قريب ، فلا تفعل ، فإنه لو كان قريباً يدعو إلى غيره و يصعب التلافي .
   
فالصبر الصبر على شظف العيس ، و البعد عن أرباب الهوى ، فما يتمدين إلا بذلك .
   
و متى وقع الترخص حمل إلى غيره ، كالشاطئ إلى اللجة . و إنما هو طعام دون طعام و لباس دون لباس ، و وجه أصبح من وجه ، و إنما هي أيام يسيرة .

 

·       فصل : سلم لما لا تعلم


   
من تفكر في عظمة الله عز وجل ، طاش عقله ، لأنه يحتاج أن يثبت موجوداً
   
لا أول لوجوده . هذا شيء لا يعرفه والحس ، و إنما يقربه العقل ضرورة .
   
و هو متحير بعد الإقرار ، ثم يرى من أفعاله ما يدل على و جوده ثم تجري في أقداره أمور لولا ثبوت الدليل على وجوده لأوجبت الجحد .
   
فإنه يفرق البحر لبني إسرائيل ، و ذلك شيء لا يقدر عليه سوى الخالق ، و يصير العصا حية ثم يعيدها تلقف ما صنعوا ولا يزيد فيها شيء .
   
فهل بعد هذا بيان ؟
   
فإذا آمنت السحرة تركهم مع فرعون يصلبهم و لا يمنع ، و الأنبياء يبتلون بالجوع و القتل ، و زكريا ينشر ، و يحيى تقتله زانية ، و نبينا صلى الله عليه و سلم يقول كل عام : من يؤويني ؟ من ينصرني ؟
   
فيكاد الجاهل بوجود الخالق يقول : لو كان موجوداً لنصر أولياءه .
   
فينبغي للعاقل الذي قد ثبت عنده وجوده بالأدلة الظاهرة الجلية ألا يمكن عقله من الإعتراض عليه في أفعاله، لا يطلب لها علة .
   
إذ قد ثبت أنه مالك و حكيم ، فإذا خفي علينا وجه الحكمة في فعله ، نسبنا ذلك العجز إلى فهومنا .
   
و كيف لا وقد عجز موسى عليه السلام أن يعرف حكمة خرق السفينة ، و قتل الغلام ، فلما بان له حكمة ذلك الفساد في الظاهرة أقر .
   
فلو قد بانت الحكمة في أفعال الخالق جحد العقل جحد موسى يوم الخضر .
   
فمتى رأيت العقل يقول لم فأخرسه بأن تقول له : يا عاجز أنت لا تعرف حقيقة نفسك ، فما لك و الإعتراض على المالك ؟
   
و ربما قال العقل : أي فائدة في الابتلاء و هو قادر أن يثيب و لا بلاء ؟
   
و أي غرض في تعذيب أهل النار و ليس ثم تشف ؟
   
قل له حكمته فوق مرتبتك ، فسلم لما لا تعلم ، فإن أول من إعترض بعقله إبليس ، رأى فضل النار على الطين فأعرض عن السجود .
   
و قد رأينا خلقاً كثيراً و سمعنا عنهم أنهم يقدحون في الحكمة لأنهم يحكمون العقول على مقتضاها ، و ينسون أن حكمة لخالق وراء العقول .
   
فإياك أن تفسح لعقلك في تعليل ، أو أن تطلب له جواب إعتراض ، و قل له : سلم تسلم ، فإنك لا تدري غور البحر إلا و قد أدركك الغرق قبل ذلك .
   
هذا أصل عظيم ، متى فات الآدمي أخرجه الاعتراض إلى الكفر .

 

·       فصل : الخروج للمقابر للعظة

 

   العجب ممن يقول : أخرج إلى المقابر فاعتبر بأهل البلى . و لو فطن علم أنه مقبرة يغنيه الإعتبار بما فيها عن غيرها .
   
خصوصاً من قد أوغل في السن ، فإن شهوته ضعفت ، و قواه قلت ، و الحواس كلت ، و النشاط فتر و لشعر إبيض .
   
فليعتبر بما فقد ، و ليستغن عن ذكر من فقد فقد إستغنى بما عنده التطلع إلى غيره .

 

·       فصل : لا غفلة لكامل العقل

 
   
متى تكامل فقدت لذة الدنيا ، فتضاءل الجسم ، و قوي السقم ، و اشتد الحزن .
   
لأن العقل كلما تلمح العواقب أعرض عن الدنيا ، و إلتفت إلى ما تلمح و لا لذة عنده بشيء من العاجل .
   
و إنما يلتذ أهل الغفلة عن الآخرة ، و لا غفلة لكامل العقل .
   
و لهذا لا يقدر على مخالطة الخلق ، لأنهم كأنهم من غير جنسه ، كما قال الشاعر :
   
ما في الديار أخو وجد نطارحه       حديث نجد و لا خل نجاريه

 

·       فصل : هل البعث للروح أم للجسد ؟


   
إذ دعى الطبيعيون أن مادة الموجودات الماء و التراب و النار و الهواء ، فإذا كان في القيامة أذهب الأصول ، ثم أعاد الله الحيوان ليعلم أنها كانت بالقدرة لا عن تأثير الكليات .
   
أقول : من قدح في البعث فقد بالغ في القدح في الحكمة .
   
و من قال : الروح عرض ، فقد جحد البعث ، لأن العرض لا يبقى و الأجساد تصير تراباً ، فإن وجد شيء ، فهو ابتداء خلق .
   
كلا و الله بل يعيد النفس بعينها روحاً و جسداً بدليل إعادة مذكوراتها قال قائل منهم إني كان لي قرين .
   
و عزته ، إن لطفه في البداية ، لدليل على النهاية .
   
حنن الوالدين ، و أجرى اللبن في الثدي ، و أنشأ الأطعمة ، و أطلع العقل على العواقب .
   
أفيحسن أن يقال بعد هذا للتدبير ، إنه يمهل بعد الموت فلا يبعث ؟
   
أترى من أحب أن يعرف فأنشأ الخلق و قال : كنت كنزاً لا أعرف فأحببت أن أعرف . يؤثر أن يعدمهم فيجهل قدره ؟
   
سبحان من أعمى أكثر القلوب عن معرفته .
   

 

·       فصل : الصنعة كدليل على وجود الصانع


   
سبحان من ظهر لخلقه لم يبق خفاء ، ثم خفى حتى كأنه لا ظهور .
   
أي ظهور أجلى من هذه المصنوعات التي تنطق كلها بأن لي صانعاً صنعني و رتبني على قانون الحكمة .
   
خصوصاً هذا الآدمي الذي أنشأه من قطرة ، و بناه على أعجب فطرة ، و رزفه الفهم و الذهن و اليقظة و العلم ، و بسط له المهاد ، و أجرى له الماء و الريح ، و أنبت له الزرع ، و رفع له من فوقه السماء ، فأوقد له مصباح الشمس بالنهار ، و جاء بالظلمة ليسكن ، إلى غير ذلك ، مما لا يخفى .
   
و كله ينطق بصوت فصيح يدل على خالقه . و قد تجلى الخالق سبحانه بهذه الأفعال ، فلا خفاء .
   
ثم بعث الرسل فقراء من الدنيا ، صعاف الأبدان ، فقهر بهم الجبابرة ، و أظهر على أيديهم من المعجزات ما لا يدخل تحت مقدور بشر ، و كل ذلك ينطق بالحق ، و قد تجلى سبحانه بذلك .
   
ثم يأتي موسى عليه السلام إلى البحر فينفرق ، فلا يبقى شك في أن الخالق فعل هذا .
   
و يكلم عيسى عليه السلام ، الميت ، فيقوم . و يبعث طيراً أبابيل تحفظ بيته ، فيهلك قاصديه .
   
و هذا أمر يطول ذكره . كله يدل على تجلي الخالق سبحانه بغير خفاء .
   
فإذا ثبت عند العقلاء ذلك من غير ارتياب و لا شك ، ثم جاءت أشياء كأنها تستر الظاهر ، مثل ما سبق من تسليط الأعداء على الأولياء .
   
إذا ثبت التجلي بأدلة لا تحتمل التأويل ، علمت أن لهذا الخلفاء سراً لا نعلمه ، يفترض على العقل فيه التسليم للحكيم .
   
فمن سلم سلم ، و من إعترض هلك .

 

·       فصل : الإجتهاد في معرفة الحق


   
قد يدعي أهل كل مذهب الاجتهاد في طلب الصواب أكثرهم لا يقصد إلا الحق ، فترى الراهب يتعبد و يتجوع ، و اليهودي يذل و يؤدي الجزية .
   
و صاحب كل مذهب يبالغ فيه و يتحمل الضيم و الأذى للهدى و تحصيل الأجر ـ في إعتقاده ـ و مع هذا فيقطع بضلال الأكثرين .
   
و هذا قد يشكل . و إنما كشفه أنه ينبغي أن يطلب الهدى بأسبابه ، و يستعمل الإجتهاد بالإبانة .
   
فأما من فاتته الأسباب ، أو فقد بعض الآلات ، فلا يقال له مجتهد .
   
فاليهود و النصارى بين عالم قد عرف صدق كنبينا صلى الله عليه و سلم لكنه يجحد إبقاء لرئاسته فهذا معاند، و بين مقلد لا ينظر بعقله فهذا مهمل ، فهو يتعبد مع إهمال الأصل ، و ذاك لا ينفع ، و بين ناظر منهم لا ينظر حق النظر ، فيقول : في التوراة إن ديننا لا ينسخ . و نسخ الشرائع لاختلاف الأزمنة حق ، و لكنه يقول النسخ بداء و لا ينظر في الفرق بينهما ، فينبغي أن ينظر حق النظر .
   
و من هذا الجنس تعبد الخوارج مع إقناعهم بعلمهم القاصر ، و هو قولهم : لا حكم إلا لله ، و لم يفهموا أن التحكيم من حكم الله فجعلوا قتال علي رضي الله عنه و قتله مبنياً على ظنهم الفاسد .
   
و لما نهب مسلم بن عقبة المدينة و قتل الخلق قال : إن دخلت النار بعد هذا إنني لشقي .
   
فظن بجهله أنهم لما خالفوا بيعة يزيد يجوز استباحتهم و قتلهم .
   
فالويل لعامي قليل العلم لا يتهم نفسه في واقعة و لا يذاكر من هو أعلم منه ، بل يقطع بظنه و يقدم .
   
و هذا أصل ينبغي تأمله ، فقد هلك في إهماله خلق لا تحصى . و قد رأينا خلقاً من العوام إذا وقع لهم واقعة لم يقبلوا فتوى وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية .

 

·       فصل : التقوى خير ذخيرة للنفس


   
للنفس ذخائر في البدن ، منها الدم و المني و أشياء تتقوى بها . فإذا فقدت الذخائر و لم يبق منها شيء ذهبت .
   
و من ذخائرها بالمال و الجاه و ما يوجب الفرح . فإذا فقدت ذلك و كانت عزيزة ذات أنفة حرجت .
   
و قد يهجم عليها الخوف فلا تجد ذخيرة من الرجاء يقاومه فتذهب .
   
و يغلب عليها الفرح فلا تجد من الحزن ما يقاومه فتذهب .
   
فاجتهد كفي حفظ ذخائرها و خصوصاً الشيخ ، فإنه ينبغي له ألا يفرح بإخراج الدم ، و لا بإخراج المني و إن وجد شبقاً ، إلا أن يكون الشبق زائداً في الحد فيخرج المؤذي في كل حين .
   
و علامة أن يكون مؤذياً وجود الرحة عند خروجه ، فمتى وجد ضعفاً فقد آذى خروجه .
   
و ليحفظ ذو الأنفة على نفسه حشمته ، بألا يقف في موقف يعاب به ، فإنه يتمتع بذخيرة العز و الأنفة و يضاد النفس ضد ذلك .
   
و كذلك ينبغي أن يستعد لآخر عمره بالمال مخافة أن يحتاج فيذل أو يسعى و قد كلت الآلة .
   
و لأن يخلف لعدوه ، أولى من أن يحتاج إلى صديقه .
   
و لا يلتفت إلى من يذم المال ، فإنهم الحمقى الجهال ، الذين اتكلوا على خبز الراحة فاستطابوا الكسل و الدعة ، و لم يأنفوا من تناول الصدقة ، و لا من التعرض للسؤال .
   
و قد كان لكل نبي معاش ، و لجميع الصحابة ، و خلفوا أموالاً كثيرة .
   
فافهم هذا الأصل ، و لا تلتفت إلى كلام الجهال .

 

·       فصل : الزهد الكاذب


   
رأيت في زهاد زماننا من الكبر و حفظ الناموس ، و رتبة الجاه في قلوب العامة ، ما كدت أقطع به أنهم أهل رياء و نفاق .
   
فترى أحدهم يلبس الثوب الذي يرى بعين الزهد ، و يأكل أطايب الطعام ، و يتكبر على أبناء الجنس ، و يصادق الأغنياء ، و يباعد الفقراء ، و يحب الخطاب بمولانا ، و المشي بحاجيه ، و يضيع الزمان في الهذيان ، و يتفاوت بخدمة الناس له و التسليم عليه .
   
و لو أنه لبس ثوباً يخلطه بالفقهاء لذهب الجاه و لم يبق له متعلق . و لو أن أفعاله ناسبت ثيابه لهان الأمر ، لكنهم بهرجوا على من لا يخفى أمرهم عليه من الخلق ، فكيف الخالق سبحانه و تعالى ؟

 

 

·       فصل : التشاغل بالمعاش


   
كثيراً ما أعيد هذا المعنى الذي أنا ذاكره في هذا الكتاب بعبارات.
   
ينبغي للمؤمن أن يتشاغل بمعاشه و يرفق في نفقته .
   
فإنه قد كان للعلماء ، شيء من بيت المال و رفق من الإخوان ، و معونة من العوام . فانقطع الكل ، و بقي المتشاغل بالعلم أو التعبد مسكيناً ، خصوصاً ذو العائلة .
   
و ما رأينا مثل هذا الزمان القبيح . فما بقي من يومىء إليه بمعونة و لا باستقراض فيحتاج الإنسان المؤمن أن يدخل في مداخل لا تليق به ، و آن يتعرض بما لا يصلح .
   
فينبغي تقليل العائلة ، و تقويت القوت ، و ترقيع الخلق .
   
و إن أمكن معاش فهو أولى من التشاغل بالتعبد و التعلم لفضول العلم ، و إلا ضاع الدين في مداخل لا تصلح ، أو التعريض لبذل نذل .

 

·       فصل : لا يغني حذر عن قدر


   
ينبغي للعاقل أن يحرز غاية ما يمكنه ، فإذا جرى القدر مع احترازه لم يلم .
   
و الإحتراز ينبغي من كل شيء يمكن و وقوعه ، و أخذ العدة لذلك واجب ، وهذا يكون في كل حال ، فقد قص رجل ظفره فجار عليه فخبثت يده فمات .
   
و مر شيخنا أحمد الحربي هو راكب بمكان ضيق فتطأطأ على السرج فإنعصر فؤاده ، فمرض فمات .
   
و كان يحي بن نزار شيخاً يحضر مجلسي قد طرق عليه ثقل الأذن ، فاستدعى طرقياً فمص أذنه فجرى شيء من مخه فمات .
   
و أنظر إلى إحتراز رسول الله صلى الله عليه و سلم حين مر على حائط مائل فأسرع .
   
و ينبغي أن يحترز بالكسب في زمن شبابه إدخاراً لزمن شيبه .
   
و لا ينبغي أن يثق بمعامل إلا بوثيقة . يبادر بالوصية مخافة أن يطرقه الموت ، و يحتزر من صديقه فضلاً عن عدوه .
   
و لا يثق بمودة من قد آذاه هو فإن الحقد في القلوب قلما يزول .
   
و ليحترز من زوجته ، فربما أطلعها على سره ، ثم طلقها فيتأذى بما تفعل به .
   
و قد كان ابن أفلح الشاعر يكاتب رئيساً في زمن المسترشد فعلم بذلك بوابه ، و أتفق أنه صرف بوابه فنم عليه و نقضت داره .
   
فهذه المذكرات أمثلة تنبه على ما لم يذكر .
   
و أهم الكل أن يحترز بأخذ العدة ، و تحقيق التوبة ، قبل أن يهجم عليه ما لا يؤمن هجومه .
   
و ليحذر من لص الكسل ، فإنه محتال على سرقة الزمان .

 

·       فصل : اللذات الحسية


   
تأملت خصومات الملوك ، و حرص التجار ، و نفاق المتوهدين ، فوجدت جمهور ذلك على لذات الحس .
   
و إذا تفكر العاقل في ذلك علم أن أمر الحسيات قريب يندفع بأقل شيء ، و أن الغاية منه لا يمكن نيلها .
   
و إن بالغ عاد بالأذى على نفسه أضعاف ما ناله من اللذة ، كمن يأكل كثيراً أو
   
ينكح كثيراً .
   
فالسعيد من إهتم لحفظ دينه ، و أخذ من ذلك بمقدار الحاجة .
   
واعجباً ، هذا الملبوس إذا كان وسطاً خدم ، و إذا كان مرتفعاً خدم .
   
فإن نظر اللابس إليه معجباً به ، فإن الله لا ينظر إليه حينئذ .
   
و في الصحيح : بينا رجل يتبختر في بردته خسف به .
   
و المشروب إن كان حراماً ، فعقابه أضعاف لذته .
   
و هتكه العرض بين الناس عقاب آخر .
   
و إن كان مباحاً ، فالشره فيه يؤذي البدن .
   
و أما المنكوح فمداراة المستحسن يؤذي كل أذى .
   
و مقاساة المستقبح أشد أذى . فعليك بالتوسط .
   
و تفكر في أحوال السلاطين كم قتلوا ظلماً ، و كم ارتكبوا حراماً ؟ و ما نالوا إلا يسيراً من لذات الحس .
   
فإنقشع غيم العمر عن حسرات الفضائل و حصول العقاب .
   
فليس في الدنيا أطيب عيشاً من منفرد عن العالم بالعلم ، فهو أنيسه و جليسه قد قنع بما سلم به دينه من المباحات الحاصلة ، لا عن تكلف و لا تضييع دين ، و ارتدى بالعز عن الذل للدنيا و أهلها ، و التحف بالقناعة بالسير ، إذ لم يقدر على الكثير ، فوجدته يسلم دينه و دنياه .
   
و إشتغاله بالعلم يدله على الفضائل ، و يفرحه في البساتين ، فهو يسلم من الشيطان و السلطان و العوام بالعزلة .
   
و لكن لا يصلح هذا إلا للعالم ، فإنه إذا إعتزل الجاهل فاته العلم فتخبط .

 

·       فصل : فضل الإعادة و الحفظ


   
تأملت حالة تدخل على طلاب العلم توجب الغفلة عن المقصود ، و هو حرصهم على الكتابة ،خصوصاً المحدثين ، فيستغرق ذلك زمانهم عن أن يحفظوا و يفهموا ، فيذهب العمر و قد عروا عن العلم إلا اليسير .
   
فمن وفق جعل معظم الزمان مصروفاً في الإعادة و الحفظ و جعل وقت التعب من التكرار للنسخ فيحصل له المراد .
   
و الموفق من طلب المهم ، فإن العمر يعجز عن تحصيل الكل ، و جمهور العلوم الفقه .
   
و في الناس من حصل له العلم و غفل عن العمل ، بمقتضاه ، و كأنه ما حصل شيئاً.
   
نعوذ بالله من الخذلان .

 

·       فصل : التثبت و النظر في العواقب

 
   
ما إعتمد أحد أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت ، فإنه متى عمل بواقعه من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم .
   
و لهذا أمر بالمشاورة لأن الإنسان بالتثبت يفتكر فتعرض على نفسه الأحوال و كأنه شاور .
   
و قد قيل : خمير الرأي خير من فطيره .
   
و أشد الناس تفريطاً من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت و لا استشارة .
   
خصوصاً فيما يوجبه الغضب ، فإنه طلب الهلاك أو الندم العظيم .
   
و كم من غضب فقتل و ضرب ، ثم لما سكن غضبه بقي طول دهره في الحزن و البكاء و الندم .
   
و الغالب في القاتل أنه يقتل فتفوته الدنيا و الآخرة . فكذلك من عرضت له شهوة فاستعجل لديها و نسي عاقبتها .
   
فكم من ندم يتجرعه في باقي عمره ، وعتاب يستقبله من بعد موته ، و عقاب لا يؤمن وقوعه .
   
كل ذلك للذة لحظة كانت كبرق .
   
فالله الله ، التثبت التثبت في كل الأمور ، و النظر في عواقبها .
   
خصوصاً الغضب المثير للخصومة و تعجيل الطلاق .

 

·       فصل : الكمال للخالق وحده


   
سألني سائل ، قد قال بعض الحكماء : من لم يحترز بعقله هلك بعقله فما معنى هذا ؟ فبقيت مدة لا ينكشف لي المعنى ،ثم إتضح .
   
و ذلك أنه إذا طلبت معرفة ذات الخالق سبحانه من العقل فزع إلى الحس فوقع التشبيه .
   
فالاحتراز من العقل بالعقل هو أن ينظر ، فيعلم أنه لا يجوز أن يكون جسماً ، و لا شبهاً لشيء .
   
و إذا نظر العاقل إلى أفعال الباري سبحانه ، رأى أشياء لا يقتضيها العقل مثل الآلام ، و الذبح للحيوان و تسليط الأعداء على الأولياء ، مع القدرة على المنع ، و الابتلاء بالمجاعة للصالحين ، و المعاقبة على الذنب بعد البعد بزلة ، و أشياء كثيرة من هذا الجنس يعرضها العقل على العادات في تدبيره ، فيرى أنه لا حكمة تظهر له فيها .
   
أن يقال له : أليس قد ثبت عندي أنه مالك و أنه حكيم و أنه لا يفعل فيقول : بلى .
   
فيقال : فنحن نحترز من تدبيرك الثاني بما ثبت عندك في الأول .
   
فلم يبق إلا أنه خفي عليك وجه الحكمة في فعله .
   
فيجب التسليم له ، لعلمنا أنه حكيم .
   
حينئذ يذعن و يقول : قد سلمت .
   
و كثير من الخلق نظروا لمقتضى واقع العقل الأول ، فاعترضوا .
   
حتى إن العامي يقول : كيف قصى على سوء عاقبتي ؟ و لم ضيق رزقي ؟
   
و ما وجه الحكمة في إبتلائي بفنون البلاء ؟
   
و لو أنه تلمح أنه مالك حكيم ، لم يبق إلا التسليم لما خفي .
   
و لقد أنس ببديهة العقل خلق من الأكابر أولهم إبليس ، فإنه رأى تفضيل النار على الطين ، فاعترض .
   
و رأينا خلقاً ممن نسب إلى العلم قد زلوا في هذا و إعترضوا ، و رأوا أن كثيراً من الأفعال لا حكمة تحتها .
   
و السبب ما ذكرنا ، و هو الأنس بنظر العقل في البديهة و العادات ، و القياس على أفعال المخلوقين .
   
و لو استخرجوا علم العقل الباطن ، و هو أنه قد ثبت الكمال للخالق ، و انتفت عنه النقائض ، و علم انه حكيم لا يعبث ، لبقي التسليم لما لا يعقل .
   
و اعتبر هذا بحال الخضر و موسى عليهما السلام ، لما فعل الخضر أشياء تخرج عن العادات ، أنكر موسى و نسي إعلامه له بأني أنظر فيما لا تعلمه من العواقب .
   
فإذا خفيت مصلحة العواقب على موسى عليه السلام مع مخلوق ، فأولى أن يخفى علينا كثير من حكمة الحكيم .
   
و هذا أصل إن لم يثبت عند الإنسان أخرجه إلى الإعتراض و الكفر ، و إن ثبت إستراح عند نزول كل آفة .

 

·       فصل : أعظم التوسل إلى الله با لله

 
   
بلغني عن بعض الكرماء أن رجلاً سأله فقال : أنا الذي أحسنت إلي يوم كذا و كذا ، فقال : مرحباً بمن يتوسل إلينا بنا ، ثم قضى حاجته .
   
فأخذت من ذلك إشارة ، فناجيت بها فقلت : أنت الذي هديته من زمن الطفولة ، و حفظته من الضلال ، و عصمته عن كثير من الذنوب و ألهمته طلب العلم لا بفهم لشرفه ، لموضع الصغر ، و لا بحب والده ، و رزقته فهماً لتفقهه و تصنيفه ، و هيأت له أسباب جمعه ، و قمت برزقه من غير تعب منه ، و لا ذل للخلق بالسؤال ، و حاميت عنه الأعداء ، فلم يقصده جبار ، و جمعت له ما لم تجمع لأكثر الخلق من فنون العلم ، التي لا تكاد تجتمع في شخص ، و أضفت إليها تعلق القلب . بمعرفتك و محبتك ، وحسن العبارة و لطفها في الدلالة عليك ، و وضعت له في القلوب القبول حتى أن الخلق يقبلون عليه و يقبلون ما يقوله ، و لا يشكون فيه ، و يشتاقون إلى كلامه ، و لا يدركهم الملل منه ، و صنته بالعزلة عن مخاطبة من لا يصلح ، و آنسته في خلوته بالعلم تارة ، و بمناجاتك أخرى . و إن ذهبت أعد لم أقدر على إحصاء عشير العشير و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها .
   
فيا محسناً إلي قبل أن أطلب . لا تخيب أملي فيك و أنا أطلب .
   
فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك .

 

·       فصل : شر البلاء عشق المال

 
   
سبحان من جعل الخلق بين طرفي نقيض ، و المتوسط منهم يندر .
   
منهم من يغضب فيقتل و يضرب .
   
و منهم من هو أبله بقوة الحلم لا يؤثر عنده السب .
   
و منهم شره يتناول كل ما يشتهي .
   
و منهم متزهد يتجفف فيمنع النفس حقها .
   
و كذلك سائر الأشياء المحمود منها المتوسط .
   
فالمنفق كل ما يجد مبذر ، و البخيل يخبىء المال ، و يمنع نفسه حظها .
   
و معلوم أن المال لا يراد لنفسه ، بل للمصالح ، فإذا بذر الإنسان فيه إحتاج إلى بذل و جهه و دينه ، و منه البخلاء عليه ، و هذا لا يصلح .
   
و لأن يخلف الإنسان لعدوه أحسن من أن يحتاج إلى صديقه .
   
و من الناس من يبخل ، ثم يتفاوتون في البخل حتى ينتهي البلاء بهم إلى عشق عين المال .
   
فربما مات أحدهم هزالاً و هو لا ينفقه ، فيأخذه الغير و يندم المخلف .
   
و لقد بلغني في هذا ما ليس فوقه مزيد ، ذكرته لتعتبر به .
   
فحدثني شيخنا أبو الفضل بن ناصر ، عن شيخه عبد المحسن الصوري ، قال : [ كان بصور تاجر في غرفة له يأخذ كل ليلة من البقال رغيفين و جوزة ، فيدخل إلى غرفته و قت المغرب ، فيضرم النار في الجوزة فتضيء بمقدار ما ينزل ثوبه .
   
و في زمان إحراق القشر تكون قد استوت فيمسح بها الرغيفين و يأكلهما .
   
فبقي على هذا مدة فمات ، فأخذ منه ملك صور ثلاثين ألفاً ] .
   
و رأيت أن رجلاً من كبار العلماء قد مرض ، فاستلقى عند بعض أصدقائه ، ليس له من يخدمه ، و لا يرافقه ، و هو مضر فلما مات و جدوا بين كتبه خمسمائة دينار .
   
و حدثني أبو الحسن الراندسي ، قال : [ مرض رجل عندنا ، فبعث إلي فحضرت ، فقال : قد : ختم القاضي على مالي ، فقلت : إن شئت قمت و فتحت الختم و أعطيتك الثلث تفرقة و تعمل به ما تشاء .
   
فقال : لا و الله ما أريد أن أفرقه ، بل أريد مالي أن يكون عندي . فقلت : ما يعطونك بلى أنا آخذ لك الثلث كي تكون حراً فيه .
   
فقال : لا أريد ، فمات و أخذ ماله ] .
   
قال : [ وجاء رجل فحدثني بعجيبة ، قال : مرضت حماتي ، فقالت لي : أريد أن تشتري لي خبيصاً ، فإشتريت لها ، و كانت ملقاة في صفة ، و نحن في صفة أخرى .
   
فجاءني ولدي الصغير و قال : يا سيدي ، إنها تبلع الذهب ، فقمت . و إذا بها تجعل الدينار في شيء من الخبيص فتبلعه .
   
فأمسكت يدها و زجرتها عن هذا .
   
فقالت : أنا أخاف أن تتزوج على إبنتي ، فقلت : ما أفعل ، فقالت إحلف لي ، فحلفت ، فأعطتني باقي الذهب ، ثم ماتت فدفنتها .
   
فلما كان بعد أشهر ، مات لنا طفل ، فحملناه إليها ، و أخذت معي خرقة خام ، و قلت للحفار : إجمع لي عظام تلك العجوز في الخرقة ، فجئت بها إلى البيت و تركتها ، في أجانة ، و صببت عليها الماء و حركتها ، فأخرت ثمانين ديناراً أو نحوها كانت قد إبتلعتها ] .
   
و حكى لي صديق لنا ، أن رجلاً مات و دفن في الدار ، ثم نبش بعد مدة ليخرج فوجد تحت رأسه لبنة مقيرة .
   
فسأل أهله عنها فقالوا : هو قير هذه اللبنة و أوصى أن تترك تحت رأسه في قبره و قال : إن اللبن يبلى سريعاً ، و هذه لموضع القار لا تبلى .
   
فأخذوها فوجدوها رزينة ، فكسروها فوجدوا فيها تسعمائة دينار فتولاها أصحاب التركات .
   
و بلغني أن رجلاً كان يكنس المساجد ، و يجمع ترابها ، ثم ضربه لبنا ، فقيل له هذا لأي شيء ؟ فقال : هذا تراب مبارك ، و أريد أن يجعلوه على لحدي ، فلما مات جعل على لحده ، ففضل منه لبنات ، فرموها في البيت ، فجاء المطر فتفسخت اللبنات فإذا فيها دنانير .
   
فمضوا وكشفوا اللبن عن لحده و كله مملوء دنانير .
   
و لقد مات بعض أصدقائنا و كنت أعلم أن له مالاً كثيراً ، و طال مرضه فما أطلع أهله علىشيء و لا أكاد أشك أنه من شحه و حرصه على الحياة ، و رجائه أن يبقى لم يعلمهم بمدفونه ، خوفاً أن يؤخذ فيحيا هو ، و قد أخذ المال .
   
و ما يكون بعد هذا الخزي شيء .
   
و حدثني بعض أصحابنا عن حالة شاهدها من هذا الفن . قال : [ كان فلان له و لدان ذكران و بنت و له ألف دينار مدفونة .
   
فمرض مرضاً شديداً فاحتوشته أهله ، فقال لأحد ابنيه : لا تبرح من عندي .
   
فلما خلا به قال له : إن أخاك مشغول باللعب بالطيور ، و إن أختك لها زوج تركي و متى وصل من مالي إليهما شيء أنفقوه في اللعب و أنت على سيتي و أخلاقي ، ولي في الموضع الفلاني ألف دينار ، فإذا أنا مت فخذها وحدك . فاشتد بالرجل المرض فمضى الولد فأخذ المال فعوفي الأب ، فجعل يسأل الولد أن يرد المال إليه فلا يفعل ، فمرض الولد فجعل الأب يتضرع إليه و يقول : ويحك خصصتك بالمال دونهم ، فتموت فيذهب المال ، و يحك لا تفعل ، فما زال به حتى أخبره بمكانه ، فأخذه ثم عوفي الولد ، و مضت مدة فمرض الأب ، فاجتهد الولد أن يخبره بمكان المال ، و بالغ فلم يخبره ، و مات و ضاع المال .
   
فسبحان من أعدم هؤلاء العقول و الفهوم ، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلوا سبيلا .

 

·       فصل : لا تنخدع بمن يظهر لك الود


   
كان لنا أصدقاء و إخوان أعتد بهم ، فرأيت منهم من الجفاء ، و ترك شروط الصداقة و الأخوة عجائب ، فأخذت أعتب .
   
ثم إنتبهت لنفسي فقلت : و ما ينفع العتاب ، فإنهم إن صلحوا فللعتاب لا للصفاء .
   
فهممت بمقاطعتهم ، ثم تفكرت فرأيت الناس بين معارف و أصدقاء في الظاهر وإخوة مباطنين ، فقلت : لا تصلح مقاطعتهم .
   
إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الأخوة ، إلى ديوان الصداقة الظاهرة .
   
فإن لم يصلحوا لها نقلتهم إلى جملة المعارف ، و عاملتهم معاملة المعارف ، و من الغلط أن تعاتبهم .
   
فقد قال يحيىبن معاذ : بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له أذكرني في دعائك .
   
و جمهور الناس اليوم معارف ، و يندر فيهم صديق في الظاهر ، فأما الأخوة و المصافات فذاك شيء نسخ ، فلا يطمع فيه .
   
و ما أرى الإنسان تصفو له أخوة من النسب و لا ولده و لا زوجته .
   
فدع الطمع في الصفا ، و خذ عن الكل جانباً ، و عاملهم معاملة الغرباء .
   
و إياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود ، فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره ، و ربما أظهر لك ذلك لسبب يناله منك .
   
و قد قال الفضيل بن عياض : إذا أردت أن تصادق صديقاً فأغضبه ، فإن رأيته كما ينبغي فصادقه .
   
و هذا اليوم مخاطرة ، لأنك إذا أغضبت أحداً صار عدواً في الحال .
   
و السبب في نسخ حكم الصفا ، أن السلف كان همتهم الآخرة و حدها ، فصفت نياتهم في الأخوة و المخالطة ، فكانت ديناً لا دنيا . و الآن فقدإستولى حب الدنيا على القلوب ، فإن رأيت متملقاً في باب الدين فأخبره تقله.

 

·       فصل : النفس تطلب مالا تقدر عليه


   
رأيت المعافى لا يعرف قدر العافية إلا في المرض كما لا يعرف شكر الإطلاق إلا في الحبس .
   
و تأملت على الآدمي حاله عجيبة ، و هو أن تكون معه إمرأة لا بأس بها ، إلا أن قلبه لا يتعلق بمحبتها تعلقاً يلتذ به .
   
و لذلك سببان : أحدهما : أن تكون غير غاية في الحسن . و الثاني : أن كل مملوك مكروه ، و النفس تطلب ما لا تقدر عليه .
   
فتراه يضح و يشتهي شيئاً يحبه أو امرأة يعشقها ، و لا يدري أنه إنما يطلب قيداً وثيقاً ، يمنع القلب من التصرف في أمور الآخرة ، أو في أي علم أو عمل و يخبطه في تصريف الدنيا ، فيبقى ذلك العاشق أسير المعشوق ، همه كله معه .
   
فالعجب لمطلق يؤثر القيد ، و مستريح يؤثر التعب .
   
فإن كانت تلك المرأة تحتاج أن تحفظ ، فالويل له لا قرار ، و لا سكون .
   
و إن كانت من المتبرجات اللواتي لا يؤمن فسادهن ، فذاك هلاكه بمرة .
   
فلا هو إن نام يلتذ بنومه ، ولا إن خرج من الدار يأمن من محنه .
   
و إن كانت تريد نفقة واسعة و ليس له ، فكم يدخل مدخل سوء لأجلها .
   
و إن كانت تؤثر الجماع و قد علت سنة ، فذاك الهلاك العظيم .
   
و إن كانت تبغضه فما بقيت من أسباب تلفه بقية ، فيكون هذا ساعياً في تلف نفسه ، كما قال القائل :
   
نحب القدود و نهوى الحدود       و نعلم أنا نحب المنوناً
   
و هذا على الحقيقة كعابد صنم .
   
فاليتق الله من عنده إمرأة لا بأس بها ، و ليعرض عن حديث النفس و مناها فما له منتهى .
   
و لو حصل له غرضه كما يريد ، وقع الملل و طلب ثالثه .
   
ثم يقع الملل و يطلب رابعة ، و ما لهذا آخر .
   
إنما يفيده ذلك في العاجلة تعلق قلبه و أسر لبه فيبقى كالمبهوت .
   
فكره كله في تحصيل ما يريد محبوبه ، فإن جرت فرقة أو آفة ، فتلك الحسرات الدائمة إن يبقى أو التلف عاجلاً .
   
و أين المستحسن المصون الدين القنوع المحب لمن يحبه هذا أقل من الكبريت الأحمر .
   
فلينظر في تحصيل ما يجمع معظم الهم ، و لا يلتفت إلى سواد الهوى و غاية المنى ، يسلم .

 

·       فصل : إنما يخشى الله من عباده العلماء


   
إذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملاً ، و إنما يرى إنعام الموفق لذلك العمل الذي يمنع العاقل أن يرى لنفسه عملاً أو يعجب به .
   
و ذلك بأشياء : منها أنه وفق لذلك العمل حبب إليكم الإيمان و زينه في قلوبكم .
   
و منها أنه إذا قيس بالنعم لم يف بمعشار عشرها .
   
و منها : أنه إذا لوحظت عظمة المخدوم ، إحتقر كل عمل و تعبد .
   
هذا إذا سلم من شائبه و خلص من غفلة ، فأما و الغفلاة تحيط به ، فينبغي أن يغلب الحذر من رده ، و يخاف العتاب على التقصير فيه ، فيشتغل عن النظر إليه .
   
و تأمل على الفطناء أحوالهم في ذلك ، فالملائكة الذي يسبحون الليل و النهار لا يفترون قالوا ما عبدناك حق عبادتك .
   
و الخليل عليه السلام يقول : و الذي أطمع أن يغفر لي و ما أدل بتصبره على النار و تسليمه الولد إلى الذبح . و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما منكم من أحد ينجيه عمله .
   
قالوا : و لا أنت ؟ قال : و لا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته .
   
و أبو بكر رضي الله عنه يقول : [ و هل أنا و مالي إلا لك يا رسول الله ] .
   
و عمر رضي الله عنه يقول : [ لو أن لي طلاع الأرض لإفتديت بها من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر ] .
   
و ابن مسعود يقول : [ ليتني إذا مت لا أبعث ] .
   
و عائشة رضي الله عنها تقول : [ ليتني كنت نسياً منسياً ] .
   
و هذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع .
   
و قد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الأفهام لما شرحته ، لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدنوا بها . فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة ، و أخرج له كل ليلة رمانة ، و سأل الله تعالى أن يميته في سجوده ، فإذا حشر قيل له أدخل الجنة برحمتي ، قال : بل بعملي ، فيوزن جميع عمله بنعمة واحدة فلا يفي ، فيقول : يارب برحمتك .
   
و كذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة ، فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحي من ذكره ، و هو أنه عزم على الزنا ،ثم خاف العقوبة فتركه .
   
فليت شعري بماذا يدل من خاف أن يعاقب على شيء فتركه تخوف العقوبة .
   
إنما لو كان مباحاً فتركه كان فيه ما فيه . و لو فهم لشغله خجل الهمة عن الإدلال ، كما قال يوسف عليه السلام : و ما أبرئ نفسي .
   
و الآخر ترك صبيانه يتضاغون إلى الفجر ليسقى أبويه اللبن . و في هذا البر أذى للأطفال ، و لكن الفهم عزيز .
   
و كأنهم لما أحسنوا ، قال لسان الحال كان أعطوهم ما طلبوا ، فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا .
   
و لولا عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه ، و لكان كل كامل خائفاً محتقراً لعلمه ، حذراً من التقصير في شكر ما أنعم عليه . و فهم هذا المشروح ينكس رأس الكبر ، و يوجب مساكنة الذل .
   
فتأمله فإنه أصل عظيم .

 

·       فصل : الخوف من الذنوب و لو بعد التوبة


   
ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه و إن تاب منها و بكى عليها .
   
و إني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة ، و كأنهم قد قطعوا على ذلك .
   
و هذا أمر غائب ، ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها .
   
و يؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح : أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام فيقولون : إشفع لنا فيقول : ذنبي . و إلى نوح عليه السلام فيقول : ذنبي . و إلى إبراهيم ، و إلى موسى ، و إلى عيسى صلوات الله و سلامه عليهم .
   
فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوباً حقيقة .
   
ثم إن كانت فقد تابوا منها و اعتذروا ، و هم بعد على خوف منها .
   
ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع . و ما أحسن ما قال الفضيل بن عياض رحمه الله : و اسوأتاه منك و إن عفوت . فأف و الله لمختار الذنوب و مؤثر لذة لحظة تبقى حسرة لا تزول عن قلب المؤمن و إن غفر له .
   
فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلاً .
   
و هذا أمر قل أن ينظر فيه تائب أو زاهد ، لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة .
   
و ما ذكرته يوجب دوام الحذر و الخجل .

 

·       فصل : إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم


   
نعوذ بالله من سوء الفهم و خصوصاً من المتسمين بالعلم .
   
روى أحمد في مسنده أنه : تنازع أبو عبد الرحمن السلمي و حيان بن عبد الله ، فقال أبو عبد الرحمن لحيان : قد علمت ما الذي حدا صاحبك ، يعني علياً .
   
قال : ما هو ؟
   
قال : قول النبي صلى الله عليه و سلم : لعل الله إطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .
   
و هذا سوء فهم من أبي عبد الرحمن حين ظن أن علياً قاتل و قتل إعتماداً على أنه غفر له .
   
و ينبغي أن يعلم أن معنى الحديث : لتكن أعمالكم المتقدمة ما كانت ، فقد غفرت لكم .
   
فأما غفران ما سيأتي فلا يتضمنه ذلك ، أتراه لو وقع من أهل بدر ـ و حاشاهم ـ الشرك ـ إذ ليسوا بمعصومين ـ أما كانوا يؤاخذون به ؟ فكذلك المعاصي .
   
ثم لو قلنا : إنه يتضمن غفران ما سيأتي ، فالمعنى أن مآلكم إلى الغفران .
   
ثم دعنا من معنى الحديث ، كيف يحل لمسلم أن يظن في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه فعل ما لا يجوز اعتماداً على أنه سيغفر له ؟ حوشى من هذا .
   
و إنما قاتل بالدليل المضطر له إلى القتال ، فكان على الحق .
   
و لا يختلف العلماء أن علياً رضي الله عنه لم يقاتل أحداً و الحق مع علي .
   
كيف و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم أدر معه الحق كيفا دار .
   
فقد غلط أبو عبد الرحمن غلطاً قبيحاً ، حمله عليه أنه كان عثمانياً ...

 

·       فصل : الزهد بلا إخلاص


   
تأملت على متزهدي زماننا أشياء تدل على النفاق و الرياء ، و هم يدعون الإخلاص .
   
منها أنهم يلتزمون زاوية فلا يزورون صديقاً ، و لا يعودون مريضاً ، و يدعون أنهم يريدون الانقطاع عن الناس اشتغالاً بالعبادة .
   
و أنما هي إقامة نواميس ليشار إليهم بالانقطاع ، إذ لو مشوا بين الناس زالت هيبتهم .
   
و ما كان الناس كذلك ، كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعود المريض و يشتري الحاجة من السوق ، و أبو بكر رضي الله عنه يتجر في البز . و أبو عبيدة بن الجراح يحفر القبور . و أبو طلحة أيضاً ، و ابن سيرين يغسل الموتى . و ما كان عند القوم إقامة ناموس .
   
و أصحابنا يلزمون الصمت بين الناس و التخشع و التماوت ، و هذا هو النفاق .
   
فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار ، و بين الناس ، و يبكي بالليل .
   
و قد رأيت من المتزهدين من يلزم المسجد و يصلي فيجتمع فيصلون الناس بصلاته ليلاً و نهاراً ، و قد شاع هذا له ، فتقوى نفسه عليه بحب المحمدة .
   
و النبي صلى الله عليه و سلم قال في صلاة التطوع : اجعلوا هذه في البيوت .
   
و في أصحابنا من يظهر الصوم الدائم ، و يتقوت بقول الناس : فلان ما يفطر أصلاً .
   
و هذا الأبله ما يدري أنه لأجل الناس يفعل ذلك ، لولا هذا كان يفطر و الناس يرونه يومين أو ثلاثة حتى يذهب عنه ذلك الاسم ثم يعود إلى الصوم .
   
و قد كان إبراهيم بن أدهم إذا مرض يترك عنده من الطعام ما يأكله الأصحاء .
   
و رأيت في زهادنا من يصلي الفجر يوم الجمعة بالناس ، و يقرأ المعوذتين و المعنى قد ختمت !
   
فإن هذه الأعمال هي صريحة في النفاق و الرياء .
   
و فيهم من يأخذ الصدقات و هو غني ، و لا يبالي أخذ الظلمة أو من أهل الخير ، و يمشي إلى الأمراء يسألهم ، و هو يدري من أين حصلت أموالهم .
   
فالله الله في إصلاح النيات ، فإن جمهور هذه الأعمال مردود .
   
قال مالك بن دينار : [ و قولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى ] .
   
و ليعلم المرائى أن الذي يقصده يفوته ، و هو التفات القلوب إليه .
   
فأنه متى لم يخلص حرم محبة القلوب ، و لم يلتفت إليه أحد ، و المخلص محبوب .
   
فلو علم المرائي أن قلوب الذين يرائيهم بيد من يعصيه ، لما فعل .
   
و كم رأينا من يلبس الصوف و يظهر النسك لا يلتفت إليه ، و آخر يلبس جيد الثياب و يبتسم و القلوب تحبه .
   
نسأل الله عز وجل إخلاصاً يخلصنا و نستعيد به من رياء يبطل أعمالنا إنه قادر .

 

·       فصل : ليس لك من الأمر شيء


   
من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف ، فإنه موضوع على عكس الأغراض .
   
فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض . فإن دعا و سأل بلوغ غرض تعبد الله بالدعاء . فإن أعطى مراده شكر ، و إن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلح في الطلب ، لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض ، و ليقل لنفسه و عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم .
   
من أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه ، و ربما إعترض في الباطن ، أو ربما قال : حصول غرضي لا يضر ، و دعائي لم يستجب .
   
و هذا كله دليل على جهله و قلة إيمانه و تسليمه للحكمة .
   
و من الذي حصل له غرض ثم لم يدرك ؟
   
هذا آدم طاب عيشه في الجنة و أخرج منها .
   
و نوح سأل في إبنه فلم يعط مراده . و الخليل إبتلى بالنار . و إسماعيل بالذبح و يعقوب بفقد الولد . ويوسف بمجاهدة الهوى ، و أيوب بالبلاء . و داود و سليمان بالفتنة ، وجميع الأنبياء على هذا . و أما ما لقي نبينا محمد صلى الله عليه و سلم من الجوع و الأذى و كدر العيش فمعلوم .
   
فالدنيا و ضعت للبلاء ، فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر ، و أن يعلم أن ما حصل من المراد فلطف ، و ما لم يحصل فعلى أصل الخلق و الجبلة للدنيا ، كما قيل :
   
طبعت على كدر و أنت تريدها       صفواً من الأقذاء و الأكدار
   
و مكلف الأيام ضد طباعها       متطلب في الماء جذوة نار
   
و ها هنا تتبين قوة الإيمان و ضعفه ، فليستعمل المؤمن من أدوية هذا المرض التسليم للمالك ، و التحكيم لحكمته .
   
و ليقل . قد قيل لسيد الكل : ليس لك من الأمر شيء .
   
ثم ليسل نفسه بأن المنع ليس عن بخل ، و إنما هو لمصلحة لا يعلمها ، و ليؤجر الصابر عن أغراضه ، و ليعلم الله الذين سلموا و رضوا .
   
و إن زمن الإبتلاء يسير ، و الأغراض مدخر تلقى بعد قليل ، و كأنه بالظلمة قد إنجلت ، و بفجر الأجر قد طلع . و متى إرتقى فهمه إلى أن ما جرى مراد الحق سبحانه ، إقتضى إيمانه أن يريد ما يريد ، و يرضى بما يقدر ، إذ لو لم يكن كذلك كان خارجاً عن حقيقة العبودية في المعنى .
   
و هذا أصل ينبغي أن يتأمل و يعمل عليه في كل غرض إنعكس

 

·       فصل : التعفف عن مال الحكام


   
رأيت خلقاً من العلماء و القصاص تضيق عليهم الدنيا فيفزعون إلى مخالطة السلاطين ، لينالوا من أموالهم ، و هم يعلمون أن السلاطين لا يكادون يأخذون الدنيا من وجهها و لا يخرجونها في حقها .
   
فإن أكثرهم إذا حصل له خراج ينبغي أن يصرف إلى المصالح و هبه لشاعر .
   
و ربما كان معه جندي يصلح أن تكون مشاهرته عشرة دنانير فأعطاه عشرة ألاف .
   
و ربما غزا فأخذ ما ينبغي أن يقسم على الجيش فإصطفاه لنفسه .
   
هذا غير ما يجري من الظلم في المعاملات .
   
و أول ما يجري على ذاك العالم أنه قد حرم النفع بعلمه ، و قد رأى بعض الصالحين رجلاً عالماً يخرج من دار يحي بن خالد البرمكي ، فقال : أعوذ الله من علم لا ينفع .
   
ألم ير المنكرات و لا ينكر ، و يتناول ل من طعامهم الذي لا يكاد يحصل إلا بظلم فينطمس قلبه و يحرم لذة المعاملة للحق سبحانه ، ثم لا يقدر لك أن يهتدي بك أحد . بل ربما كان فعل هذا سبباً لإضلال الناس و صرفهم عن الإقتداء به ، فهو يؤذي أميره ، لأنه يقول : لولا أنني على صواب ما صحبني و لأنكر علي .
   
و يؤذي العوام تارة بأن يروا أن ما فيه لأمير صواب ، و تارة بأن الدخول عليه و السكوت عن الإنكار جائز .
   
أو يحبب إليهم الدنيا ، و لا خير و الله في سعة من الدنيا ضيقت طريق الآخرة .
   
و أنا أفتدي أقواماً صابروا عطش الدنيا في هجير الشهوات زمان العمر حتى رووا يوم الموت من شراب الرضى ، و بقيت أذكارهم تروى ، فتروي صدأ القلوب و تجلو صداها .
   
هذا الإمام أحمد يحتاج فيخرج إلى اللقاط و لا يقبل مال سلطان .
   
هذا إبراهيم الحربي يتغذى بالبقل و يرد على المعتصم ألف دينار .
   
هذا بشر الحافي يشكو الجوع ، فيقال له : يصنع لك حساء من دقيق ؟
   
فيقول : أخاف أن يقول الله لي : هذا الدقيق من أين لك ؟
   
بقيت و الله أذكار القوم ، و ما كان الصبر إلا غفوة نوم .
   
و مضت لذات المترخصين و بليت الأبدان ، و وهن الدين .
   
فالصبر الصبر يا من و فق ، و لا تغبطن من إتسع له أمر الدنيا .
   
فإنك إذا تأملت تلك السعة رأيتها ضيقاً في باب الدين .
   
و لا ترخص لنفسك في تأويل ، فعمرك في الدنيا قليل :
   
و سواء إذا انقضى يوم كسرى       في سرور و يوم صابر كسره
   
و متى ضجت النفس لقلة صبر ، فأتل عليها أخبار الزهاد ، فإنها ترعوي و تستحي و تنكسر ، إن كانت لها همة أو فيها يقظة .
   
و مثل لها بين ترخص علي بن المديني و قبوله مال ابن أبي داود ،و صبر أحمد .
   
و كم بين الرجلين و الذكرين .
   
و انظر ما يروى عن كل واحد منهما و ما يذكران به .
   
وسيندم ابن المديني إذا قال أحمد : [ سلم لي ديني ] .

 

·       فصل : لا تغرك تأخير العقوبة


   
تأملت أحوال الناس فرأيت جمهورهم منسلاً من ربقه العبودية .
   
فإن تعبدوا فعادة أو فيما لا ينافي أغراضهم منافاة تؤذي القلوب .
   
فأكثر السلاطين يحصلون الأموال من وجوه ردية ، و ينفقونها في وجوه لا تصلح .
   
و كأنهم قد تملكوها ، و ليست مال الله ، إذ غزا أحدهم ـ بإسمه ـ فغنم الأموال إصطفاها لنفسه و أعطاها أصحابه كيف إشتهى .
   
و العلماء لقوة فقرهم و شدة شرهم ، يوافقون الأمراء و ينخرطون في سلكهم .
   
و التجار على العقود الفاسدة ، و العوام في المعاصي و الإهمال لجانب الشريعة .
   
فإن فات بعض أغراضهم فربما قالوا : ما نريد أن نصلي ، و لا صلى الله عليهم .
   
و قد منعوا الزكاة و تركوا الأمر بالمعروف .
   
فمن الناس من يغره تأخير العقوبة ، و منهم من كان يقطع بالعفو ، و أكثرهم متزلزل الإيمان ، فنسأل الله أن يميتنا مسلمين .

 

·       فصل : و من يتق الله يجعل له مخرجاً

 
   
من العجيب سلامة دين ذي العيال إذا ضاق به الكسب ، فما مثله إلا كمثل الماء إذا ضرب في وجهه سكر ، فإنه يعمل باطناً و يبالغ حتى يفتح فتحة .
   
فكذلك صاحب العيال إذا ضاق به الأمر لا يزال يحتال ، فإذا لم يقدر على الحلال ، ترخص في تناول الشهيات ، فإن ضعف دينه مد يده إلى الحرام .
   
فالمؤمن إذا علم ضعفه عن الكسب إجتهد في التعفف عن النكاح ، و تقليل النفقة إذا حصل الأولاد ، و القناعة باليسير .
   
فأما من ليس له كسب كالعلماء و المتزهدين ، فسلامتهم ظريفة ، إذ قد إنقطعت موارد السلاطين عنهم ، و مراعاة العوام لهم ، فإذا كثرت عائلتهم لم يؤمن عليهم شر ما يجري على الجهال .
   
فمن قدر منهم على كسب بالنسخ و غيره فليجتهد فيه مع تقليل النفقة و القناعة باليسير .
   
فإنه من ترخص منهم اليوم أكل الحرام ، لأنه يأخذ من الظلمة خصوصاً بحجة التنمس و التزهد .
   
و من كان له منهم مال فليجتهد في تنميته و حفظه ، فما بقي من يؤثر و لا من يقرض .
   
و قد صار الجمهور بل الكل كأنهم يعبدون المال ، فمن حفظه حفظ دينه .
   
و لا يلتفت إلى قول الجهلة الذين يأمرون بإخراج المال ، فما هدا وقته .
   
و اعلم أنه إذا لم يجتمع الهم ، لم يحصل العلم و لا العمل و لا التشاغل بالفكر في عظمة الله .
   
و قد كان هم القدماء يجتمع بأشياء جمهورها أنه كان لهم من بيت المال نصيب في كل عام .
   
و كان يصلهم فيفضل عنهم .
   
و فيهم من كان له مال يتجر به كسعيد بن المسيب ، و سفيان ، و ابن المبارك ، و كان همه مجتمعاً ، و قد قال سفيان في ماله : [ لو لاك لتمندلوا بي ! ] .
   
و فقدت بضاعة [ لا بن المبارك ] فبكى و قال : [ هو قوام ديني ] .
   
و كان جماعة يسكنون إلى عطاء الإخوان الذين لا يمنون .
   
و كان ابن المبارك يبعث إلى الفضل و غيره ، و كان الليث بن سعد يتفقد الأكابر ، فبعث إلى مالك ألف دينار ، و إلى ابن لهيعة ألف دينار ، و أعطى منصور بن عمار ألف دينار و جارية بثلاثمائة دينار .
   
و ما زال الزمان على هذا إلى أن آل الأمر إلى إنمحاق ذلك ، فقلت عطايا السلاطين ، و قل من يؤثر من الإخوان .
   
إلا أنه كان في ذلك القليل ما يدفع الزمان .
   
فأما زماننا هذا ، فقد إنقبضت الأيدي كلها ، حتى قل من يخرج الزكاة الواجبة ، فكيف يجتمع هم من يريد من العلماء و الزهاد أن يعمل همه ليلاً و نهاراً في وجوه الكسب و ليس من شأنه هذا و لا يهتدي له .
   
فقد رأينا الأمر أخرج إلى التعرض للسلاطين و الترخص في أخذ ما لا يصلح و أخرج المتزهدين إلى التصنع لتحصيل الدنيا .
   
فالله الله يا من يريد حفظ دينه ، قد كررت عليك الوصية بتقليل جهدك ، و خفف العلائق مهما أمكنك ، و إحتفظ بدرهم يكون معك فإنه دينك ، و إفهم ما قد شرحته ، فإن ضجت النفس لمراداتها فقل لها : إن كان عندك إيمان فأصبري ، و إن أردت التحصيل لما يفنى ببذل الدين فما ينفعك .
   
فتفكري في العلماء الذين جمعوا المال من غير و جهه و في المنمسين ذهب دينهم ، و زالت دنياهم .
   
تفكري في العلماء الصادقين كأحمد و بشر ، إندفعت الأيام و بقي لهم حسن الذكر .
   
و في الجملة و من يتق الله يجعل له مخرجاً * و يرزقه من حيث لا يحتسب .
   
و رزق الله قد يكون بتيسير الصبر على البلاء و الأيام تندفع .
   
و عاقبة الصبر الجميل جميلة .

 

·       فصل : إنما تؤتى البيوت من أبوابها


   
شكا لي رجل من بغضه لزوجته ثم قال : ما أقدر على فراقها لأمور ، منها كثرة دينها علي ، و صبري قليل ، و لا أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى ، و في كلمات تعلم بغضي لها .
   
فقلت له : هذا لا ينفع و إنما تؤتى البيوت من أبوابها ، فينبغي أن تخلو بنفسك فتعلم أنها إنما سلطت عليك بذنوبك ، فتبالغ في الإعتذار و التوبة .
   
فأما الضجر و الأذى لها فما ينفع كما قال الحسن بن الحجاج : [ عقوبة من الله لكم ، فلا تقابلوا عقوبته بالسيف ، و قابلوها بالإستغفار ] .
   
و اعلم أنك في مقام مبتلي ، و لك أجر بالصبر و عسى أن تكرهوا شيئاً و هو خير لكم .
   
فعامل الله سبحانه بالصبر على ما قضى ، و إسأله الفرج .
   
فإذا جمعت بين الاستغفار و بين التوبة من الذنوب ، و الصبر على القضاء ، و سؤال الفرج ، حصلت ثلاثة فنون من العبادة تثاب على كل منها .
   
و لا تضيع الزمان بشيء لا ينفع ، و لا تحتل ظاناً منك أنك تدفع ما قدر ، و إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو .
   
و قد روينا أن جندياً نزل يوماً في دار أبي يزيد ، فجاء أبو يزيد فرآه ، فوقف و قال لبعض أصحابه : أدخل إلى المكان الفلاني ، فاقلع الطين الطري ، فإنه من وجه فيه شبهة ، فقلعه ، فخرج الجندي .
   
و أما أذاك للمرأة فلا وجه له ، لأنها مسلطة فليكن شغلك بغير هذا .
   
و قد روي عن بعض السلف أن رجلاً شتمه فوضع خده على الأرض و قال : [ اللهم إغفر لي الذنب الذي سلطت هذا به علي ] .
   
قال الرجل : و هذه المرأة تحبني زائداً في الحد ، و تبالغ في خدمتي ، غير أن البغض لها مركوز في طبعي .
   
قلت له : فعامل الله سبحانه بالصبر عليها ، فإنك تثاب .
   
و قد قيل لأبي عثمان النيسابوري : ما أرجى عملك عندك ؟
   
قال : كنت في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج فأبى .
   
فجاءتني امرأة فقالت : يا أبا عثمان ، إني قد هويتك ، و أنا أسألك بالله أن تتزوجني .
   
فأحضرت أباها ـ و كان فقيراً ـ فزوجني و فرح بذلك .
   
فلما دخلت إلي رأيتها عوراء عرجاء مشوهة .
   
و كانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج ، فأقعد حفظاً لقلبها ، و لا أظهر لها من البغض شيئاً ، و كأني على جمر الغضا من بغضها .
   
فبقيت هكذا خمس عشرة سنة ، حتى ماتت ، فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي قلبها .
   
قلت له : فهذا عمل الرجال ، و أي شيء ينفع ضجيج المبتلي بالتضجر بإظهار البغض .
   
و إنما طريقه ما ذكرته لك من التوبة و الصبر ، و سؤال الفرج .
   
و تذكر ذنوباً كانت هذه عقوبتها .
   
فإن وقع فرج في الحساب و إلا فإستعمال الصبر على القضاء عبادة .
   
و تكلف إظهار المودة لها و إن لم تكن في قلبك تثبت على هذا .
   
و ليس للقيد ذنب فيلام ، إنما ينبغي التشاغل مع من قيده و السلام .

 

·       فصل : طاعة الله يفتقر إلى جمع الهم


   
لا ريب أن القلب المؤمن بالإله سبحانه و بأوامره يحتاج إلى الإنعكاف على ذكره و طاعته و إمتثال أوامره ، و هذا يفتقر إلى جمع الهم .
   
و كفى بما وضع في الطبع من المنازعة إلى الشهوات مشتتاً للهم المجتمع .
   
فينبغي للإنسان أن يجتهد في جمع همه لينفرد قلبه بذكر الله سبحانه و تعالى و إنفاذ أوامره و التهيؤ للقائه .
   
و ذلك إنما يحصل بقطع القواطع ، و الامتناع عن الشواغل .
   
و ما يمكن قطع القواطع جملة ، فينبغي أن يقطع ما يمكن منها .
   
و ما رأيت مشتتاً للهم ، مبدداً للقلب مثل شيئين :
   
أحدهما : أن تطاع النفس في طلب كل شيء تشتهيه و ذلك لا يوقف على حد فيه ، فيذهب الدين و الدنيا و لا ينال كل المراد . مثل أن تكون الهمة في المستحسنات أو في جمع المال أو في طلب الرياسة ، و ما يشبه هذه الأشياء .
   
فيا له من شتات لا جامع له ، يذهب العمر و لا ينال بعض المراد منه .
   
و الثاني : مخالطة الناس خصوصاً العوام و المشي في الأسواق ، فإن الطبع يتقاضى بالشهوات و ينسى الرحيل عن الدنيا ، و يحب الكسل عن الطاعة ، و البطالة و الغفلة و الراحة .
   
فيثقل على من ألف مخالطة الناس و التشاغل بالعلم أو بالعبادة .
   
و لا يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة و تضيع الساعات في غير شيء . فمن أراد اجتماع همه فعليه بالعزلة بحيث لا يسمع صوت أحد ، فحينئذ يخلو القلب بمعارفة ، و لا تجد النفس رفيقاً مثل الهوى يذكرها ما تشتهي .
   
فإذا اضطر إلى المخالطة كان على وفاق ، كما تتهوى الضفدع لحظة ثم تعود إلى الماء فهذه طريق السلامة .
   
فتأمل فوائدها تطب لك .

 

·       فصل : لا تسبوا الدهر

 
   
ما رأيت عيني مصيبة نزلت بالخلق أعظم من سبهم للزمان ، و عيبهم للدهر .
   
و قد كان هذا في الجاهلية ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر .
   
و معناه أنتم تسبون من فرق شملكم ، و أمات أهاليكم ، و تنسبونه إلى الدهر ، و الله تعالى هو الفعل لذلك .
   
فتعجبت كيف أعلم أهل الأسقام بهذه الحال ، و هم على ما كان أهل الجاهلية عليه ما يتغيرون ، حتى ربما إجتمع الفطناء الأدباء الظراف على زعمهم فلم يكن لهم شغل إلا ذم الدهر .
   
و ربما جعلوا الله الدنيا ، و يقولون : فعلت و صنعت ، حتى رأيت لأبي القاسم الحريري يقول :
   
و لما تعامى الدهر و هو أبو الردى       عن الرشد في أنحائه و مقاصده
   
تعاميت حتى قيل إني أخو عمى       و لا غرو أن يحذر الفتى حذو والده
   
و قد رأيت خلقاً يعتقدون أنهم فقهاء و فهماء و لا يتاحشون من هذا .
   
و هؤلاء إن أرادوا بالدهر مرور الزمان ، فذاك لا إختيار له و لا مراد و لا يعرف رشداً من ضلال ، و لا ينبغي أن يلام .
   
فإنه زمان مدبر ، فيتصرف فيه و لا يتصرف .
   
و ما يظن بعاقل أن يشير إلى أن المذموم المعرض عن الرشد ، السيء الحكم ، هو الزمان .
   
فلم يبق إلا أن القوم خرجوا عن ربقة الإسلام ، و نسبوا هذه القبائح إلى الصانع ، فإعتقدوا فيه قصور الحكمة ، و فعل ما لا يصح ، كما إعتقده إبليس في تفضيل آدم .
   
و هؤلاء لا ينفعهم ، مع هذا الزيغ ، إعتقاد إسلام ، و لا فعل صلاة .
   
بل هم شر من الكفار ، لا أصلح الله لهم شأناً ، و لا هداهم إلى رشاد .

 

·       فصل : العمر قصير


   
من عجائب ما أرى من نفسي و من الخلق كلهم الميل إلى الغفلة عما في أيدينا ، مع العلم بقصر العمر ، و أن زيادة الثواب هناك بقدر العمل ههنا .
   
فيا قصير العمر اغتنم يومي مني ، و انتظر ساعة النفر ، و إياك أن تشغل قلبك بغير ما خلق له .
   
و احمل نفسك على المر ، و اقمعها إذا أبت ، و لا تسرح لها في الطول ، فما أنت إلا في مرعى .
   
و قبيح بمن كان بين الصفين أن يتشاغل بغير ما هو فيه .

 

·       فصل : لا تغتر بمن يظهر التدين


   
قد كررت هذا المعنى في هذا الكتاب ، و هو الأمر بحفظ السر ، و الحذر من الإنبساط فيما لا يصح بين يدي الناس .
   
فرب منبسط ـ بين يدي من يظنه صديقاً ـ يقول في صديق أو في سلطان لا يهتم في ذلك ، فيكون سبب هلاك ذاك .
   
فأوصى السليم الصدر الذي يظن في الناس الخير أن يحترز من الناس ، و ألا يقول في الخلق كلمة لا تصلح للخلق .
   
و لا يغتر بمن يظهر الصداقة أو التدين ، فقد عم الخبث .

 

·       فصل : عادات أهل اليقظة عبادة

 
   
تأملت على أكثر الناس عباداتهم ، فإذا هي عادات .
   
فأما أرباب اليقظة ، فعاداتهم عبادة حقيقية .
   
فإن الغافل يقول سبحان الله عادة ، و المتيقظ لا يزال كفكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق ، فيحركه الفكر في ذلك فيقول : سبحان الله .
   
و لو أن إنساناً تفكر في رمانة ، فنظر في تصفيف حبها و حفظه بالأغشية لئلا يتضاءل ، و إقامة الماء على عظم العجم ، و جعل الغشاء عليه يحفظه ، و تصوير الفرخ في بطن البيضة و الآدمي في حشاء الأم ، إلى غير ذلك من المخلوقات ، أزعجه هذا الفكر إلى تعظيم الخالق ، فقال : سبحان الله ، و كان هذا التسبيح ثمرة الفكر ، فهذا تسبيح المتيقظين .
   
و ما تزال أفكارهم تجول فتقع عباداتهم بالتسبيحات محققة ، و كذلك يتفكرون في قبائح ذنوب قد تقدمت فيوجب ذلك الفكر ، و قلق القلب و ندم النفس، فيثمر ذلك أن يقول قائلهم : أستغفر الله .
   
فهذا هو التسبيح و الإستغفار .
   
فأما الغافلون فيقولون ذلك عادة ، و شتان ما بين الفريقين .

 

·       فصل : الأسواق تلهي و تلغي


   
لا يصفو التعبد و التزهد و الإشتغال بالآخرة إلا بالإنقطاع الكلي عن الخلق ، بحيث لا يبصرهم و لا يسمع كلامهم إلا في وقت ضرورة كصلاة جمعة أو جماعة ، و يحترز في تلك الساعات منهم .
   
و إن كان عالماً يريد نفعهم ، و عدهم وقتاً معروفاً و إحترز في الكلام معهم .
   
أما من يمشي في الأسواق اليوم ، و يبيع و يشتري مع هذا العالم المظلم ، و يرى المنكرات و المستهجنات ، فما يعود إلى البيت إلا وقد أظلم القلب .
   
فلا ينبغي للمريد أن يكون خروجه إلا إلى الصحراء و المقابر .
   
وقد كان جماعة من السلف يبيعون و يشترون و يحترزون ، و مع هذا ما صفا لصافيهم وقت حتى قاطع الخلق .
   
قال أبو الدرداء : [ زاولت العبادة و التجارة فلم يجتمعا فإخترت العبادة ] .
   
و قد جاء في الحديث : الأسواق تلهي و تلغي .
   
فمن قدر على الحمية النافعة و إضطر إلى المخالطة و الكسب للعائلة ، فليحترز إحتراز الماشي في الشوك ، و بعيد سلامته .

 

·       فصل : تدوم الحال بالتقوى


   
من رزق قلباً طيباً ، و لذة مناجاة ، فليراع حاله ، و ليحترز من التغيير .
   
و إنما تدوم له حالة بدوام التقوى .
   
و كنت قد رزقت قلباً طيباً و مناجاة خلوة فأحضرني بعض أرباب المناصب إلى طعامه فلما أمكن خلافه . فتناولت وأكلت منه فلقيت الشدائد ، و رأيت العقوبة في الحال ، و استمرت مدة ، و غضبت على قلبي ، و فقدت كل ما كنت أجده .
   
فقلت : واعجباً لقد كنت في هذا كالمكره ، فتفكرت و إذا به قد يمكن مداراة الأمر بالقيمات يسيرة ، إنما التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما يدفع بالمداراة .
   
فقالت النفس : و من أين لي أن عين هذا الطعام حرام ؟ .
   
فقالت اليقظة : و أين الورع عن الشبهات ؟ .
   
فلما تناولت بالتأويل لقمة و أستجلبتها بالطبع لقيت الأمرين بفقد القلب فاعتبروا يا أولي الأبصار .

 

·       فصل : اليقظة الدائمة


   
همة المؤمن متعلقة بالآخرة ، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة ، و كل من شغله شيء فهمته شغله .
   
ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة ، رأيت البزار ينظر إلى الفرش و يحزر قيمة ، و النجار إلى السقف ، و البناء إلى الحيطان ، و الحائك إلى النسيج المخيط .
   
و المؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر ، و إن رأى مؤلماً ذكر العقاب ، و إن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور ، و إن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور ، و إن رأى لذة الجنة ، فهمته متعلقة بمآثم ، و ذلك يشغله عن كل مأتم .
   
و أعظم ما عنده أنه يتخايل دوام البقاء في الجنة ، و أن بقاءه لا ينقطع و لا يزول و لا يعتريه منغص ، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلباً في تلك اللذات الدائمة التي لا تفنى يطيش فرحاً و يسهل عليه ما في الطريق إليها من ألم و مرض و ابتلاء و فقد محبوب و هجوم الموت و معالجة غصصه .
   
فأن المشتاق إلى الكعبة يهون عليه رمل زرود ، و التائق إلى العافية لا يبالي بمرارة الدواء .
   
و يعلم أن جودة الثمر ثم على مقدار جودة البذر ههنا ، فهو يتخير الأجود ، و يغتنم الزرع في تشرين العمر من غير فتور .
   
ثم يتخايل المؤمن دخول النار و العقوبة ، فينغص عيشه و يقوى قلقه ، فعنده بالحالين شغل عن الدنيا و ما فيها ، فقلبه هائم في بيداء الشوق تارة و في صحراء أخرى ، فما يرى البنيان .
   
فإذا نازله الموت قوى ظنه بالسلامة ، و رجا لنفسه النجاة فيهون عليه .
   
فإذا نزل إلى القبر و جاءه من يسألونه ، قال بعضهم لبعض : دعوه فما إستراح إلا الساعة .
   
نسأل الله عز وجل يقظة تامة تحركنا إلى طلب الفضائل ، و تمنعنا من إختيار الرذائل ، فإنه إن وفق ، و إلا فلا نافع .

 

·       فصل : الله لا يختار إلا الكامل

 
   
لقد إعتبرت على مولاي سبحانه و تعالى أمراً عجيباً ، و هو أنه تعالى لا يختار لمحبته و القرب منه إلا الكامل صورة و معنى .
   
و لست أعني حسن التخاطيط ، و إنما كمال الصورة إعتدالها ، و المعتدلة ما تخلو من حسن ، فيتبعها حسن الصورة الباطنة ، و هو كمال الأخلاق ، و زوال الأكدار ، و لا يرى في باطنه خبثاً و لا كدراً ، بل قد حسن باطنه كما حسن ظاهره .
   
و قد كان موسى عليه السلام كل من رآه يحبه ، و كان نبينا صلى الله عليه و سلم كالقمر ليلة البدر .
   
و قد يكون الولي أسود اللون ، لكنه حسن الصورة لطيف المعاني .
   
فعلى قدر ما عند الإنسان من التمام في كمال الخلق و الخلق ، يكون عمله ، و يكون تقريبه إلى الحضرة بحسب ذلك .
   
فمنهم كالخادم على الباب ، و منهم حاجب ، و منهم قرب ، و يندر من يتم له الكمال .
   
و لعله لا يوجد في مائة سنة منهم غير واحد .
   
و هذه حكاية ما تحصل بالإجتهاد ، بل الإجتهاد يحصل منها ، لأنه إذا وقع تماماً حث على الجد على قدر نقصائه .
   
و هذا لا حيلة في أصله . إنما هو جبلة ، و إذا أرادك لأمر هيأك له .

 

·       فصل : العقل منحة من الله


   
تأملت على قوم يدعون العقول و يعترضون على حكمة الخالق .
   
فينبغي أن يقال لهم : هذا الفهم الذي دلكم على رد حكمته أليس هو من منحه ؟
   
أفأعطاكم الكمال و رضي لنفسه بالنقص هذا هو الكفر المحض ، الذي يزيد في القبح على الجحد .
   
فأول القوم إبليس ، فإنه رأى بعقله أن جوهر النار أشرف من جوهر الطين ، فرد حكمة الخالق .
   
و مر على هذا خلق كثير من المعترضين ، مثل ابن الرواندي ، و البقري ، و هذا المعري اللعين يقول : كيف يعاب ابن الحجاج بالسخف و الدهر أقبح فعلاً منه .
   
أترى يعني به الزمان ! فإن ممر الأوقات لا يفعل شيئاً ، و إنما هو تعريض بالله جل شأنه . و كان يستعجل الموت ظناً منه أنه يستريح .
   
و كان يوصي بترك النكاح و النسك ، و لا يرى في الإيجاد حكمة إلا العناء و التعب و مصير الأبدان إلى البلى .
   
و هذا لو كان كما ظن كان الإيجاد عبثاً ، و الحق منزه عن العبث .
   
قال تعالى : : و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلاً .
   
فإذا كان ما خلق لنا لم يخلق عبثاً ، أفنكون نحن ، و نحن مواطن معرفته ، و مجال تكليفه ، قد وجدنا عبثاً ؟
   
و مثل هذا الجهل إنما يصدر ممن ينظر في قضايا العقول التي يحكم بها على الظواهر ، مثل أن يرى مبنياً ينقض .
   
و العقل بمجرده لا يرى ذلك حكمة . و لو كشفت له حكمة ذلك لعلم أنه صواب .
   
كما كشف لموسى مراد الخضر في خرق السفينة و قتل الغلام .
   
و معلوم أن ذبح الحيوان ، و تقطيع الرغيف ، و مضغ الطعام ، لا يظهر له فائدة على الإطلاق .
   
فإذا علم أنه غذاء لبدن من هو أشرف بدناً من المذبوح ، حسن ذلك الفعل .
   
و اعجب أو ما تقضي العقول بوجوب طاعة الحكيم الذي تعجز عن معرفة حكمة مخلوقاته .
   
فكيف تعارضه في أفعاله ؟ نعوذ بالله من الخذلان .

 

·       فصل : وعظ السلطان و مراعاة الأحوال


   
ينبغي لمن وعظ سلطاناً أن يبالغ في التلطيف ، و لا يواجهه بما يقتضي أنه ظالم .
   
فإن السلاطين حظهم التفرد بالقهر و الغلبة ، فإذا جرى نوع توبيخ لهم كان إذلالاً ، و هم لا يحتملون ذلك .
   
و إما ينبغي أن يمزج وعظه بذكر شرف الولاية ، حصول الثواب في رعاية الرعايا ، و ذكر سير العادلين من أسلافهم .
   
ثم لينظر الواعظ في حال الموعوظ قبل وعظه .
   
فإن كانت سيرته حميدة كما كان منصور بن عمار و غيره يعظون الرشيد و هو يبكي ، و ذكر و قصده الخير ، زاد في وعظه و وصيته .
   
و إن رآه ظالماً لا يلتفت إلى الخير ، و قد غلب عليه الجهل ، اجتهد في ألا يراه ، و لا يعظه .
   
لأنه إن وعظه خاطر بنفسه ، و إن مدحه كان مداهناً .
   
فإن اضطر إلى موعظته كانت كالإشارة ، و قد كان أقوام من السلاطين يلينون عند الموعظة ، و يحتملون الواعظين .
   
حتى أنه قد كان المنصور يواجه بأنك ظالم فيصبر .
   
و قد تغير الزمان ، و فسد أكثر الولاة ، و داهنهم العلماء ، و من لا يداهن لا يجد قبولاً للصواب ، فيسكت .
   
و قد كانت الولايات لا يسألها إلا من أحكمته العلوم ، و ثقته التجارب ، فصار أكثر الولاة يتساوون في الجهل ، فتأتي الولاية على من ليس من أهلها .
   
و مثل هؤلاء ينبغي الحذر منهم ، و البعد عنهم .
   
فمن ابتلى بوعظهم فليكن على غاية التحرز فيما يقول ، و لا ينبغي أن يغتر بقولهم : عظناً . فإنه لو قال كلمة لا توافق أغراضهم ثارت حراراتهم .
   
و ليحذر مذكر السلطان أن يعرض له بأرباب الولايات ، فإنهم إذا سمعوا بذلك صار الواعظ مقصوداً لهم بالإهلاك ، خوفاً من أن يعتبر السلطان أحوالهم فتفسد أمورهم .
   
و البعد في هذا الزمان عنهم أصلح ، و السكوت عن المواعظ لهم أسلم .
   
فمن اضطر تلطف غاية التلطيف ، جعل وعظه للعوام و هم يسمعون و لا يعنيهم منه بشيء . و الله الموفق .

 

·       فصل : فيمن إدعوا النبوة و من إدعوا الكرامات

 
   
الحق لا يشتبه بباطل ، إنما يموه الباطل عند من لا فهم له .
   
هذا في حق من يدعي النبوات ، و في حق من يدعي الكرامات .
   
أما النبوات فإنه إدعاها خلق كثير ظهرت قبائحهم ، و بانت فضائحم و منها ما أوجبته خسة الهمة و التهتك في الشهوات ، و التهافت في الأقوال و الأفعال
   
، حتى افتضحوا .
   
فمنهم الأسود العنسي ، إدعى النبوة و لقب نفسه ذا الحمارة ، لأنه كان يقول : يأتيني ذو الحمار . و كان أول أمره كاهناً يشعوذ فيظهر الأعاجيب . فخرج في أواخر حياة النبي صلى الله عليه و سلم فكاتبه مذحج و نجران و أخرجوا عمرو بن حزم و خالد بن سعيد صاحبي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و صفا له اليمن ، و قاتل شهر بن باذان فقتله و تزوج إبنته فأعانت على قتله فهلك في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و بان للعقلاء أنه كان يشعبذ .
   
و منهم مسيلمة ، إدعى النبوة و تسمى رحمن اليمامة ، لأنه كان يقول : الذي يأتيني رحمان .
   
فآمن برسول الله صلى الله عليه و سلم و ادعى أنه قد أشرك معه ، فالعجب أنه يؤمن برسول و يقول إنه كذاب . ثم جاء بقرآن يضحك الناس ، مثل قوله : يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين ، أعلاك في الماء و أسفلك في الطين ، و من العجائب شاة سوداء تحلب لبنا أبيض . فانهتك ستره في الفصاحة .
   
ثم مسح بيده على رأس صبي فذهب شعره . و بصق في بئر فيبست .
   
و تزوج سجاح التي إدعت النبوة فقالوا : لا بد لها من مهر ، فقال : مهرها أني قد أسقطت عنكم صلاة الفجر و العتمة .
   
و كانت سجاح هذه قد إدعت النبوة بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإستجاب لها جماعة فقالت : أعدوا الركاب ، و إستعدوا للنهاب ، ثم أعبروا على الرباب ، فليس دونهم حجاب ، فقاتلوهم .
   
ثم قصدت اليمامة فهابها مسيلمة فراسلها و أهدى لها فحضرت عنده فقالت : إقرأ علي ما يأتيك به جبريل .
   
فقال : إنكن معشر النساء خلقتن أفواجاً ، و جعلتن لنا أزواجأً ، نولجه فيكن إيلاجاً . فقالت : صدقت أنت نبي .
   
فقال لها : قومي إلى المخدع ، فقد هيىء لك المضجع ، فإن شئت مستلقاة ، و إن شئت على أربع ، و إن شئت بثلثيه ، و إن شئت به أجمع ، فقالت : بل به أجمع ، فهو للشمل أجمع .
   
فافتضحت عند العقلاء من أصحابها ، فقال منهم عطارد بن حاجب :
   
أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها       و أصبحت أنبياء الناس ذكراناً
   
فلعنة الله رب الناس كلهم       على سجاح و من بالإفك أغواناً
   
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت       أصداؤه من رعيت حيثما كانا
   
ثم أنها رجعت عن غيها و أسلمت ، و ما زالت تبين فضائح مسيلمة حتى قتل .
   
و منهم طليحة بن خويلد ، خرج بعد دعوى مسيلمة النبوة و تبعه عوام و نزل سميراً ، فتسمى بذي النون ، يقول : إن الذي تأتيه يقال له ذو النون .
   
و كان من كلامه : إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم و لا قبح أدباركم شيئاً فأذكروا الله أعفة قياماً .
   
و من قرآنه : و الحمام و اليمام ، و الصراد الصوام ، ليبلغن ملكنا العراق و الشام .
   
تبعه عيينة بن حصين ، فقاتله خالد بن الوليد .
   
فجاء عيينة إلى طليحة فقال : و يحك أجاءك الملك ؟ قال : لا ، فارجع فقاتل ، فقاتل .
   
ثم عاد ، فقال : أجاءك ؟ فقال : فقال : لا ، فعاد فقاتل .
   
ثم عاد ، فقال : أجاءك ؟ قال : نعم .
   
قال : ما قال لك ؟ قال : قال إن لك جيشاً لا تنساه .
   
فصاح عيينة : الرجل ـ و الله ـ كذاب .
   
فانصرف الناس منهزمين ، و هرب طليحة إلى الشام ، ثم أسلم وصح إسلامه و قتل بنهاوند .
   
و ذكر الواقدي : أن رجلاً من بني يربوع يقال له جندب بن كلثوم ، كان يلقب كرداناً ، إدعى النبوة على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و كان يزعم أن دليله على نبوته أنه يسرج مسامير الحديد و الطين . و هذا لأنه كان يطلي ذلك بدهن البيلسان فتعمل فيه النار .
   
و قد تنبأ رجل يقال له كهمش الكلابي ، كان يزعم أن الله تعالى أوحى إليه : [ يا أيها الجائع ، إشرب لبناً تشبع ، و لا تضرب الذي لا ينفع ، فإنه ليس بمقنع ] .
   
و زعم أن دليله على نبوته أنه يطرح بين السباع الضارية فلا تأكله ، وحيلته في ذلك أنه يأخذ دهن الغار و حجر البرسان و قنفدا محرقاً و زيد البحر و صدفاً محرقاً مسحوقاً و شيئاً من الصبر الحبط فيطلي به جسمه ، فإذا قربت منه السباع فشمت تلك الأرياح و زفورتها نفرت .
   
و تنبأ بالطائف رجل يقال له أبو جعوانة العامري ، و زعم أن دليله أنه يطرح النار في القطن فلا يحترق . و هذا لأنه يدهنه بدهن معروف .
   
و منهم هذيل بن يعفور من بني سعد بن زهير ، حكى عنه الأصمعي أنمه عارض سورة الإخلاص فقال : قل هو الله أحد إله كالأسد ، جالس على الرصد ، لا يفوته أحد .
   
و منهم هذيل بن واسع كان يزعم أنه من ولد النابغة الذبياني ، عارض سورة الكوثر ، فقال له رجل ما قلت ؟ فقال : إنا أعطيناك الجوهر ، فصل لربك و جاهر ، فما يردنك إلا كل فاجر .
   
فظهر عليه السنوري فقتله و صلبه على العمود ، فعبر عليه الرجل فقال : إنا أعطيناك العمود ، فصل لربك من قعود ، بلا ركوع و لا سجود فما أراك تعود .
   
و ممن ظهر فإدعى أنه يوحى إليه ، المختار بن أبي عبيد ، و كان متخبطاً في دعواه ، و قتل خلقاً كثيراً ، و كان يزعم أنه ينصر الحسين رضوان الله عليه ، ثم قتل .
   
و منهم حنظلة بن يزيد الكوفي ، كان يزعم أن دليل أنه يدخل البيضة في القنينة و يخرجها منها صحيحة ، ذلك أنه كان ينقع البيضة في الخل الحامض فيلين قشرها ثم يصب ماء في قنينة ، ثم يدس البيضة فيها ، فإذا لقيت الماء صلبت .
   
و قد تنبأ أقوام قبل نبينا صلى الله عليه و سلم ، كزرادشت و ماني و افتضحوا .
   
و ما من المدعين إلا من خذل .
   
و قد جاءت القرامطة بحيل عجيبة ، و قد ذكرت جمهور هؤلاء و حيلهم في كتابي التاريخ المسمى بالمنتظم ، و ما فيهم من يتم له أمر إلا و يفتضح .
   
و دليل صحة نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم أجلى من الشمس .
   
فإنه ظهر فقيراً و الخلق أعداؤه فوعد بالملك فملك . و أخبر بما سيكون فكان ، و صين من زمن النبوة عن الشره و خساسة الهمة و الكذب و الكبر .
   
و أيد بالثقة و الأمانة و النزاهة و العفة ، و ظهرت معجزاته للبعيد و القريب .
   
و أنزل عليه الكتاب العزيز الذي حارت فيه عقول الفصحاء ، و لم يقدروا على الإتيان بآية تشبهه فضلاً عن سورة .
   
و قد قال قائلهم و افتضح ، ثم أخبر أنه لا يعارض فيه كما قال . و ذلك قوله تعالى : فاتوا بسورة ثم قال : فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا و كذلك قوله : فتمنوا الموت و لن يتمنوه فما تمناه أحد .
   
إذا لو قال قائل : قد تمنيته لبطلت دعواه .
   
و كان يقول ليلة غزاة بدر : [ غداً مصرح فلان ههنا فلا يتعداه ] .
   
و قال : [ إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، و إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، فما ملك بعدهما من كان له كبير قدر . و لا من إستتب له حال ] .
   
و من أعظم دليل على صدقه أنه لم يرد الدنيا ، فكان يبيت جائعاً ، و يؤثر إذا وجد ، و يلبس الصوف ، و يقوم الليل .
   
و إنما تطلب النواميس لاجتلاب الشهوات ، فلما لم يردها دل على أنه يدل على الآخرة التي هي حق .
   
ثم لم يزل دينه حتى عم الدنيا ، و إن كان الكفر في زوايا الأرض ، إلا أنه مخذول .
   
و صار في تابعيه من أمته الفقهاء الذين لو سمع كلامهم الأنبياء القدماء تحيروا في حسن إستخراجهم ، و الزهاد الذين لو رآهم الرهبان تحيروا في صدق زهدهم ، و الفطناء الذين لا نظير لم في القدماء .
   
أو ليس قوم موسى يعبدون بقرة ، و يتوقفون في ذبح بقرة ، و يعبرون البحر ، ثم يقولون : إجعل لنا إلها ؟
   
و قوم عيسى يدخرون من المائدة و قد نهوا .
   
و المعتدون في السبت يعصون الله لأجل الحيتان .
   
و أمتنا بحمد الله تعالى سليمة من هذه الأشياء ، و إنما في بعضا ميل إلى الشهوات المنهي عنها ، و ذلك من الفروع لا من الأصول .
   
فإذا ذكروا بكوا و ندموا على تفريطهم .
   
فنحمد الله على هذا الدين ، و على أننا من أمة هذا الرسول صلى الله عليه و سلم .
   
و قد كان جماعة من المتصنعين بالزهد مالوا إلى طلب الدنيا و الرياسة ، فإستغواهم الهوى فخرقوا بإظهار ما يشبه الكرامات ، كالحلاج ، و ابن الشاش ، و غيرهما ممن ذكرت حال تلبيسه في كتاب تلبيس إبليس .
   
و إنما فعلوا ذلك لاختلاف أغراضهم ، و لم يزل الله ينشىء في هذا الدين من الفقهاء من يظهر ما أخفاه القاصرون .
   
كما ينشىء من علماء الحديث من يهتك ما أشاعه الواضعون ، حفظاً لهذا الدين و دفعاً للشبهات عنه .
   
فلا يزال الفقيه و المحدث يظهران عوار كل ملبس بوضع حديث أو بإظهار دعوى تزهد و تنميس فلا يؤثر ما إدعياه إلا عند جاهل بعيد من العلم و العمل .
   
ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون .

 

·       فصل : الاشتغال بخدمة الخالق

 
   
واعجباً من موجود لا يفهم معنى الوجود ، فإن فهم لم يعمل بمقتضى فهمه .
   
يعلم أن العمر قصير ، و هو يضيعه بالنوم و البطالة ، و الحديث الفارغ ، و طلب اللذات ، و إنما أيامه أيام عمل لا زمان فراغ .
   
و قد كلف يبذل المال بمخالفة الطبع من الشرع فبخل به إلى أن يتضايق الخناق ، فيقول حينئذ : فرقوا عني بعد موتي وافعلوا كذا .
   
فأين يقع هذا لو فعل ، و بعيد أن يفعل ، و إنما يراد بإنفاقك في صحتك مخالفة الطبع في تكلف مشاق الإخراج في زمن السلامة .
   
فأفرق بين الحالتين إن كان لك فهم .
   
فالسعيد من إنتبه لنفسه و عمل بمقتضى عقله ، و إغتنم زمناً نهايته الزمن و إنتهب عمراً بأقرب إنقطاعه .
   
ويحك ما تصنع بادخار مال لا يؤثر حسنة في صحيفة و لا مكرمة في تاريخ ؟
   
أما سمعت بإنفاق أبي بكر و بخل ثعلبة ؟
   
أما رأيت تأثير مدح حاتم و بخل الحباحب ؟
   
ويحك لو إبتلاك فيمالك لاستغثت ، أو في بدنك ليلة بمرض لشكوت .
   
فأنت تسؤفي مطلوباتك منه ، و لا تستوفي حقه عليك ويل للمطففين .
   
و لتعلم أن هذا القدر المفرط فيه يحل الخلود الدائم في ثواب العمل فيه .
   
فسبحان من من على أقوام فهموا المراد فأتعبوا الأجساد ، و غطى على قلوب آخرين فوجودهم كالعدم .
   
و كيف لا يتعب العاقل بدنه إتعاب البدن المقصود منى .
   
أترى ما بال الحق متجلياً في إيجادك أيها العبد !
   
بلى ، و الله إن وجودك دليل وجوده .
   
و إن نعمه عليك دليل جوده .
   
فكما قدمك على سائر الحيوانات ، فقدمه في قلبك على كل المطلوبات .
   
وا خيبة من جهله ، وا فقر من أعرض منه ، وا ذل من إعتز بغيره ، وا حسرة من إشتغل بغير خدمته .

 

·       فصل : العاقل من ينظر إلى نفسه

 
   
إني أعجب من عاقل يرى إستيلاء الموت على أقرانه و جيرانه كيف يطيب عيشه ، خصوصاً إذا غلت سنه .
   
و اعجباً لمن يرى الأفاعي تدب إليه و هو لا ينزعج . أما يرى الشيخ دبيب الموت في أعضائه ، قد أخرج سكين القوى و أنزل متغشرم الضعف ، و قلب السواد بياضاً ، ثم في كل يوم يزيد الناقص .
   
ففي نظر العاقل إلى نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا و فراق الإخوان ، إن كان ذلك مزعجاً .
   
و لكن شغل من إحترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران .
   
إنه لمما يسلي عن الدنيا و يهون فراقها إستبدال المعارف بمن تكره .
   
فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون ، و فقراء كانوا يصبرون ، و محاسبين لأنفسهم يتورعون فاستبدل السفهاء عن العقلاء ، و البخلاء عن الكرماء .
   
فيا سهولة الرحيل ، لعل النفس تلقى من فقدت ، فتلحق بمن أحبت .

 

·       فصل : في جحود الإنسان

 
   
نظرت في قول الله تعالى : ألم تر أن الله يسجد له من في السموات و من في الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر والدواب ، ثم قال : و كثير من الناس فرأيت الجمادات كلها قد وصفت بالسجود ، و استثنى من العقلاء ، فذكرت قول بعضهم :
   
ما جحد الصامت من أنشأه       و من ذي النطق أتى الجحود
   
فقلت : إن هذه القدرة عظيمة ، يوهب عقل الشخص ثم يسلب فائدته ، و إن هذا لأقوى دليل على قادر قاهر .
   
و إلا فكيف يحسن من عاقل ألا يعرف بوجوده وجود من أوجده ؟
   
كيف ينحت صنماً بيده ثم يعبده ؟
   
غير أن الحق سبحانه و تعالى وهب لأقوام من العقل ما يثبت عليهم الحجة ، و أعمى قلوبهم كما شاء عن المحجة .

 

·       فصل : أكثر الزاد فإن السفر طويل

 
   
ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح ، فإن الطبع يسرق .
   
فإن لم يتشبه بهم و لم يسرق منهم فتر عن عمله .
   
فإن رؤية الدنيا تحث على طلبها ، و قد رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ستراً على بابه فهتكه و قال مالي و للدنيا . و لبس ثوباً له طراز فرماه و قال : شغلتني أعلامه . و لبس خاتماً ثم رماه و قال : نظرت إليكم و نظرت إليه .
   
و كذلك رؤية أرباب الدنيا و دورهم و أحوالهم ، خصوصاً لمن له نفس تطلب الرفعة .
   
و كذا سماع الأغاني و مخالطة الصوفية الذين لا نظر لهم اليوم إلا في لرزق الحاصل .
   
لو كان من أي مكان قبلوه ، و لا يتورعون أن يأخذوا من ظالم ، و ليس عندهم خوف كما كان أوائلهم .
   
فقد كان سري السقطي يبكي طول الليل ، و كان يبالغ في الورع ، و هم ليس لهم ورع سري ، و لا لهم تعبد الجنيد .
   
و إنما ثم أكل و رقص و بطالة و سماع أغاني من المردان ، حتى قال بعض من يعتبر قوله : حضرت مع رجل كبير يومىء إليه من مشايخ الربط و مغنيهم أمرد ، فقام الشيخ و نقطه بدينار على خده .
   
و ادعاؤهم أن سماع هذه الأشياء يدعو إلى الآخرة فوق الكذب ، و ليس العجب منهم ، إنما العجب من جهال ينفقون عليهم فيفقون عليهم .
   
و لقد كان جماعة من القدماء يورن أوائل الصوفية يتعبدون و يتورعون فيعجبهم حالهم ، و هم معذورون في إعجابهم بهم .
   
و إن كان أكثر القوم في تعبدهم على غير الجادة ، كما ذكرت في كتابي المسمى بتلبيس إبليس .
   
فأما اليوم فقد برح الخفاء ، أحدهم يتردد إلى الظلمة و يأكل أموالهم ، و يصافحهم بقميص ليس فيه طراز ، و هذا هو التصوف فحسب .
   
أو لا يستحي من الله من زهد في رفيع الأثواب لأجل الخلائق لا لأجل الحق .
   
و لا يزهد في مطعم و لا شبهة . فالبعد عن هؤلاء لازم .
   
و ينبغي للمنفرد لطاعة الله تعالى عن الخلق ألا يخرج إلى سوق جهده ، فإن خرج ضرورة غض بصره ، و ألا يزور صاحب منصب و لا يلقاه ، فإن إضطر دارى الأمر .
   
و لا يخالط عامياً إلا لضررة مع التحرز . و لايفتح على نفسه باب التزوج ، بل يقنع بامرأة فيها دين .
   
فقد قال الشاعر :
   
و المرء ما دام ذا عين يقلبها       في أعين العين موقوف على الخطر
   
يسر مقلته ما ضر مهجته       لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
   
فإن كان يغلب عليه العلم انفرد بدراسته و احترز من الأتباع المتعلمين ، و إن غلبت عليه العبادة ، زاد في إحترازه . و ليجعل خلوته أنيسه ، و النظر في سير السلف جليسه .
   
و ليكن له وظيفة من زيارة قبور الصالحين و الخلوة بها .
   
و لا ينبغي أن يفوته ورد قيام الليل ، و ليكن بعد النصف الأول ، فليطل مهما قدر ، فإنه زمان بعيد المثل .
   
و ليمثل رحيله عن قرب ليقصر أمله ، و ليتزود في الطريق على قدر طول السفر .
   
نسأل الله عز وجل يقظه من فضله ، و إقبالاً على خدمته ، و ألا يخذلنا بالإلتفات عنه ، إنه قريب مجيب .

 

·       فصل : شكر النعم نعمة من الله


   
كلما نظرت في تواصل النعم علي تحيرت في شكرها ، و أعلم أن الشكر من النعم فكيف أشكر .
   
لكن معترف بالتقصير ، و أرجو أن يكون اعترافي قائماً ببعض الحقوق .
   
و عندي خلة أرجو بها كل خير ، و هي أن من يصوم أو يصلي يرى أنه تعبد و يخدم كأنه يقضي حق المخدوم .
   
و أنا أرى أني إذا صليت ركعتين فإنما قمت أكدي فلنفسي أعمل ، إذ المخدوم غني عن طاعتي .
   
و كان بعض المشايخ يقول : جاء في الحديث : الدعاء عبادة ، و أنا أقول : [ العبادة دعاء ] .
   
فالعجب ممن يقف للخدمة يسأل حظ نفسه . كيف يرى أنه قد فعل شيئاً .
   
إنما أنت في حابتك ، و منة من أيقظك لا تقاومها خدمتك .
   
فأنا أقول كما قال الأول :
   
يا منتهى الآمال أن       ت كفلتني و حفظتني
   
و عدا الزمان علي كي يحتاجني فمنعتني
   
فانقاد لي متخشعاً       لما رآك نصرتني
   
و كسوتني ثوب الغني و من المغالب صنتني
   
فإذا سكت بدأتني       و إذا سألت أجبتني
   
فإذا شكرتك زدتني       فمنحتني و بهرتني
   
أو إن أجد بالمال فا       لأموال أنت أفدتني

 

·       فصل : من إشتغل بخدمة الخلق أعرض عن الحق

 
   
رأيت أكثر العلماء يتشاغلون بصورة العلم ، فهم الفقيه التدريس ، و هم الواعظ الوعظ .
   
فهذا يرعى درسه فيفرج بكثرة من يسمعه ، و يقدح في كلام من يخالفه و يمضي زمانه في التفكر في المناقضات ، ليقهر من يجادله ، و عينه إلى التصدر و الإرتفاع في المجالس .
   
و ربما كانت همته جمع الحطام ، و مخالطة السلاطين .
   
و الواعظ همته ما يزوق به كلامه ، و يكثر جمعه ، و يجلب به قلوب الناس إلى تعظيمه ، فإن كان له نظير في شغله أخذ يطعن فيه .
   
و هذه قلوب غافلة عن الله عز وجل ، إذ لو كانت لها به معرفة لإشتغلت به ، و كان أنسها بمناجاته ، و إيثارها لطاعته ، و إقبالها على الخلوة به .
   
لكنها لما خلت من هذا تشاغلت بالدنيا و ذاك دنيا مثلها .
   
فإذا خلت بخدمة الله تعالى لم تجد لها طعماً ، و كان جمع الناس أحب إليها ، و زيارة الخلق لها آثر عندما و هذه علامة الخذلان .
   
و على ضد هذا متى كان العالم مقبلاً على الله سبحانه مشغولاً بطاعته ، كان أصعب الأشياء عنده لقاء الخلق و محادثتهم ، و أحب الأشياء إليه الخلوة .
   
و كان عنده شغل من القدح في النظراء ، أو عن طلب الرياسة .
   
فإن ما علق به همته من الآخرة أعلى من ذلك .
   
و النفس لا بد لها مما تشاغل به . فمن إشتغل لخدمة الخلق أعرض عن الحق ، فإنما يربي رياسته .
   
و ذلك يوجب الإعراض عن الحق ، و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .

 

·       فصل : رؤية حقيقة الأشياء


   
قد جاء في الأثر : اللهم أرنا الأشياء كما هي ، و هذا كلام حسن غاية و أكثر الناس لا يرون الأشياء بعينها ، فإنها يرون الفاني كأنه باق ، و لا يكادون يتخايلون زوال ما هم فيه و إن علما ذلك .
   
إلا أن عين الحس مشغولة بالنظر إلى الحاضر .
   
ترى زوال اللذة و بقاء إثمها ، و لو رأى اللص قطع يده هان عنده المسروق . فمن جمع الأموال و لم ينفقها فما رآها بعينها ، إذ هي آلة لتحصيل الأعراض ، لا تراد لذاتها .
   
و من رأى المعصية بعيني الشهوة فما رآها إذ فيها من العيوب ما شئت ، ثم ثمرتها عقوبة آجلة ، و فضيحة عاجلة .
   
و انظر إلى أكبر شهوات الحس ، و هو الوطء ، فإنه الماء لا يحصل إلا بعد مطعم و مشرب .
   
و من تفكر في المطعم نظر إلى حرث الأرض ، و أنها تفتقر إلى بقر للحراثة عليهن المحراث ، و هو حديد و معه خشب و يتعلق به حبال .
   
فمن تفكر في عمل الحبال نظر في زرع القنب ، و تسريحه و فتله ، و الحديد و جلبه و ضربه ، و الخشب و نباته و نجارته ، و دوران الدولاب و عمله ، ثم إستحصاد الزرع و حصده ، و تذريته و طحنه ، و عجنه و خبزه ، و من عمل التنور و جلب الشوك .
   
و من هذا الجنس إذا نظر فيه كثر جداً حتى قالوا لا تنال لقمة إلا وقد عمل فيها ثلاثمائة نفس أو نحوهم .
   
فإذا أكل تلك اللقمة فليفكر في خلق الأنسان لقطعها ، و الأضراس لطحنها ، و عذوبة ماء الفم لخلطها ، و اللسان ليقلبها ، و عضلات الفم يصعد منها شيء و يبقي شيء حتى يصلح البلع .
   
ثم يتناولها المعي فيوصلها إلى الكبد فيقوم طابخاً لها ، فإذا صارت دماً نفت رسوبها إلى الطحال ، و مائتيها إلى المثانة ، و استخلصت من أخلص الدم و أصفاه للكبد و الدماغ و القلب .
   
و أخذت أجود ذلك فحدرته إلا الأثنيين معداً لخلق آدمي .
   
فإذا تحركت نيران الشهوة تدفقت تلك النطفة ، و قد حكم الشرع بطهارتها ، و حكم لها بطهارة الرحم و المحل الذي يباشره الذكر ، فيخلق منها الآدمي الموحد .
   
فما جاء هذا لشخص إلا بأعلى الغلاء ، و بعد عجائب أشرنا إليها ، لأننا عددناها .
   
أفمن فهم هذا يحسن منه أن يبدد تلك النطفة في حرام ، أو أن يطأ في محل نجس فتضيع ؟
   
فكم يتعلق بالزنا من لا يفي معشار عشرها بلذة لحظة ، منها هتك العرض بين الناس ، و كشف العورات كالمحرمة ، و خيانة الأخ المسلم في زوجته ، إن كانت متزوجة ، و فضيحة المزني بها و هي كأخت له أو بنت .
   
فإن علقت منه و لها زوج ألحقته بذلك الزوج ، و كان هذا الزاني سبباً في ميراث من لا يستحق ، و منع من يستحق .
   
ثم يتسلسل ذلك من ولد إلى ولد .
   
و أما سخط الحق سبحانه فمعلوم قال تعالى : ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا .
   
و قال صلى الله عليه و سلم : ما من ذنب ـ بعد الشرك ـ أعظم عند الله تعالى من نطفة وضعها رجل في رحم لا تحل له .
   
و من له فهو يعلم أن المراد من النطفة إيجاد الموحدين .
   
و لولا تركيب الشهوة لم يقع الوطء ، لأنه إلتقاء عضوين غير مستحسنين و لا صورتهما حسنة و لا ريحهما طيب .
   
و إنما الشهوة تغطي عين الناظر ليحصل الولد أصلا، فهي عارض .
   
فمن طلب الشهوة و نسي جنايته بالزنا فما رأى الأشياء على ما هي .
   
و قس على هذا المطعم و المشرب و جمع المال و غير ذلك .

 

·       فصل : إذا خفيت الحكمة وجب التسليم


   
إن قال قائل : أي فائدة في خلق ما يؤذي ؟ فالجواب أنه قد ثبتت حكمة الخالق ، فإذ خفيت في بعض الأمور وجب التسليم .
   
ثم إن المستحسنات في الجملة أنموذج ما أعد من الثواب . و المؤذيات أنموذج ما أعد من العقاب .
   
و ما خلق شيء يضر إلا و فيه منفعة .
   
قيل لبعض الأطباء : إن فلانا يقول : أنا كالعقرب أضر لا أنفع .
   
فقال : ما أقل علمه . إنها لتنفع إذا شق بطنها ثم شد على موضع اللسعة .
   
و قد تجعل في جوف فخار مسدود الرأس مطبق الجوانب ، ثم يوضع الفخار في تنور فإذا صارت رماداً سقى من ذلك الرماد مقدار نصف دانق أو أكثر من به الحصاة فيفتها من غير أن يضر بشيء من سائر الأعضاء .
   
و قد تلسع العقرب من به حمى عتيقة فتزول . و لسعت رجلاً مفلوجاً فزال عنه الفالج .
   
و قد تلقى في الدهن حتى يجتذب قواها ، فيزيل ذلك الدهن الأورام الغليظة ، و مثل هذا كثير .
   
فالجاهل عدو لما جهله ، و أكبر الحماقة رد الجاهل على العالم .

 

·       فصل : جلال العبادة و جمال العابدين

 
   
كلما أوغلت الفهوم في معرفة الخالق فشاهدت عظمته و لطفه و رفعته ، تاهت في محبته ، فخرجت عن حد الثبوت .
   
و قد كان خلق من الناس غلبت عليهم محبته ، فلم يقدروا على مخالطة الخلق .
   
و منهم من لم يقدر على السكوت عن الذكر .
   
و فيهم من لم ينم إلا غلبة ، و فيهم من هام في البراري ، و فيهم من إحتراق في بدنه .
   
فيا حسن مخمورهم ما ألذ سكره ، و يا عيش قلقهم ما أحسن وجده . . . ! !
   
كان أبو عبيدة الخواص قد غلبه الوجد فكان يمشي في الأسواق يقول : [ وا شوقاه إلى من يراني و لا أراه ] .
   
و كان فتح بن سخرف يقول : قد طال شوقي إليك ، فعجل قدومي عليك .
   
و كان قيس بن الربيع كأنه مخمور من غير شراب .
   
و كان ابن عقيل يقول إن التبذل فيه سبحانه أحسن من التجمل في غيره .
   
هل رأيت قط عراة أحسن من المحرمين ؟
   
هل رأيت للمتزينين برياش الدنيا سمتاً كأثواب الصالحين ؟
   
هل رأيت خماراً أحسن من نعاس المتهجدين ؟
   
هل رأيت سكراً أحسن من صعق الواجدين ؟
   
هل شاهدت ماء صافياً أصفى من دموع المتأسفين ؟
   
هل رأيت رؤوساً مائلة كرؤوس المنكسرين ؟
   
هل لصق بالأرض شيء أحسن من جباه المصلين ؟
   
هل حرك نسيم الأسحار أوراق الأشجار فبلغ مبلغ تحريكه أذيال المتهجدين ؟
   
هل ارتفعت أكف و إنبسطت أيد فضاهت أكف الراغبين ؟
   
هل حرك القلوب صوت ترجيع لحن أو رنة و تر كما حرك حنين المشتاقين ؟
   
و إنما يحسن التبذل في تحصيل أو في الأغراض .
   
فلذلك حسن التبذل في خدمة المنعم .

 

·       فصل : تغطية العقل و تدبيره


   
أكثرهم لا يعرف الدين و لا يتأدب بآدابه [ بمرة يتفق له قلة العقل في أصل الوضع ، ثم ذلك القليل لا يعاون ، بل يعان عليه ، و ذاك أن الجارحة إذا دام تعطلها عن عملها الذي هيئت له تعطلت و خمدت ، و لهذا تنقص أبصار النساخ و الرفائين و تحتد أبصار أهل البوادي ، لأنه لا صاد لأبصارهم ] .
   
و شغل العقل التفكر ، و النظر في عواقب كالأحوال ، و الإستدلال بالشاهد على الغائب ، و هم يمتلئون من الطعام دائماً ، و ذلك يؤذي العقل .
   
ثم يطلبون النوم ، فإذا انتبهوا شربوا المسكر ، فاتقق للعقل و تغطية ، فساء التدبير .

 

·       فصل : التلطف في محادثة العوام

 
   
من المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم ، أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده .
   
مثاله أن قوماً قد رسخ في قلوبهم التشبيه ، و أن ذات الخالق سبحانه ملاصقة للعرش، و هي بقدر العرش ، و يفضل من العرش أربعة أصابع .
   
و سمعوا مثل هذا من أشياخهم ، و ثبت عندهم أنه إذا نزل و انتقل إلى السماء الدنيا فخلت منه ست سموات .
   
فإذا دعى أحدهم إلى التنزيه و قيل له ليس كما خطر لك ، إنما ينبغي أن تمر الأحاديث كما جاءت من غير مساكنة ما توهمته ، صعب هذا عليه لوجهين :
   
أحدهما : لغلبة الحس عليه ، و الحس على العوام أغلب .
   
و الثاني : لما قد سمعه من ذلك من الأشياخ الذين كانوا أجهل منه .
   
فالمخاطب لهذا مخاطر بنفسه ، و لقد بلغني عن بعض من كان يتدين ممن قد رسخ في قلبه التشبيه أنه سمع من بعض العلماء شيئاً من التنزيه ، فقال : و الله لو قدرت عليه لقتلته .
   
فالله الله أن تحدث مخلوقاً من العوام بما لا يحتمله دون إحتيال و تلطف ، فإنه لا يزول ما في نفسه ، و يخاطر المحدث له بنفسه .
   
فكذلك كل ما يتعلق بالأصول .

 

·       فصل : الرجل هو من يراعي حفظ الحدود و إخلاص العمل

 
   
لا يغرك من الرجل طنطنته و ما تراه يفعل من صلاة و صوم و صدقة و عزلة عن الخلق .
   
إنما الرجل هو الذي يراعي شيئين : حفظ الحدود ، و إخلاص العمل .
   
فكم قد رأينا متعبداً يحرق الحدود بالغيبة ، و فعل ما لا يجوز مما يوافق هواه ! و كم قد اعتبرنا على صاحب دين أنه يقصد بفعله غير الله تعالى .
   
و هذه الآفة تزيد و تنقص في الخلق .
   
فالجل كل الرجل هو الذي يراعي حدود الله ، و هي ما فرض عليه و ألزم به .
   
و الذي يحسن القصد ، فيكون عمله و قوله خالصاً لله تعالى ، لا يريد به الخلق و لا تعظيمهم له .
   
فرب خاشع ليقال ناسك ، و صامت ليقال خائف ، و تارك للدنيا ليقال زاهد .
   
و علامة المخلص أن يكون في جلوته كخلوته ، و ربما تكلف بين الناس التبسم و الإنبساط لينمحي عنه إسم زاهد .
   
فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار ، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية .
   
و اعلم أن المعمول معه لا يريد الشركاء ، فالمخلص مفرد له بالقصد ، و المرائي قد أشرك ليحصل له مدح الناس .
   
و ذلك ينقلب ، لأن قلوبهم بيد من أشرك معه ، فهو يقلبها عليه لا إليه .
   
فالموفق من كانت معاملته باطنة و أعماله خالصة .
   
و ذاك الذي تحبه الناس و إن لم يبالهم ، كما يمقتون المرائي و إن زاد تعبده .
   
ثم إن الرجل الموصوف بهذه الخصال لا يتناهى عن كمال العلوم و لا يقصر عن طلب الفضائل .
   
فملأ الزمان أكثر ما يسعه من الخير ، و قلبه لا يفتر عن العمل القلبي إلى أن يصير شغله بالحق سبحانه و تعالى .

 

·       فصل : مساعد الظالم ظالم مثله

 
   
رأيت خلقاً يفرطون في أديانهم ثم يقولون : إحملونا إذا متنا إلى مقبرة أحمد .
   
أتراهم ما سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إمتنع من الصلاة على من عليه دين و على الغال و قال : ما ينفعه صلاتي عليه .
   
و لقد رأيت أقواماً من العلماء حملهم حب الصيت على أن إستخرجوا إذناً من السلطان ، فدفنوا في دكة أحمد بن حنبل ، و هم يعلمون أن هناك خلقاً رفات بعضهم على بعض .
   
و ما فيهم إلا من يعلم أنه ما يستحق القرب من مثل ذلك .
   
فأين إحتقار النفوس ؟ أما سمعوا أن عمر بن عبد العزيز ، قيل له : تدفن في الحجرة ؟ فقال : لأن ألقى الله بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من أرى نفسي أهلاً لذلك .
   
لكن العادات ، و حب الرياسة غلبت على هؤلاء ، فبقي العلم يجري على الألسن عادة لا للعمل به .
   
ثم آل الأمر إلى جماعة خالطوا السلاطين و باشروا الظلم ، يزاحمون على الدفن بمقبرة أحمد و يوصون بذلك .
   
فليتهم أوصوا بالدفن في موضع فارغ ، إنما يدفنون على موتي .
   
و يخرج عظام أولئك فيحشون على ما ألقوا من الظلم حتى في موتهم ، و ينسون أنهم كانوا من أعوان الظلمة .
   
أترى ما علموا أن مساعد الظالم ظالم ، و في الحديث : كفي بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة .
   
قال السجان لأحمد بن حنبل : هل أنا من أعوان الظلمة ؟ فقال : [ لا ، أنت من الظلمة ، إنما أعوان الظلمة من أعانك في أمره ] .

 

·       فصل : الحسد طبيعة في الإنسان فقومها


   
رأيت الناس يذمون الحاسد و يبالغون و يقولون : لا يحسد إلا شرير يعادي نعمة الله ، و لا يرضى بقضائه ، و يبخل على أخيه المسلم .
   
فنظرت في هذا فما رأيته كما يقولون ، و ذاك أن الإنسان لا يحب أن يرتفع عليه أحد ، فإذا رأى صديقه قد علا عليه تأثر هو و لم يحب أن يرتفع عليه ، و ود لو لم ينل صديقه ما ينال ، أو أن ينال هو ما نال ذاك لئلا يرتفع عليه و هذا معجون في الطين ، و لا لوم على ذلك .
   
إنما اللوم أن يعمل بمقتضاه من قول أو فعل . و كنت أظن أن هذا قد وقع لي عن سري و فحصي ، فرأيت الحديث عن الحسن البصري قد سبقني إليه .
   
قال : أخبرنا عبد الخالق بن عبد الصمد ، قال : أخبرنا ابن النقود ، قال : أخبرنا المخلص ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا أبو روح ، قال : حدثنا مخلد بن الحسين ، عن هشام عن الحسن ، قال : [ ليس من ولد آدم إلا و قد خلق معه الحسد . . . ! ! ] .
   
فمن لم يجاوز ذلك بقول و لا بفعل لم يتبعه شيء ! !

 

·       فصل : اظفر بذات الدين ترتب يداك

 
   
من أعظم الضرر الداخل على الإنسان كثرة النساء .
   
إنه أولاً يتشتت همه في محبتهن ، و مداراتهن و غيرتهن و الإنفاق عليهن ، و لا يأمن إحداهن أن تكرهه و تليد غيره ، فلا تتخلص إلا بقتله .
   
و لو سلم من جميع ذلك لم يسلم في الكسب لهن ، فإن سلم لم ينج من السآمة لهن أو لبعضهن .
   
ثم يطلب ما لا يقدر عليه من غيرهن ، حتى أنه لو قدر على نساء بغداد كلهن فقدمت إمرأة مستترة من غير البلد ظن أنه يجد عندها ما ليس عندهن .
   
و لعمري إن في الجدة لذة ، و لكن رب مستور إذا إنكشف افتضح .
   
و لو أنه سلم من كل أذى يتعلق بهن أنهك بدنه في الجماع ، فيكون طلبه للإلتذاذ مانعاً من دوام الإلتذاذ .
   
و رب لقمة منعت لقمات ، و رب لذة كانت سبباً في إنقطاع لذات .
   
و العاقل من يقتصر على الواحدة إذا وافقت غرضه ، و لا بد أن يكون فيها شيء لا يوافق ، إنما العمل على الغالب ، فتوهب الخلة الردية للمجيدة .
   
و ينبغي أن يكون النظر إلى باب الدين قبل النظر إلى الحسن.
   
فإنه إذ قل الدين لم ينتفع ذو مروءة بتلك المرأة . و مما يهلك الشيخ سريعاً الجماع ، فلا يغتر بما يرى من إنبساط الآلة و حصول الشهوة .
   
و ذلك مستخرج من قوته ما لا يعود مثله ، فلا ينبغي أن يغتر بحركة و سهرة ، و لا يقرب من النساء إن كان له رأي في البقاء .

 

·       فصل : العاقل المغلوب بالهوى ترجى هدايته


   
إذا رأيت قليل العقل في أصل الوضع فلا ترج خيره .
   
فأما إن كان وافر العقل لكنه يغلب عليه الهوى فارجة .
   
و علامة ذلك أنه يدبر أمره في جهلة ، فيستتر من الناس إذا أتى فاحشة ، و يراقب في بعض الأحوال ، و يبكي عند الموعظة ، و يحترم أهل الدين ، فهذا عاقل مغلوب بالهوى .
   
فإذا إنتبه بالندم إنقبض شيطان الهوى ، و جاء ملك العقل .
   
فأما إذا كان قليل العقل في الوضع ، و علامته ألا ينظر في عاقبة عاجلة و لا آجلة ، و لا يستحي من الناس أن يروه على فاحشة ، و لا يدبر أمر دنياه فذاك بعيد الرجاء .
   
و قد يندر من هؤلاء من يفلح ، و يكون السبب فيه خميرة من العقل غطى عليها الهوى ثم تكشف قليلاً ليعود ، فمثلهم كمثل مصروع أفاق .

 

·       فصل : العاقل من تبصر في عواقبه

 
   
ينبغي الإحتراز من كل ما يجوز أن يكون ، و لا ينبغي أن يقال : الغالب السلامة .
   
قد رأينا من نزل مع الخيل في سفينة فاضطربت ، فغرق من في السفينة و إن كان الغالب في هذه الحالة السلامة .
   
و كذا ينبغي أن يقدر الإنسان في نفقته و إن رأى الدنيا مقبلة ، لجواز أن تنقطع تلك الدنيا .
   
و حاجة النفس لا بد من قضائها ، فإذا بذر وقت السعة فجاء وقت الضيق لم يأمن أن يدخل في مداخل سوء ، و أن يتعرض بالطلب من الناس .
   
و كذلك ينبغي للمعافى أن يعد للمرض ، و للقوي أن يتهيأ للهرم .
   
و في الجملة فالنظر في العواقب و فيما يجوز أن يقع شأن العقلاء .
   
فأما النظر في الحالة الراهنة فحسب ، فحالة الجهلة الحمقى ، مثل أن يرى نفسه معافى و ينسى المرض ، أو غنياً و ينسى الفقر ، أو لذة عاجلة و ينسى ما تجني عواقبها و ليس للعقل شغل إلا النظر في العواقب ، و هو يشير بالصواب من أين يقبل ؟ . .

 

·       فصل : لا تيأس من روح الله


   
يبين إيمان المؤمن عند الإبتلاء ، فهو يبالغ في الدعاء و لا يرى أثراً للإجابة ، و لا يتغير أمله و رجاؤه و لو قويت أسباب اليأس ، لعلمه أن الحق أعلم بالمصالح .
   
أو لأن المراد منه الصبر أو الإيمان ، فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا و هو يريد من القلب التسليم لينظر كيف صبره أو يريد كثرة اللجأ و الدعاء .
   
فأما من يريد تعجيل الإجاية و يتذمر إن لم تتعجل ، فذاك ضعيف الإيمان ، يرى أن له حقاً في الإجابة ، كأنه يتقاضى أجرة عمله .
   
أما سمعت قصة يعقوب عليه السلام : بقي ثمانين سنة في البلاء و رجاؤه لا يتغير ، فلما ضم إلى فقد يوسف بنيامين لم يتغير أمله و قال : [ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً ] .
   
و قد كشف هذا المعنى قوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء و الضراء و زلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب .
   
و معلوم أن هذا لا يصدر من الرسول و المؤمنين إلا بعد طول البلاء و قرب اليأس من الفرج .
   
و من هذا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل ، قيل له : و ما يستعجل ؟ قال : يقول : دعوت فلم يستجب لي .
   
فإياك إياك أن تستطيل زمان البلاء ، و تضجر من كثرة الدعاء ، فإنك مبتلى بالبلاء ، متعبد بالصبر و الدعاء ، و لا تيأس من روح الله و إن طال البلاء .

 

·       فصل : المعاصي سببها طلب اللذات


   
تذكرت في سبب دخول جهنم ، فإذا هو المعاصي .
   
فنظرت في المعاصي ، فإذا هي حاصلة من طلب اللذات .
   
فنظرت في اللذات ، فرأيتها خدعاً ليست بشي ، و في ضمنها من الأكدر ما يصيرها نغصاً فتخرج عن كونها لذات .
   
فكيف يتبع العاقل نفسه و يرضى بجهنم لأجل هذه الأكدار ؟
   
فمن اللذات الزنا فإن كان المراد إراقة لماء فقد يراق في حلال .
   
و إن كان في معشوق فمراد النفس دوام البقاء مع المعشوق ، فإذا هي ملكته فالمملوك مملول .
   
و إن هو قاربه ساعة ثم فارقه ، فحسرة الفراق تربو على لذة القرب .
   
و إن كان ولد له من الزنا فالفضيحة الدائمة ، و العقوبة التامة ، و تنكيس الرأس عند الخالق و المخلوق .
   
و أما الجاهل فيرى لذته في بلوغ ذلك الغرض ، و ينسى ما يجنى مما يكدر عيش الدنيا و الآخرة .
   
و من ذلك شرب الخمر ، فإنه تنجيس للفم و الثوب ، و إبعاد للعقل ، و تأثيراته معلومة عند الخالق و المخلوق .
   
فالعجب ممن يؤثر لذة ساعة تجني عقاباً و ذهاب جاء ، و ربما خرج بالعربدة إلى القتل .
   
و على هذا فقس جميع المذوقات ، فإن لذاتها إذا و زنت بميزان العقل لا تفي بمعشار عشير عواقبها القباح في الدنيا و الآخرة .
   
ثم هي نفسها ليس بكثير شيء فكيف تباع الآخرة بمثل هذا ؟
   
سبحان من أنعم على أقوام ، كلما لاحت لهم لذة نصبوا ميزان العقل و نظروا فيما يجني ، و تلمحوا ما يؤثر تركها فرجحوا الأصلح .
   
و طمس على قلوب فهي ترى صورة الشيء و تنسى جناياته .
   
ثم العجب أنا نرى من يبعد عن زوجته و هو شاب ليعدو في الطريق فيقال ساعي .
   
فيغلب هواه لطلب ما هو أعلى و هو المدح . كيف لا يترك محرماً ليمدح في الدنيا و الأخرة ؟
   
ثم قدر حصول ما طلبت من اللذات و ذهابها و أحسب أنها قد كانت و قد هانت و تخلصت من محنها . أين أنت من غيرك ؟ أين تعب عالم قد درس العلم خمسين سنة ؟ ذهب التعب و حصل العلم ، و أين لذة البطال ؟ ذهبت الراحة و أعقبت الندم .

 

·       فصل : من تبع العقل سلم


   
من وقف على موجب الحس هلك . و من تبع العقل سلم ، لأن مجرد الحس لا يرى إلا الحاضر و هو الدنيا . و أما العقل فإنه ينظر إلى المخلوقات ، فيعلم وجود خالق منح و أباح ، و أطلق و حظر . و أخبر : أني سائلكم و مبتليكم ليظهر دليل وجودي عندكم بترك ما تشتهون طاعة لي .
   
و إني قد بنيت لكم داراً غير هذه ، لإثابة من يطيع ، و عقوبة من يخالف .
   
ثم لو ترك الحس و ما يشتهي مع أغراضه قرب الأمر ، إنما يزني فيجلد ، و يشرب الخمر فيعاقب ، و يسرق فيقطع ، و يفعل زلة فيفضح بين الخلق .
   
و يعرض عن العلم إلى البطالة فيقع الندم عند حصول الجهل .
   
ثم إنا نرى الكثير ممن عمل بمقتضى عقله ، قد سلمت دنياه و آخرته ، و ميز بين الخلق بالتعظيم ، و كان عيشه في لذات غالباً خيراً من عيش موافق لهوى .
   
فليعتبر ذو الفهم بما قلت ، و ليعمل بمقتضى الدليل و قد سلم .

 

·       فصل : إحفظ دينك ومروءتك بترك الحرام


   
العجب لمؤثر شهوات الدنيا . ألا يتدبر أمرها بالعقل قبل أن يصير إلى منقولات الشرع ؟
   
إن أعظم لذات الحس الوطء ، فالمرأة المستحسنة إنما يكون حال كمالها من وقت بلوغها إلى الثلاثين ، فإذا بلغتها أثر فيها .
   
و ربما إبيضت شعرات من رأسها فينفر الإنسان منها . و قد يقع الملل قبل ذلك ، و طول الصحبة يكشف العيوب .
   
و ما عيب نساء الدنيا بأبلغ من قوله : و لهم فيها أزواج مطهرة .
   
فلو تفكر الإنسان في جسد مملوء بالنجاسة ما طاب له ضمه ، غير أن الشهوة تغطي عين الفكر .
   
فالعاقل من حفظ دينه و مروءته بترك الحرام ، و حفظ قوته في الحلال فأنفقها في طلب الفضائل ، من علن أو عمل .
   
و لم يسع في إفناء عمره و تشتيت قلبه في شيء لا تحسن عاقبته :
   
ما في هوادجكم من مهجتي عوض       إن مت شوقاً و لا فيها لها ثمن
   
و عموم من رأينا من الكبار غلبت عليهم شهوة الوطء فإنهدمت أعمارهم ، و رحلوا سريعاً .
   
و قد رأينا من العقلاء من زجر نفسه عن هذه المحنة ، و لم يستعملها إلا وقت الحاجة ، فبقى لهم سواد شعورهم و قوتهم ، حتى تمتعوا بها في الحياة و حصلوا المناقب ، و عرفت منهم النفوس قوة العزيمة ، فلم تطالبهم بما يؤذي .

 

·       فصل : رؤية النبي مناماً مثال لا مثل


   
قد أشكل على الناس رؤية النبي صلى الله عليه و سلم و قوله : من رآني في المنام فقد رآني . فقال : ظاهر الحديث أنه يراه حقيقة .
   
و في الناس من يراه شيخاً و شاباً و مريضاً و معافى .
   
فالجواب أنه من ظن أن جسد رسول الله صلى الله عليه و سلم المودع في المدينة خرج من القبر ، و حضر في المكان الذي رآه فيه ، فهذا جهل لا جهل يشبهه .
   
فقد يراه في وقت واحد ألف شخص ، في ألف مكان ، على صور مختلفة .
   
فكيف يتصور هذا في شخص واحد ؟ و إنما الذي يرى مثاله لا شخصه .
   
فيبقى من رآني فقد رآني معناه : قد رأى مثالي الذي يعرفه الصواب ، و تحصل به الفائدة المطلوبة .
   
فإن قيل : فما تقولون في رؤية الحق سبحانه ؟ .
   
فنقول : يرى مثالاً لا مثلاً ، و المثال لا يفتقر إلى المساواة و المشابهة ، كما قال تعالى : أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها .
   
فضربه مثالاً للقرآن و انتفاع الخلق به .
   
و يوضح هذا أنه إنما يرى من رأى الحق سبحانه و تعالى على هيئة مخصوصة ، و الحق سبحانه و تعالى منزه ، قد توحد ، فوضح ما قلنا .

 

·       فصل : يجب أن يكون المحدث فقيهاً


   
هذا فصل غزير الفائدة .
   
إعلم أنه لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال في كل علم إلى منتهاه ، غير أن العمر قصير و العلم كثير .
   
فينبغي للإنسان أن يقتصر من القراءات إذا حفظ القرآن على العشر .
   
و من الحديث على الصحاح ، و السنن و المسانيد المصنفة . فإن علوم الحديث قد انبسطت زائدة في الحد و ما في هذا الجزاء و إنما الطرق تختلف .
   
و علم الحديث يتعلق بعضه ببعض، و هو مشتهى ، و الفقهاء يسمونه علم الكسالى ، لأنهم يتشاغلون بكتابته و سماعه، و لا يكادون يعانون حفظه ، و يفوتهم المهم و هو الفقه .
   
و قد كان المحدثون قديماً هم الفقهاء ، ثم صار الفقهاء لا يعرفون الحديث ، و المحدثون لا يعرفون الفقه .
   
فمن كان ذا همة و نصح نفسه تشاغل بالمهم من كل علم ، و جعل جل شغله الفقه ، فهو أعظم العلوم و أهمها .
   
و قد قال أبو زرعة : كتب إلي أبو ثور : فإن هذا الحديث قد رواه ثمانية و تسعون رجلاً عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و الذي صح منه طرق يسيرة .
   
فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشاغل بما هو أهم .
   
و لو إتسع العمر إستيفاء كل الطرق في كل الأحاديث غاية في الجودة ، و لكن العمر قصير .
   
و لما تشاغل بالطرق مثل يحي بن معين فاته من الفقه كثير ، حتى أنه سئل عن الحائض أيجوز أن تغسل الموتى! فلم يعلم ، حتى جاء أبو ثور فقال : يجوز ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت : [ كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا حائض ] .
   
فيحي أعلم بالحديث منه ، و لكن لم يتشاغل بفهمه .
   
فأنا أنهي أهل الحديث أن تشغلهم ككثرة الطرق .
   
و من أقبح الأشياء أن تجري حادثة يسأل عنها شيخ قد كتب الحديث ستين سنة فلا يعرف حكم الله عز وجل فيها .
   
و كذلك أنهي من يتشاغل بالتزهد و الإنقطاع عن الناس أن يعرض عن العلم ، بل ينبغي أن يجعل لنفسه منه حظاً ليعلم إن زل كيف يتخلص .

 

·       فصل : العقل السليم في الجسم السليم

 
   
معرفة الله سبحانه لا تحصل إلا لكامل العقل ، صحيح المزاج ، و الترقي إلى محبته بذلك يكون .
   
و إن أقواماً قلت عقولهم ، و فسدت أمزجتهم ، فساءت مطاعمهم ، و قلت ، فتخايلت لهم الخيالات الفاسدة ، فإدعوا معرفة الحق و محبته ، و لم يكن عندهم من العلم ما يصدهم عما ادعوا فهلكوا .
   
و ليعلم أن في المأكولات ما يسبب إفساد العقل و فيها ما يزيد في السوداء فيوجب المالخوليا ، فترى صاحبها يحب الخلوة ، و يهرب من الناس ، و قد يقلل المطعم ، فيقوى مرضه فيتخايل خيالات يظنها حقاً .
   
فمنهم من يقول : إني رأيت الملائكة ، و فيهم من يخرجه الأمر إلى دعوى محبة الحق و الولد فيه ، و لا يكون ذلك عن أصل معتمد عليه .
   
و إنما العاقل العالم يسير في الطريق بين الرفيقين : العلم و العقل .
   
فإن تقلل من الطعام فبعقل ، وحد التقلل ترك فضول المطعم و ما يخاف شره من شهبة أو شهوة يحذر تعودا .
   
و أما زيادة التقلل مع القدرة فليس لعقل و لا شرع ، إلا أن يكون الفقر عم ، فيتقلل ضرورة .
   
و من تأمل حال رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه ، و جدهم يأخذون بمقدار و لا يتركون حظوظ النفس التي تصلحها .
   
و ما أحسن الأمر و أعدله قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلث طعام ، و ثلث شراب ، و ثلث نفس .
   
و قد قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه و هو مريض : أصب من هذا الطعام فهو أوفق لك من هذا .
   
و كان صلى الله عليه و سلم يشاور الأطباء ، و يحتجم ، و يحث على التداوي و يقول : ما أنزل الله داء إلا و أنزل له شفاء فتداووا .
   
فجاء أقوام جهلوا العلم و الحكمة في بنيان الأبدان .
   
فمنهم من أقام في الجبال يأكل البلوط ، فأصابه القولنج ، و منهم من قلل المطعم إلى أن ضعفت قواه ، و منهم من اقتصر على نبات الصحراء ، و منهم من كان لا يقوت إلا الباقلاء و الشعير . فأوجبت هذه الأفعال أمراضاً في البدن ، و ترقت إلى إفساد العقل .
   
و إتفق لهم قلة العلم ، إذ لو علموا لفهموا أن الحكمة تنهي عن مثل هذا ، فإن البدن مبني على أخلاط إذا اعتدلت وقعت السلامة ، و إذا زاد بعضها وقع المرض .
   
و أكثر هؤلاء مرضوا و تعجل لهم الموت ، و فيهم من خرج إلى التسودن ، و فيهم من لاحت له لوائح ، فإدعى رؤية الملائكة إلى غير ذلك .
   
فأما أهل العلم و العقل فهربهم من الخلق لخوف المعاصي و رؤية المنكر .
   
و فيهم من قويت معرفته فشغلته معرفة الحق و محبته على ملاقاة الخلق .
   
فهذه هي الخلوات الصافية ، لأنها تصدر عن علم و عقل فتحفظ البدن ، لأنه ناقة توصل .
   
و لا ينبغي أن يتهاون بالمأكولات ، خصوصاً من لم يعتد التقشف ، و لا يلبس الصوف على البدن من لم يعتده .
   
و لينظر في طريق رسول الله صلى الله عليه و سلم و صحابته ، فإنهم القدوة . و لا يلتفت إلى بنيات الطريق ، فيقال : فلان الزاهد قد أكل الطين . و فلان كان يمشي حافياً ، و فلان بقي شهراً ما أكل .
   
فإن المحققين من هؤلاء المخلصين لله تعالى على غير الجادة لأن الجادة إتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و ما كانوا يفعلون .
   
و هذا لعمري أنه قد كان فيهم من يقنع بالمذقة من اللبن ، و يصبر الأيام عن الطعام . و لكن إما لضرورة ، أو لأنه معتاد لذلك كما يعتاد البدوي شرب اللبن وحده و لا يؤذيه ذلك .
   
و في الحديث : عودوا كل بدن ما إعتاد و في المتزهدين من أخرج ماله كله عن يده زهداً ، و معلوم أن الحاجات لا تنقضي ، فلما إحتاج تعرض للطلب ، و إفتقر إلى أخذ مال من يد من يعلم أنه ظالم و بذل وجهه .
   
و قد كانت الصحابة تنجر و تحفظ المال ، و جهال المتزهدين يرون جمع المال ينافي الزهد .
   
فمخضة هذا الفصل أن أقول : ينبغي لمن رزق فهماً أن يسعى في صلاح بدنه و لا يحمل عليه ما يؤذيه ، و لا يناوله من القوت ما لا يوافقه ، و لا يضيع ماله ، و ليجتهد في إشتثماره لئلا يحتاج ، فإنه ما نافق زاهد إلا لأهل الدنيا .
   
و لينظر في سير الكاملين من السلف . و ليتشاغل بالعلم ، فإنه الدليل . فحينئذ يحمله الأمر على الخلوة بربه ، و الإشتغال بحبه ، فيكون ما ظهر منه ثمرة نضجة لا فجة ، و الله الموفق .

 

·       فصل : استقامة الأمور باستقامة الباطن

 
   
ما رأيت أظرف من لعب الدنيا بالعقول ، و قد سمعنا و رأينا جماعة من الفطناء الكاملي العقل لعبت بهم الدنيا حتى صاروا كالمجانين . فولوا الولايات فخرجوا إلى القتل و الضرب و الحبس و الشتم و ذهاب الدين ، و المباشرة للظلم كله لأجل دنيا تذهب سريعاً .
   
و هي في مدة إقامتها معجونة بالنغص .
   
فيا أيها المرزوق عقلاً لا تبخسه حقه ، و لا تطفئ نوره ، و اسمع ما نشير به ، و لا تلتفت إلى بكاء طفل الطبع لفوات غرضه .
   
فإنك إن رحمت بكاءه لم تقدر على فطامه ، و لم يمكنك تأديبه ، فيبلغ جاهلاً فقيراً :
   
لا تسه عن أدب الصغ       ير و لو شكا ألم التعب
   
و دع الكبير لشأنه       كبر الكبير عن الأدب
   
و اعلم أن زمان الإبتلاء ضيف قراه الصبر ، كما قال أحمد بن حنبل : [ إنما هو طعام دون طعام و لباس دون لباس ، و أنها أيام قلائل ، فلا تنظر إلى لذة المترفين ، و تلمح عواقبهم ، و لا تضق صدراً بضيق المعاش ، و علل الناقة بالحدو تسير :
   
طاول بها الليل مال النجم أم جنحاً       و ما طل النوم ضن الجفن أم سمحاً
   
فإن تشكت فعللها المجرة من       ضوء الصباح و عدها بالرواح ضحى
   
و قد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل هدية فردها ، ثم قال بعد سنة لأولاده : [ لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت ] .
   
و مر بشر على بئر ، فقال له صاحبه : أنا عطشان ، فقال : البئر الأخرى ، فمر عليها فقال له : الأخرى ، ثم قال : كذا تقطع الدنيا .
   
و دخلوا إلى بشر الحافي و ليس في داره حصير ، فقيل له : ألا بذا تؤذى ؟ فقال : هذا أمر ينقضي .
   
و كان لداود الطائي دار يأوي إليها ، فوقع سقف ، فانتقل إلى سقف ، إلى أن مات في الدهليز .
   
فهؤلاء الذين نظروا في عواقب الأمور ، و بعد هذا فلا أطالبك بهذه الرتبة ، بل أقول لك : إن حصل لك شيء من المباح لا من فيه و لا أذى و لا نلته بسؤال و لا من يد ظالم تعلم أن ماله حرام أو فيه شبهة ، فإفسح لنفسك في مباحاتها بمقدار ما تحتاج إليه ، و كن مقدراً للنفقة غير مبذر .
   
فإن الحلال لا يحتمل السرف ، و متى أسرفت إحتجت إلى التعرض للخلق . و التناول من الأكدار .
   
و إن ضاق بك أمر فأصبر ، فإن ضعف الصبر فسل فاتح الأبواب . فهو الكريم و عنده مفاتح الغيب .
   
و إياك أن تبذل دينك بتصنع للخلق أو يتقرب إلى الأمراء و تستعطي أموالهم .
   
و أذكر طريق السلف : كان ابن سمعون له ثياب يجلس فيها للناس ثم يطويها إلى المجلس الآخر ورثها عن أبيه بقيت أربعين سنة .
   
و كانت ميمونة بنت شاقولة تعظ الناس و لها ثياب قد بقيت أربعين سنة .
   
و من صفا نظره و تهذب لفظه نفع وعظه ، و من كدر كدر عليه .
   
و الحالة العالية في هذا إقبال القلب على الله عز وجل ، و التوكل عليه ، و النظر إليه ، و إلتفات القلب عن الخلق .
   
فإن إحتجت فإسأله ، و إن ضعفت فإرغب إليه .
   
و متى ساكنت الأسباب إنقطعت عنه ، و متى إستقام باطنك إستقامت لك الأمور .

 

·       فصل : فلينظر أحدكم من يخالل


   
رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء ، فبحثت بالتجارب عنهم ، فإذا أكثرهم حساد على النعم ، و أعداء لا يسترون زلة ، و لا يعرفون لجليس حقاً ، و لا يواسون من مالهم صديقاً .
   
فتأملت الأمر ، فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئاً يأنس به ، فهو يكدر عليه الدنيا و أهلها ليكون أنسه به .
   
ينبغي أن يعد الخلق كلهم معارف ، ليس فيهم صديق ، بل تحسبهم أعداء .
   
و لا تظهر سرك لمخلوق منهم ، و لا تعدن من يصلح لشدة لا ولداً و لا أخاً و لا صديقاً .
   
بل عاملهم بالظاهر ، و لا تخالطهم إلا حالة الضرورة بالتوقي لحظة .
   
ثم أنفر عنهم ، و أقبل على شأنك ، متوكلاً على خالقك .
   
فإنه لا يجلب الخير سواه ، و لا يصرف السوء إلا إياه .
   
فليكن جليسك و أنيسك ، و موضع توكلك و شكواك .
   
فإن ضعف بصرك فإستغث به ، و إن قل يقينك فسله القوة .
   
و إياك أن تميل إلى غيره ، فإنه غيور ، و أن تشكو من أقداره ، فربما غضب و لم يعتب .
   
أوحى الله عز وجل إلى يوسف عليه السلام : [ من خلصك من الجب ؟ من فعل ؟ من فعل ؟ قال : أنت ] .
   
قال : فلم ذكرت غيري ؟ فلأطيلن حسبك ، أو كما قال .
   
هذا و إنما تعرض يوسف عليه السلام بسبب مباح اذكرني عند ربك و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم .
   
و ما أعرف العيش إلا لمن يعرفه و يعيش معه ، و يتأدب بين يديه في حركاته و كلماته كأنه يراه .
   
و يقف على باب طرفه حارساً من نظرة لا تصلح ، و على باب لسانه حافظاً له من كلمة لا تحسن ، و على باب قلبه حماية لمسكنه من دخول الأغيار .
   
و يستوحش من الخلق شغلاً به ، و هذا يكون على سيرة الروحانيين .
   
فأما المخلط فالكدر غالب عليه ، و المحق لا يطلب إلا الأرفع .
   
قال القائل :
   
ألا لا أحب السير إلا مصاعداً       و لا البرق إلا أن يكون يمانياً
   

 

·       فصل : ليس المراد من العلم فهم الألفاظ


   
رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته و مقصوده .
   
فالقارىء مشغول بالروايات ، عاكف على الشواذ ، يرى أن المقصود نفس التلاوة ، و لا يتلمح عظمة المتكلم ، و لا زجر القرآن و وعده .
   
و ربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه . . فتراه يترخص فبالذنوب ، و لو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ .
   
و المحدث يجمع الطرق ، و يحفظ الأسانيد ، و لا يتأمل مقصود المنقول ، و يرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث ، فهو يرجوا بذلك السلامة .
   
و ربما ترخص في الخطايا ظناً منه أن ما فعل في الشريعة يدفع عنه .
   
الفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال الذي يقوي به خصامه ، و المسائل التي قد عرف فيها المذهب قد حصل بما يفتي به الناس ما يرفع قدره ، و يمحو ذنبه .
   
ربما هجم على الخطايا ظناً منه أن ذلك يدفع عنه .
   
و ربما لم يحفظ القرآن و لم يعرف الحديث ، و أنهما ينهيان عن الفواحش بزجر و رفق .
   
و ينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة ، و إيثار الغلبة في الجدل ، فتزيد قسوة قلبه .
   
و على هذا أكثر الناس ، صور العلم عندهم صناعة ، فهي تكسبهم الكبر و الحماقة .
   
و قد حكى بعض المعتبرين عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة ، أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه ، و بارز الله به .
   
و كانت حالة تعطي بمضمونها أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه و لا يبقى له اثر .
   
و كان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة ، فلا يرى عنده أثر لخوف و لا ندم على ذنب .
   
قال : فتغير في آخر عمره و لازمه الفقر ، فكان يلقي الشدائد و لا ينتهي عن قبح حاله .
   
إلى أن جمعت له يوماً قراريط على وجه الكدية فاستحى من ذلك و قال : يارب إلى هذا الحد ؟
   
قال الحاكي : فتعجبت من غفلته كيف نسي الله عز وجل ، و أراد منه حسن التدبير له و الصيانة و سعة الرزق ، و كأنه ما سمع قوله تعالى : و ألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً و لا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق ، و أن من ضيع أمر الله ضيعه الله .
   
فلما رأيت علماً ما أفاد كعلم هذا ، لأن العالم إذا زل انكسر ، و هذا مصر لا تؤلمه معصيته و كأن يجوز له ما يفعل ، أو كأن له التصرف في الدين تحليلاً و تحريماً .
   
فمرض عاجلاً ، و مات على أقبح حال .
   
قال الحاكي : و رأيت شيخاً آخر حصل صور علم ، فما أفادته .
   
كان أي فسق أمكنه لم يتحاش منه ، و أي أمر لم يعجبه من القدر عارضه بالاعتراض على المقدر و اللوم .
   
فعاش أكدر عيش ، و على أقبح اعتقاد حتى درج .
   
و هؤلاء لم يفهموا معنى العلم ، و ليس العلم صور الألفاظ ، إنما المقصود فهم المراد منه ، و ذاك يورث الخشية و الخوف ، و يرى المنة للمنعم بالعلم ، و قوة الحجة له على المتعلم .
   
نسأل الله عز وجل يقظة تفهمنا المقصود ، و تعرفنا المعبود .
   
و نعوذ بالله من سبيل رعاع يتسمون بالعلماء ، لا ينهاهم ما يحملون ، و يعلمون و لا يعلمون ، و يتكبرون على الناس بما لا يعلمون .
   
و يأخذون عرض الأدنى و قد نهوا عما يأخذون .
   
غلبتهم طباعهم ، و ما راضتهم علومهم ، التي يدرسون .
   
فهم أحسن حالاً من العوام الذين يجهلون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون .      

 

·       فصل : الفقه يحتاج إلى جميع العلوم

 
   
و علي للفقيه أن يطالع من كل فن طرفاً من تاريخ و حديث و لغة و غير ذلك ، فإن الفقه يحتاج إلى جميع العلوم ، فليأخذ من كل شيء منها مهماً و لقد رأيت بعض الفقهاء يقول كان إجتمع الشبلي ، وشريك القاضي ، فاستعجبت له كيف لا يدري بعد ما بينهما .
   
و قال آخر في مناظره : كانت الزوجية بين فاطمة و علي رضي الله عنه غير منقطعة الحكم ، فلهذا غسلها .
   
فقلت له : و يحك فقد تزوج أمامه بنت زينب ، و هي بنت أختها فإنقطع.
   
و رأيت في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي من هذا ما يدهش من التخليط في الأحاديث و التواريخ ، فجمعت من أغاليطه في كتاب .
   
و قد ذكر في كتاب له سماه المستظهري و عرضه على المستظهر بالله ، أن سليمان بن عبد الملك بعث إلى أبي حازم فقال له : ابعث لي من فطورك ، فبعث إليه نخالة مقلوة فأفطر عليها ، ثم جامع زوجته فجاءت بعبد العزيز ، ثم و لد له عمر . و هذا تخليط قبيح ، فإنه جعل عمر بن عبد العزيز ابن سليمان بن عبد الملك فجعل سليمان جده ، و إنما هو ابن عمه .
   
و قد ذكر أبو المعالي الجويني في أواخر كتاب الشامل في الأصول قال : قد ذكرت طائفة من الثقاب المعتنين بالبحث عن البواطن أن الحلاج ، و الجبائي القرمطي ، و ابن المقفع تواصوا على قلب الدول و إفساد المملكة و استعطاف القلوب ، و ارتاد كل منهم قطراً ، فقطن الجباري في الإحساء ، و توغل ابن المقفع في أطراف بلاد الترك ، و قطن الحلاج ببغداد ، فحكم عليه صاحباه بالهلكة و القصور عن بلوغ الأمنية لبعد أهل بغداد عن الإنخداع ، و توفر فطنتهم ، و صدق فراستهم .
   
قلت : و لو أن هذا الرجل أو من حكى عنه عرف التاريخ لعلم أن الحلاج لم يدرك ابن المقفع ، فإن ابن المقفع أمر بقتله المنصور ، فقتل في سنة أربع و أربعين و مائة .
   
و أبو سعيد الجبائي القرمطي ظهر في سنة ست و ثمانين و مائتين .
   
و الحلاج قتل سنة تسع و ثلاثمائة .
   
فزمان القرمطي و الحلاج متقاربان ، فأما ابن المقفع فكلا .
   
فينبغي لكل ذي علم أن يلم بباقي العلوم ، فيطالع منها طرفاً ، إذ لكل علم بعلم تعلق .
   
و أقبح بمحدث يسأل عن حادثة فلا يدري ، و قد شغله منها جمع طرق الأحاديث .
   
و قبيح بالفقه أن يقال له : ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا ، فلا يدري صحة الحديث و لا معناه . نسأل الله عز وجل همة عالية لا ترضى بالنقائض بمنه و لطفه .

 

·       فصل : قدماء العلماء و همتهم العالية


   
كانت همم القدماء من العلماء عالية ، تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم .
   
إلا أن أكثر تصانيفهم دثرت ، لأن همم الطلاب ضعفت ، فصاروا يطلبون المختصرات و لا ينشطون للمطولات .
   
ثم إقتصروا على ما يدرسون به من بعضها ، فدثرت الكتب و لم تنسخ .
   
فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الإطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات ، فليكثر من المطالعة ، فإنه يرى من علوم القوم و علو هممهم ما يشحذ خاطره و يحرك عزيمته للجد ، و ما يخلو كتاب من فائدة .
   
و أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم ، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي ، و لا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد .
   
فالله الله و عليكم بملاحظة سير السلف ، و مطالعة تصانيفهم ، و أخبارهم ، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم ، كما قال :
   
فاتني أن أرى الديار بطرفي       فلعلي أرى الديار بسمعي
   
و إني أخبر عن حالي ، ما أشبع من مطالعة الكتب ، و إذا رأيت كتاباً لم أره ، فكأني وقعت على كنز .
   
و لقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية ، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد ، و في ثبت كتب أبي حنيفة ، و كتب الحميدي ، و كتب شيخنا عبد الوهاب و ابن ناصر و كتب أبي محمد بن الخشاب و كانت أحمالا ، و غير ذلك من كل كتاب أقدر عليه .
   
و لو قلت أني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر و أنا بعد في الطلب .
   
فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم ، و قدر هممهم ، و حفظهم ، و عباداتهم ، و غرائب علومهم ، ما لا يعرفه من لم يطالع .
   
فصرت أستزري ما الناس فيه و أحتقر همم الطلاب و الله الحمد .

 

·       فصل : ترك أعمال العقل في النظر و الإستدلال إهمال و حمق

 
   
ليس للآدمي أعز من نفسه ، و قد عجبت ممن يخاطر بها و يعرضها للهلاك .
   
و السبب في ذلك : قلة العقل ، و سوء النظر فمنهم من يعرضها للتلف ليمدح بزعمه ، مثل قوم يخرجون إلى قتل السبع ، و منهم من يصعد إلى إيوان كسرى ، ليقال شاطر ، و ساع يمشي ثلاثين فرسخاً ، و هؤلاء إذا تلفوا حملوا إلى النار .
   
فأن هلك ذهبت النفس التي يراد المال لأجلها .
   
و أعجب من الكل من يخاطر بنفسه في الهلاك و لا يدري ، مثل أن يغضب فيقتل المسلم فيشفي غيظه بالتعذيب في جهنم .
   
و أظرف من هذا اليهود و النصارى ، فإن أحدهم يبلغ فيجب عليه أن ينظر في نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، فإذا فرط فمات فله الخلود في جهنم . و لقد قلت لبعضهم : و يحك تخاطر بنفسك في عذاب الأبد ، نحن نؤمن بنبيكم فنقول : لو أن مسلماً آمن بنبينا و كذب بنبيكم أو بالتوراة خلد في النار ، فما بيننا وبينكم خلاف ، إذ نحن مؤمنون بصدقه و كتابه ، فل لقيناه لم نحجل و لو عاتبنا مثلاً و قال . هل قمتم بسبت بالسبت ، و السبت من الفروع و الفروع لا يعاقب عليها بالخلود .
   
فقال لي رئيس القوم : ما نطالبكم بهذا ، لأن السبت إنما يلزم بني إسرائيل .
   
فقلت : فقد سلمنا بإجماعكم و أنتم هالكون ، لأنكم تخاطرون بأرواحكم في العذاب الدائم .
   
و العجب بمن يهمل النظر فيما إذا توانى فيه أوجب الخلود في العقاب الدائم .
   
و أعجب من الكل جاحد الخالق ، و هو يرى إحكام الصنعة ، و يقول : لا صانع .
   
و السبب في هذه الأشياء كلها قلة العقل ، و ترك إعماله في النظر و الإستدلال.

 

·       فصل : خطر إفشاء السر

 
   
لا ينبغي للعاقل أن يظهر سراً حتى يعلم أنه إذا ظهر لا يتأذى بظهوره .
   
و معلوم أن السبب في بث السر طلب الإستراحة ببثه ، و ذلك ألم قريب فليصبر عليه .
   
فرب مظهر سراً لزوجته ، فإذا طلقت بثته ، و هلك .
   
أو لصديقه فيظهره عليه حسداً له إذا كان مماثلاً ، و إن كان عامياً فالعامي أحمق . و رب سر أظهر فكان سبب الهلاك .

 

·       فصل : يغوص البحر من طلب اللآلي

 
   
ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق العلم . و العاشق ينبغي أن يصبر على المكاره .
   
و من ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب ، و مذ فقد التفقد لهم من الأمراء و من الإخوان لازمهم الفقر ضرورة .
   
و الفضائل تنادي هنالك ابتلي المؤمنون و زلزلوا زلزالاً شديداً .
   
فكلما خافت من ابتلاء قالت :
   
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله       لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
   
و لما آثر أحمد بن حنبل رضي الله عنه طلب العلم و كان فقيراً ، أبقي أربعين سنة يتشاغل به و لا يتزوج ، فينبغي للفقير أن يصابر فقره كما فعل أحمد .
   
و من يطيق ما أطاق ؟ فقد رد من المال خمسين ألفاً و كان يأكل الكامخ و يتأدم بالملح .
   
فما شاع له الذكر الجميل جزافاً ، و لا ترددت الأقدام إلى قبره إلا لمعنى عجيب .
   
فيا له ثناء ملأ الآفاق ، و جمالاً زين الوجود ، و عزاً نسخ كل ذل .
   
هذا في العاجل ، و ثواب الآجل لا يوصف .
   
و تلمح قبور أكثر العلماء لا تعرف و لا تزار . ترخصوا و تأولوا و خالطوا السلاطين ، فذهبت بركة العلم ، و محى الجاه ، و وردوا عند الموت حياض الندم .
   
فيا لها حسرات لا تتلافى ، و خسراناً لا ينجبر ، و كانت صحبة اللذات طرفة عين ، و لازم الأسف دائماً .
   
فالصبر الصبر أيها الطالب للفضائل ، فإن لذة الراحة بالهوى أو بالبطالة تذهب و يبقى الأسى ، و قال الشافعي رضي الله تعالى عنه :
   
يا نفس ما هو إلا صبر أيام       كأن مدتها أضغاث أحلام
   
يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرة      و خل عنها فإن العيش قدامي
   
ثم أيها العالم الفقير ، أيسرك ملك سلطان من السلاطين ، و أن ما تعلمه من العلم لا تعلمه ؟
   
كلا ، ما أظن بالمتيقظ أن يؤثر هذا .
   
ثم أنت إذا وقع لك مستحسن ، أو معنى عجيب ، تجد لذة لا يجدها ملتذ باللذات الحسية .
   
فقد حرم من رزق الشهوات ما قد رزقت ، و قد شاركتهم في قوام العيش ، و لم يبق إلا الفضول الذي إذا أخذ لم يكد يضر .
   
ثم هم على المخاطرة في باب الآخرة غالباً ، و أنت على السلامة في الأغلب .
   
فتلمح يا أخي عواقب الأحوال ، و اقمع الكسل المثبط عن الفضائل .
   
فإن كثير من العلماء الذين ماتوا مفرطين يتقلبون في حسرات و أسف .
   
رأى رجل شيخنا ابن الزغواني في المنام ، فقال له الشيخ : أكثر ما عندكم الغفلة ، و أكثر ما عندنا الندامة .
   
فأهرب وفقك الله قبل الحبس ، و فسخ عقد الهوى على الغبن الفاحش .
   
و اعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينا ، و أن يسير التفريط يشين وجه المحاسن .
   
فالبدار البدار و نفس النفس يتردد ، و ملك الموت غائب ما قدم بعد ، و انهض بعزيمة عازم .
   
إذا هم ألقى بين عينيه عزمة       و نكب عن ذكر العاقب جانبا
   
و لم يستشر في أمره غير نفسه       و لم يرض إلا قائم السيف صاحبا
   
و ارفض في هذه العزيمة الدنيا و أربابها ، فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم ، فنحن الأغنياء ، و هم الفقراء .
   
كما قال إبراهيم بن أدهم : [ و لو علم الملوك و أبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ] .
   
فأبناء الدنيا أحدهم لا يكاد يأكل لقمة إلا حراماً أو شبهة .
   
و هو و إن لم يؤثر فوكيله يفعله ، و لا يبالي هو بقلة دين وكيله .
   
وإن عمروا داراً سخروا الفعلة ، و إن جمعوا مالاً فمن وجوه لا تصلح . ثم كل منهم خائف أن يقتل أو يعزل أو يشتم ، فعيبهم نقص .
   
و نحن نأكل ما ظاهر الشرع يشهد له بالإباحة ، و لا نخاف من عدو ، و لا ولايتنا تقبل العزل .
   
و العز في الدنيا لنا لا لهم ، و إقبال الخلق ، علينا ، و تقبيل أيدينا و تعظيمنا عندهم كثير .
   
و في الآخرة بيننا و بينهم تفاوت إن شاء الله تعالى .
   
فإن لفت أرباب الدنيا أعناقهم يعلمون قدر مزيتنا .
   
و إن غلت أيديهم عن إعطائنا فلذة العفاف أطيب ، و مرارة المنن لا تفي بالمأخوذ ، و إنما هو طعام دون طعام ، و لباس دون لباس ، و إنها أيام قلائل .
   
و العجب لمن شرقت نفسه حتى طلب العلم إذ لا يطلبه إلا ذو نفس شريفة ، كيف بذل لبذل من لا عزة إلا بالددنانير ، و لا مفخرة له إلا بالمكنة ، و لقد أنشدني أبو يعلى العلوي :
   
رب قوم في خلائقهم       عرر قد صيروا غررا ‌‌
   
ستر المال القبيح لهم       سترى ـ إن زال ـ ما سترا
   
أيقظنا الله من رقدة الغافلين ، و رزقنا فكر المتيقظين .
   
و وفقنا للعمل بمقتضى العلم و العقل ، إنه قريب مجيب .

 

·       فصل : عودوا كل بدن ما إعتاد


   
لا ينبغي للإنسان أن يحمل على بدنه ما لا يطيق ، فإن البدن كالراحلة إن لم يرفق لها لم تصل بالراكب .
   
فترى في الناس من يتزهد و قد ربى جسده على الترف ، فيعرض عما ألفه ، فتتجدد له الأمراض ، فتقطعه عن كثير من العبادات .
   
و قد قيل : [ عودوا كل بدن ما إعتاد ] . و قد قرب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ضب فقال : أجدني أعافه ، لأنه ليس بأرض قومي .
   
و في حديث الهجرة : أن أبا بكر رضي الله عنه طلب لرسول الله صلى الله عليه و سلم الظل ، و فرش له فروة و صب على القدح الذي فيه اللبن ماء حتى برد .
   
جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم على قوم فقال : إن كان عندكم ماء بات في شن و إلا كرعنا .
   
و كان صلى الله عليه و سلم يأكل لحم الدجاج . و في الصحيح : أنه كان يحب الحلوى و العسل ، و كان إذا لم يقدر أكل ما حضر .
   
و لعمري إن في العرب و أهل السواد من لا يؤثر عنده التخشن في المطعم و الملبس ، و ذاك إذا جرى بعد نوبته على عادته لم يستضر .
   
فأما من قد ألف اللطف ، فإنه إذا غير حالته تغير بدنه ، و قلت عبادته .
   
و قد كان الحسن يديم أكل اللحم و يقول : [ لا رغيفي مالك ، و لا صحني فرقد ] .
   
و كان ابن سيرين لا يخلي منزله من حلوى .
   
و كان سفيان الثوري يسافر و في سفرته الحمل المشوي ، و الفالوذج .
   
و قالت : رابعة : [ ما أرى لبدن يراد به العمل لله إذا أكل الفالوذج عيباً ] .
   
فمن ألف الترف فينبغي أن يتلطف بنفسه إذا أمنكنه .
   
و قد عرفت هذا من نفسي ، فإني ربيت في ترف فلما إبتدأت في التقلل و هجر المشتهي ، أثر معي مرضاً قطعني عن كثير من التعبد .
   
حتى أني قرأت في أيام كل يوم خمسة أجزاء من القرآن ، فتتاولت يوماً ما لا يصلح ، فلم أقدر في ذلك اليوم على قراءتها.
   
فقلت : إن لقمة تؤثر قراءة خمسة أجزاء بكل حرف عشر حسنات ، إن تناولها
   
لطاعة عظيمة .
   
و إن مطعماً يؤذي البدن فيفوته فعل خير ، ينبغي أن يهجر .
   
و قد رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلاً من أصحابه حضر عنده و قد تغير من التقشف فقال له : من أمرك بهذا ؟ .
   
فالعاقل يعطى بدنه من الغذاء ما يوافقه عن ما ينقي الغازي شعير الدابة .
   
و لا تظنن أني آمر بأكل الشهوات ، ولا بالإكثار من الملذوذ ، إنما آمر بتناول ما يحفظ النفس ، و أنهيع ما يؤذي البدن .
   
فأما التوسع في المطاعم ، فإنه سبب النوم و الشبع يعمي القلب ، و يهزل البدن و يضعفه .
   
فإفهم ما أشرت أليه ، فالطريق هي الوسطى .

 

·       فصل : المغفل يجر على نفسه المحن


   
إذا تكامل العقل قي الذكاء و الفطنة .
   
و الذكي يتخلص إذا وقع في آفة كما قال الحسن : [ إذا كان اللص ظريفاً لم يقطع ، فأما المغفل فيجني على نفسه المحن ] .
   
هؤلاء أخوة يوسف عليه السلام ، أبعدوه عن أبيه ليتقدموا عنده ، و ما علموا أن حزنه عليه يشغله عنهم ، و تهمته إياهم تبغضهم إليه ، ثم رموه في الجب فقالوا : يلتقطه بعض السيارة و ليس بطفل إنما هو صبي كبير .
   
و ما علموا أنه إذا التقط يحدث بحاله ، فيبلغ الخبر إلى أبيه ، و هذا تغفيل .
   
ثم إنهم قالوا : أكله الذئب ، و جاؤوا بقميصه صحيحاً ، و لو خرقوه إحتمل الأمر .
   
ثم لما مضوا إليه يمتارون قال : ائتوني بأخ لكم فلو فطنوا علموا أن ملك مصر لا غرض له في أخيهم .
   
ثم حبسه بحجة ، ثم قال : هذا الصواع يخبرني أنه كان كذا و كذا ، هذا كله و ما يفطنون .
   
فلما أحس بهذه الأشياء يعقوب عليه السلام قال : اذهبوا فتحسسوا من يوسف ، و كان يوسف عليه السلام قد نهي بالوحي أن يعلم أباه بوجوده .
   
و لهذا لما إلتقيا قال له : هلا كتبت إلي ؟ فقال : إن جبريل عليه السلام منعني .
   
فلما نهى أن يعرفه خبره لينفذ البلاء كان ما فعل بأخيه تنبيهاً ، فصار كأنه يعرض بخطبة المعتدة .
   
و على فهم يوسف و الله بكى يعقوب لا على مجرد صورته .

 

·       فصل : أذل الذل التعرض للبخلاء و الأمراء

 
   
الآدمي موضوع على مطلوبات تشتت الهم ، العين تطلب المنظور ، و اللسان يطلب الكلام ، و البطن يطلب المأكول ، و الفرج المنكوح ، و الطبع يحب جمع المال .
   
و قد أمرنا بجمع الهم لذكر الآخرة ، و الهوى يشتته .
   
فكيف إذا اجتمعت إليه حاجات لازمة من طلب قوت البدن و قوت العيال .
   
و هذا يبكر إلى دكانه و يتفكر في التحصيل ، و يستعمل مالة الفهم في نيل ما لا بد منه .
   
فأي هم يجتمع منه خصوصاً إن أخذه الشره في صورة فيمضي العمر ، فينهض من الدكان إلى القبر .
   
فكيف يحصل العلم أو العمل أو إخلاص القصد أو طلب الفضائل .
   
فمن رزق يقظه ، فينبغي أن يصابر لنيل الفضائل .
   
فإن كان متزهداً بغير عائلة اكتفى بسعي قليل ، فقد كان السبتي يعمل يوم السبت فيكتفي به طول الأسبوع .
   
فإن كان له مال باضع به من يكفيه بدينه ، و ثقته من أن يهتم هو .
   
و إن كان له عائلة جمع همه في نية الكسب عليهم فيكون متعبداً .
   
أو أن يكون قنية تنال كعقار ناصفه في نفقته ليكفيه دخله .
   
و ليقلل الهم على مقدار ما يمكنه من حذف العلائق جهده ليجمع الهم في ذكر الآخرة .
   
فإن لم يفعل أخذ في غفلته و ندم في حفرته .
   
و أقبح الأحوال حال عالم فقيه كلما جمع همه لذكر الآخرة شتته طلب القوت للعائلة .
   
و ربما إحتاج إلى التعرض للظلمة و أخذ الشبهات و بذل الوجه ، فيلزم هذا التقدير في النفقة .
   
و إذا حصل له شيء من وجه دبر فيه .
   
و لا ينبغي أن يحمله قصر الأمل على إخراج ما في يده ، فقد قال صلى الله عليه و سلم : لأن تترك و رثتك أغنياء خير من أن تتركها عالة يتكففون الناس
   
و أذل من كل ذل التعرض للبخلاء و الأمراء .
   
فليدبر أمره ، و يقلل العلائق ، يحفظ جاهه . فالأيام قلائل .
   
و قد بعث إلى أحمد بن حنبل فسأله ابنه قبوله فقال : [ يا صالح صنى ، ثم قال : أستخير الله ، فأصبح فقال : يا بني قد عزم لي ألا أقبله ] .
   
هذا و كان العطاء هنياً ، و جاءه من وجوه . فانعكس الأمر اليوم .

 

·       فصل : في العزلة طيب العيش


   
العزلة عن الخلق سبب طيب العيش .
   
و لا بد من مخالطة بمقدار ، فدار العدو و استحله ، فربما كادك فأهلكك .
   
و أحسن إلى من أساء إليك . و إستعن على أمورك بالكتمان ، و لتكن الناس عندك معارف ، فأما أصدقاء فلا .
   
لأن أعز الأشياء وجود صديق ، ذاك أن الصديق يجب أن يكون في مرتبة ممائل .
   
فإن صادفته عامياً لم تنتفع به لسوء أخلاقه ، و قلة علمه و أدبه ، و إن صادفت مممماثلاً أو مقارباً حسدك .
   
و إذا كان لك يقظة تلمحت من أفعاله و أقواله ما يدل على حسدك لتعرفنهم في لحن القول .
   
و إذا أردت تأكيد ذلك فضع عليه من يضعك عنده . فلا يحرج إليه إلا بما في قلبه .
   
فإن أردت العيش فابعد عن الحسود لأنه يرى نعمتك ، فربما أصابها بالعين .
   
فإن إضطررت إلى مخالطته فلا تفش له سرك و لا تشاورهه ، و لا يغرنك تملقه لك ، و لا ما يظهره من الدين و التعبد ، فإن الحسد يغلب الدين .
   
و قد عرفت أن قابيل أخرجه الحسد إلى القتل .
   
و إن أخوة يوسف باعوه بثمن
   
بخس .
   
و كان أبو عامر الراهب من المتعبدين العقلاء ، و عبد الله بن أبي من الرؤساء ، أخرجهما حسد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى النفاق و ترك الصواب .
   
و لا ينبغي أن تطلب لحاسدك عقوبة أكثر مما هو فيه ، فإنه في أمر عظيم متصل لا يرضيه إلا زوال نعمتك .
   
و كلما إمتدت إمتد عذابه ، فلا عيش له .
   
و ما طاب عيش أهل الجنة إلا حين نزع الحسد و الغل من صدورهم .
   
و لولا أنه نزع تحاسدوا و تنغص عيشهم .

 

·       فصل : من تكاسل عن العلم لم يحصل له المراد


   
من سار مع العقل ، و خالف طريق الهوى ، و نظر إلى العواقب ، أمكنه أن يتمتع من الدنيا و الذكر الجميل ، و يكون ذلك سبباً لفوات مراده من اللذات .
   
و بيان هذا من وجهين :
   
أحدهما : إن مال إلى شهوات النكاح ، و أكثر منها قل إلتذاذه و فنيت حرارته ، و كان ذلك سبباً في عدم مطلوبه منها .
   
و من إستعمل ذلك بمقدار ما يجيزه العقل ، و يحتمله ، كان إلتذاذه أكثر ، لبعد ما بين الجماعين ، و أمكنه التردد لبقاء الحرارة .
   
و كذلك من غش في معاملته أو خان ، فإنه لا يعامل فيفوته ربح المعاملة الدائمة لخيانته مرة .
   
و لو عرف بالثقة دامت معاملة الناس له فزاد ربحه .
   
الثاني : أنه من إتقى الله ، و تشاغل بالعلم ، أو تحقيق الزهد فتح له من المباحات ما يلتز به كثيراً .
   
و من تعاقد به الكسل عن العلم أو الهوى عن تحقيق الزهد لم يحصل له إلا اليسير من مراده .
   
قال عز وجل : و ألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً .

 

·       فصل : عيش الصديقين

 
   
ينبغي أن يكون العمل كله لله ، و معه ، و من أجله .
   
و قد كفاك كل مخلوق ، و جلب لك كل خير .
   
و إياك كفاك كل مخلوق ، و جلب لك كل خير .
   
و إياك أن تميل عنه بموافقة هوى و إرضاء مخلوق ، فإنه يعكس عليك الحال ، و يفوتك المقصود .
   
و في الحديث : من أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاماً .
   
و أطيب العيش عيش من يعيش مع الخالق سبحانه .
   
فإن قيل : كيف يعيش معه ؟
   
قلت : بإمتثال أمره ، و إجتناب نهيه ، و مراعاة حدوده ، و الرضى بقضائه ، و حسن الأدب في الخلوة ، و كثرة ذكره ، و سلامة القلب من الإعتراض في أقداره .
   
فإن إحتجت سألته ، فإن أعطى و إلا رضيت بالمنع ، و علمت أنه لم يمنع بخلاً ، و إنما نظراً لك .
   
و لا تنقطع عن السؤال لأنك تتعبد به ، و متى دمت على ذلك رزقك محبته و صدق التوكل عليه ، فصارت المحبة تدلك على المقصود ، و أثمرت لك محبته إياك ، فحينئذ تعيش عيشة الصديقين .
   
و لا خير في عيش إن لم يكن كذا ، فإن أكثر الناس مخبط في عيشه ، يداري الأسباب ، و يميل إليها بقلبه ، و يتعب في تحصيل الرزق بحرص زائد على الحد ، و يرغبه إلى الخلق ، و يعترض عند انكسار الأغراض .
   
و القدر يجري و لا يبالي بسخط ، و لا يحصل له إلا ما قدر .
   
و قد فاته القرب من الحق و المحبة له ، و التأدب معه ، فذلك العيش عيش البهائم .

 

·       فصل : من أعمل عقله سلم

 
   
نظرت في حكمة المطعم و المشرب و الملبس و المنكح ، فرأيت أن الآدمي لما خلق من أصول تتحلل ، و هي الماء ، و التراب ، و الهواء . و بقاؤه إنما يكون بالحارة و الرطوبة [ و الحرارة تحلل الرطوبة دائماً ] فلم يكن له بد من شيء يخلف ما بطل .
   
و لما كان اللحم لا ينوب عنه إلا اللحم ، أباح الشرع ذبح الحيوان ، ليتقوى به من هو أشرف منه .
   
و لما كان بدنه يحتاج إلى كسوة ، و له قدرة تمييز ، و قدرة يصنع بها ما يقيه الأذى من القطن و الصوف ، لم يجعل على جلده ما يقيه خلقه ، بخلاف الحيوان البهيم ، فإنه لما لم يكن له قدرة على ما يغطى جلده ، عوضه بالريش و الشعر و الوبر .
   
و لما لم يكن بد من فناء الآدمي و الحيوان ، هيج شهوة الجماع لتخلف النسل .
   
فمقتضى العقل الذي حرك على طلب هذه المصالح أن يكون التناول للمطعم و المشرب مقدار الحاجة و المصلحة ، ليقع الالتذاذ بالعافية .
   
و من البلية طلب الإلتذاذ بالمطعم و إن كان غير صالح و الشره في تناوله ، و كذلك الكسوة و النكاح .
   
و من الحزم جمع المال و إدخاره لعارض حاجة من ذلك .
   
و من التغفيل إنفاق الحاصل ، فربما عرضت حاجة فلم يقدر عليها فأثر عدمها في البدن أو في العرض بطلبها من الأنذال .
   
و من أقبح الأمور الإنهماك في النكاح طلباً لصورة اللذة ، ناسياً ما يجني ذلك من انحلال القوة ، و يزيد في الحرام بالعقوبة .
   
فمن مال إلى تدبير العقل سلم في دنياه و آخرته .
   
و من أعرض عن مشاورته أو عن القبول منه عجل عطبه .
   
فليفهم مقصود الموضوعات و حكمها بالمراد منها ، فمن لم يفهم و لم يعمل بمقتضى ما فهم كان كأجهل العوام ، و إن كان عالماً .

 

·       فصل : في مخالطة الأمراء

 
   
العجب ممن له مسكة من عقل ، أو عنده قليل من دين ، كيف يؤثر مخالطتهم .
   
فإنه بالمخالطة لهم أو العمل معهم يكون قطعاً خائفاً من عزل أو قتل أو سم ، و لا يمكنه أن يعمل إلا بمقتضى أوامرهم .
   
فإن أمروا بما لا يجوز لم يقدر أن يراجع ، فقد باع قطعاً بدنياه فمنعه بالخوف من القيام بأمر الله و ضاعت عليه آخرته .
   
و لم يبق بيده إلا عاجل التعظيم و أن يقال بين يديه [ بسم الله ] و أن ينفذ أوامره .
   
و ذلك بعيد من السلامة في باب الدين و ما يلتذ به منه في الدنيا ممزوج بخوف العزل و القتل .

 

·       فصل : العاقل من تأمل الأمور و رعاها


   
من الغلط العظيم أن يتكلم في حق معزول بما لا يصلح ، فإنه لا يؤمن أن يلي فينتقم .
   
و في الجملة لا ينبغي أن يظهر العداوة لأحد أصلاً ، فقد يرفع المحتقر ، و قد يتمكن من لا يعد . بل ينبغي أن يكتم ما في النفوس من ضغن على الأعداء .
   
فأن أمكن الإنتقام منهم كان العفو انتقاماً لأنه يذلهم .
   
و ينبغي أن يحسن إلى كل أحد ، خصوصاً من يجوز أن يكون له ولاية ، و أن يخدم المعزول ، فربما نفع في ولايته .
   
و قد روينا أن رجلاً إستأذن على قاضي القضاة ابن أبي داؤد و قال : قولوا له : أبو جعفر بالباب .
   
فلما سمع هش لذلك و قال : ائذنوا له .
   
فدخل ، فقام ، و تلقاه و أكرمه و أعطاه خمسة آلاف ، و ودعه .
   
فقيل له : رجل من العوام فعلت به هذا ؟
   
قال : إني كنت فقيراً ، و كان هذا صديقاً ، فجئته يوماً فقلت له : أنا جائع .
   
فقال : اجلس ، و خرج ، فجاء بشواء و حلوى و خبز فقال : كل .
   
فقلت : كل معي . قال : لا قلت : و الله لا آكل حتى تأكل معي ، فأكل فجعل الدم يجري من فمه .
   
فقلت : ما هذا فقال : مرض .
   
فقلت : و الله لا بد أن تخبرني .
   
فقال : إنك لما جئتني لم أكن أملك شيئاً .
   
و كانت أسناني مضببة بشريط من ذهب ، فنزعنه و اشتريت به .
   
فهلا أكافئ مثل هذا ؟
   
و على عكس هذه الأشياء كان ابن الزيات وزير الواثق ، و كان يضع من المتوكل ، فلما ولي عذبه بأنواع العذاب .
   
و كذلك ابن الجزري كان لا يوقر المسترشد قبل الولاية ، فجرت عليه الآفات لما ولي . فالعاقل من تأمل العواقب و رعاها .
   
و صور كل ما يجوز أن يقع فعمل بمقتضى الحزم .
   
و أبلغ من هذا تصوير وجود الموت عاجلاً ، لأنه يجوز أن يأتي بغتة من غير مرض .
   
فالحازم من إستعد له و عمل عمل من لا يندم إذا جاءه .
   
و حذر من الذنوب فإنها كعدو مراصد بالجزاء .
   
و إدخر لنفسه صالح الأعمال ، فإنها كصديق صديق ينفع وقت الشدة .
   
و أبلغ من كل شيء أن يعلم المؤمن أنه كلما زاد عمله في الفضائل علت مرتبته في الجنة ، و إن نقص نقصت .
   
فهو و أن دخل الجنة في نقص بالإضافة إلى كمال غيره ، غير أنه قد رضي به و لا يشعر بذلك .
   
فرحم الله من تلمح العواقب ، و عمل بمقتضى التلمح ، و الله تعالى الموفق .

 

·       فصل : في عدم الصبرعن المشتهى الهلاك


   
لما جمعت كتابي المسمى بالمنتظم في تاريخ الملوك و الأمم ، إطلعت على سير الخلق من الملوك و الوزراء و العلماء و الأدباء و الفقهاء و المحدثين و الزهاد و غيرهم ، فرأيت الدنيا قد تلاعبت بالأكثرين تلاعباً أذهب أديانهم ، حتى كانوا لا يؤمنون بالعقاب .
   
فمن الأمراء من يقتل و يصادر ، و يقطع و يحبس ، بغير حق ، ثم ينخرط في سلك المعاصي ، كأن الأمر إليه ، أو قد جاءه الأمن من العقاب .
   
فربما تخايل أن حفظي الرعايا يرد عني ، و ينسي أنه قد قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .
   
و قد انخرط جماعة ممن يتسم بالعلم في سلك المعاصي ، لتحصيل أغراضهم العاجلة فما نفعهم العلم .
   
و رأينا خلقاً من المتزهدين خالفوا لنيل أغراضهم ، و هذا لأن الدنيا فخ و الناس كعصافير ، و العصفور يريد الحبة و ينسى الخنق .
   
قد نسي أكثر الخلق مآلهم ميلاً إلى عاجل لذاتهم ، فأقبلوا يسامرون الهوى و لا يلتفتون إلى مشاورة العقل .
   
فلقد باعوا بلدة يسيرة خيراً كثيراً ، و إستحقوا بشهوات مرذولة عذاباً عظيماً .
   
فإذا نزل بأحدهم الموت قال : ليتني لم أكن ، ليتني كنت تراباً ، فيقال له : الآن ؟
   
فوا أسفي لفائت لا يمكن استدراكه ، و لمرتهن لا يصح فكاكه ، و لندم لا ينقطع زمانه ، و لمعذب عز عليه إيمانه بالله .
   
ما نفعت العقول إلا لمن يلتفت إليها و يعول عليها .
   
و لا يمكن قبول مشاورها إلا بعزيمة الصبر عما يشتهي .
   
فتأمل في الأمراء عمر بن الخطاب و ابن عبد العزيز رضي الله عنهما ، و في العلماء أحمد بن حنبل رحمة الله عليه ، و في الزهاد أويس القرني .
   
لقد أعطوا الجد حقه و فهموا مقصود الوجود .
   
و ما هلك الهالكون إلا لقلة الصبر عن المشتهى .
   
و ربما كان فيهم من لا يؤمن بالبعث و العقاب .
   
و ليس العجب من ذاك ، إنما العجب من مؤمن يوقن ، و لا ينفعه يقينه ، و يعقل العواقب و لا ينفعه عقله .

 

·       فصل : الجمع بين العمل و العلم صعب

 
   
من رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها ، كما قال الشاعر :
   
و إذا كانت النفوس كباراً       تعبت في مرادها الأجسام
   
و قال الآخر :
   
و لكل جسم في النحول بلية       و بلاء جسمي من تفاوت همتي
   
و بيان هذا أن من علت همته طلب العلوم كلها ، و لم يقتصر على بعضها ، و طلب من كل علم نهايته ، و هذا لا يحتمله البدن .
   
ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل و صيام النهار ، و الجمع بين ذلك و بين العلم صعب .
   
ثم يرى ترك الدنيا و يحتاج إلى ما لا بد منه .
   
و يحب الإيثار و لا يقدر على البخل ، و يتقاضاه الكرم البذل ، و يمنعه عز النفس عن الكسب من وجوه التبذل .
   
فإن هو جرى على طبعه من الكرم ، احتاج و افتقر و تأثر بدنه و عائلته . و إن أمسك فطبعه يأبى ذلك .
   
و في الجملة يحتاج إلى معاناة و جمع بين أضداد ، فهو أبداً في نصب لا ينقضي ، و تعب لا يفرغ .
   
ثم إذا حقق الإخلاص في الأعمال زاد تعبه ، و قوى وصبه ، فأين هو و من دنت همته؟ إن كان فقيها فسئل عن حديث قال : ما أعرفه ، و إن كان محدثاً عن مسألة فقيهة قال : ما أدري ، و لا يبالي إن قيل عنه مقصر .
   
و العالي الهمة يرى التقصير في بعض العلوم فضيحة ، قد كشفت عيبه ، قد أرت الناس عورته .
   
و القصير الهمة لا يبالي بمنن الناس ، و لا يستقبح سؤالهم ، و لا يأنف من رد ، و العالي الهمة لا يحمل ذلك .
   
و لكن تعب العالي الهمة راحة في المعنى ، و راحة القصير الهمة تعب و شين إن كان ثم فهم .
   
و الدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي ، فينبغي لذي الهمة ألا يقصر في شوطه .
   
فإن سبق فهو المقصود ، و إن كبا جواده مع اجتهاده لم يلم .

 

·       فصل : ثقة الإنسان بعلم نفسه آفة كبرى

 
   
المصيبة العظمى رضى الإنسان عن نفسه و اقتناعه بعلمه ، و هذه محنة قد عمت أكثر الخلق .
   
فترى اليهودي أو النصراني يرى أنه على الصواب ، و لا يبحث و لا ينظر في دليل نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم .
   
و إذا سمع ما يلين قلبه مثل القرآن المعجز هرب لئلا يسمع .
   
و كذلك كل ذي هوى يثبت عليه ، إما لأنه مذهب أبيه و أهله ، أو لأنه نظر نظراً أول فرآه صواباً ، و لم ينظر فيما يناقضه ، و لم يباحث العلماء ليبينوا له خطأه .
   
و من هذا حال الخوارج على أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه ، فإنهم إستحسنوا ما وقع لهم و لم يرجعوا إلى من يعلم .
   
و لما لقيهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فبين لهم خطأهم رجع عن مذهبه منهم ألفان .
   
و ممن لم يرجع عن هواه ابن ملحم ، فرأى مذهبه هو الحق فإستحل قتل أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه ، و رآه ديناً حتى أنه لما قطعت أعضاؤه لم يمانع .
   
فلما طلب لسانه ليقطع إنزعج و قال : كيف أبقى ساعة في الدنيا لا أذكر الله .
   
و مثل هذا ما له دواء .
   
و كذلك كان الحجاج يقول : [ و الله ما أرجو الخير إلا بعد الموت ] .
   
هذا قوله و كم قتل من لا يحل قتله ، منهم سعيد بن جبير .
   
و قد أخبرنا عبد الوهاب و ابن ناصر الحافظ قالا : أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال : أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي قال : أخبرنا إسماعيل بن سعيد : قال : حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال : حدثنا أبو عيسى الختلي قال : حدثنا أبو يعلى قال : حدثنا الأصمعي قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عباد بن كثير ، عن قحدم ، قال : وجد في سجن الحجاج ثلاثة و ثلاثون ألفاً ، ما يجب على واحد منهم قطع و لا قتل و لا صلب .
   
قلت : و عموم السلاطين يقتلون و يقطعون ظناً منهم جواز ذلك ، و لو سألوا العلماء يبنوا لهم .
   
و عموم العوام يبارزون بالذنوب اعتماداً على العفو و ينسون العقاب .
   
و منهم من يعتمد أني من أهل السنة ، أو أن لي حسنات قد تنفع ، و كل هذا لقوة الجهل .
   
فينبغي للإنسان أن يبالغ في معرفة الدليل و لا يساكن شبهته ، و لا يثق بعلم نفسه . نسأل الله السلامة من جميع الآفات . . . ! .

 

·       فصل : ويل لمن عرف مرارة الجزاء ثم آثر لذة المعصية


   
إعلم أن الجزاء بالمرصاد إن كانت حسنة أو كانت سيئة .
   
و من الإغترار أن يظن المذنب إذا لم ير عقوبة أنه قد سومح ، و ربما جاءت العقوبة بعد مدة .
   
و قل من فعل ذنباً إلا و قوبل عليه ، قال عز وجل : من يعمل سوءاً يجز به .
   
هذا آدم عليه السلام أكل لقمة فقد عرفتم ما جرى عليه .
   
قال وهب بن منبه : [ أوحى الله تعالى إليه ألم أصنعك لنفسي ، و أحللتك داري ، و أسجدت لك ملائكتي ، فعصيت أمري ، و نسيت عهدي ؟ ]
   
و عزتي لو ملأت الأرض كلهم مثلك ، يعبدون يسبحون في الليل و النهار ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين .
   
فنزع جبريل التاج عن رأسه ، و حل ميكائيل الإكليل عن جبينه ، و جذب بناصيته فأهبط .
   
فبكى آدم ثلاث مائة عام على جبل الهند تجري دموعه في أودية جبالها ، فنبتت بتلك المدامع أشجار طيبكم هذا .
   
و كذلك داود عليه السلام ، نظر نظرة فأوجبت عتابه و بكاءه الدائم ، حتى نبت العشب من دموعه .
   
و أما سليمان عليه السلام فإن قوماً إختصموا إليه فكان هواه مع أحد الخصمين ، فعوقب و تغير في أعين الناس ، و كان يقول : [ أطعموني فلا يطعم ] .
   
و أما يعقوب عليه السلام ، فإنه يقال إنه ذبح عجلاً بين يدي أمه ، فعوقب بفراق يوسف .
   
و أما يوسف عليه السلام فأخذ بالهم ، و كل واحد من إخوته ولد له إثنا عشر ولداً ، و نقص هو ولداً لتلك الهمة .
   
و أما أيوب عليه السلام فإنه قصر في الإنكار على ملك ظالم ، لأجل خيل كانت في ناحيته ، فابتلى .
   
و أما يونس عليه السلام فخرج عن قومه بغير إذن فالتقمه الحوت .
   
و أوحى الله عز وجل إلى أرميا : إن قومك تركوا الأمر الذي أكرمت به أباءهم ، و عزتي لأهيجن عليهم جنوداً لا يرحمون بكائهم .
   
فقال : يا رب هم ولد خليلك إبراهيم ، و أمة صفيك موسى ، و قوم نبيك داود ، فأوحى الله تعالى إليه : إنما أكرمت إبراهيم و موسى و داود بطاعتي ، و لو عصوني لأنزلتهم منازل العاصين .
   
و نظر بعض العباد شخصاً مستحسناً ، فقال له شيخه : ما هذا النظر ؟ ستجد غبه ، فنسى القرآن بعد أربعين سنة .
   
و قال آخر : قد عبت سخصاً قد ذهب بعض أسنانه ، فانتثرت أسناني .
   
و نظرت إلى امرأة لا تحل ، فنظر إلى زوجتي من لا أريد .
   
و كان بعض العاقين ضرب أباه و سحبه إلى مكان ، فقال له الأب : حسبك إلى ههنا سحبت أبي .
   
و قال ابن سيرين : عيرت رجلاً بالإفلاس فأفلست . و مثل هذا كثير .
   
و من أعجب ما سمعت فيه عن الوزير ابن حصير الملقب بالنظام أن المقتفي غضب عليه و أمر بأن يؤخذ منه عشرة آلاف دينار .
   
فدخل عليه أهله محزونين و قالوا له : من أين لك عشرة آلاف دينار ؟
   
فقال : ما يؤخذ مني عشرة و لا خمسة و لا أربعة .
   
قالوا : من أين لك ؟ قال : إني ظلمت رجلاً فألزمته ثلاثة آلاف فما يؤخذ مني أكثر منها .
   
فلما أدى ثلاثة آلاف دينار وقع الخليفة بإطلاقه و مسامحته في الباقي .
   
و أنا أقول عن نفسي : ما نزلت بي آفة أو غم أو ضيق صدر إلا بزلل أعرفه حتى
   
يمكننني أن أقول : هذا بالشيء الفلاني .
   
ربما تأولت في بعد ، فأرى العقوبة .
   
فينبغي للإنسان أن يترقب جزاء الذنوب ، فقل أن يسلم منه .
   
و ليجتهد في التوبة ، فقد روي في الحديث : ما من شيء أسرع لحاقاً بشيء من حسنة حديثة لذنب قديم .
   
و مع التوبة يكون خائفاً من المؤاخذة متوقعاً لها ، فإن الله تعالى قد تاب على الأنبياء عليهم السلام .
   
و في حديث الشفاعة يقول آدم : ذنبي ، و يقول إبراهيم و موسى : ذنبي .
   
فإن قال قائل : قوله تعالى : من يعمل سوءاً يجز به خبر ، فهو يقتضي ألا يجاوز عن مذنب ، وقد عرفنا قبول التوبة و الصفح عن الخاطئين .
   
فالجواب من وجهين : أحدهما : أن يحمل على من مات مصراً و لم يتب ، فإن التوبة تجب ما قبلها .
   
و الثاني : أنه على إطلاقه ، و هو الذي أختاره أنا و أستدل بالنقل و المعنى .
   
أما النقل ، فإنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر : يا رسول الله أو نجازي بكل ما نعمل ؟ فقال : ألست تمرض ؟ ألست تحزن ؟ أليس يصيبك البلاء ؟ فذلك ما تجزون به .
   
و أما المعنى فإن المؤمن إذا تاب و ندم ، كان أسفه على ذنبه في كل وقت أقوى من كل عقوبة .
   
فالويل لمن عرف مرارة الجزاء الدائم ، ثم آثر لذة المعصية لحظة .

 

·       فصل : وزن الأعمال في الدنيا قبل موازين الآخرة


   
تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق ، فحاسبتها قبل أن تحاسب ، و وزنتها قبل أن توزن ، فرأيت اللطف الرباني فمنذ الطفولة و إلى الآن أرى لطفاً بعد لطف ، و ستراً على قبيح ، و عفواً عما يوجب عقوبة .
   
و ما أرى لذلك سكراً إلا باللسان .
   
و لقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً .
   
و لو كشف للناس بعضها لاستحييت .
   
و لا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن في ما يظن في الفساق .
   
بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ، و وقعت بتأويلات فاسدة .
   
فصرت إذ دعوت أقول : اللهم بحمدك و سترك علي إغفر لي .
   
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي .
   
ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي و لا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ، و لا بشكر على نعمة .
   
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ، و كوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به .
   
و قد كنت أرجو مقامات الكبار ، فذهب العمر و ما حصل المقصود .
   
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما تحت فأعجبتني نياحته ، فكتبتها ههنا .
   
قال لنفسه : يا رعناء تقومين الألفاظ ليقال مناظر . و ثمرة هذا أن يقال : يا مناظر .
   
كما يقال للمصارع الفاره .
   
ضيعت أعز الأشياء و أنفسها عند العقلاء ، و هي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر .
   
ثم ينسى الذاكر و المذكور إذا درست القلوب .
   
هذا إن تأخر الأمر إلى موتك ، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له و صار الاسم له .
   
و العقلاء عن الله تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم ، و هو العمل بالعلم ، و النظر الخالص لنفوسهم .
   
أف لنفسي و قد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم ، و ما عبق بها فضيلة .
   
إن نوظرت شمخت ، و إن نوصحت تعجرفت ، و إن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ، و سقطت عليها الغراب على الجيف .
   
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
   
توفر في المخالطة عيوباً تبلي و لا تحتشم نظر الحق إليها .
   
و إن إنكسر لها غرض تضجرت ، فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم .
   
أف و الله مني اليوم على وجه الأرض و غداً تحتها .
   
و الله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي و أنا
   
بين الأصحاب .
   
و الله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني و أنا أتهتك ، و يجمعني و أنا أتشتت .
   
و غداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، و لو عرفوني حتى معرفتي بنفسي ما دفنوني .
   
و الله لأنادين على نفسي نداء المكشفين معائب الأعداء .
   
و لأنوحن نوح الثاكلين للأبناء إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة ، و الخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها ، و غطاها من علمها .
   
و الله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها : اللهم اغفر لي كذا بكذا .
   
و الله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ، و وقاية تحميني ، مع تسلط الأعداء .
   
و لا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها . هذا فعله معي ، و هو رب غني عني ، و هذا فعلي و أنا عبد فقير إليه .
   
و لا عذر لي فأقول : ما دريت أو سهوت .
   
و الله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ، و نور قلبي بالفطنة ، حتى أن الغائبات و المكتومات تنكشف لفهمي .
   
فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضى .
   
وا حرماني لمقامات الرجال الفطناء . يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، و شماتة العدو بي .
   
وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي .
   
وا خذلاني عند إقامة الحجة ، سخر و الله مني الشيطان و أنا الفطن .
   
اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار .
   
و قد جئتك بعد الخمسين و أنا من خلق المتاع .
   
و أبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ، و ليس لي وسيلة إلا التأسف و الندم .
   
فو الله ما عصيتك جاهلاً بمقادر نعمك ، و لا ناسياً لما أسلفت من كرمك ، فاغفر لي سالف فعلي .

 

·       فصل : وزن الأعمال في الدنيا قبل موازين الآخرة


   
تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق ، فحاسبتها قبل أن تحاسب ، و وزنتها قبل أن توزن ، فرأيت اللطف الرباني فمنذ الطفولة و إلى الآن أرى لطفاً بعد لطف ، و ستراً على قبيح ، و عفواً عما يوجب عقوبة .
   
و ما أرى لذلك سكراً إلا باللسان .
   
و لقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً .
   
و لو كشف للناس بعضها لاستحييت .
   
و لا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن في ما يظن في الفساق .
   
بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ، و وقعت بتأويلات فاسدة .
   
فصرت إذ دعوت أقول : اللهم بحمدك و سترك علي إغفر لي .
   
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي .
   
ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي و لا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ، و لا بشكر على نعمة .
   
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ، و كوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به .
   
و قد كنت أرجو مقامات الكبار ، فذهب العمر و ما حصل المقصود .
   
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما تحت فأعجبتني نياحته ، فكتبتها ههنا .
   
قال لنفسه : يا رعناء تقومين الألفاظ ليقال مناظر . و ثمرة هذا أن يقال : يا مناظر .
   
كما يقال للمصارع الفاره .
   
ضيعت أعز الأشياء و أنفسها عند العقلاء ، و هي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر .
   
ثم ينسى الذاكر و المذكور إذا درست القلوب .
   
هذا إن تأخر الأمر إلى موتك ، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له و صار الاسم له .
   
و العقلاء عن الله تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم ، و هو العمل بالعلم ، و النظر الخالص لنفوسهم .
   
أف لنفسي و قد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم ، و ما عبق بها فضيلة .
   
إن نوظرت شمخت ، و إن نوصحت تعجرفت ، و إن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ، و سقطت عليها الغراب على الجيف .
   
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
   
توفر في المخالطة عيوباً تبلي و لا تحتشم نظر الحق إليها .
   
و إن إنكسر لها غرض تضجرت ، فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم .
   
أف و الله مني اليوم على وجه الأرض و غداً تحتها .
   
و الله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي و أنا
   
بين الأصحاب .
   
و الله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني و أنا أتهتك ، و يجمعني و أنا أتشتت .
   
و غداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، و لو عرفوني حتى معرفتي بنفسي ما دفنوني .
   
و الله لأنادين على نفسي نداء المكشفين معائب الأعداء .
   
و لأنوحن نوح الثاكلين للأبناء إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة ، و الخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها ، و غطاها من علمها .
   
و الله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها : اللهم اغفر لي كذا بكذا .
   
و الله ما ألتفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ، و وقاية تحميني ، مع تسلط الأعداء .
   
و لا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها . هذا فعله معي ، و هو رب غني عني ، و هذا فعلي و أنا عبد فقير إليه .
   
و لا عذر لي فأقول : ما دريت أو سهوت .
   
و الله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ، و نور قلبي بالفطنة ، حتى أن الغائبات و المكتومات تنكشف لفهمي .
   
فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضى .
   
وا حرماني لمقامات الرجال الفطناء . يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ، و شماتة العدو بي .
   
وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي .
   
وا خذلاني عند إقامة الحجة ، سخر و الله مني الشيطان و أنا الفطن .
   
اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار .
   
و قد جئتك بعد الخمسين و أنا من خلق المتاع .
   
و أبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ، و ليس لي وسيلة إلا التأسف و الندم .
   
فو الله ما عصيتك جاهلاً بمقادر نعمك ، و لا ناسياً لما أسلفت من كرمك ، فاغفر لي سالف فعلي .

 

·       فصل : عداء الأقارب صعب

 
   
عداوة الأقارب صعبة ، و ربما دامت كحرب بكر و تغلب ابني وائل ، و عبس و ذبيان ابني بغيض ، و الأوس و الخزرج ابني قيلة .
   
قال الجاحظ : [ ركدت هذه الحرب أربعين عاماً ] .
   
و السبب في هذا أن كل واحد من الأقارب يكره أن يفوقه قريبه ، فيقع التحاسد .
   
فينبغي لمن فضل على أقاربه أن يتواضع لهم ، و يرفعهم جهده ، و يرفق بهم ، لعله يسلم .
   
قال رجل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : لي أقارب أصلهم فيقطعوني ؟
   
فقال : فكأنما تسفهم المل ، و لن يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك .

 

·       فصل : الأدب يتبع لطافة البدن و صفاء الروح


   
رأيت كلاب الصيد إذا مرت بكلاب المحلة نبحتها هذه ، و بالغت و أسرعت خلفها ، و كأنها تراها مكرمة مجللة فتحسدها على ذلك .
   
و رأيت كلاب الصيد حينئذ لا تلتفت إليها و لا تعيرها الطرف و لا تعد نباحها شيئاً ، فرأيت أن كلاب الصيد كأنها ليست من جنس تلك الكلاب .
   
لأن تلك غليظة البدن كشيفة الأعضاء لا أمانة لها ، و هذه لطيفة دقيقة الخلقة و معها آداب قد ناسبت خلقتها اللطيفة .
   
و أنها تحبس الصيد على مالكها خوفاً من عقابه ، أو مراعاة لشكر نعمته عليها .
   
فرأيت أن الأدب و حسن العشرة يتبع لطافة البدن و صفاء الروح .
   
و هكذا المؤمن العاقل لا يلتفت إلى حاسده و لا يعده شيئاً ، إذ هو في واد و ذاك في واد .
   
ذاك يحسده على الدنيا ، و هذا همته الآخرة ، فيا بعد ما بين الواديين .

 

·       فصل : متى جرى ما لا نعرف حكمته فأنسبه إلى قصور علمك

 
   
هذا فصل ملاحظته من أهم الأشياء .
   
ينبغي لمن آمن بالله تعالى أن يسلم له في أفعاله . و يعلم أنه حكيم و مالك ، و أنه لا يعبث .
   
فإن خفيت عليه حكمة فعله نسب الجهل إلى نفسه ، و سلم للحكيم المالك . فإذا طالبه العقل بحكمة الفعل قال : ما بانت لي ، فيجيب علي تسليم الأمر لمالكه .
   
و إن أقواماً نظروا بمجرد العقل إلى كثير من أفعال الحق سبحانه فرأوها لو صدرت من مخلوق نسب فيها إلى ضد الحكمة ، فنسبوا الخالق إلى ذلك .
   
و هذا الكفر المحض ، و الجنون البارد .
   
و الواجب نسبة الجهل إلى النفوس ، لإغن العقول قاصرة مطالعة حكمته .
   
و أول من فعل ذلك إبليس فإنه قد رآه قد فضل طيناً على نار ، و العقل يرى النار أفضل ، فعاب حكمته .
   
و عمت هذه المحنة خلقاً ممن ينسب إلى العلم و كثير من العوام .
   
فكم قد رأينا عالماً يعترض و عامياً يرد فيكفر ، و هذه محنة قد شملت أكثر الخلق .
   
يرون عالماً يضيق عليه ، و فاسقاً وسع عليه ، فيقولون هذا لا يليق بالحكمة .
   
و قد علم العلماء أن الله تعالى قد فرض الزكوات و الخراج و الجزية و الغنائم و الكفارات ليستغني بها الفقراء ، فإختص بذلك الظلمة .
   
و صانع من تجب عليه الزكاة بإخراج بعضها ، فجاع الفقير .
   
فينبغي أن نذم هؤلاء الظلمة و لا نعترض على من قدر الكفاية للفقراء .
   
و قد حصل في ضمن هذا عقوبة الظالمين في حبسهم الحقوق ، و ابتلاء الفقراء بصبرهم عن حظوظهم .
   
و أكثر هؤلاء المعترضين لا يكادون يسلمون وقت خروج الروح من إعتراض يخرج إلى الكفر فتخرج النفس كافرة .
   
فكم عامي يقول : فلان قد ابتلى و ما يستحق .
   
و معناه أنه قد فعل به ما لا يليق بالصواب . و قد قال بعض الخلعاء :
   
أيا رب تخلق أقمار ليل       و أغصان بان و كثبان رمل
   
و تنهى عبادك أن يعشقوا       أيا حاكم العدل ذا حكم عدل ؟؟
   
و مثل هذا ينشده جماعة من العلماء و يستحسنونه ، و هو كفر محض .
   
و ما فهم هؤلاء سر النهي و لا معناه ، لأنه ما نهى عن العشق ، و إنما نهى عن العمل بمقتضى العشق من الأشياء المحرمة كالنظر و اللمس و الفعل القبيح .
   
و في الامتناع عن المشتهي دليل على الإيمان بوجود الناهي كصبر العطشان في رمضان عن الماء ، فإنه دليل على الإيمان بوجود من أمر بالصوم .
   
و تسليم النفوس إلى القتل و الجهاد دليل على اليقين بالجزاء .
   
ثم المستحسن أنموذج ما قد أعد فأين العقل المتأمل .
   
كلا . لو تأمل و صبر قليلاً لربح كثيراً .
   
و لو ذهبت أذكر ما قد عرفت من اعتراض العلماء و العوام لطال .
   
و من أحسن الناس حالاً في ذلك ، ما يحكى عن ابن الراوندي أنه جاع يوماً و إشتد جوعه فجلس على الجسر و قد أمضه الجوع .
   
فمرت الخيل مزينة بالحرير و الديباج فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : لعلي بن بلتق غلام الخليفة .
   
فمرت جوار مستحسنات فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : لعلي بن بلتق .
   
فمر به رجل فرآه و عليه أثر الضر فرمى إليه رغيفين فأخذهما و رمى بهما ، و قال : هذه لعلي بن بلتق و هذان لي ؟
   
نسي الجاهل الأحمق أنه بما يقول و يعترض و يفعل أهل هذه المجاعة .
   
فيا معترضين و هم في غاية النقص على من لا عيب في فعله . أنتم في البداية من ماء و طين ، و في الثاني من ماء مهين ، ثم تحملون الأنجاس على الدوام ، و لو حبس عنكم الهواء لصرتم جيفاً .
   
و كم من رأى يراه حازمكم فإذا عرضه على غيره تبين له قبح رأيه .
   
ثم لمعاصي منكم زائدة في الحد .
   
فما فيكم إلا الإعتراض على المالك الحكيم ؟ .
   
و لو لم يكن في هذه البلاوي إلا أن يراد منا التسليم لكفى .
   
و لو أنه أنشأ الخلق ليدلوا على وجوده ثم أهلكهم و لم يعدهم كان ذلك له ، لأنه مالك ، لكنه بفضله و عد بالإعادة و الجزاء و البقاء الدائم في النعيم .
   
فمتى ما جرى أمر لا تعرف علته فانسب إلى قصور علمك .
   
و قد ترى مقتولاً ظلماً ، و كم قد قتل و ظلم حتى قوبل ببعضه .
   
و قل أن يجري لأحد آفة إلا و يستحقها غير أن تلك الآفات المجازى بها غائبة عنا و رأينا الجزاء وحده .
   
فسلم تسلم ، و إحذر كلمة إعتراض أو إضمار ، فربما أخرجتك من دائرة الإسلام .

 

·       فصل : الشبه بين يوم العيد و يوم القيامة

 
   
رأيت الناس يوم العيد فشبهت الحال بالقيامة . فإنهم لما انتبهوا من نومهم خرجوا إلى عيدهم كخروج الموتى من قبورهم إلى حشرهم ، فمنهم من زينته الغاية و مركبه انهاية ، و منهم المتوسط ، و منهم المرذول . و على هذا أحوال الناس يوم القيامة .
   
قال تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا أي ركبانا و نسوق المجرمين إلى جهنم ورداً أي عطاشاً .
   
و قال عليه الصلاة السلام : يحشرون ركباناً و مشاة و على وجوههم .
   
و من الناس من يداس في زحمة العيد ، و كذلك الظلمة يطأهم الناس بأقدامهم في القيامة .
   
و من الناس يوم العيد الغني المتصدق . كذلك يوم القيامة أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة .
   
و منهم الفقير السائل الذي يطلب أن يعطى . كذلك يوم الجزاء أعددت شفاعتي لأهل الكبار .
   
و منهم من لا يعطف عليه فما لنا من شافعين * و لا صديق حميم .
   
و الأعلام منشورة في العيد . كذلك أعلام المتقين في القيامة ، و البوق يضرب .
   
كذلك يخبر بحال العبد فيقال : يا أهل الموقف ، إن فلاناً قد سعد سعادة لا شقاوة بعدها ، و إن فلاناً قد شقي شقاوة لا سعادة بعدها .
   
ثم يرجعون من العيد بالخواص إلى باب الحجرة يخبرون بإمتثال الأوامر أولئك المقربون فيخرج التوقيع إليهم كان سعيكم مشكوراً .
   
و من هو دونهم يختلف حاله . فمنهم من يرجع إلى بيت عامر بما أسلفتم في الأيام الخالية .
   
و منهم متوسط ، و منهم من يعود إلى بيت قفر فاعتبروا يا أولي الأبصار .

 

·       فصل : نصيحة العلماء و الزهاد


   
يتضمن نصيحة للعلماء و الزهاد . يا قوم قد علمتم ، أن الأعمال بالنيات ، و قد فهمتم قوله تعالى : ألا لله الدين الخالص و قد سمعتم عن السلف أنهم كانوا لا يعملون و لا يقولون حتى تتقدم النية و تصح .
   
أيذهب زمانكم يا فقهاء في الجدل و الصياح ؟ و ترفع أصواتكم عند إجتماع العوام تقصدون المغالبة .
   
أو ما سمعتم [ من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس ، لم يرح رائحة الجنة ] .
   
ثم يقدم أحدكم على الفتوى و ليس من أهلها ، و قد كان السلف يتدافعونها .
   
و يا معشر المتزهدين إنه يعلم السر و أخفى . أتظهرون الفقر في لباسكم و أنتم تستوفون شهوات النفوس .
   
و تظهرون التخاشع و البكاء في الجلوات دون الخلوات .
   
كان ابن سيرين يضحك و يقهقه فإذا خلا بكى أكثر الليل .
   
و قال سفيان لصاحبه : [ ما أوقحك تصلي و الناس يرونك ؟ ]
   
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها       مضغ الكلام و لا صبغ الحواجيب
   
آه للمرائي من يوم و حصل ما في الصدور و هي النيات .
   
فأفيقوا من سكركم ، و توبوا من زللكم ، و استقيموا على الجادة أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله .

 

·       فصل : شبه في الزهد و بيانها


   
رأيت جمهور الناس حائدين عن الشريعة ، جارين على ما ألفوا من العادة .
   
و قد يخلص منهم فريقان : علماء و عباد .
   
فتأملت جمهور العلماء فرأيتم في تخليط ، منهم من يقتصر على علم معاملات الدنيا و يعرض عن معاملات الآخرة .
   
و إما لجهله بها ، أو لثقل أمرها عليه ، فهو لا يجري على ما يثقل عليه مما يوجبه العلم ، و يتبع في الباقي العادات .
   
و ربما تخايل أنه يسامح في الخطايا لكونه عالماً ، و قد نسي أن العلم حجة عليه .
   
و منهم من هو واقف مع صورة العلم ، غافل عن المقصود بالعلم ، و فيهم من يخالط السلطان ، فيتأذى المخالط بما يرى من الذنوب و الظلم و لا يمكنه الإنكار .
   
و ربما مدح هو ، و يتأذى السلطان بصحبته فيقول : لو لا أني على صواب ما جالسني هذا .
   
و يتأذى العوام فيقولون : لو لا أن أمر السلطان قريب ما خالطه هذا العلم .
   
و رأيت الأشراف يثقون بشفاعة آبائهم ، و ينسون أن اليهود من بني إسرائيل .
   
و أما الفريق الثاني و هم العباد فرأيت أكثرهم في تخليط . أما الصحيحو القصد منهم فعلى غير الجادة في أكثر عملهم ، قد وضع لهم جماعة من المتقدمين كتباً فيها دقائن قبيحة ، و أحاديث غير صحيحة ، و يأمرون فيها بأشياء تخالف الشريعة .
   
مثل كتب الحارث المحاسب ي ، و أبي عبد الله الترمذي ، و قوت القلوب لأبي طالب المكي و كتاب الإحياء لأبي حامد الطوسي .
   
فإذا فتح المبتدئ عينه ، و هم بسلوك الطريق بهذه الكتب ، حملته إلى الخطايا ، لأنهم قد بنوا على أحاديث محالة .
   
و يذمون الدنيا ، و لا يدرون ما المذموم منها .
   
فيتصور المبتدئ ذم ذات الدنيا ، فيهرب المنقطع إلى الجبل ، و ربما فاتته الجماعة و الجمعة ، و يقتصر على البلوط و الكمثري فيورثه القولنج .
   
و يقنع بعضهم بشرب اللبن فينحل الطبع ، أو يأكل الباقلاء و العدس فيحدث له قراقر .
   
و إنما ينبغي لقاصد الحج أن يرفق أولاً بالناقة ليصل .
   
ألا ترى للفطن من الأتراك يهتم بفرسه قبل تحصيل قوت نفسه .
   
و ربما تصدى القاص لشرح أحوال قوم من السلف و المتزهدين فبتبعهم المريد فيتأذى بذلك .
   
و متى رددنا ذلك المنقول و بينا خطأ فاعله قال الجهال : أترد على الزهاد ؟
   
و إنما ينبغي اتباع الصواب و لا ينظر إلى أسماء المعظمين في النفوس .
   
فإنا نقول : قال أبو حنيفة ، ثم يخالفه الشافعي ، و إنما ينبغي أن يتبع الدليل .
   
قال المروذي ؟ : مدح أحمد بن حنبل النكاح ، فقلت له : قد قال إبراهيم بن أدهم ، فصاح و قال : وقعنا في بينات الطريق ، عليك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه .
   
و تكلم أحمد في الحارث المحاسبي و رد على سري السقطي حين قال : لما خلق الله الحروف وقف الألف و سجدت الباء ، فقال : نفروا الناس عنه ، فالحق لا ينبغي أن يحابى ، فإنه جد .
   
و إني أرى أكثر الناس قد حادوا عن الشريعة ، و صار كلام المتزهدين كأنه شريعة لهم .
   
فيقال : قال أبو طالب المكي : [ كان من السلف من يزن قوته بكرية فينقص كل يوم ! ] .
   
و هذا شيء ما عرفه رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا أصحابه و إنما كانوا يأكلون دون الشبع .
   
فأما الحمل على النفس بالجوع فمنهي عنه .
   
و يقول : قال داود الطائي لسفيان : [ إذا كنت تشرب الماء البارد متى تحب الموت ؟ و كان ماؤه في دن ] .
   
و ما علم أن للنفس حظاً ، و أن شرب الماء الحار يرهل المعدة و يؤذي ، و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبرد الماء .
   
و يقول آخر منهم : منذ خمسين سنة أشتهي الشواء ما صفا لي درهمه .
   
و يقول آخر : أشتهي أن أغمس جزرة في دبس فما صح لي .
   
أتراهم أرادوا حبة منذ خرجت من المعدن ما دخلت في شبهة ؟
   
و هذا ما نظر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن كان الورع حسناً ، و لكن لا على حمل المشاق الشديدة .
   
و هذا بشر الحافي يقول : لا أحدث لأني أشتهي أن أحدث ، و هذا تعليل لا يصلح ، لأن الإنسان مأمور بالنكاح ، و هو من أكبر المشتهي .
   
و كان بشر حافياً حتى قيل له الحافي ، و لو ستر أمره بنعلين كان أصلح .
   
و الحفاء يؤذي العين ، و ليس من أمر الدنيا في شيء . فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم نعلان .
   
و ما كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه على ما المتزهدون عليه اليوم .
   
فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يضحك و يمزح و يختار المستحسنات و يسابق عائشة رضي الله عنه ، و كان يأكل اللحم ، و يحب الحلوى ، و يستعذب له الماء .
   
و على هذا كان طريقه أصحابه ، فأظهر المتزهدون طرائق كأنها ابتداء شريعة ، و كلها على غير الجادة .
   
و يحتجون بقول المحاسبي و المكي ، و لا يحتج أحد منهم بصحابي و لا تابعي و لا بإمام من أئمة الإسلام .
   
فإن رأوا عالماً لبس ثوباً جميلاً ، أو تزوج مستحسنة ، أو أفطر بالنهار ، أو ضحك ، عابوه .
   
فينبغي أن يعلم أن أكثر من صح قصده منهم على غير الجادة لقلة علمهم .
   
حتى أن بعضهم يقول : منذ ثمانين سنة ما اضطجعت .
   
و يقول آخر : حلفت لا أشرب الماء سنة .
   
و هؤلاء على غير الصواب ، فإن للنفس حقاً .
   
فأما من ساء قصده ممن نافق و راءى لاجتلاب الدنيا و تقبيل الأيدي فلا كلام معه ، و هم جمهور المتصوفة ، فإنهم رفعوا الثياب الملونة ليراهم الناس بعين الترك للزينة ، و ما معهم أحسن من السفلاطون . و إنما رفع القدماء للفقر .
   
فهم في اللذات و جمع المال و أخذ الشبهات و استعمال الراحة و اللعب و مخالطة السلاطين .
   
و هؤلاء قد كشفوا القناع ، و باينوا زهد أوائلهم .
   
بلى : أعجب منهم من ينفق عليهم !!

 

·       فصل : من أدلة البعث


   
إن الله عز وجل جعل لأحوال الآدمي أمثلة ليعتبر بها .
   
فمن أمثلة أحواله القمر الذي يبتدئ صغيراً ، ثم يتكامل بدراً ، ثم يتناقض بانمحاق . و قد يطرأ عليه ما يفسده كالكسوف .
   
فكذلك الآدمي أوله نطفة ، ثم يترقى من الفساد إلى الصلاح ، فإذا تم كان بمنزلة البدر الكامل .
   
ثم تتناقض أحواله بالضعف ، فربما هجم الموت قبل ذلك هجوم الكسوف على القمر .
   
قال الشاعر :
   
و المرء مثل هلال عند طلعته       يبدو ضئيلاً لطيفاً ثم يتسق
   
يزداد حتى إذا ما تم أعقبه       كر الجديدين نقصاً ثم ينمحق
   
و من أمثلة حاله ، دود القز فإنه يكون حياً إلى أن نبتدئ نبات قوته و هو ورق الفرصاد .
   
فإذا اخضر الورق دبت الروح فيه . ثم ينتقل من حال إلى حال كإنتقال الطفل .
   
ثم يرقد كغفلة الآدمي عن النظر في العواقب ثم ينتبه فيحرص على الأكل كحرص الشره على تحصيل الدنيا .
   
ثم يسدي على نفسه كما يخطب الآدمي الأوزار على دينه ، فيرتهن في ذلك الحبس كما يرتهن الميت في قبره .
   
ثم يقرض فيخرج خلقاً آخر كما تنشر الموتى غرلاً بهماً .
   
و قد دله على البعث تكون النطفة كالميت . ثم تصير آدمياً .
   
و إلقاء الحب تحت الأرض فيفسد ثم يهتز خضراً .
   
إذا المرء كانت له فكرة       ففي كل شيء له عبرة

 

·       فصل : إيثار اللذة يفوت الخير الكثير


   
إنما فضل العقل بتأمل العواقب ، فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة ، و لا ينظر إلى عاقبتها .
   
فإن اللص يرى أخذ المال و ينسى قطع اليد . و البطال يرى لذة الراحة و ينسى ما تجنى من فوات العلم و كسب المال .
   
فإذا كبر فسئل عن علم لم يدر ، و إذا احتاج سأل فذل ، فقد أربى ما حصل له من على لذة البطالة . ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا .
   
و كذلك شارب الخمر ، يلتذ تلك الساعة و ينسى ما يجني من الآفات في الدنيا و الآخرة .
   
و كذلك الزنا ، فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة ، و سنى ما يجني منه من فضيحة الدنيا و الحد .
   
و ربما كان للمرأة زوج فألحقت الحمل من هذا به و تسلسل الأمر .
   
فقس على هذه و انتبه للعواقب ، و لا تؤثر لذة تفوت خيراً كثيراً ، و صابر المشقة تحصل ربحاً وافراً .

 

·       فصل : لا يصح الدين مع تحصيل الملذات


   
ليس في الدنيا عيش إلا لعالم أو زاهد .
   
بلى ، قد يقع في صفاء حالهما كدر . و هو أن العالم يشتغل بالعلم أو بالانقطاع عن الكسب ، و قد يكون له عائلة ، فربما تعرض بالسلطان ففسد حاله . و كذلك الزاهد .
   
فينبغي للعالم و العابد أن يتحركا في معاش كنسخ بأجرة أو عمل الخوص ، و إن فتح له بشيء اقتنع باليسير فلا يستعبده أحد .
   
كما كان أحمد بن حنبل له أجرة لعلها لا تبلغ ديناراً يتقوت بها .
   
و متى لم يقنع أفسدت مخالطة السلاطين و العوام دينه .
   
و في الناس من يريد التوسع في المطاعم ، و منهم من لا يوافقه خشن العيش ، و هيهات أن يصح الدين مع تحصيل اللذات .
   
و إذا قنع العالم و الزاهد بما يكفي ، لم يتبذل أحدهما للسلطان ،و لم يستخدم بالتردد إلى بابه ، و لم يحتج الزاهد إلى تصنع .
   
و العيش اللذيذ للمنقطع الذي لا يتبذل به و لا يحمل منه .

 

·       فصل : التفاوت بين العلماء في الأصول و الفروع


   
ما أكثر تفاوت الناس في الفهوم ، حتى العلماء يتفاوتون التفاوت الكثير في الأصول و الفروع .
   
ترى أقواماً يسمعون أخبار الصفات فيحملونها على ما يقتضيه الحس كقول قائلهم : ينزل بذاته إلى السماء و ينتقل .
   
و هذا فهم رديء لأن المنتقل يكون من مكان إلى مكان ، و يوجب ذلك كون المكان أكثر منه و يلزم منه الحركة و كل ذلك محال على الحق عز وجل .
   
و أما في الفروع فكما يروى عن داود أنه في قوله صلى الله عليه و سلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه . فقال : إن بال غيره جاز .
   
فما يفهم المراد من التنجيس بل يأخذ بمجرد اللفظ .
   
و كذلك يقول : لحم الخنزير حرام لا جلده . نعوذ بالله من سوء الفهم .
   
و كذلك يتفاوت الشعراء الذين شغلهم التفطن لدقائق الأحوال كقول قائلهم :
   
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى       و أسيافنا يقطرن من نجدة دما
   
و الجفنات عدد يسير . فلو قال : الجفان لكان أبلغ ، و لو قال : بالدجى لكان أحسن ، و يقطرن دليل على القلة . و كذلك قول القائل :
   
همها العطر و الفراش و يعلو       ها لجين منظم و لآلى
   
و هذا قاصر ، فإنه لو فعلت هذا سوداء لحسنها . إنما المادح هو القائل :
   
ألم ترى أني كلما جئت طارقاً       وجدت بها طيباً و إن لم تطيب
   
و كذا قول القائل :
   
أدعو إلي هجرها قلبي فيتبعني       حتى إذا قلت هذا صادق نزعاً
   
و لو كان صادقاً في المحبة لما كان له قلب يخاطبه . و إذا خاطبه في الهجر لم يوافقه . إنما المحب الصادق هو القائل :
   
يقولون لو عاتبت قلبك لا رعوى       فقلت و هل للعاشقين قلوب
   
و مثل هذا إذا نوقش كثير .
   
فأقل موجود في الناس الفهم و الغوص على دقائق المعاني .

 

·       فصل : اللذات مشوبة بالمنغصات

 
   
من تأمل الدنيا علم أنه ليس فيها لذة أصلاً ، فإن وجدت لذة شيبت بالنغص التي تزيد على اللذة أضعافاً .
   
فمن اللذات النساء. فربما يثبت المستحسنة ، و ربما لم تحب الزوج ، فمتى علم ذلك يعزل عنها ، و ربما خانت ، و ذلك الهلاك .
   
فإن تمت المرادات فذكر الفراق زائد في التألم على الالذاذ .
   
و من اللذات الولد و مقاساة البنت إلى أن تتزوج ، و ما تلفى من زوجها وخوف عارها محن قبيحة .
   
و الابن إن مرض ذاب الفؤاد و إن خرج عن حد الصلاح زاد الأسف ، و إن كان عدواً فمراده هلاك الأب ، ثم إن تم المراد فذكر فراقه يذيب القلوب .
   
و لو أن فاسقاً أحب بعض المردان انهتك عرضه في الدنيا وذهب دينه .
   
ثم لا يلبث أن تتغير حيلته ، فيصبر مبغوضاً مع ما سبق الهتكة و الإثم .
   
و كم قد غلبت شهوة رجل وطىء الجواري السود فجاء الولد أسود ، فبقي عاراً عليه .
   
و من هذا الجنس الالتذاذ بالمال ، و في تحصيله آثام ، و فراقه حسرة ، و ذهاب العمر فيه غبن .
   
و هذا أنموذج لما لم يذكر فينبغي لمن وفقه الله سبحانه أن يأخذ الضروري الذي يميل إلى سلامة الدين و البدن و العافية ، و يهجر الهوى الذي نغصه تتضاعف على لذته .
   
و من صبر على ما يكره قصد النفع في العافية إلتذ أضعافاً ، كطالب العلم فإنه بتعب يسيراً و ينال خير الدارين مع سلامة العاقبة .
   
و لذة البطالة تعقب عدم العلم و العمل ، فيزيد الأسى على اللذة أضعافاً .
   
فالله الله أن يغلبك هواك العاجل ، و متى هم الهوى بالتوبة فامنعه وزن عاجله بآجله . و ما يتذكر إلا أولو الألباب .

 

·       فصل : عليكم بالكتاب و السنة ترشدوا


   
رأيت إبليس قد إحتال بفنون الحيل على الخلق ، و أمال أكثرهم عن العلم الذي هو مصباح السالك ، فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل ، و شغلهم بأمور الحس ، و لا يلتفتون إلى مشورة العقل .
   
فإذا ضاق بأحدهم عيشه أو نكب ، إعترض فكفر .
   
فمنهم من ينسب ذلك إلى الدهر ، و منهم من يسب الدنيا .
   
و هذا إسفاف ، لأن الدهر و الدنيا لا يفعلان ، و إنما هو عيب للمقدر .
   
و منهم من يخرجه الأمر إلى جحد الحكمة ، فيقول : أي فائدة في نقض المبني ؟
   
و زعم بعضهم أنه لا يتصور عود المنقوض ، و أنكروا البعث ، و يقولون : ما جاء من ثم أحد .
   
و نسوا أن الوجود ما انتهى بعد ، و لو خلفنا لصار الإيمان بالغيب عيانا . و لا يصلح أن يستدل على الأحياء بالأحياء .
   
ثم نظر إبليس فرأى في المسلمين قوماً فيهم فطنة فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة يشاركهم فيها العوام . فحسن لهم علوم الكلام و صاروا يحتجون بقول أبقراط و جالينوس و فيثاغورس .
   
و هؤلاء ليسوا بمتشرعين و لا تبعوا نبينا صلى الله عليه و سلم ، إنما قالوا بمقتضى ما سولت لهم أنفسهم .
   
و قد كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد شغلوه بحفظ القرآن و سماع الحديث ، فيثبت الإيمان في قلبه .
   
فقد توانى الناس عن هذا فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل ، و ينبذ أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم ، و يقول : أخبار آحاد .
   
و أصحاب الحديث عندهم يسمون حشوية .
   
و يعتقد هؤلاء أن العلم الدقيق علم الطفرة و الهيولى و الجزء الذي لا يتجزأ .
   
ثم يتصاعدون إلى الكلام في صفات الخالق ، فيدفعون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بواقعاتهم .
   
فيقول المعتزلة : [ إن الله لا يرى لأن المرئي يكون في جهة ] و يخالفون قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته فأوجب هذا الحديث إيثار رؤيته ، و إن عجزنا عن فهم كيفيتها .
   
و قد عزل هؤلاء الأغبياء عن التشاغل بالقرآن ، و قالوا ، مخلوق ، فزالت حرمته من القلوب .
   
و عن السنة و قالوا أخبار آحاد . و إنما مذاهبهم السرقة من أبقراط و جالينوس .
   
و قد إستفاد من تبع الفلاسفة أنه يرفه نقسه عن تعب الصلاة و الصوم ، و قد كان كبار العلماء يذمون علم الكلام ، حتى قال الشافعي : [ حكمي فيهم أن يركبوا على البغال و يشهروا و يقال : هذا جزاء من ترك الكتاب و السنة و إشتغل بالكلام ] .
   
وقد آل بهم الأمر إلى أن إعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم .
   
فا الله الله من مخالطة المبتدعة . و عليكم بالكتاب و السنة ترشدوا .

 

·       فصل : الوقت كالسيف


   
رايت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان ، و كان القدماء يحذرون من ذلك .
   
قال الفضيل : أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة .
   
و دخلوا على رجل من السلف فقالوا : لعلنا شغلناك ، فقال : أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم .
   
و جاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي ، فرأى عنده جماعة ، فقال : صرت مناخ البطالين ثم مضى و لم يجلس .
   
و متى لأن المزور طمع فيه الزائر ، فأطال الجلوس ، فلم يسلم من أذى .
   
و قد كان جماعة قعوداً عند معروف فأطالوا فقال : إن ملك الشمس لا يفتر في سوقها أفما تريدون القيام ؟ .
   
و ممن كان يحفظ اللحظات عامر بن عبد قيس ، قال له رجل : قف أكلمك ، قال : فأمسك الشمس .
   
و قيل لكرز بن وبرة : لو خرجت إلى الصحراء ، فقال : يبطل الزوجار .
   
و كان داود الطائي يستف الفتيت و يقول : بين سف الفتيت و أكل الخبز قراءة خمسين آية .
   
و كان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى ، فقال إني و قت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالكل عن الذكر . و أوصى بعض السلف أصحابه فقال : إذا خرجتم من عندي فتفرقوا ، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه . و متى إجتمعتم تحدثتم .
   
و أعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة ، فإن في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال من قال سبحان الله العظيم و بحمده ، غرست له بها نخلة في الجنة .
   
فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل ، و هذه الأيام مثل المزرعة ، فكأنه قيل للإنسان . كلما بذرت حبة خرجنا لك ألف كر ، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف عن البذر و يتوانى ؟
   
و الذي يعين على إغتنام الزمان الإنغراد و العزلةمهما أمكن ، و الإختصار علىالسلام أو حاجة مهمة لمن يلقى .
   
و قلة الأكل ، فإن كثرته سبب النوم الطويل و ضاع الليل .
   
و من نظر في سير السلف و آمن بالجزاء بان له ما ذكرته .

 

·       فصل : المعاشرة الزوجية أساسها المحبة


   
ينبغي للعاقل أن يتخير إمرأة صالحة ، من بيت صالح ، يغلب عليها الفقر لترى ما يأتيها به كثيراً ، و ليتزوج من يقاربه في السن .
   
فأما الشيخ فإنه إذا تزوج صبية آذاها ، و ربما فجرت ، أو قتلته ، أو طلب الطلاق و هو يحبها فيتأذى .
   
و ليتمم نقصه بحسن الأخلاق و كثرة النفقة .
   
و لا ينبغي للمرأة أن تقرب من زوجها كثيراً فتمل ، و لا تبعد عنه فينساها .
   
و لتكن وقت قربها إليه كاملة النظامة متحسنة ، و لتحذر أن يرى فرجها أو جسمها كله ، فإن جسم الإنسان ليس بمستحسن .
   
و كذلك ينبغي ألا يريها جسمه ، و إنما الجماع في الفراش .
   
و رأى كسرى يوماً كيف يسلخ الحيوان و يطبخ ، فتقلبت نفسه ، و نفي اللحم ، فذكر ذلك لوزيره ، فقال : أيها الملك ، الطبيخ على المائدة و المرأة في الفراش ،و معناه لا تفتش على ذلك .
   
فقالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا رآه مني ، و قام ليلة عرياناً فما رأيت جسمه قبلها .
   
و هذا الحزم ، و بذلك لا يعيب الرجل المرأة لأنه ير عيوبها .
   
و ليكن للمرأة فراش و له فراش ، فلا يجتمعان إلا في حال الكمال .
   
و من الناس من يستهين بهذه الأشياء فيرى المرأة متبذلة تقول : هذا أبو أولادي ، و يتبذل هو فيرى كل واحد من الآخر ما لا يشتهي ، فبنظر القلب و تبقى المعاشرة بغير المحبة .
   
و هذا فضل ينبغي تأمله و العمل به فإنه أصل عظيم .

 

·       فصل : من أذل نفسه خسر الدنيا و الآخرة

 
   
لا عيش في الدنيا إلا للقنوع بالسير ، فإنه كلما زاد الحرص على فضول زاد الهم ، و تشتت القلب ، و استعبد العبد .
   
و أما القنوع فلا يحتاج إلى مخالطة من فوقه ، و لا يبالي بمن هو مثل ، إذ عنده ما عنده .
   
و إن أقواماً لم يقنعوا و طلبوا لذيذ العيش فأزروا بدينهم ، و ذلوا لغيرهم .
   
و خصوصاً أرباب العلم فإنهم ترددوا إلى الأمراء فإستعبدوهم ، و رأوا المنكرات ، فلم يقدروا على إنكارها ،و ربما مدحوا الظالم اتقاء لشره .
   
فالذي نالهم من الذل وقلة الدين أضعاف ما نالوا من الدنيا .
   
و من أقبح الناس حالا من تعرض للقضاء و الشهادة ، و لقد كانتا مرتبتين حسنتين .
   
و كان عبد الحميد القاضي لا يحابي ، فبعث إلى المعتضد و قال له : [ قد إستأجرت وقوفاً فأد أجرتها ، ففعل ] .
   
و قال له المعتضد : [ قد مات فلان و لنا عليه مال ، فقال : أنت تذكر لما وليتني قلت لي : قد أخرجت هذا الأمر من عنقي و وضعته في عنفك ، و لا أقبل هذا الذي تقول إلا بشاهدين ].
   
و كذلك كان الشهود ، دخل جماعة على بعض الخلفاء فقال الخادم : [ إشهدوا على مولانا بكذا ، فشهدوا ، فتقدم المجزوعي إلى الستر فقال : يا أمير المؤمنين ، أشهد عليك بما في هذا الكتاب ، فقال : أشهد ]
   
قال : إنه يكتفي في ذلك ، لا أشهد حتى تقول نعم ، قال : نعم .
   
فأما في زماننا فتغيرت تلك القواعد من الكل ، خصوصاً من يتقرب . إليه بالمال ليستشهد فتراه يسحب ليشهد على ما لا يرى .
   
قال لي أبو المعالي بن شافع : [ كنت أحمل إلى بعض أهل السواد ، و هو محبوس و أشهد عليه . و أنا أستغفر الله من ذلك ] .
   
و ليس للشهود جراية فيحملون ذلك لجلها ، و إنما الذي يحصل جر الطيلسان ، و طرق الباب ، و قول المعرف : حرس الله نعمتك ، شهادة .
   
و لما قيل لإبراهيم النخعي : [ تكون قاضياً .ليس قميصاً أحمر و جلس في السوق . فقالوا كان هذا لا يصلح ] .
   
و دخل بعض الكبار على الرشيد ـ و قد أحضره ليوليه القضاء ـ فسلم و قال له : [ كيف أنت و كيف الصبيان ؟ ]
   
فقيل : هذا مجنون ، فيا لله جنون هو العقل .
   
و ما أظن الإيمان بالآخرة إلا متزلزلاً في أكثر القلوب .
   
نسأله الله سبحانه و سلامة الدين فإنه قادر .

 

·       فصل : العبث على الله محال


   
قد تكرر معناه في هذا الكتاب ، إلا أن إعادته على النفوس مهمة لئلا يغفل عن مثله .
   
ينبغي للمؤمن أن يعلم أن الله سبحانه مالك حكيم لا يعبث ، و هذا العلم يوجب نفي الإعتراض على القدر .
   
و قد لهج خلق بالإعتراض قدحاً في الحكمة ، و ذلك كفر .
   
و أولهم إبليس في قوله : خلقتني من نار و خلقته من طين .
   
و معنى قوله : أن تفضيلك الطين على النار ليس بحكمة .
   
و قد رأيت من كان فقيهاً دأبه الإعتراض .
   
و هذا لأن المعترض ينظر إلى صورة الفعل ، و لو أن صورة الفعل صدرت من مخلوق مثلنا حسن أن يعترض عليه .
   
فأما من نقصت الأفهام عن مطالعة حكمته ، فإعتراض الناقص الجاهل عليه جنون .
   
فأما إعتراض الخلعاء فدائم ، لأنهم يريدون جريان الأمور على أغراضهم ، فمتى إنكسر لأحدهم إعتراض .
   
و فيهم من يتعدى إلى ذكر الموت فيقول : بنى و نقض .
   
و كان لنا رفيق قرأ القرآن و القراءات و سمع الحديث الكثير ، ثم وقع في الذنوب و عاش أكثر من سبعين سنة ، فلما نزل به الموت ذكر لي انه قال : [ قد ضاقت الدنيا إلا من روحي ] .
   
و من هذا الجنس سمعت شخصاً يقول عند الموت : ربي يظلمني . و هذا كثير .
   
و يكره أن يحكى كلام الخلعاء في جنونهم و إعتراضاتهم الباردة .
   
و لو فهموا أن الدنيا ميدان مسابقة و مارستان صبر ليبين بذلك أثر الخالق ، لما إعترضوا .
   
و الذي طلبوه من السلامة و بلوغ الأغراض أمامهم لو فهموا .
   
فهم كالزور جاري يتلوث بالطين ، فإذا فرغ لبس ثياب النظافة .
   
و لما أريد نقض هذا البدن الذي لا يصلح للبقاء نحيت عنه النفس الشريفة و بني بناء يقبل الدوام .
   
و بعد هذا فقل للمعترض : فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .
   
قل له : إن إعترض لم يمنع ذلك جريان القدر ، و إن سلم جرى القدر . فلأن يجري و هو مأجور ، خير من أن يجري و هو مأزور .
   
و ما أحسن سكوت وضاح اليمن لما إختبأ في صندوق ، فقال السلطان : [ أيها الصندوق ، إن كان فيك ما نظن فقد محونا أثرك ] .
   
و إن لم يكن فليس بدفن خشب من جناح .
   
فلو أنه صاح ما إنتفع بشيء ، و لربما أخرج فقتل أقبح قتلة .

 

·       فصل : إجتماع الهمة في خدمة الحق


   
من تلمح أحوال الدنيا ، علم أن مراد الحق سبحانه إجتنابها .
   
فمن مال إلى مباحها ليلتذ وجد مع كل فرحة ترحة ، و إلى جانب كل راحة تعباً ، و آخر كل لذة نقصاً يزيد عليها .
   
و ما رفع شيء من الدنيا إلا و وضع .
   
أحب الرسول صلى الله عليه و سلم عائشة رضي الله عنها ، فجاء حديث الإفك .
   
و مال إلى زينب ، فجاء : فلما قضى زيد منها وطراً .
   
ثم يكفي أنه إذا حصل محبوبه فعين العقل ترى فراقه فيتنغص عند وجوده ، كما قال الشاعر :
   
أتم الحزن عندي في سرور       تيقن عنه صاحبه انتقالا
   
فيعلم العاقل أن مراد الحق بهذا التكدير التنفير عن الدنيا ، فيبقى أخذ البلغة منها ضرورة و ترك الشواغل ، فيجتمع الهم في خدمة الحق .
   
و من عدل عن ذلك ندم على الفوات .

 

·       فصل : نصائح شتى


   
العاقل يدبر بعقله عيشته في الدنيا .
   
فإن كان فقيراً إجتهد في كسب و صناعة تكفه عن الذل للخلق ، و قلل العلائق ، و إستعمل القناعة ، فعاش سليما من منن الناس عزيزاً بينهم .
   
و إن كان غنياً فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق .
   
و من البلية أن يبذر في النفقة و يباهي بها ليكمد الأعداء .
   
كأنه يتعرض بذلك ـ إن أكثر ـ لإصابته بالعين .
   
و ينبغي التوسط في الأحوال ، و كتمان ما يصلح كتمانه .
   
و لقد وجد بعض الغسالين مالاً فأكثر النفقة ، فعلم به ، فأخذ منه المال ، و عاد إلى الفقر .
   
و إنما التدبير حفظ المال ، و التوسط في الإنفاق ، و كتمان ما لا يصلح إظهاره .
   
و من الغلط إطلاع الزوجة على قدر المال ، فإنه إن كان قليلاً هان عندها الزوج ، و إن كان كثيراً طلبت زيادة الكسوة و الحلى .
   
قال الله عز وجل : و لا تؤتوا السفهاء أموالكم و كذلك الولد .
   
و كذلك الأسرار ، ينبغي أن تحفظ و أن يحذر منها ، و من الصديق ، فربما إنقلب ، فقد قال الشاعر :
   
إحذر عدوك مرة       و احذر صديقك ألف مرة
   
فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة
   
بحمد الله تعالى قد نجز ما توخاه الفكر الفاتر من تقييد ما جمعه القلم من صيد الخاطر ، مقتصراً فيه على ما به التخلي من الأمراض النفسية ، و التخلي بالآداب الشرعية و الأخلاق المرضية .
   
جعله الله تعالى خير هاد على منبر الوعظ و الإرشاد ، و أنفع كتاب تجلى في مرايا الظهور لهداية العباد .
   
و الحمد لله أولاً و آخراً ، و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم .