الأربعاء، 6 مايو 2015

نماذج من الشعر القصصي

1- كسر الغلام زجاج نافذة البنا... من غير قصد شأنه شأن البشر فأتاه والده وفي يده عصا ... غضبان كالليث الجسور إذا زأر مسك الغلامَ يدق أعظم كفه ... لم يبق شيئاً في عصاه ولم يذر والطفل يرقص كالذبيح ودمعه...يجري كجري السيل أو دفق المطر نام الغلام وفي الصباح أتت له ... الأم الرؤوم فأيقظته على حذر وإذا بكفيه كغصن أخضر ... صرخت فجاء الزوج عاين فانبهر وبلمحة نحو الطبيب سعى به ... والقلب يرجف والفؤاد قد انفطر قال الطبيب وفي يديه وريقة ... عجّلْ ووقّعْ هاهنا وخذ العبر كف الغلام تسممت إذ بالعصا ...صدأ قديم في جوانبها انتشر في الحال تقطع كفه من قبل أن ... تسري السموم به ويزداد الخطر نادى الأب المسكين واأسفي على ... ولدي ووقّعَ باكيا ثم استتر قطع الطبيب يديه ثم أتى به ... نحو الأب المنهار في كف القدر قال الغلام أبي وحق أمي ... لا لن أعود فرُدََّ ما مني انبتر شُدِهَ الأب الجاني وألقى نفسه ... من سطح مستشفىً رفيعٍ فانتحر


2- عموا أنه كان يقبلُ ركضا على فرسٍ عربيّ فتى يرتدي معطفا من جحيمِ السرابْ، يحملُ الغصن،َ في فكرهِ والعويلُ صداهُ يُذيبُ التلالْ كان يحكي لمن وُلدوا بعد مجزرة الحيِّ أنَّ في ما مضى هلك الزرعُ والنسلُ تحت أزيز الرصاصِ وقمع الصهاينة الغاصبين ذبحوا في الحقولِ الترابَ رموا بالرصاص الحمامْ فجّروا في الصدور جراحا تنير الطريقْ أعدموا الطفل في مهدهِ نكّلوا بالشيوخ أمام الحشودْ ضاع في رمشة العين كل الوجودْ في الخنادق ألقوا بهم وأقاموا الزفافْ مجلس الحربِ لم يستمع لصلاة العراةْ صدّروا للعدوّ عتادا يزيلُ الديارْ، في السجون ينام على الدمع كل أسيرْ فارسَ الليل كم قتلوا منذ أن سلبوا الأرض غصبا أمام الشعوبْ شردوا أهلنا تحت نخل الجليلْ يحلم النخل بالأمن في ظله الشمس تركض خلف الضياءْ سيظل الفارسُ يحكي مادامَ الرمسُ في صدره يمتطي وطنا يعلن الفجرُ عن نورهِ في الصباحِ الجديدْ


ولقد دخلت على الفتا = ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر = فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت = مشي القطاة إلى الغدير
ويختمها بقوله :
فإذا انتشيت فإنني = رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني = رب الشويهة والبعير
وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ = ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ = يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزاءها = ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما
حفـاة عراة ما اغتذوا خبـز ملة = ولا عرفوا للبر مذ خلقـوا طعما
رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ = فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَشمَّرَ وَاِهتَمّا
فقال هيا رباه ضيف ولا قــرى = بحقك لا تحرمه تالليلة اللحمـا
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ = أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا = يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَةً = وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا
فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ = قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما
عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها = عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها = فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما
فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ = قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما
فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ = وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى
فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم = فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما
وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً = لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا
3-لم يخل العصر الجاهلي من شعر قصصي ، ولكننا بصفة عامة لا نستطيع أن نسلكه في باب القصة الشعرية ذات البناء الفني بمفهومه الحديث . صحيح أن الأحداث تتابع فيه بواقعية وصدق ، وفيه أحيانًا دقة في تصوير المواقف والشخصيات والمنازع النفسية ، ولكنه تغلب عليه البساطة من جهة ، ويتسم بالغنائية الحادة من جهة أخرى ، فهو قد حرم التعقيد الذي يعد من أبرز سمات العمل القصصي ، ولم يكن مقصودًا كفن له اعتباره وملامحه ، بل كان يرد غالبًا ضمن القصائد الغنائية التي استغرقت الشعر العربي في هذا العصر .
 غير أن هذا اللون من الشعر كان نواة للشعر القصصي الذي تلاه ، ونشير في هذا الصدد إلى شعر النابغة الزبياني الذي صور لنا ما وقع له مع المتجردة ومع زوجها النعمان بن المنذر ، وشعر امرئ القيس الذي يصور فيه مغامراته الغرامية الفاضحة ، وشعر السمؤل ، وزهير بن أبي سلمى ، وغير هؤلاء ممن عبروا لنا في شعرهم عن أفكار ومشاعر تولد أكثرها من أحداث غريبة وقعت لهم .
 ولا شك أن غلبة الذاتية على هذا اللون من الشعر أضعف من الحبكة القصصية ، لأن الموضوعية هي أهم خصاتئص الشعر القصصي ، إلا أن هذه الغنائية لا تنفي الصبغة القصصية عن هذا اللون من الشعر نفيًا مطلقًا ، وقد ترتقي بعض القصائد القصصية فتستوفي من عناصر الفن القصصي ما يسلكها في باب القصة الشعرية .
 فالنقف عند نموذج من هذا اللون عند شعرائنا القدامى ، لنرى حظه من هذا الفن :
المنخل اليشكري :
 ومن هذا القبيل تلك المغامرة الغرامية التي صاغ تفاصيلها الشاعر الجاهلي المنخل اليشكري في رائيته المشهورة . والتي مطلعها :
إن كنت عاذلتي فسيري = نحو العراق ولا تحوري
 ويقال إنها مغامرة حقيقية بينه وبين هند بنت عمرو بن هند ، وبلغ خبرها عمرًا ( أباها ) فقتله ، وقيل أن الذي قتله هو النعمان بن المنذر لغرام بينه وبين زوجته ( انظر الأصمعيات من ص 58 – 61 ) .
 ومنها :

فالشاعر في صدق وبساطة وجمال تشير إلى الجو الذي تمت فيه المغامرة ، لقد كان الجو باردًا مطيرًا وكفى ، ولم يجنح إلى ما درج عليه الآخرون من تصوير الأخطار التي يتخطاها وصولاً إلى المحبوبة . والشعر هنا على قلة الأبيات فاق سابقيه في تصوير الملامح النفسية :
 1- فلوعة الحب استبدت به حتى سيطرت على جسده حرارة العشق التي لم تخفف منها برودة الجو .
 2- والحب زاد وفاض وتخطى الحبيبين إلى الحيوان الأعجم .
 3- والشاعر إذا لعبت برأسه الخمر تعابثه الأحلام حتى يرى نفسه ملكًا مملكًا ، والإفاقة تصدمه بالواقع المر فإذا هو الراعي الفقير رب الشويهة والبعير .
 فنحن هنا أمام لون يغلب عليه الطابع النفسي الصادق الذي افتقر إليه امرؤ القيس في حسيته المنهومة .
**********
ولكن تبقى ميمية الشاعر المخضرم الحطيئة ( جرول بن أوس ) أدل ما قيل في هذا المقام موضوعيًا ، وفنيًا ، فهي قصة شعرية بكل عناصرها . ونقدم للقارئ نص أبياتها :

 والقصيدة كما هو واضح استكملت كل عناصر القصة الشعرية ، يستغلب عليها الموضوعية ، وتتخلى عن الطابع الغنائي السائد . وهي قصة مستقلة مقصودة بذاتها ، ولم ترد في سياق غيرها من قصائد المدح أو الفخر أو الغزل .
 والأحداث تقع في صحراء موحشة " لم يعرف بها ساكن رسما " .
 وملامح البيئة القاسية تنعكس على شخصيات القصة التي وفق الشاعر في رسمها وتجديد ملامحها :
 فالشخصية الأولى هي شخصية الأعرابي الخشن الجافي الذي حرم متعة الحياة في بيداء لا ترحم .
 وأسرة الأعرابي من أم عجوز وثلاثة أبناء عراة جياع يعيشون على الحرمان .
 وبعد هذا العرض البسيط الواضح يرتقي الشاعر إلى لون من التعقيد والتركيب .... ففجأة يظهر شبح ضيف غير متوقع ، ويقع الأعرابي نهبًا لصراع نفسي فادح : هل يعتذر للضيف بالعُدم والحرمان ، فيظن الضيف به بخلا ؟ أم يذبح ابنه ويقدم للضيف وجبة من لحم فلذة كبده .
 ويصل الموقف إلى قمة التأزم ، ونجد أنفسنا أمام " عقدة " حقيقية حين نرى الضيف يهم بذبح ابنه ليفي الضيف الطارق حقه ، حتى لا يدركه العار والمزمة في بيئة أرفع قيمها الكرم والأريحية .
 وبعد أن بلغت العقدة قمة التأزم يأتي الحل في صورة طبيعية لا تكلف فيها : إذ يظهر قطيع من حمر الوحش يصيد منها الأعرابي " أتانًا " سمينة ذات جحش ، ويقضي حق ضيفه ، ويبيت الجميع في سعادة وهناءة . وهو حل يتسق مع طبيعة " البيئة "، ويتسق مع طبيعة " الشخصية العربية " التي تحرص على التحلي بالكرم والشهامة والأريحية .
 والشاعر يستعين في تصوير " الصراع النفسي " بالحوار الداخلي :
هيا رباه ضيف ولا قرى ؟
كما يستعين " بالحوار الخارجي " ( الديالوج ) حين يدخل الابن مسرح القصة ليمثل الشخصية الثانية ويقوم بدور " الفداء " ، فيذكرنا بقصة إبراهيم وإسماعيل الذبيح عليهما السلام .
 والأحداث تتلاحكم في صورة عضوية لتخلق " حبكة " تتدفق بالتشويق ، وتجعل من القصيدة أقصوصة شعرية كاملة ، فيها العرض الناجح ، والتصوير الدقيق البارع ، والصراع النفسي ، والحوار بنوعيه الداخلي والخارجي ، والعقدة ، والحل .
 ولكن القصيدة لا تمثل اتجاهًا فنيًا مطردًا في الشعر الجاهلي ، أو في شعر الحطيئة ، فهي وإن مثلت البيئة العربية من الناحية الاجتماعية والنفسية لا تمثل – باطراد - الشعر العربي الجاهلي من الناحية الفنية والموضوعية .